أيها الإخوة الفضلاء... أيها الجيل النجيب... أيها الأحباب الأبرار.
إن كان لي شكر، فإني أتوجه بالشكر إلى الله تبارك وتعالى على توفيقه، وعلى أن جمعنا بهذه الوجوه الساجدة لله، الباسمة المتوضئة المستنيرة بنورِ الإيمان؛ ثم أشكر القائمين على هذا الصرح العلمي الفذ مديراً وأساتذةً وطلاباً.
أيها الإخوة: إن حديثنا هذا اليوم ليس بجديد عليكم وليس بغريب؛ ولكنه ذكرى، فإننا نتحدث مع جيلٍ آمن بالله ورضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
أيها الإخوة الفضلاء: إنني أتحدث مع مؤمنين رضوا بهذا الإسلام جلباباً وثوباً وستراً وهدايةً وتشريعاً ومنهجاً.
إنني أتحدث مع أُناسٍ أتوا من أصلابٍ مؤمنة، ووقعوا في أرضٍ مؤمنة، واستظلوا بسماءٍ مؤمنة.
إنني أتحدث مع طلبةٍ ليسوا بغريبين عن الإسلام ولا غريبين عن الإيمان؛ إنهم في بقعةٍ مؤمنة، وفي دارٍ مؤمنة.. أستاذتهم مؤمنون، وآباؤهم مؤمنون، وأمهاتهم مؤمنات.
حديثي إليكم -أيها الإخوة الفضلاء- عن دور الإيمان في عبودية الجوارح.
فما معنى الإيمان؟ وما معنى أن نكون مؤمنين؟
إن أمةً بلا إيمان قطيعٌ من البهائم، ومدرسة بلا إيمان مدرسة متهدمة خاوية، وقلب بلا إيمان كتلة من لحم ميتة، وأستاذٌ بلا إيمان جثمان هامد لا حراك فيه، وكتاب بلا إيمان أوراق مصففة، وخطبة بلا إيمان كلام ملفق.
فما هو الإيمان؟
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
فقبل أن يأتينا الإيمان يا معشر الأمة العربية -لا نقولها قومية ولكن الأصالة العربية في الإسلام- قبل أن يأتينا الإيمان كنا رعاة إبل وشاةٍ لا نفهم، ولا نفقه، فلا حضارة ولا تاريخ، ولا ثقافة، فلما بعث الله فينا هذا الرسول عليه الصلاة والسلام ابتُعثنا من جديد، قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
ولما حُصِرَ مفهوم الإيمان في مسائل ضيقة أصبح الجيل كما ترون إلا من رحم الله.
قالوا: الإيمان معناه أن تصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، وأن تغتسل من الجنابة، وأن تتوضأ، والإيمان أن تضحي يوم الأضحى وأن تحج وأن تعتمر، ثم تُرك السلوك، وتركت الأدبيات لشخصيةِ المسلم، وتُرِكَ البيت، وتُرِكَ السمع والبصر لا دخل للإيمان فيه؛ وإلا فما تأثير الإيمان إذا كان طقوساً تعبدية فحسب!
فما وُجِدَت الأغنية الماجنة في المجتمع المسلم، وطُرِدَ بعده القرآن من البيت، إلا يوم خرج الإيمان من القلوب.
وما دخلت المجلة الخليعة في البيوت، إلا يوم استُخْفِي الإيمان من القلوب، وما دُمتَ مع رفقة السوء وتتعاطى السجائر في الجلسات، وقضيت الليالي الحمراء في السهرات، وكثرت الذهبات والجيئات فيما يغضب رب الأرض والسماوات؛ إلا يوم قضي الإيمان.
وما أسبلت الثياب -وما أتيت اليوم لأتحدث عن إسبال الثوب؛ جزئية من جزئيات- إلا لما أخفي الإيمان من القلوب، وما خولفت سنته صلى الله عليه وسلم إلا يوم ضعف الإيمان في القلب.
وإذا أتينا إلى مشكلاتنا لنعالجها فما تُحل، وهي أكبر من أن تُحل، وحلها الوحيد هو الإيمان.
والإيمان على مستويات: موقف المدير أو المسئول عن مثل هذه السُكنة والصرح؛ أن يكون مؤمناً بالله وأن يسترعي هذه الرعية برعاية الله عز وجل، وألا يقطع حبله من الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وهذا الجيل أمانة في عنقه، إما أن يهديهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض وإما أن يتركهم فيتردون في النار على وجوههم ونعوذ بالله من ذلك، وهي الأمانة قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
وأمانة الأستاذ: أن يأتي من بيته صباحاً، وأكبر القضايا التي يحملها في ذهنه هي الإيمان، لا يظن أنه يؤدي حصة ليتعاطى عليها راتباً أو أجراً أو كراءً أو مادةً، إن هذه يفعلها اليهود والنصارى والخواجات واليونان والصينيون، كل طوائف الأرض تفعل هذا، فعندهم مدارس كمدارسنا، وعندهم جامعات كجامعاتنا، وأندية كأنديتنا، لكن نحن نتلقى علمنا من فوق سبع سماوات، ونحن نتعبد بهذا العلم لله الواحد الأحد، فندخل الفصل باسم الله، ونخرج باسم الله، وندرس العقيدة باسم الله، ونتكلم باسم الله ونسكت باسم الله، أما هم: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
فالأستاذ يوم يأتي إلى الفصل يعرف أنه وارث لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه خليفة الله، وأن المسلمين قد وضعوا أبناءهم أمامه أمانة بين يديه، وقد أخرجوا فلذات أكبادهم، وطرحوا قلوبهم ومقلهم، وقالوا: يا عبد الله! اتق الله في أبنائنا.
وليس معنى الإيمان أنه إذا دّرَّس في التوحيد أن يكون موحداً، وإذا دّرَّس في التاريخ أن يكون مؤرخاً، وإذا دّرَّس في الجغرافيا أن يكون جغرافياً.
لا. إن هذه المواد إذا لم تُربط بحبل الإيمان فإن الله سوف يسأل هذا المُعلم عنها يوم القيامة، إذ الإيمان لا بد أن يكون في الحصة وفي المحاضرة وفي الندوة وفي الكلمة، ولذلك الذي لا يحمل الإيمان، ولا يحمل المبادئ ميت، ويحاسب عليها يوم العرض الأكبر عند الله، لأنه ماحفظ الله في الجيل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة}.
أولها وأعظمها: رقابة الله في هذا العلم، وأن نأتي بلهف وشوق وحرص على هذا الطلب، ونحمد الله أن شرفنا بأن جعلنا طلبة علم، ثم نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً وأبداً أن يفتح علينا من فتوحاته، وأعظم فتح يفتح الله عليك أن يجعلك عبداً له، والله لقد رأينا وأبصرنا شباباً ضيعوا الله فضيعهم الله في الحياة، وسوف يضيعون إن لم يتوبوا في الآخرة. لما ضيعوا الله في الاستقامة ضاعوا في الدراسة، وضاعوا في المناهج، وضاعوا في المستقبل، وضاعوا في الأسر والسمعة، وأخذوا مرغمين إلى السجون، وحبسوا، وضربوا بالأسواط، وقيدوا بالحديد، وأصبحوا في ذلة وفي حقارة وصغار، لأنهم ما حفظوا الله:
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
إن الذي لا يحفظ الله يضيعه الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقف الصحابي الواحد من أصحابه ويقول له: احفظ الله يحفظك -إي والله- كان فرعون طاغية، ضيع الله فضيعه الله في اليم، وكان أبو لهب طاغية، ضيع الله فأورده في نار ذات لهب، وكان أبو جهل طاغية، فلما لم يذل للا إله إلا الله ضاع، وأنتم تستقرئون من قرابتكم ومن مجتمعاتكم؛ أن من ضيع الله ضيعه الله عز وجل.
فأكبر قضية نريدها هي حفظ الله عز وجل، إن رقابة الأستاذ، أو الإدارة، أو السلطة، لا يمكن أن تنفذ إلى قلبك إذا لم تراقب الله عز وجل، فلا يستطيعون أن يراقبوك، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120].
ظاهر الإثم نتركه -يمكن- خوفاً من السلطة، لكن باطن الإثم لا يترك إلا خوفاً من الله، هذا أمر.
الأمر الثاني يا أيها الأحباب: أن نحمل العبودية كطلبة علم، إذ ليس بصحيح أن ترى طالب علم يقرأ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وتربى على يد أساتذة أبرار أخيار، ولا تظهر عليه معالم السنة ومعالم الاستقامة، كأنه خرج من نادي من باريس أو من لندن أو من واشنطن.
هذه بلاد القبلتين، هذه مهبط الوحي، يقول أبو الأعلى المودودي في رسالة له: إن تراب هذه الجزيرة مؤمن بالله، وإن هواءها يشهد أن لا إله إلا الله، ,وإن ماءها لو نطق لقال: لا إله إلا الله، هذه البلاد لا ينشأ فيها إلا عبد صالح يوم يريده الله عز وجل أن يكون صالحاً، ففرق بين أن نتعلم علم الذين: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
كعلم التيوس، أو علم الثيران، أو أدمغة الحمير التي لا تفهم، معلومات لكن ما تستفيد.
قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [الروم:56]. هل سكتت الآية؟!: وَالإيمان [الروم:56].
إننا لا نطالب بالعلم الدنيوي فقط بلا إيمان، فقد غلبنا فيه اليهود والنصارى والكفرة، لكن نطالب بعلم الدنيا مع الإيمان.
لا بد أن تظهر عبادتك على أربعة أعضاء، ولها أعضاء أخر، ولكن أشير إليها لأهميتها:
أولاً القلب كتلة اللحم التي تحمله بين جنبيك، هو حياتك وموتك، وواجبك أمام الله أن تدخل فيه الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] وقال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
فلا بد أن تحشو قلبك بالإيمان، فإذا لم تفعل فانتظر الهلاك والدمار واللعنة والعار في الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: أن تجعل الإخلاص والنية الصالحة في قلبك.
الأمر الثالث: أن تملأ هذا القلب بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: أنا أقول لكم بمنطق النقل والعقل، إن أعظم شخصية طرقت الدنيا والعالم هو محمد عليه الصلاة والسلام، والله الذي لا إله إلا هو! لا نقولها عاطفة وتعصباً، ولكن ما وطأ التراب أشرف من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ووالله! لقد حسدتنا الأمم عليه، ويؤسفنا ويخجلنا ويحسرنا ويبكينا أن نرى في بعض البيوت شخصيات لمعت من المغنين والمغنيات، الماجنين والماجنات الداعرين والداعرات، الأحياء منهم والأموات؛ قد جعلوا عظماء.
يقولون: الفنان العظيم، والفنان في لغة العرب هو الحمار الوحشي المخطط، وهو أشبه بهذا، فكيف يكون عظيماً؟!
إن العظماء الذين ينبغي أن ترسم صورهم في القلوب وفي البيوت؛ محمد عليه الصلاة والسلام وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وخالد، وصلاح الدين، وابن تيمية، وابن القيم.
إن عندنا من العظماء ألف عظيم وعظيم، ومن العلماء ألف عالم وعالم، ومن الأدباء ألف أديب وأديب، فكيف تركت هذه الشخصيات.
إن جلست مع بعض الشباب تراهم مغرمين بسيرة هتلر، يقرءون سيرة كفاحه، سبحان الله! قاتلكم الله ما وجدتم العجب إلا من هذا الخبيث المنتن الكلب الذي دمر العالم:
قالوا هم البشر الأعلى وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا |
وبعضهم يعجبه شعر شكسبير هذا الإنجليزي الفاجر الذي دعا إلى إباحية المرأة، وكشفها أمام الناس واستخدمها وقال: هي حق للجميع.
والآخر يحمل نسخة في جيبه لـنزار قباني، هذا الداعر الخبيث المنتن الذي سوف يحاسبه الله على ما فعل، نسأل الله أن يجازيه بعدله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فيا سبحان الله! يوم ترك العظماء هؤلاء وسيرهم في البيوت، وقعنا فيما وقعنا فيه.
تسأل الشاب عن سيرة أبي بكر فيحفظ سير لا تنفعه، يقول: ولد أبو بكر سنة كذا وكذا، ومات سنة كذا وكذا، وتولى الخلافة سنة كذا وكذا.
إننا -يا أيها الإخوة- إذا قرأنا السيرة فعلينا أن نقرأ السيرة التربوية، سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
أصبح في أذهان كثير من الشباب أن ترجمة الرسول عليه الصلاة والسلام معنى أنه إنسان يدعو إلى الله عز وجل، ويتكلم في المساجد وكان يخطب، وكان مع أصحابه يربيهم، وحضر في بدر وتبوك والخندق وأحد، وهذه ترجمة ناقصة.
رسول الله عليه الصلاة والسلام لا بد أن تأخذ أدبك منه، وحياتك منه، وضحكك منه، وبكاءك منه، وقيامك وقعودك منه، فهو حياة مستقلة وحياة كاملة، وهو تاريخ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
ابن تيمية منذ أن كان عمره عشر سنوات، قال أهل العلم: إنه كان يخرج في السحر قبل صلاة الفجر، فيمرغ وجهه في التراب، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
هل رأيت شاباً يرفع يديه قبل الحصة أو قبل أن يدخل ويسأل الله الفهم، هل رأيت شفتين تتمتم بذكر الله، هذا موجود والحمد لله، لكن نريد أن نكون كلنا عباداً لله، نتلقى هذا العلم عبودية كأننا في المسجد، والله! إذا لم يفتح الله عليك فلن يفتح عليك أحد من الناس، وإذا لم يهدك الله -فوالله- لن تجد إلا الضلال، وإذا لم يغفر الله ذنبك فلن يغفر لك أحد.
فيا أيها الإخوة! الله الله في مراقبة الله عز وجل، وفي تعبده بهذا العلم، وقد ذكرت في العنصر الثاني كيف تظهر العبودية على الجوارح، وقد وجدت نغمة في المجتمع والرأي العام تقول: إنه لا يلزم الإنسان أن يتشنج بالدين، وأن يأخذ الدين بعروقه وأوراقه بل يكفيه من الدين شيئاً ظريفاً ليكون مثلما يسميه سيد قطب إسلاماً أمريكياً، أن يدع شيئاً ويأخذ شيئاً، دين مرقع: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
يا مدعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا |
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا |
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا |
يا أيها الإخوة! إن الذي أتى بلا إله إلا الله هو الذي أتى بتفصيل الثياب فوق الكعب.
والذي أتى بلا إله إلا الله هو الذي أمر بإعفاء اللحى، وأتى بالسواك، وبالمنهج الخالد المؤرخ الذي ما طرق العالم مثله، وأتى بالقرآن، وبالأدب والسلوك، والحياة، وبإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأتى بحياتك في كل منحى من الحياة.
والرسول عليه الصلاة والسلام شخصية أمامك لا بد أن تجعله في ذهنك حياً، لا تفعل شيئاً حتى تسأل هل فعله صلى الله عليه وسلم، أما أن نقبل إسلاماً مرقعاً فنقول: يكفيني أن أصلي، أما هذه الأمور فهي قشور. فهل أصبحت تفتي وتثلم الدين وتكسر الإسلام، الذي هو صورة كاملة، فتأخذ منه ما شئت وتترك منه ما شئت؟ لا. والله هذا جحود للنعم، وتنكر للجميل، وسوء فهم للرسالة الخالدة التي أتى بها الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأنا أدعوكم -أيها الإخوة إلى- الاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم بالسنن، ووالله! لا أحسن ولا أجمل عند الأب وعند المجتمع وعند الرأي العام؛ من أن يروا الإنسان مستقيماً، لا تستمع للدعوات التي تهاجم رجال الدين فليس عندنا في الإسلام رجال دين، فهذا في الكنيسة، وقد وجد من الذين لا يفقهون، أو عنده التخلف العقلي الذهني العفن أنه يحارب الدعاة أو المستقيمين، وهذا ليس بصحيح، بل استقرأنا من حياة الناس ومخالطة كثير من الدعاة والرأي العام، ودخول بعض السجون، أن الشاب المستقيم له صورة معظمة عند الجميع، عند السلطان وولاة الأمر والرأي العام، وعند الجندي في الشارع، والأستاذ، وعند كل طبقات الناس لأنه مستقيم، ولماذا؟ لأنه حفظ الله، أما الإنسان الذي لا يحمل هذه المبادئ فهو فاسد ولو احترم فمجاملة.
كيف نحيا؟ كيف نعيش؟ أحياة البهائم؟ أحياة أكل وشرب ونوم ورقص ولهو ولعب؟ لا. إنه لا بد أن تُنظم أوقاتنا تنظيماً عجيباً دقيقاً، أمة هي من الدقة والنظام بمكان، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فوالله الذي لا إله إلا هو: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -من هذه الأربع- وعن عمره في فيما أبلاه) أنت لن تنصرف من الموقف يوم القيامة حتى يسألك الله: فيم صرفت هذه الأوقات؟
فيا إخوتي في الله! ماذا فعلنا في برنامجنا في القراءة.. في الاطلاع.. في الصلاة والذكر.. في التلاوة.. في الزيارة.. في الجلوس مع الأحبة، ماذا فعلنا في ذلك؟
إن الكاتب الأمريكي دايل كارنيجي في كتابه دع القلق وابدأ الحياة، يضحك على أهل الشرق؟ يضحك علينا نحن لأن الأمريكان من أكثر الناس قراءة.
أنا أقول هذا لأن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها، يضحكون علينا ويسموننا إلى الآن بدواً، لأن الذي لا يعتني بحياته ورسالته الخالدة ولا يعيش لله فهو يعيش على هامش الأحداث، والله يقول في الأعراب:الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [التوبة:97].
ومهمة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخرج الإنسان من بداوته وجهله وتخلفه إلى أن يكون إنساناً منظماً، وإنساناً معتنياً بروحه ومستقبله، ولا يكون إنساناً عامياً عادياً، بل يكون له خصوصية، فلذلك يذكر أنهم يقرءون -الإنجليز والأمريكان- في كل أربع وعشرين ساعة، ست عشرة ساعة، فكم نقرأ نحن؟!
إني علمت أن كثيراً من الشباب إذا قرأ أحدهم ساعة في اليوم أو نصف ساعة تبجح، وقال أجهدت نفسي: (إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً) وهذا الحديث نستحضره دائماً.
ولكن كم ننام وكم نأكل وكم نشرب، وكم نذهب وكم نجيء؟!
أمة كأنها خلقت للنـزهة وللتفسح، فإذا فتح أحدنا الكتاب، فقرأ وريقات صغيرة من أوله قال: اللهم انفعنا بما علمتنا، وهذا صحيح نسأل الله أن ينفعنا، لكن أين الجهد وأين القراءة والمثابرة؟ سبحان الله!
إن الخواجة يركب القطار أو الطائرة وكتابه في يده ولا ينـزل إلا وقد ختم الكتاب، ونحن أمة خلقنا للجنة -نسأل الله لنا ولكم الجنة- أمة لا إله إلا الله، أمة ذبح أبطالها على نهر الجنج، واللوار، والسند، لرفع لا إله إلا الله، أمة يقول عقبة بن نافع: لما خاض البحر بقدميه والله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن وراء البحر أرضاً لوطئتها ولو علمت أن وراء الأرض بحراً لركبت أو كما قال.
ويقول وهو في غابة أفريقيا: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى واحشرني مع هذه الوحوش. ويقول أبو أيوب الأنصاري وقد وقف على شرفات القسطنطينية في بلاد الروم في تركيا يقول: [[اللهم أمتني في هذه البلاد حتى أبعث يوم القيامة بين قوم كفار، وأنا أقول وقد بعثت من قبري: لبيك اللهم لبيك]] فمات ودفن هناك.
أمة وقف علماؤها وعبادها في الجهاد في سبيل الله، يقول محمود بن سبكتكين أحد القواد المسلمين يوم دخل يفتح بلاد الهند بألف ألف مقاتل، أعطي رشوة ليرتد عن الفتح، أعطي ألف صنم من الذهب والفضة والمرجان، فلما دفعت له قال: ما هذه؟ قال ملك الهند: خذها ولا تفتح بلادنا، قال:سبحان الله! أتريد يوم القيامة أن آتي وأُدعى يوم القيامة، يا مشتر الأصنام! والله لا آخذها وإنما أكسرها، لأدعى يوم القيامة يا مكسر الأصنام! فأخذ الفأس وأخذ يكسرها ثم أحرقها، ثم دخل بلاد الهند، ولذلك الشاعر الباكستاني محمد إقبال يوم أن بكى على الأمة الإسلامية، وهي على مثل حالنا تقصيرنا، وقد جاء وهو يرجو أن يلقى في مكة والمدينة شباباً يقولون: لا إله إلا الله، ويعيشون للقرآن، فلما رأى الواقع بكى، وهو واقع -والله- يؤسف له، لكننا نأمل من الله أن يعيدنا إليه وأن يتوب علينا وعليكم، قال قصيدة تاجك مكة يعني مكة البلد الكبير يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا |
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا |
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفار |
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا |
أيها الجيل الذاهب التائب إلى الله ماذا فعلنا مع الإسلام؟! لا قمنا الليل ولا داومنا على ذلك.
ونريد أن نكون صُرحاء في هذه الجلسة؛ لأن أمامي أساتذة، ودعاة، وطلبة علم، وجيلاً صادقاً واعداً إن شاء الله.
لم نسكب دماءنا في سبيل الله، ولا وقفنا في الجبهات، ولا أنفقنا أموالنا، ولا قضينا أوقاتنا في تربية الناس، وفي تربية العوام وتفهيمهم وتوعيتهم، ماذا فعلنا؟!
نصلي الصلوات الخمس والخشوع في وادٍ ونحن في واد، وشهوةٌ ولهوٌ ولغوٌ، وأكلنا وشربنا ورقصنا ولعبنا ومزحنا وضحكنا أكثر بكثير من هذه الأمور، فاتقوا الله يا عباد الله في أنفسكم.
أما أتى خبيب بن عدي يذبح في ذات الله عز وجل فرفع إلى المشنقة -مشنقة الموت- فأخذ يترنم؟! من الذي ينشد وهو يذبح، هل من أحد ينشد وهو يذبح! إلا الذي أصبح قلبه كبيراً.
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن يكون محمد مكانك وأنت في أهلك ومالك؟ فقال خبيب: لا والله! والله ما أريد أن تصيبه شوكة وأني في أهلي ومالي، فلما رفعوه أرسلوا السيوف عليه، قال: {اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً} ثم أخذ ينشد نشيد الموت:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلو ممزع |
حنظلة كان في الليل عروساً لزوجته في يومهم الأول، فسمع لا إله إلا الله تدوي في الخافقين، فالزحف الكافر يريد احتلال المدينة، وأبو سفيان والمشركون قدموا إلى أحد، فاخترط سيفه وخرج وعليه جنابة وهو شاب، وقال وهو ينظر إلى السماء: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] نعم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، فقتل وأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه: {فقالوا: مالك يارسول الله؟ قال: رأيت الملائكة تغسل
أي أمة هذه الأمة؟! وأي جيل هذا الجيل؟!
تنظيم الوقت -يا أيها الإخوة كما أسلفت- أن تعيش منظماً لا تعيش سبهللاً، وأن يكون لك في كل وقت ورد، وأحسن ما ينظم به الوقت أن يكون تنظيم وقتك مع الصلوات، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً [النساء:103].
أما وقت الحفظ فهو وقت الفجر، فهو وقت البسمات الرضية، وقت النداء على الكون، وقت الطل الباسم، وقت التفتح، وقت الفجر يوم تبسم للمعمورة وذهنك ينطلق بإشراق إلى الكون، هذا وقت الحفظ، وأنت إذا لم تجعل من مهماتك الكبرى في الحياة ومن مشاريعك الصادقة حفظ القرآن، فكأنك ما فعلت شيئاً.
سبحان الله! العجم يحفظون القرآن، ويدرسون أبناء العرب في بلاد العرب، ونحن نقرأ عليهم كأنا عجم، يعلمونا كيف تنطق الضاد والزاي والذال، وننطق كأنا عجم ونتلعثم بين أيديهم.
نحن أبناء طلحة والزبير وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ما جئنا من طاشقند ولا سمرقند، لكن أصبح أهل سمرقند يدرسوننا القرآن في المساجد ولا نفهم، ويضربوننا بالسياط ولا نعي، ونقول: عفواً يا شيخ نحن ما درسنا هذا القرآن.
والقرآن نزل بلغتنا نحن، نزل علينا نحن وما نزل في سمرقند لكن كما قال الله عز وجل:فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين [الأنعام:89].
لما تركنا القرآن، وملنا إلى المجلات الخليعة، وإلى الكتب الحداثية الحديثة الرخيصة المنمقة، التي ليس فيها علم: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40].
وإلى الأغنية المائعة الرخيصة، ما عرفنا نقرأ (طه).
وأحدهم أتى يقرأ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] فقال: ألف لام تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، أصبحنا عجماً لأننا لم نفهم، أنا لا أقول في هذا المكان، لأني أعرف أن فيكم من يفهم كثيراً، ومن يستطيع أن يؤهل ليقود أمة لكن من يعرف ويخالط كثيراً من المجتمعات يعرف هذا الأمر، حتى أن الواحد يبلغ ستين سنة في القرية ولا يستطيع أن يحفظ الفاتحة، يقفز من آية إلى آية، وقد سمعت أن بعض الدعاة قام في قرية يدرسهم ويعلمهم الفاتحة فأبوا ذلك، فقد انغلقت أذهانهم، وما استطاعوا لهذه المهمة الكبرى، أتى من هنا ليحفظهم ويقفزون من الآية الأولى إلى الآية السادسة من الفاتحة، ويأتي من هنا فأبوا، وفي الأخير وجد حلاً......قال: تعالوا، فأتى بشيوخ القرية كبارهم، يعني أنهم لا يفهمون كثيراً، فقال هذه سبع غنم، والفاتحة سبع آيات، بسم الله الرحمن الرحيم، ستتذكرون بسم الله بالغنم، الحمد لله رب العالمين هذه، الرحمن الرحيم هذه، مالك يوم الدين هذه، حتى انتهى، ثم ذهب من عندهم؛ وقد أخبرني بعض الدعاة في الرياض وهذا الداعية لا يزال حياً، قال: فلما ذهب، وكان الداعية هذا فيه خير وطيبة، ثم ماتت الشاة بعد أن سافر بحفظ الله ورعايته، فقام إمامه يقرأ فقفز آية: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فرده أحدهم، وحاول رده في الصلاة وبعد الصلاة وقال: كيف تردني وقد ماتت، يعني: ماتت الآية مع موت الشاة.
فنحن نحتاج إلى أُسس تقليدية في أكثر من هذه أو إلى رسوم، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بالبدو يوم يأتونه، أنا أقول حفظ القرآن أهملناه كثيراً. يوم سمعنا لـديكارت الفرنسي وأمثاله عندما قالوا: إن عصر الحفظ ولى وأصبح عصر الفهم، فلا فهمنا ولا حفظنا.
يقول: أما أنتم فالحمد لله، أخذتم من الكفار كل سيئ؟! وما أخذتم كل حسن، فالسيجارة أخذتموها من الخواجة، والكعب العالي، والثوب المسبل، والشعر الملفوف والعقائص والغدرات، والفجرات، والسوالف، والأظافير، التي كأنها أظافير مربيات في اليونان، كل هذه أخذتموها، لكن هل صنعتم لنا طائرة؟ هل قدمتم لنا صاروخاً ندمر به إسرائيل؟ هل قدمتم لنا دفاية وسخانة وثلاجة وبرادة؟! لا والله.
أما الخواجات فلهم سيئات لكنهم قدموا خدمة للبشرية، قدموا معامل ومصانع ومنتجات، وملبوسات ومطعومات، ولكن أنتم لا جلستم معنا على الأرض تقرءون الروض المربع، ولا صعدتم على سطح القمر تنتجون للناس، فأنتم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غيثي من سميني |
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني |
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني |
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني |
النفاق لا يصلح في الإسلام، والتهجم والاستهزاء على المنهج القويم وعلى الرسالة الخالدة التي أرساها محمد صلى الله عليه وسلم ومات دونها الرجال لا يصلح، فإنه نفاق وكفر:قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكُمْ [التوبة:65-66].
ثم أدعوكم إلى القراءة المكثفة، فالثانويات والمعاهد والمتوسطات والكليات، تعطيك مفاتيح للعلم، لكنها لا تخرج عالماً، إلا في النادر، نعم. تفتح لك السبل والوسائل والطرق الاستقرائية التجريدية في البحث والاستقراء والاطلاع، لكنها تتركك لتطلع أنت، فهل اطلعنا وهل قرأنا؟!
هل كان لأحدنا مكتبة بصرية ومكتبة سمعية في البيت، يجلس في غرفته ويغلق عليه الباب ليجلس مع العلماء والفقهاء والأدباء والأذكياء، يعود بعد هذه الجلسة وقد زاد علماً إلى علمه وفهماً إلى فهمه، يوم تركنا ساعة المكتبة أصبحنا عاجزين، مفهومات عادية يفهمها السذج من الناس ونحشي الذهن لكن ما يفهمه كل الناس، لكن من يجلس في مكتبته يجلس مع ابن تيمية والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي وابن القيم، مع هؤلاء الأعلام فيستفيد علماً إلى علمه.
فالاطلاع الضخم -يا أيها الإخوة- تمشي وكتابك معك، أنا لا أقول لك: إن هذا أمراً قسرياً جبرياً لا. فللنفس حق من الترويح المباح، من الدعابة الطيبة، والجلسة الأخوية فهذا أمر، فالاطلاع الاطلاع المكثف.
والذي ينبغي علينا أمور: أن نحل المصحف مكان المجلة الخليعة، وآيات الله وكلام رسوله مكان الأغنية الماجنة، ورفقة الخير والبر مكان رفقة السوء والانهدام والفشل، فهذا لا بد منه.
وفي الختام أشير إلى أمور ثلاثة:
الأمر الأول: القدوة، من هو قدوتك في الفصل والمجتمع؟ أما القدوة العامة لك في الليل والنهار وفي كل مكان هو الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قدوة تنظر إليها وتأخذ منها سلوكك هو الرجل الداعية والأستاذ الموفق المخلص الصادق، هذا أمر.
الأمر الثاني: من هم رفقاؤك وجلساؤك؟ هل هم كل من يتقي الله؟ وإذا رأيت الطالب والشاب يرافق أعداء الله عز وجل والفجرة، فاعلم أن قلبه فاجر، وأنه ما اهتدى إلى الآن، كيف تحب أعداء الله، وكيف توالي من لا يوالي الله عز وجل.
الأمر الثالث: واجبنا في عبادتنا أن نختمها بالتوبة والاستغفار دائماً وأن نكثر من الاستغفار والتوبة الصادقة في حياتنا، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
يا إخوتي في الله! لا أريد الإطالة لأنه قد يكون هناك وقت للنقاش والحوار، ولكن في ختام هذه الجلسة أكرر شكري لمن توجه بهذه الدعوة، ولمن كان من مهمته تربية هذا الجيل، ولمن كان حريصاً في توعية الشباب، مديراً وأساتذة، وأتوجه إليكم بالشكر طلاباً وتلامذة، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
.
الجواب: التصوير كثر الكلام فيه وأُلِّفت فيه رسائل وفتاوى وما أظن الأخ السائل يجهل هذه الرسائل والفتاوى التي وردت في الساحة، وكثرة الكلام في المسألة تكثر الخلاف والشقاق فيها، ولكن مما علم أن تصوير ذوات الأرواح لغير حاجة محرم، وبالخصوص إذا أخذت هذه الصور لتعظم في البيوت وعظمت فهذا أمر محرم لا شك فيه.
أما تصوير ذوات الأرواح للحاجة الماسة التي توقف عليها مصلحة فلا بأس به.
أما تصوير المناظر الطبيعية، من شجر وبناء وأطلال وجبال وسهول وهضبات وبساتين فلا بأس بذلك، فهي جائزة إن شاء الله؛ لأنه لم يرد فيها نصوص محرمة.
الجواب: هذا الدين بأُسسه وبأقواله وأفعاله وأحواله مبني على الصدق، فإذا وجد في مسألة كذب فهذا الشيء حرام، وإذا بني على الكذب والتمثيل يخاف منه الكذب، فإذا خلا هذا التمثيل عن الكذب وعن أمور أخرى محرمة كالتشبه بالنساء أو الكفار؛ فلا بأس به، أما إذا بني على كذب مثل أن يمثل شخصية الحجاج بن يوسف، وشخصية سعيد بن جبير، وهما ليسا هما، فهذا كذب، أو أن يمثل الكافر واليهودي والنصراني والشيوعي فهذا كذلك محرم، أو أن يتشبه بالنساء في التمثيليات فهذا محرم، أما إذا خلا عن هذا كأن يمثل أمام الطلبة في بعض الأمور التي على الصدق وعلى المصلحة ووجد من مصالحه أعظم من مفاسدها فلا بأس في ذلك إن شاء الله.
الجواب: إذا أردت النجاة في الدارين فاركب في سفينة نوح، وسفينة نوح كما قال الإمام مالك هي: الكتاب والسنة فتستقيم على منهج الكتاب والسنة وحينها يدخلك الله جنة عرضها السماوات والأرض قال تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:3].
فإذا هداك الله عز وجل وبصرك وعرفك الطريق، فأنت ما عليك إلا أن تسلك هذا الطريق، وتحتاج في هذا السلوك إلى زاد ومعلم وسائق يسوقك وإلى قائد يقودك.
أما الزاد فهو التقوى.
وأما المعلم فهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما القائد فهو القرآن.
وأما السائق فهو تذكر الموت دائماً وأبداً.
فأنت إذا فعلت ذلك وفقك الله عز وجل، وأنا أذكرك بأمور أدعوك إلى حضور جلسات الخير والندوات، وأن يكون لك علاقة بالدعاة المخلصين الصادقين والجلساء الأبرار، وأن يكون لك اطلاع مكثف في كتب الإسلام، والدعاء والتبتل إلى الله عز وجل، خاصة في السجود وفي أدبار الصلوات وسوف يفتح الله لك فتحاً لا يدور في البال ولا الخيال.
الجواب: وجد في كثير من المجتمعات الاستخفاف بالشباب الملتزم، وهذه سنة من سنن الله الخلقية في هذا الكون، فقد وجدت مع نوح عليه السلام عندما قام يصنع السفينة فقاموا يسخرون منه ويضحكون فقال: قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38].
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارها |
قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
فلا تقوم المبادئ والأسس الأصيلة والأهداف الجليلة؛ إلا على العداوة، ونحن أهل مبادئ أصيلة فلا بد من أعداء وحسدة، ولا بد من مستهزئين ومستهترين، لأنهم أخفقوا في هذا الجانب، والمخفق دائماً جالس على الأرض يتفكه، أما الذي يصعد فيسقط كثيراً والجالس على الأرض لا يسقط، هل رأيت أن أحداً جالس يشرب الشاي على الفراش سقط وكسرت رجله، ما سمعنا بذلك، لكن الذي يصعد جبال الهملايا ويصعد على الجبال الشاهقة يتكسر كثيراً لكنه يصعد:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
فمبدأ الاستهزاء والاستهتار مبدأ تقليدي سلبي وجد عند الأمم جميعاً، فإن أهل التفوق وأهل الكمال دائماً يحسدون، فيبحث عن النقاط التي لا يخلو منها البشر ثم يشخصونها ويكبرونها للناس.
والداعية تجده كريماً صادقاً مخلصاً منيباً تالياً لكتاب الله واضحاً، وفياً، حسن الخلق ثم يجدون فيه سرعة غضب، فأتوا ينشرون في المجالس، فلان فيه غضب حاد أحمق، كثير التهجم على الناس، يستعمل الزعل دائماً وكثير البذاء، حتى تصبح سجية له في هذا الجانب، ويلك من الله! ألا تغمر سيئاته في بحار حسناته.
إن بعض الناس الفضلاء إذا عددت سيئاتهم انغمرت في بحار حسناتهم، لكن تعال أنت أيها المستهزئ أين حسناتك في الإسلام؟ أرنا مواقفك الصادقة في الدين وفي المجتمع وفي الرأي العام، سوف تنغمر حسناتك في بحار سيئاتك فلا يكون لك حسنة، وهذا به في كتاب الله عز وجل وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكُمْ [التوبة:65-66].
أتدرون بمن يستهزئ هذا المستهزئ! يستهزئ بالرسالة الخالدة وبالفقه المجيد، يستهزئ بالإسلام الذي ضج الدنيا، ويستهزئ بالرسل والأنبياء والكتب السماوية.
الجواب: الأجانب نأخذ منهم ما أجادوه في العلوم الدنيوية، أما الدين فلا كرامة لهم، نحن عندنا ديننا يكفينا، ونحن نصدر إلى العالم ولا نستورد، ونوجه ولا نتوجه من غير الله عز وجل، ونعطي ولا نأخذ، نحن أمة عندنا دستور وكتاب خالد، وسنة فيها العقيدة والأحكام والسلوك والآداب، فإذا أتوا لنا بسلوك وأحكام وآداب، قلنا لهم هذه بضاعتكم ردت إليكم، عندنا كل خير، كل الصيد تجده في القرآن، أما أن تأتوننا بعلوم أرضية دنيوية فنقول: نعم، نأخذ منكم صناعة الطائرة، لأن الله جعل مبدأ في القرآن قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
أجادوا في صنع الطائرة، وفي صنع السيارة، والتلفون: وهذه الخدمات، فنأخذها منهم لأنها لا تعارض ديننا، والحكمة ضالة المؤمن، ونأخذ منهم بعض الأسس التربوية المفيدة التي توافق ما عندنا من الدين.
لذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة: {إن الشيطان علمه آية الكرسي، يقول: اقرأها كل ليلة فلن يزال عليك حافظ، فقال صلى الله عليه وسلم: صدقك وهو كذوب} فلذلك ثبت عن علي -وبعض المحدثين يرفعون الحديث إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم-: [[الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها]].
أما إذا كان هذا الشيء يهدم المعتقد، أو التربية أو السلوك، فنقول: لا. ولا ترى لك عين، في كتاب كريسي موريسون الأمريكي وهو مترجم، عنوانه الإنسان لا يقوم وحده، يقول: يا أيها المسلمون أعطيناكم الطيارة والسيارة والخدمات وما أعطيتمونا حياة القلوب، وهو الإيمان.
وهذا صحيح نحن لا نقلدهم، إنما نأخذ منهم هذه المنتجات لأنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، أما علم الإسلام وعلم الدين، وعلم الآخرة، فلا: بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ [النمل:66] لديهم عقول حمير: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِينَ [النمل:66] وعندنا والحمد لله ما يكفينا، حتى في الأمور التربوية هذه وعلم النفس والسلوك؛ لأن عندنا في الإسلام ما يكفينا والحمد لله وهذا أمر طرقه أهل العلم.
والعجيب المذهل أن الإنسان يجد في كثير من الجامعات والمدارس تدرس كثيراً من الأسس التربوية، لـكانت وديكارت، أما كتب ابن القيم فتقرأ بعد صلاة العصر للعوام ويكون هادئاً على مستويات الناس، أما الطلبة الأذكياء الفهماء فَيُدرس لهم كانت.
وما كانت إلا قطعة حمار لو وزن مع ابن القيم والله! لن يأتي ذرة من ذراته في الفهم والإدراك والسيطرة على المعلومات والاستقراء التام، مع النضوج الفكري، ومع الإخلاص والصدق لله عز وجل.
ابن تيمية يأخذون منه أسساً تربوية، في المكتبات يباع كتاب الفرنسي: ابن تيمية مربياً وآخر: علم النفس عند ابن تيمية، فيأخذون منها ثم نأخذ نحن منهم ولا نُعجب بعلمائنا.
الجواب: ذكر ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس! من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه الحد} رواه الحاكم.
وهذا حديث يؤكد هذه المسألة ويجيب عنها، فمن ابتلي بشيء من الذنب كبيراً أو صغيراً فليستتر بستر الله، وليتوب بينه وبين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يذهب إلى سلطة أو قاضٍ أو أمير أو أستاذ ليفضح نفسه، بل يستتر، والله ستير يحب الستر سبحانه وفي الصحيح: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يضع كنفه على العبد يوم القيامة فيناديه، فيقول: عملت كذا يوم كذا وكذا، قال: نعم يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} وإنما يهلك في هذا الجانب المجاهرين بالمعاصي المتبجحين بتعدي حدود الله وانتهاك حرمات الله، تجد الفاجر يصبح وقحاً مسلوخ الحياة، يعصي الله في الليل، ويصبح ينشر معلوماته في الصحف في الصباح، يقول فعلت كذا وكذا وذهبت مع فلان وفعلنا كذا وكذا، ويلك من الله! ألا ترى أنك أمام الله ورقابته وعينه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
دخل ثعلب الأديب على الإمام أحمد، قال: الإمام أحمد: من أنت؟ قال: أنا ثعلب، قال: ماذا تعمل؟ قال: أجمع القصائد والأدبيات، قال: أتحفظ شيئاً؟ قال: نعم، قال: أسمعني، قال: يقول أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب |
غفلنا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب |
فقام الإمام أحمد وترك الدفاتر والمحبرة،، وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي شُيع بألف ألف وستمائة ألف من بغداد، خرجت بغداد لتشييعه جميعاً، دخل غرفته وأغلق عليه الباب وبكى، قال ثعلب: والله إني كنت أسمع بكاءه وهو ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
يوم تركنا الرقابة وملاحظة رقابة الله عز وجل، ولم نصل إلى درجة الإحسان، وقعنا فيما وقعنا فيه.
فإجابة السؤال يكفيه حديثه صلى الله عليه وسلم: { من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه الحد}.
إذاً المطلوب أن تستتر وأن تتوب وألا تخبر أحداً، والله سوف يغفر ذنبك كما عند الترمذي: {يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرتها لك، يابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً، لآتيتك بقرابها مغفرة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي المرفوع إلى رب العزة والجبروت تبارك وتعالى.
الجواب: هذه الفتوى مرتزقة أصبحت كالفولاذ إذا وضعت في النار، مطروقة أو مستخدمة لأمور ونسبيات، ولو جعل الدين على الظروف والأحوال، لاهتزت قواعده وأصوله، ومدخل هذا الرجل الذي كتب هذا الكتاب موجود، وقد قال بعض أهل العلم وأسكت في وقته من أهل العلم جميعاً، لأنه سوف يفتح باباً على الفتيا وعلى النصوص الشرعية إلى أن تثلم، والرسول عليه الصلاة والسلام في الصحيح يقول: {إن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء، قال أبو بكر
وفي هذا الحديث ثلاث قضايا:
أولها: من الذي زكىَّ أبا بكر؟
ثانيها: ما هي السياقات والقرائن لهذا الحديث؟
ثالثها: من هو المزكىَّ؟
فأمّا من زكاه ومدحه وقال: إنه لا خيلاء فيه فإنه معلِّم الخير، الذي لا ينطق عن الهوى، المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومن لنا بمثله يزكي كل مسبل في الشارع، كل ما أتى إنسان جاء على رأسه فيقول: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء.
الأمر الثاني: المزكى هو أبو بكر رضي الله عنه أصدق الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلصهم، فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم منه أنه في درجة عالية.
الأمر الثالث: أن أبا بكر قال: يرتخي إزاري، ما قال أرخيه عمداً، يذهب إلى الخياط، ويقول له: أطله قليلاً فإني لست أفعل ذلك خيلاء، أنت الذي فعل ذلك خيلاء، وأنت الذي أمر بهذا، أما أبو بكر فكان يرفع إزاره لكن الإزار يرتخي عليه، والإزار هو: أشبه شيء بالفوطة، أو بالشرشف الذي يلف ثم يحزم بخيط، كانوا يلبسون ذلك في المدينة كثيراً، والعرب تلبس ذلك، فربما يرتخي عنه فيتعاهده كثيراً، فوقت عدم التعاهد ليس من الإسبال لأنه يرتخي على غير رغبة منه، لكنه ما يتركه، وما قال عليه الصلاة والسلام: اتركه مسبلاً فإنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء، لكن في وقت ارتخائه لا تلام؛ لأنه على الرغم منك ولأنك صادق، والله يعلم إخلاصك وإنك لا تريد ذلك، وأما الذين يستدلون بذلك فليس لهم مزكي، وليست قلوبهم كقلب أبي بكر وظروفهم وأحوالهم واحتياطاتهم يعرف منها أنهم يريدون الإسبال حقيقة وما أسفل من الكعبين ففي النار.
الجواب: هذا السؤال مركب وليس بسيطاً، أتقبل الصلاة في البيت إذا فات وقتها؟
ففيه الصلاة في البيت، وفوات وقت الصلاة.
وأنا أبدأ بالثانية لأنها تقدم عند أهل العلم كـابن تيمية، ولأنها أهم، أما فوات الصلاة فإن كان بعذر فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم العذر في الصحيحين من حديث أبي قتادة: {إذا نام أحدكم عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها} فإذا كان هذا عذره فليصلها متى ذكرها، ولو بعد شهر أو أكثر أو أقل، وفي الصحيح في حديث أبي قتادة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس فقضاها} وهذا من حديث بلال، وحديث عمران في البخاري.
فهذا أمر معروف لعذر، ويدخل في ذلك الإغماء والذهول، أن يكون في عمل حتى خرج الوقت فيصليها متى ذكرها، أما من تعمد تأخيرها حتى خرج وقتها، فقال ابن تيمية: يصبح في هذه الفترة كافر؛ لأنه تعمد تأخيرها حتى خرج وقتها مع العلم أن بعض أهل العلم بل هم الجمهور، قالوا: يقضيها، وقالوا: ما ندري هل تقبل أم لا، لأنه أصبح في فترة كفر وردة، والصحيح أن تارك الصلاة عمداً كافر، وليس هناك تقسيم في السنة يقول: تارك الصلاة جاحداً أو تهاوناً وتكاسلاً، لا يبلغ العبد درجة يترك الصلاة إلا وبلغ درجة من الكفر والريبة والنفاق مبلغاً أوصله إلى هذه الدرجة، فإذا تركها حتى خرج وقتها عمداً، ففتوى ابن تيمية عرضتها عليكم، والذي ربما تميل إليه النفس -والله أعلم- أن يقضيها، إنما يتوب إلى الله ويدخل في الإسلام، ويعيد التوبة ويستغفر الله من هذا الذنب العظيم.
القضية الثانية: صلاة الفريضة في المسجد في الكتاب والسنة أكثر من أربعة عشر نصاً على وجوب الصلاة في المسجد، وصح عند عبد الحق الأشبيلي وصح هذا الحديث عند ابن تيمية وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: {من سمع النداء ولم يُجب فلا صلاة له إلا من عذر} وفي الصحيحين عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أناس لا يصلون معنا -أو لا يشهدونها معنا- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} وعند أحمد: {لولا ما في البيوت من النساء والذرية} وعند مسلم، من حديث الأعمى قال عليه الصلاة والسلام: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} قال ابن تيمية: صلاة الجماعة شرط في صحة الصلاة، وقيل: هي واجبة، وبعض الناس يقول: إنها تجوز في البيت، وهذا ليس بصحيح، بل لابد منها في المسجد ومن صلى في بيته فهو آثم فاسق ترد شهادته، إلا من عذر عذره الله فيه ووردت الأعذار في ذلك وهذه تحتاج إلى بحث تفصيلي طويل.
الجواب: الغيبة ذنب من الذنوب الكبار، عُصي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها في الأرض كثيراً، والغيبة أمر سهل على الألسن، وهي فاكهة المجالس، ولكنها تثير وتهدم المجتمعات والصروح، وتخرب من البيوت ما لا يخربه الجنود.
والغيبة دليل على الحقد الدخيل في النفس، وعلى سقوط النفس، الغيبة مبدأ ظالم عُصي الله به في الأمم القديمة، ونهى الله عن ذلك، والغيبة جرح للشعور، والغيبة خروج عن حد الأدب، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12].
حد الغيبة في الإسلام: أن تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته.
والغيبة لها وسائل يمليها الشيطان، وهو عالم في هذا الجانب، يقول لك: لا نريد من هذا الشخص أن نغتابه لكن نقومه تقويماً تربوياً لمصلحته، ومن الغيبة -كما ذكر النووي وابن تيمية- الورع البارد، بعض الناس عنده ورع بارد مظلم، يأتي يقول: هدى الله فلان، هو لا يريد هدايته إنما يريد اغتيابه، وإذا ذكر له فلان قال: عافانا الله وإياه، ولكن معناه كأنه سور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فالظاهر كأنك تدعو له بالعافية، لكن الباطن كأنه وقع في ريبة وأمر ومعصية تنبه الناس عليها، وإذا ذكر، قال: مسكين، نسأل الله أن يعافينا مما أصابه، نعوذ بالله من الغيبة، وتشترك العين واللسان واليد في الغيبة، قيل لبعض الناس: ما هي غيبة العين؟ قال: أن تهمز إذا ذكر، وأن تخرج لسانك، وأن تشير بيديك أو تنفخ بيديك على كفك، هذه كلها غيبة، وحلولها:-
أولاً: أن تتقي الله في أعراض المسلمين.
ثانياً: أن تعرف أن الجزاء من جنس العمل، وأن تعرف -وهذا غالباً- أن أكثر من تؤكل لحومهم في المجالس أكثرهم غيبة للناس، وإذا رأيت الناس تتناوب عرض فلان في المجالس فلأنه أكثر من تناول أعراض الناس، فمن شكر الناس شكره الله، ومن عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن رحم الناس رحمه الله، لأن الجزاء من جنس العمل.
ثالثاً: قال بعض أهل العلم لرجل يغتاب المسلمين: أقاتلت الروم؟ قال: لا. قال:أقاتلت فارس؟ قال: لا. قال: أجاهدت في سبيل الله، قال: لا. قال: سلم منك الروم وفارس وما سلم منك المسلمون
رابعاً: أن يذكر القطن إذا وضع على العين، وإذا وسد في التراب، وقد اغتيب رجل عند محمد بن واسع الأزدي فقال: أذكر إذا وسدت في التراب.
الجواب: هناك سنن رواتب وسنن مطلقة، أما السنن المطلقة فأمرها واسع، وهي تبنى على الأجر وعلى التقرب كلما تقرب العبد إلى الله بسجدة رفعه الله بها درجة، ففي صحيح مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: {قلت: يا رسول الله! أريد أن أرافقك في الجنة، قال: أعنّي على نفسك بكثرة السجود} وعند مسلم من حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} أما السنن الرواتب فهي عشر ركعات يقول ابن عمر في الصحيحين: {حفظت من الرسول صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر} وعند مسلم: {في بيته} وفي رواية مسلم: {وركعتين بعد الجمعة}.
فالسنن الرواتب هي هذه التي ذكرت، مع أن يوم الجمعة ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة في قوله صلى الله عليه وسلم: {من صلى الجمعة فليصل بعدها أربعاً} قال ابن تيمية: من صلى في بيته فليصل ركعتين بعد الجمعة، ومن صلى في المسجد فليصل أربعاً جمعاً بين الحديثين.
وهذه السنن الرواتب، التي ذكرتها من تركها عمداً وداوم على تركها فهو فاسق ترد شهادته، ليس كافراً ولكنه فاسق ترد شهادته، ولا يفعلها إلا ضعيف الإيمان وضعيف الإرادة، ضعيف العزيمة في الإرادة لأنه ما تزود بالصالحات، وصار أمراً أن يكون من المقصرين الذين ما سلموا من الذنوب، وفي حديث الولي في صحيح البخاري مرفوعاً إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} هذا السابق بالخيرات:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
الجواب: لم يرد فيها حديث صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عمل أحد من أصحابه الذين هم الخلفاء الذين يقتدى بهم، وهذا الأمر الذي يظهر أنه بدعة، وأنه لا ينبغي أن يقول القارئ صدق الله العظيم ويرفع بها صوته، وإن كان المعنى صحيحاً، فإن في سورة آل عمران قوله: صدق الله، فالله هو صادق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقوله صدق، لكن ما ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فَيُترك: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر