سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: (منهج طالب العلم) لأن من الأنسب أن نتكلم عن المنهج الأصيل الذي خلفه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام لطلبة العلم.
وهناك مشكلات كثيرة يعيشها طلبة العلم.
منها: الأمية المستفحلة في الأوساط.
ومنها: الترف.
وعدم القراءة مصيبة، وسوف يأتي الحديث عن علاج ذلك.
وبعض الناس الآن جعلوا قضية الساعة حرب الخليج، والمشاكل التي في الخليج، ونحن لا نقول: يُلغيها من حياته، لكن يعطيها حجمها الطبيعي.
ومنها: مرض الحسد، وهو منتشر بين الأقران، كما قيل: ما خلا جسد من حسد:
إن العرانين تلقاها محسَّدةً ولا ترى للئام الناس حسادا |
وكتب ابن الوزير العالم اليمني، العجيب، لِعمِّه رسالة يشكو من حسد الأقران، فردَّ عليه عمُّه، بقوله:
وشكوتَ من ظلم الوشاة ولن تجد ذا سؤددٍ إلا أصيب بحُسَّد |
لا زلت يا سبط الكرام محسداً والتافه المسكين غير محسَّد |
ومنها: مرض الرياء.
وهو أن يطلب العلم لغير وجه الله وفي الحديث: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة: عالم...} فهذا طلب العلم لغير الله فهذا من أول من تسعر بهم النار؛ كما في الحديث الصحيح.
وسأتعرض لآداب طالب العلم، لمن أراد أن يطلب العلم، وسوف أعرضها على شكل مسائل ونقاط:
يقول أحد الحكماء: عرض السؤال نصف الجواب. وقالوا: يدل على اللبيب في فطنته حسن سؤاله، والعاقل من يُحسن السؤال؛ ويختار وقته ويجيد عرضه ويجيد مقامه وعلى من يطرح السؤال؛ وهنا مسائل:
قال عمر كما في صحيح البخاري في كتاب الأدب: {نهينا عن التكلف} والتكلف: أن تتكلف السؤال عن شيء لم يقع؛ كما نسمع عن بعض طلبة العلم يتكلمون عن مسألة دوران الشمس حول الأرض، وفي أطفال المشركين وأهل الفترة، وفي أهل ألاسكا شمال غرب كندا كيف يصلون؟
وأهل القطبين، الذين الليل عندهم أربع ساعات، والنهار عشرون ساعة كيف يصلون؟
وإذا سألته عن نواقض الوضوء، فهو لا يعرف منها شيئاً! فهو يعيش في القطبين وألاسكا، ولكنه لا يعيش في الأحكام التي تنفعه.
وقد ذم الله سبحانه التكلف فقال تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86].
وميزة الإسلام أنه دين ميسر، والقرآن يخاطب جمهور الناس، ويخاطب المجموعة الكلية. فهل سمعت عجوزاً تشكو أنها لا تفهم القرآن؟
لا. لأن هذه ميزة القرآن أنه سهل، وكذلك الشريعة عموماً قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
فوصيتي لإخواني ألاَّ يتكلفوا في مسائل لم تقع بعد، فينقطعوا عن مسائل وقعت لكنها لم تبحث إلى الآن.
وهذه الأغلوطات هي التي نهى عنها السلف، وذكر الإمام مالك في حديث: {أن الله كره لكم ثلاثاً: ومنها: كثرة السؤال} قال: هي الأغلوطات؛ وهي المصاعب من المسائل التي يتعجَّز فيها العلماء.
وبعض طلبة العلم يريد أن يوقف الأستاذ عند حده، يقول: والله لأوقفنَّه عند حده؛ وهذا منهي عنه، وهو ارتكاب لمحرم، ولا يجوز أن يغلِّط العالم، أو يتعجزه بمسألة، ولكن إن كان لك حاجة في المسألة فاسأله وإلا فلا.
قال بعض العلماء معناه: كثرة السؤال في المال.
وقال بعضهم: بل كثرة السؤال عند نزول الوحي، أمَّا بَعْد نزول الوحي فلا. لقول الله عزوجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101] فلمَّا نزل الوحي وانقطع فلا بأس أن تسأل.
وقيل: كثرة السؤال هي: في الأغلوطات، أو المسائل التي لم تقع، أما المسائل التي أنت في حاجة لها؛ فمن الحكمة أن تسأل عنها.
وقيل لـابن عباس: كيف حصلت على هذا العلم؟ قال: [[بقلب عقول، وبلسانٍ سئول]] وقيل:
وسلِ الفقيه تكن فقيهاً مثله من يجر في علمٍ بحقٍ يمهرِ |
والطالب النجيب هو كثير الأسئلة، والطالب البليد هو الذي لا يسأل في الفصل؛ لأنه لا يوجد عنده خلفية عن الدرس المشروح، فهو دائماً ساكت، وعيونه مدحرجة في السبورة، ويتحرك مع الأستاذ، ولا يدري عن شيء، ولا يناقش.
والمناقش: هو الذي ذاكر وعنده علم، وجرب مع نفسك، ذاكر الدرس قبل أن تحضر إلى الفصل، فستجد أنك سوف تناقش، وأنك مستعد أن تحاور، وتأخذ، وتعطي، أما إذا لم تذاكر فستأتي وليس عندك شيء، فالطلبة الساكتون في الفصل في كل حصة، وفي كل محاضرة هؤلاء بلداء، نسأل الله أن يعافيهم ولا يبتلينا.
وكذلك الآن في بعض المسائل التي ليس للإنسان أن يسأل عنها ويتكلف بما لم تأتِ به الشريعة، حتى إنك تجد بعض الطلاب متحيِّراً، فيأتيك ويسألك ويقول: أنا لا زلتُ البارحة متحيِّراً في مسألة. قلنا ما هي؟
قال: هل الجن يدخلون الجنة أم لا؟
وإذا دخلوا الجنة أين يسكنون؟
كأنه مكلف باستئجار شقق لهم في الجنة، أو أنه لا بد أن يوجد لهم مكاناً!
وأنا أسأله سؤالاً: أأنت أعلم أم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي، ومعاذ؟!! أما كفاهم أنهم سكتوا ويكفيك أن تسكت؟! ولو أنه لا بأس عند العلماء الفطناء أن يسألوا عن مثل هذا السؤال، وقد سئل ابن تيمية -أظنه- في المجلد السابع عن الجن: هل يدخلون الجنة؟
لكن ابن تيمية عبقري، يحق له أن يُسأل مثل هذه السؤال، فقال في كلامٍ ما معناه: إنه لم يصرح القرآن ولا السنة بهذا، ولكن لمح لهذا القرآن في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56].
فليس من الحكمة التشاغل بأشياء لم تقع، وأحياناً قد يسأل الإنسان عن مسائل قد تكون شقاءً عليه، وتكون تردية لقلبه.
انظر إلى حسن التبويب، وفقه البخاري في التبويب، وإلى ذكائه في فتح جبهات في كل باب؛ وهي العبقرية الفياضة، يقول: إذا كان مستغرقاً في عبادة فلا تسألوه، أما إذا كان باستطاعته وهو في العبادة أن يجيبك فلا بأس.
لكن المقصود هنا أن البخاري يستدل على أنك إذا كنت في محاضرة فسئلت في مسألة فلا بأس أن تتم حديثك؛ وهذا ليس من ترك البيان وقت الحاجة، بل تتم كلامك، ومحاضرتك، ثم تلتفت إلى السائل وتجيب على سؤاله، والدليل على ذلك ما ورد في الصحيحين: أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتكلم على المنبر، وأمامه علماء الصحابة، فدخل أعرابيٌ من باب المسجد، فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟
وهذا السؤال خطأ: وهل هذا وقت السؤال؟
هل استأذنَ؟ هل جلس؟ هل سمع ما هو الحديث؟ هل من الحكمة أن يجاب؟
تهدر حقوق ألف مستمع أمامك، وتسمع لأعرابي! فسكت عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى من حديثه، قال: {أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة}.
وفي حديث آخر قال أعرابي: {متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: المرء يحشر مع من أحب}.
من حبكم فاعلموا للحب منزلة نهوى غريمكمُ لو كان يهوانا |
هذه مسألة، نأخذ منها أن الذي يحاضر في الناس، أو يتحدث لا يقطع حديثه من أجل واحد.
ومن الحكم في الدروس أن يتأنى طالب العلم، ويتأخر، وينتظر، حتى يأذن له الأستاذ، عندما يطلب الأسئلة من الناس.
ثانياً: بوب ابن حبان بباب: إباحة إعفاء المسئول عن الإجابة على الفور.
يقول: مباح للمسئول، وليس عليه حرج ألا يجيب على الفور، أي لا تلزمني أن أجيب على الفور بل تنتظر قليلاً، وهذا مأخوذ من حديث أبي هريرة عند مسلم: {حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل} فما أجابه إلا بعد أن تمَّ حديثه، وعند مسلم أيضاً أن هذا الرجل قال: {رجلٌ غريبٌ لا يدري عن دينه، جاء يسأل عن دينه، فتركه صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى من خطبته، أخذ صلى الله عليه وسلم في إجابته}.
وورد كذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قطع الخطبة للحاجة. أحياناً يستدعيك الأمر أن تقطع الخطبة والمحاضرة والدرس للحاجة، إذا كانت حاجه ملحة، مثل أن ترى أعمى يمشي ويكاد أن يتردى في البئر، وأنت تلقي درساً -مثلاً- وهو يمشي إلى البئر.
دخل أعرابي اسمه سُليك الغطفاني، والرسول عليه الصلاة والسلام على المنبر يخطب الجمعة، فجلس ولم يتنفل، فقال صلى الله عليه وسلم: {أصليت؟ قال: لا يا رسول الله! قال: قم فصلِّ ركعتين وأوجز} فقام فصلَّ ركعتين، فهذا وقت الحاجة.
وكذلك يسمح للخطيب أن يقطع الخطبة يوم الجمعة بملاحظة لا بد منها، كما فعل عمر في الصحيحين: [[أنه كلَّم
[[ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في السوق فسمعت الأذان، ونسيت أنه الجمعة، فما هو إلا أن توضأت وأتيت، قال: والوضوء أيضاً؟! وقد سمعت أن الرسول صلَّى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالغسل]] فقطع خطبته من أجل الفائدة.
ويجوز للمأموم أن يكلم الخطيب، وللخطيب أن يكلم المأموم، وليس للمأموم أن يكلم المأموم في أثناء الخطبة.
كان الإمام مالك يتحرج، من ذلك وذكر عنه أنه سئل سؤالاً في الحديث فجلس.
وكان سعيد بن المسيب رحمه الله رحمة واسعة؛ أحد التابعين، بل هو من أجلَّ التابعين، كان في مرض الموت فسئل عن حديث، فقال: [[أجلسوني. قالوا: إن ذلك يشق عليك يا
وإبراهيم بن طهمان ذكر عنده بعض الصالحين، وهو في سكرات الموت فقال أجلسوني فأجلسوه، فقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا الصالحون ونحن متكئون، أو كما قال.
وبالمقابل أيضاً هل من الأدب أن يسأل الطالب أستاذاً جالساً وهو واقف، بوَّب الإمام البخاري في هذه المسألة فقال: باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً؛ وذكر الحديث فقال: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه إليه -وتأخذ من قوله: فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه إليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً والأعرابي قائماً- فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وانظر إلى هذا الكلام المختصر، والكلام الموجز: هو أن يحوي لك الكلام كله اختصاراً في جملةً واحدة، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {وأوتيت جوامع الكلم، وأوتيت فواتحه وخواتمه}.
وضرب بفصاحته عليه الصلاة والسلام المثل، وأدهش الشعراء، وأسكت الخطباء، وأدحض أهل البلاغة المناطيق من العرب، عليه الصلاة والسلام.
يقول: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} هذه قاعدة، لم يقل: من قاتل من أجل نصرة الدين، أو من أجل نصرة السنة، أو حماية المقدسات، بل حواها كلها في جملة واحدة {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله}.
إذاً لا بأس بأن يكون الطالب واقفاً والأستاذ جالساً.
قال أهل العلم: ولا يأتي لهم بالغوامض من المسائل، بل يناقشهم في المسائل الظاهرة المستفادة منها، وقد استدل أهل العلم على هذه المسألة، فقال البخاري: باب طرح الإمام المسألة على أصحابه يختبر ما عندهم من العلم.
قال ابن عمر في الصحيحين: {كنا جلوساً عند الرسول عليه الصلاة والسلام فأوتي بجُمَّار} وهو ذاك الأبيض الذي يأتي في قلب النخلة؛ كالقراطيس البيض، وكالأوراق، هذا يسمى: جمَّار.
وكان الشعراء، يصفون الجبين والخد واللسان والشفتين بالجمار، فطُرح أمام الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الجمَّار، ولعل هذا يكون فيه إشارة إلى أن السؤال سوف يكون قريباً من الجمار، قال عليه الصلاة والسلام: {شجرة مثلها كمثل المؤمن حدثوني ما هي؟ قال
و نصيحتي -أيها الإخوة- أنه إذا حضر الشيوخ الكبار، والقضاة، والعلماء، ألا يتكلم الإنسان وهو أصغر منهم؛ فيأخذ المجلس عليهم، أو يأتي لهم بسالفة، أو بقصة؛ لأنه جرح للمشاعر، ويوجد من الشباب من لا يقدِّر العلماء والمشايخ، تكون في مجلس ويدخل عليك رئيس المحاكم ولا تقوم له، وتجلس في الصدر وهو في الطرف، وتتكلم وهو ساكت، فهذا خروج عن المألوف، وهذا جرح للمشاعر، حتى ولو أتيت في المكان الفاضل، في الصف الأول، ودخل عليك عالم أو كبير في السن فلك أن تزحزح وأنت مأجور، ولو جلست في الصف الثاني يأجرك الله؛ لأنك آثرته بالقربة في الصف الأول.
فسكت ابن عمر، واستحيى؛ لأن في القوم أبا بكر وعمر قال: {فوقع الناس في شجر البوادي} قال أحدهم: العرعر. وقال آخر: هو السلم. وآخر: السدر. وآخر: الضرفاء، إلى غير ما قالوا. قال ابن عمر: {فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، فلما قاموا أخبر أباه فقال
وأما تعليل ذلك فقد اختلفوا، فقال ابن عربي ذاك المخرف: لأن في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم:{أكرموا عمتكم النخلة} والحديث هذا موضوع كذب لا يصح.
وقال بعضهم: لأن أول ما يسقط من النخلة أعلاها، وهذا كلامٌ ساقط.
وقال بعضهم: لأنها خلقت من طينة آدم، وهذا كلامٌ باطل.
والصحيح أن المشابهة بين النخلة والمؤمن، في المنافع في كل أجزائها، وكذلك المؤمن كل أجزائه طيب، كلامه وفعله، وذكره، وشفاعته، وإكرامه، وخلقه، وسلوكه، وكذلك النخلة.
وفيه: من الفوائد العظيمة ما لا يحصى ولا يعد.
ويقولون: إن النخلة أفيد شجرة. وقد عرض ابن القيم مناظرة بين النخلة والعنب؛ فغلبت النخلة العنب حتى دمغتها.
والصحيح أن أصول الشجر شجرتان: النخل والعنب، وهي مذكورة دائماً في القرآن، ولا تجد في القرآن ذكراً للفواكه الأخرى، كالخوخ والمشمش وغيرها؛ إنما التي تقوم عليها ثروات العالم: التمر والعنب.
ولذلك الآن تذهب إلى أمريكا أو استراليا أو الصين وإلى كل بلاد العالم، تجد أن أكثر السلع: التمر والعنب، وهناك الحبوب وقد ذكرها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مسألة ما يحصد.
ويقول بعض الشراح: الشبه بين النخلة والمؤمن، أن النخلة إذا رميتها بالحجر أنزلت عليك رطباً، وكان عيسى عليه السلام يقول لتلاميذه وحوارييه: كونوا كالنخلة ترمى بالحجارة فترد رطباً، وهذا مثل المؤمن.
ولقد أمر على السفيه يسبـني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني |
وقال حاتم الطائي، وهي من أشرف أبياته:
وكلمة غادرٍ من كف لؤمٍ مررت بها فقلت: تجنبيني |
يقول: إني قلت لهذه الكلمة: اذهبي عني، وحاتم الطائي أبياته من أحسن ما يكون، وليته أسلم ولكن.. لله الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْد، وكان أكرم العرب، حتى يقول لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي |
يقول: إذا ما صنعت الزاد؛ وأحضرت الغداء أو الإفطار أو العشاء، فوالله لا أقدم عليه حتى تأتي بضيف.
وهذا مثل إبراهيم عليه السلام، وليس هذا من حديثنا في شيء، والمقصود أن المؤمن إذا سُب رد بكلام طيب، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
الشحاذة محرمة إلا من الله فهي من أحسن ما يكون، والله عزوجل يحبك إذا أكثرت من المسألة، والآدمي يكرهك إذا أكثرت سؤاله، ولو كان ما يعطيك في كل يوم إلا ريالاً لكن رابع مرة سوف يعطيك هراوة في رأسك:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجةً وسلِ الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤالـه وبُنيَّ آدم حين يسأل يغضب |
ومن أراد منكم أن يتقرب إلى الله فليكثر من السؤال، وكما مر معنا في محاضرة (أسرار عبقرية ابن تيمية) أن يديه كانتا كيدي الشحاذ، لكن من الله، وهذا الشحاذ الذي يشحذ من الله، كانت تأتيه قناطير الذهب والفضة ويرميها على الفقراء وليس عنده إلا ثوباً واحداً.
أولاً: في مقررات العقول ليس وارداً، ولكنه في مقررات الشرع وارد للفائدة: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18] قال الحسن البصري: [[طاب له الخطاب فأكثر في الجواب]] لأنه يخاطب الله عزوجل، فأكثر، وأنت إذا أعجبك الرجل السائل وهو من الناس زدت في الجواب، فكيف بالواحد الأحد سبحانه، الذي له المثل الأعلى.
فإذا كان الجواب فيه مصلحة للسائل، أو يقتضي السؤال أن تزيد فلك أن تزيد، وكان هديه عليه الصلاة والسلام إذا رأى حاجة السائل يحتاج إلى شيء زاده في الجواب، فأتى بجواب من أحسن ما يكون..
وعند أبي داود والترمذي وابن أبي شيبة ومالك وغيرهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن ماء البحر -هل يجوز الوضوء منه؟- فقال: عليه الصلاة والسلام: {هو الطهور ماؤه، الحل ميتته} ونصف علم الطهارة في هذا الحديث.
مع أنه لم يسأله عن الميتة. لكن قال أهل العلم: لما سأله عن الماء وهو ظاهر أنه طاهر، فالميتة من باب أولى أنه لا يعرفها، ما دام أنه سألك عن ماء البحر هل أتوضأ منه؟ فمن باب أولى أنه لا يعرف حكم ميتة البحر، فقال عليه الصلاة والسلام: {هو الطهور ماؤه، الحل ميتته}.
والفائدة: أن من توضأ بماء البحر جاز، ومن اغتسل به جاز، سواء عنده أكان ماء عذب أو لا، وهذا شبه إجماع بين أهل العلم، ولا أعلم من خالف ذلك إلا عبد الله بن عمرو بن العاص والماوردي من الشافعية، وكلام الاثنين مردود رحمهما الله، بل الصحيح هو ما ذكرت.
والميتة: هي ميتة البحر مما يعيش ويموت فيه، أما أن تأتي بكلب من الشارع وتغطسه في البحر وتقول: ميتته! فهذا ليس المراد؛ لأن الضمير يعود على ميتة البحر.
وقالوا: أيضاً مما لا يستقبح، وابن حزم يحمله على العموم، يقول: كل شيء يموت في البحر كله حتى كلب البحر، ودواب البحر، وثعبان البحر، والصحيح مما لا يستقبح كالضفادع والسلحفاة، خلافاً لما قاله ابن حزم، وهذا ليس من مسائلنا في شيء.لكن المقصودِ أن نبين لك أن الجواب قد يكون أكثر للفائدة، فالأستاذ إذا سأله الطالب سؤالاً خفيفاً ورأى من الحكمة أن يجعله محاضرة، فلا بأس.
ومن الحكمة في الجواب: أنه إذا سألك سائل، ورأيت الجواب أحسن أن تلف، ويسمى جواب الحكيم، وهو في القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] تدرون من سأل؟ قريش، يقولون: كيف الهلال يبدو صغيراً ثم يكبر ويكبر ويكبر حتى اليوم الخامس عشر، ثم يصغر يصغر يصغر حتى آخر الشهر، ما هو الجواب على هذا: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحبهم، لكن اسمع جواب الحكيم سبحانه: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] المعنى: أن سؤالهم تافه حقير مثل حقارتهم، لكن الأولى أن يسألونك عن فائدة الهلال، فما دام أنه يفترض أنهم سألوا عن فائدة الهلال فالجواب: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:198].
وأنتم أخذتموها في البلاغة أنه جواب الحكيم، قال الزين بن منير؛ وهو من شُرَّاح صحيح البخاري: مطابقة الجواب للسؤال غير لازم، بل إذا كان خاصاً والجواب عاماً جاز؛ وهذا كلام ثمين.
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: والصحابة بحمد الله لم يختلفوا في شيء من العقائد، ولم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من ذلك، يعني: سؤال اختلاف، فإن الله ذكر في القرآن: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة:189] وقوله:يَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ [البقرة:222] وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ [البقرة:219] ويَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة:219] إلى آخر تلك الأسئلة في خمسة عشر موضعاً في القرآن، لم يرد في شيءٍ منها في العقيدة، فهم بحمد لله لم يختلفوا بل أجمعوا وسكتوا.
لا تقل كما قيل:
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبول |
يعني: لا تسأل عن هذا، ولا تصل إلى هذه الدرجة، بل سلم بالأمر، وبعض الناس يأتيك في القرن الخامس عشر يسأل في كيفية استواء الله على العرش والله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فلنمرها كما جاءت بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تحريف، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
وورد في القرآن قوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] قال أهل العلم: متى يكون هذا؟ يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا [الزخرف:45]
قال بعضهم: معناه: اسألهم يوم القيامة.
وقال الآخرون: معناه: سؤالٌ محتمل، سوف تسألهم أو لا تسألهم.
وقال فريق: بل اسألهم، كما ذكر ابن كثير وغيره، أنه صلى الله عليه وسلم لما صلَّى بالأنبياء في بيت المقدس، جمعهم الله له، والتفت إليهم فأراد أن يسألهم، فرأى الجلالة والنور والمهابة، وأراد أن يسأل هل جعل مع الله إلهاً آخر؟
فاستحيى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] فلم يسألهم، وكان هذا السؤال مقرراً أن يكون معهم.
في الجواب تفصيل:
إن كان السائل طالب علم فأجبه بالدليل، فإذا سألك -مثلاً- عن حكم ماء البحر هل أتوضأ به؟.
قل: نعم، والدليل على ذلك ما عند الخمسة وابن أبي شيبة بسند صحيح {أن أعرابياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته}.
لكن إذا سألك عامي، أو أعرابي عن ماء البحر، لو قلت له: نعم ماء البحر طاهر، والدليل على ذلك قول امرؤ القيس:
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ |
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل |
هل يعترض عليك؟! لا، سيظن أنه حديث، ولذلك سواء ذكرت له الدليل أو لم نذكره فإنك لن تفيده شيئاً، إنما تجيب بالراجح.
ويحذر في الأجوبة على العامة أن تفرع لهم المسائل، كبعض الناس عندما سئل عن دباغ الجلود، هل تطهر إذا دبغت؟ قال: فيها سبعة أقوال: قال الزهري، وقال الروياني، وقال الماوردي، وقال الشافعي، وقال مالك، وقال داود الظاهري. فجعل هذا العامي في حيص بيص لا يدري أهو في تنزانيا أو في مدغشقر، وهذا ليس من الحكمة، بل إذا سألك فقل الجواب كذا، كلمة واحدة.
فالدليل لطالب العلم، أما العامي فيعطى الجواب صريحاً بلا أقوال، بل الراجح في المسألة.
والدراسة في بعض المناهج التي تأتيك بأربعة أقوال ولا ترجح ليست من الحكمة، وهي حفظ للمعلومات فقط، وليس فيها مصلحة إلا أن ترجح القول الراجح في الأخير.
ومما يستطرف من المسائل أن الإمام البخاري بوب باباً فقال:
باب: السؤال والفتيا عند الجمار؛ أي الثلاث الجمار الكبرى والصغرى والوسطى، هل يسأل عندها؟
يقول بعض العلماء الشارحين على البخاري: مراده أن اشتغال العالم بالطاعة لا يمنع من سؤاله عن العلم، ما لم يكن مستغرقاً فيها، مع أنه خاص في الجمار لكن لا عبرة بخصوص السبب بل بعموم اللفظ فلو أتيت إلى عالم وهو يسبح، فلك أن تسأله، أو كان يقرأ القرآن لك أن تسأله، لكن إذا كان يصلي ومستغرقاً في الصلاة فلا تسأله.
وأورد حديث كان صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار فأتاه رجل، كما في حديث ابن عمر في الصحيح، وقال: {يا رسول الله! نحرت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج. فأتاه آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج. وأتاه ثالث فقال: رميت قبل أن أحلق؟ قال: افعل ولا حرج. قال: فما سأل عن شيء قُدِّم ولا أخِّر إلا قال: افعل ولا حرج} وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان يرمي ويسبح ويذكر الله، ويقول: افعل ولا حرج، وكان يفتي الناس يمنة ويسرة.
وذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: أن معاوية لما انتهى من الحج في اليوم الثالث خيم في الأبطح، وكان خليفة المسلمين، نزل هناك، فأتى الحجاج ينزلون كالسيل، وبعد صلاة المغرب أمر معاوية أن تغلق السكة والطرق حتى يطوف طواف الوداع، ولا يكون هناك زحام، فصف الجنود، وقال: لا تأذنوا لأحد ينزل من الحجاج حتى أنتهي من الطواف، فإذا انتهيت فأذنوا للناس، فوقف الجنود يردون الناس، فأتى رجل من قريش عبد الله بن جعفر الطيار؛ من الذي يحبس عبد الله بن جعفر الطيار، ابن ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا من أكرم العرب، ومن أكرم الناس، لم يكن يعرف كلمة (لا) وكان سخياً ماجداً، فأتى بالفرس، فقالوا له: ممنوع الدخول، فقال والله لأمضين، قالوا: ومن أنت؟ قال:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العرب |
من يساكني يساكن ماجداً يملأ الدلو إلى عقد الكرب |
فقال معاوية: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر. قال: ائذنوا له. فمر ومعه موكب ودخل الحرم.
فأتى الشاعر المخزومي عمر بن أبي ربيعة؛ ومعه موكب من الشباب، فقال: ائذنوا لي؟ قالوا: ممنوع، قال:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر |
قال: تعرفن الفتى قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر |
قال: ائذنوا له. فمشى.
فأتى ابن عمر رضي الله عنه على بغلة، قال: والناس حوله كالغمام، هذا يقول: فعلت، فيقول: افعل ولا حرج، وهذا يفتيه، فقال معاوية: هذا الشرف ورب الكعبة، ائذنوا لـابن عمر فكان أشرف الجميع، أشرف من معاوية وابن جعفر وابن أبي ربيعة.
وقد سمعت أن بعض الفضلاء يقول: لا يُسلم في أثناء المحاضرة والحصة والدرس، وهذا خطأ بل يُسلم؛ وإذا دخلت على الأستاذ والطلاب في الفصل فسلم عليهم. أما قضية تسمح يا أستاذ؟ هذا مورَّدة من باريس وليست من محمد صلى الله عليه وسلم، إنما تقول: السلام عليكم ورحمة الله، وتكتفي، ولا تقول: كيف حالكم؟ كيف أصبحتم؟ كيف الأبناء؟ هذا ضياع للوقت.
مثلاً: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-3] فأجابه بقوله: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4] وأيضاً في قوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة:10] أجابه بقوله: نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:10] وبالمقابل لما قال: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب:63] لم يخبره، وهذه قاعدة.
وفي حديث لكنه مرسل، ولا يصح: {أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار} وإذا رأيت الإنسان يسارع في الفتيا فاعرف أن فيه خبلاً، أو أنه قليل العلم ولا يخاف الله.
وكان أحد التابعين يمر ببعض الشباب يفتون الناس، قال: ويحكم!
تسألون عن مسائل، والله لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وكان عمر يسأل الأنصار في الاستئذان، وذلك لما طرق أبو موسى عليه الباب ثم ذهب بعد الثالثة، قال: [[يا قال: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع}. قال: والله لتأتيني بشاهد، أو لأوجعنك ضرباً
بينما نحن الآن في كبار المسائل يخوض فيها الكبير والصغير.
قال الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ هذا زهراني من زهران، وهو من أذكياء العالم، هذا لو كان حياً لأخذ جائزة نوبل وهو يشرب الشاي، وهو الذي اكتشف علم العروض وعلم القافية وعلم الحساب، قال: لئن طال بي العمر إن شاء الله لأعلمنَّ الجارية حساباً تذهب إلى البقال ولا يظلمها، وكان ذات يوم يفكر بعد صلاة العصر ويغمض عينيه من كثرة التفكير ويمشي فاصطدم بسارية المسجد، ومات بأثرها، وكان من الأذكياء رحمه الله، ودخل عليه ابنه وهو يوزن البحور السبعة عشر أو الستة عشر التي اكتشفها وهي: مفاعلة مفاعلة فعول، مثل إذا أردت توزن بيتاً، مثلاً:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول مستفعلٌ فعلٌ مستفعلٌ فعلٌ |
أو: قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل -من الطويل-
فعولٌ مفاعيلٌ فعولٌ مفاعلُ
كان يتنتن على أصابعه، فدخل ابنه وهو في الغرفة يتنتن، ويكتشف البحور، فقال ابنه: يا أماه جُنَّ أبي!! فقال في بيتين:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا |
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعرفتُ أنك جاهلٌ فعذرتكا |
وهي من أصعب الأبيات، وكأنها جُدت من الصخر، لكنها تنبئ عن ذكائه.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة:
رجل يدري ويدري أنه يدري؛ فذاك عالمٌ فاسألوه.
ورجلٌ يدري ولا يدري أنه يدري؛ فذاك غافلٌ فنبهوه؛ قولوا: عندك علم، عندك خير، علِّم الناس.
ورجلٌ لا يدري ويدري أنه لا يدري؛ فذلك جاهلٌ فعلِّموه.
ورجلٌ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري؛ فذاك أحمق فاتركوه.
هذه العقليات الجبارة، هي التي قدمت الحضارة للغرب، وبعضهم يقول: خطأ ليس بصحيح. هذا الخليل بن أحمد، وجابر بن حيان، وأولاد بني شاكر قدموا علم الهندسة، وأصول التربية، ثم بنى عليها الغرب.
ونحن وقفنا ندندن على العود، وعلى ما يطلبه المستمعون، حتى تقدموا علينا في الذرة والفضاء ولم نقدم للعالم شيئاً.
بعض الناس الآن يقول: أنا أعلم الناس. وكان ابن الجوزي رحمه الله قد عوتب على هذا البيت، قال:
لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً فسألته هل زار مثلي قال: لا |
يقول رحمه الله: لو كان هذا العلم إنسان ناطق وسألته: هل رأى مثلي في الحياة؟ قال: لا.
وهذا اكتساح يسمى اكتساح العبقرية، إذا وجد عند الإنسان شيء من الغرور، وصل به إلى هذا الحد.
يقولون: الحجاج بن أرطأة، كان يجلس في طرف المجلس، فقالوا: اجلس في الصدر؟ قال: أينما جلست فأنا في الصدر.
وذكر ابن الجوزي عن أحد المتكبرين أنه أتى إلى نهر دجلة فأراد أن يمر من فوق الجسر، فتوقف قليلاً ومعه أصحابه، فقالوا: لماذا؟ قال: أخشى أن ينكسر الجسر لا يحمل عظمتي.
ولما خُلع أحد السلاطين في الشمال فرش له الناس أرديتهم فأخذ يضحك ويقول: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] وهذا هو الكبر والعياذ بالله!
يعني يبلغ بالإنسان حتى يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] وهذا منتهى الغرور والعجب بالنفس
ولهذا قيل: أنين النادمين أحب من إدلال العابدين.
فهذا موسى عليه السلام معصوم، فهو لا يتكبر، عصمه الله من ذلك، ولما قام يتكلم في بني إسرائيل بالعلم والحكمة، فقال بنو إسرائيل: هل تعلم أعلم منك؟ والصحيح أنه لا يعلم أعلم منه، لا يعلم أعلم منه إلا الله عز وجل، قال: لا أعلم أعلم مني. فعاتبه الله لأنه لم يرد العلم إليه -لو قال: الله أعلم كان أحسن- فأوحى الله إليه، بلى عبدنا الخضر بمجمع البحرين أعلم منك فذهب إليه... وهي قصة طويلة، وبوب لها البخاري في باب آخر، باب: ركوب البحر في طلب العلم:
جزى الله المسير إليك خيراً ولو ترك المطايا كالمزاد |
أقول له زيدٌ فيسمعه عمراً ويكتبه بكراً ويقرؤه فهرا |
إذاً يجوز مراجعة العالم حتى تفهم المسألة، والدليل على ذلك ما بوب له البخاري في صحيحه باب: من سمع شيئاً فراجعه حتى يعرفه، وذكر حديثاً عن عائشة أنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { من نوقش الحساب عُذِّب، قالت
فـعائشة استشكلت بين مسألتين: بين قول تعالى: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:8] وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: { من نوقش الحساب عذب} فأخبرها أن الحساب شيء، والعرض شيء آخر.
قالوا: من حيث الأصل لا داعي لذلك، لكن إذا كان في ذلك مصلحة وفائدة لتأكيد الجواب، أو لإظهاره، أو لتثبيته، أو لترسيخه، أو كان في المسألة خلاف، ورأى العالم أن الظاهر والحق هذا؛ فله أن يقسم كما قال تعالى: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53].
وكان أحد العلماء، عند أحد القضاة، فسأله القاضي فحلف، فقال القاضي: أجبنا ولا تحلف. قال: أيها القاضي: إن الله طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن أن يقسم أكثر من موضع:
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7] قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:5] فهذا من الإقسام الذي أجاب بها صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم لما سأله الرجلان في مسألة حد الزاني؟ قال: {والذي نفسي بيده لأقضينَّ بينكما بكتاب الله}.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة، قال: إي والله، إي وربي، وكان يقول: لا والله، وفي بعض المسائل يفتي فيها: لا والله.
فلك أن تثبت الجواب في ذهن السائل بهذا القسم للمصلحة.
بليت الأمة باثنين: عالم فاجر، وعابد جاهل؛ فالعالم الفاجر يشابه اليهود؛ فإنهم تعلَّموا ولم يعملوا، والعابد الجاهل يشابه النصارى؛ فإنهم عملوا ولم يعلموا؛ فقال الله في اليهود: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] وقال في النصارى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] فمن تعلم ولم يعمل غضب الله عليه، ومن عمل بلا علم كان ضالاً: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى.
أيها الإخوة الأجلة: العلم قبل القول والعمل، قال البخاري في صحيحه، بعد سياقه لآية: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] قال: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، ومن أحسن ما يكون طلب العلم، وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير لابنه: [[يا بني! واعلم أن العلم أفضل من نوافل العبادة]] فطلبك للعلم أفضل من نوافل العبادة.
وعند الطبراني، لكن في سنده نظر عن أبي ذر مرفوعاً: {يا
وأنا أُفضل أن الطالب والأستاذ والمعلم يحضر في مثل هذا المجلس، ولا يبقى من صلاة المغرب إلى العشاء يصلي في المسجد المجاور ولو صلى مائتي ركعة؛ لأنه هنا يصحح الإسلام، يزيد في الإيمان، ويتفقه في الدين، ويظهر له زيف الشبهة، وتتجلَّى أمامه حقارة الشهوة، ولأنه قد يصلي والشبه والشهوات ما زالت غير ظاهرة، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد حلقتين؛ حلقة يذكرون الله، وحلقة يتعلمون، قال: {أما الذاكرون فيسألون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون العلم، وإنما بعثت معلماً، فجلس معهم}.
لا تقل: قد ذهبت أربابه يا ذكياً والذكاء جلبابه |
وأديباً حسنت آدابـه لا تقل: قد ذهبت أربابه |
كل من سار على الدرب وصل |
طلب العلم ليس بالسهل، والذي يأخذ من رءوس الشجر مثل: الجمل الشارد، لا يخرج إلا بمعلومات مزيفة وثقافة عامة، لكن الذي يريد أن يتخصص في علم، لا بد أن يكون بإذن الله صابراً محتسباً.
وهؤلاء علماء الغرب ثقافتهم وحضارتهم في الجزئيات، تجد أحدهم يقضي حياته منذ ولدته أمه إلى أن يصبح في الثمانين من عمره وهو في هندسة التربة -مثلاً- لا يتجاوزها، ولا يأخذ فناً آخر.
وبعضهم في بعض الولايات يقولون: لا يعرف الولايات الأخرى، ولا يقرأ الصحف اليومية، لأنه مشغول بمادته حتى ينتج هذه الجزئية، ويقدمها للناس.
وقد جاءنا أحد الإخوة من طلبة العلم من مصر وهو في نيويورك، وهو من الأذكياء النابهين، أتى بعلاج معه، من سبعة نباتات، اكتشفه رجل من النمسا يسكن في أمريكا وعنده جنسية أمريكية، وكان قد جلس فيها سبعين سنة، وعمره الآن اثنان وتسعون عاماً، ونال جائزة أمريكا على مستوى العالم في الطب، وجلس سبعين سنة يسافر إلى الأرجنتين وبلاد العرب وفنزويلا والصين واليابان، ويجمع النباتات ويحلِّلها، ويختبرها، وبعد سبعين سنة اكتشف هذا العلاج وحده؛ وهذا العلاج عجيب من العجائب. وأنا لا أكتب له دعاية لأني لا أبيع فيه ولا أشتريه، لكن مقصودي كيف ظل هذا الرجل سبعين سنة حتى أنتج هذا العلاج؟ لكن بالمقابل تجد الإنسان عندنا يريد أن يكون مهندساً، وخطيباً من أجل الراتب، وبعض الناس تجده طبيباً آخر النهار، وعنده معمل، ويستطيع أن يفتي الناس، ويؤلف الكتب، يعني: حيص بيص، لا يدري ماذا يأخذ، فقضية التخصص لا بد منها، ولا بد من، الصبر في طلب العلم، ولهذا قيل: إن القفّال؛ وهو أحد علماء الشافعية: كان عمره أربعين سنة، ففكر في الليل هل يطلب العلم؟ فذهب في الصباح، فلما مر في الطريق جاءه الشيطان وقال: تطلب العلم وأنت في الأربعين؟! فرجع ثم مرَّ برجل يعمل في بستان، أو يسقي الزرع، والغرب يخرج من البئر، وقد أثرت الريشة في الصخر، قال:
اطلب ولا تضجر من مطلـبٍ فآفة الطالب أن يضجرا |
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا |
فلا بد من الطلب والصبر والمحاولة بعد المحاولة.
ومما يُروى أن أحد الحكماء جلس بجناب شجرة، فرأى نملة تريد أن تصعد الشجرة، فسقطت فسقطت، فحاولت فسقطت، وبعد كثيرٍ من المحاولات صعدت، وهذه هي فائدة المحاولة والصبر والمثابرة.
ثم إني أقول لكم -أيها الإخوة- من لم يستطع في مجال فليذهب إلى مجال آخر كوظيفة، أو عمل، أو طلب علم، أو دعوة، أو خطابة، إنما المهم أن يكون مستقيماً ملتزماً، ثم لا يهم بعد ذلك ما يسلك من مجال، فلك أن تدخل الجنة من أي باب، وليس من باب العلم والتحصيل فقط، لا. في أي وظيفة شئت، لكن كُن ملتزماً بأمر الله.
فتبدأ بكبار المسائل، وأصول الدين، والمتون، ومجمل العلم، والظاهر من العلم المشهور الذي لم يختلف فيه، وهكذا تبدأ بالأهم فالمهم حتى تصل بإذن الله، ومن قرأ كيف تطلب العلم، وغيره من الكتب مثل أدب الطلب ومنتهى الإرب للشوكاني، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وجامع بيان العلم وفضله لـابن عبد البر، من قرأها وجد ذلك.
وأنا أطلب منكم -أيها الإخوة- أن تبدءوا من هذه الليلة بحفظ القرآن، ولا تحفظوا في اليوم إلا آية، وأرجوكم لا تزيدوا على آية، ولا تحفظوا في اليوم إلا آية واحدة، مهما كانت، وسوف تجدون أنفسكم بعد سنوات تحفظون كتاب الله كله، فهل منكم أحد يعجز أن يكرِّر في يوم من الأيام وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] فجرب أيها الأخ ولا تحفظ إلا هي، واجعلها في ذهنك، ثم اذهب إلى وظيفتك وفي سيارتك وفي السوق وفي كل مكان وكررها حتى الفجر الثاني، ثم في اليوم الثاني خذ آية أخرى، وجربوا وسترون النتيجة.
وقد طالب بعض الأساتذة في بعض الجامعات الطلاب -من جامعاتنا- بهذا، فقالوا: كيف تطالبنا بآية واحدة، متى ننتهي؟ قال: وعدنا بعد سنوات فوجدنا طالباً واحداً أخذ بوصية الأستاذ من بين ستين طالباً فحفظ القرآن كله، بينما التسعة والخمسون ضحكوا من كلام الأستاذ، وهذا يدلك على أن الإنسان يتقالل القليل، والمثل الصيني يقول: الخط الذي طوله ألف ميل يبدأ بخطوة، وأنت لو طالبت الطالب الآن وقلت له: ابدأ احفظ القرآن، لقال: إن شاء الله، عندنا امتحانات الآن، فإذا انتهى قال: في عطلة الربيع، فإذا جاءت العطلة قال: نذهب إلى مكة، وبعد مكة بدأت الدراسة، ثم العطلة الصيفية وفي العطلة الصيفية نزهة وهكذا، ثم لا يحفظ القرآن أبداً.
إن من زرع نبتة: ليت. أثمرت له شجرة تسمى: (لعل) ولها أغصان اسمها: (عسى) وفيها ثمر اسمه: (متى) وذوقها اسمه: الخيبة والندامة والعياذ بالله! ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
والمقصود هنا: أنك لن يمر بك يوم -وجرب- إلا وقد جمعت من الأخبار ورءوس المسائل، والتحليلات الكثير والكثير.
ومرة مر ابن المبارك المحدث المشهور بمزبلة فسمع بيتاً فأخرج مذكرة وكتب، قالوا: تكتب في المزبلة؟
قال: درة في مزبلة! وهذا يسمى صيد الخاطر؛ أن تكتب كل ما سمعت، ولكن "قيد العلم بالكتابة" ليس بحديث، لكنه من كلام الحكماء:
العلم صيدٌ والكتابة قيده قيِّد صيودك بالحبال الواثقة |
وهذا من أردأ الأبيات ولو أن فيه حكمة، لكنه ثقيل على النفس.
هذا مثل بعض طلبة الامتحان، وقد لاحظناهم، يأتي إلى المسجد فيذاكر من صلاة المغرب إلى قرب العشاء، فإذا دنى الأذان خرج وأخذ حذاءه وفر، يذاكر -فقط- في المسجد من أجل المذاكرة، لكن صلاة الجماعة لا يحضرها.
وبعضهم -وقد ذُكر هذا في مناسبات- تجده في الامتحانات: يا رب! يا حي يا قيوم! أسألك أن تنجحني، ويدخل على أمه يسلم، ويقبل على رأسها، فإذا انتهت الامتحانات تمرَّد، وهذا نفي للعلم.
وبعضهم يطلب العلم من أجل الشهادة فيغش في الامتحان، والمهم عنده دعنا نأكل، سواءً كان في الشريعة أو في أصول الدين، وهذا معروف.
ومن طرف الغشاشين: أن أحدهم كتب الغش في قطعة في أسفل سرواله، واكتشف في ذلك، وكان المدير فيه حزم، وفيه طرفة ودعابة، فطلب من الطالب أن يخلع هذا الملبس وعلقه مع الإعلان: قبض على أحد الغشاشين والشاهد هذا.
وقد تطور الغش بتطور الوسائل الحديثة، ومن له خبرة منكم يعرف ذلك.
والجواب: فيه تفصيل والأصل أنه إذا عدمت الحاجة فإنه لا يجوز لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان:19] أما إذا كان لحاجة فيجوز له والحق هذا، لأن الهدوء علامة الرزانة، وأنت تتكلم بقدر الحاجة، فإذا كان الرجل قريباً منك فلا ترفع صوتك إلا بقدر ما يسمع، لكن في المواعظ العامة والخطب فلا بد أن ترن وتهز، وتكون قوياً كالسيل حتى تؤثر في السامع، {وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب ربما سقطت خميصته من عليه} كما في حديث النعمان بن بشير، {وكان يغضب ويشتد غضبه وتحمر عيناه كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم}.كما في حديث جابر
أما إبراد الناس بالخطب، فإنهم ينعسون في الخطبة، ولا بد في هذا من قوة في الزجر، والوعظ، والصوت.
أما في الدروس فتأخذ مجال الهدوء والرزانة، والنقاش، والحوار، ولكل مقام مقال.
وجاء عن ابن مسعود أنه كان يعظ الناس يوم الخميس فقيل له: [[لو وعظتنا -يا أبا
فالحكمة أن تجعل للناس في الأسبوع درساً واحداً أو درسين، ولا تثقِّل عليهم، وبعض الناس يتكلم في الناس في كل مجلس يجلسه معهم؛ في المجلس، والدعوة، والعزاء، وفي الطريق، وفي كل مكان وكلما اجتمعوا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله....... ويلقي عليهم محاضرة حتى تتكسر ظهورهم، حتى إن بعضهم لا يحضر الدعوة بسبب هذا.
وسمعنا أن بعضهم حضر زواجاً، فقام في محاضرة عن الموت من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء، والناس في زواج وفرح وقام الشيبة يبكون، وتركوا العشاء، فهذا ليس من الحكمة، بل الواجب أن يكلِّمهم فيما يناسب الموقف من التذكير بنعم الله ومنها الزواج والدعوة إلى ترك المغالاة في المهور وغيرها.
والمقصود -أيها الإخوة- هو الاقتصاد في مواعظ الناس حتى تأتي إليهم وهم بتلقي وبتلهف إلى كلامك.
وكان عبد الله بن مسعود يذكر الناس كل يوم خميس، وليس هذا من البدع، فمثلاً هذا الدرس في مساء كل سبت، ليس من البدع بحمد لله، بل الأصول والمصلحة تدعمه ولا يتعارض مع أصول الشريعة.
وكان صلى الله عليه وسلم يجعل للنساء يوم الإثنين، يخاطب النساء ويعلمهنَّ أمور دينهن (صلى الله عليه وسلم).
لأن المرأة مثلاً في منطقة الرياض والقصيم، مهتمٌ بها كثيراً كثيراً، وعندها نور، ولو أني أعرف أن هنا قطاعاً عندهم خير، لكني اسمع بعض الناس يقولون: ما الداعي لتعليم المرأة، بل تبقى في البيت! ونحن نقول: هذا لا يخالف فيه إذا كان الأحسن لها أن تسمع المحاضرات، والندوات حتى لا تبقى جاهلة بأمور الدين، وتعذب يوم القيامة، ويكون هو المسئول عنها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وقد سمعت عواماً يوردون كثيراً من أحاديث على الناس، ليست من الأحاديث في شيء وحديث القصاصين كذب، وخرافة، ودجل، بل من بنى عليها دينه صار في ضياع وسفه.
مثلاً -الآن- مداخل علم الكلام عند العوام، أو مثل الأسماء والصفات واختلاف الأشعرية مع أهل السنة، أو إيرادات المعتزلة على أهل السنة؛ فهذه لا يحدث بها عند العوام، وكذلك الخوض في المعاني التي لم يخض فيها علماء السلف وإنما أخذوا الظاهر ووقفوا، فعلينا أن نقف كما وقفوا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر