وإن أولى مقامات العبودية عبودية الخوف من الله تعالى، فهو الذي نغص على أهل النوم نومهم، وعلى أهل الراحة راحتهم، وهو الذي جعل الكثير من السلف الصالح لا يذوقون النوم في الليل إلا قليلاً، يبيتون لربهم ركعاً وسجداً، خوفاً من عذابه سبحانه وتعالى.
والمقام الثاني من مقامات العبودية: الإخلاص لله عز وجل والصدق معه، فمن صَدَقَ الله فسَيْصْدُقُه الله، كما قال عليه الصلاة والسلام.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظَمَتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
والصلاة والسلام على من بعثه ربُّه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، أنار الله به أفكار البشرية، وهدى به الإنسانية، وزعزع به كيان الوثنية.
رفع رءوسنا وكانت مخفوضة، وشرح صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع آذاننا وكانت صُمَّاً، وفتح عيوننا وكانت عُمْياً.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدل حالها |
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها |
لبس المرقع وهو قائد أمة جَبَتِ الكنوزَ فكسرت أغلالها |
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
سلام الله عليكم يوم اجتمعت قلوبكم على لا إله إلا الله، وتآخت أرواحكم على ضوء لا إله إلا الله، واتحدت مسيرتكم تحت ظل لا إله إلا الله.
إن أشرف المقامات -أيها الإخوة الأبرار!- هو مقام العبودية لله، أن تكون عبداً لله هذا هو شرفك في الدنيا والآخرة، ولذلك ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى رسوله صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بأشرف الأوسمة والألقاب والصفات، فسماه ووصفه بالعبد في الإسراء والمعراج فقال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1] ووسمه بالعبودية في مقام التنـزيل، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] ووسمه في مقام الدعوة والتبليغ والتبشير والإنذار فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19] فشرفك في الحياة أن تكون عبداً لله؛ لتنتسب إلى الله.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكِدتُ بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرَّت أحمد لي نبيا |
أن تكون داخلاً مع عباد الرحمن تحت هذه الياء - ياء النداء -:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي |
فالقوة كل القوة في العبودية لله، والعزة كل العزة في العبوديته لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، إنه السند والركن سُبحَانَهُ وَتَعَالى والمرتجى، وهو القوة التي لا تُغلب ولا تُهزم.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
روى ابن كثير عن طاوس بن كيسان - العابد العالم الكبير الزاهد النحرير - قال: [[دخلت الحرم فصليت ركعتين عند المقام فلما سلمتُ إذا بي أسمع جَلَبَة ورائي فالتفت فإذا بـ
فهؤلاء أناس عرفوا مقام العبودية.
ومن أعظم مقامات العبودية: الخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فقد أثنى الله على الخائفين، ومدح المخبتين، وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى المنيبين إليه بأحسن الصفات، وأجل القربات والطاعات، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] وقال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] ولذلك يقول بعض أهل العلم: كل شيء تقرب منه تأمنه إلا الله، فكلما اقتربت من الله خفت منه، أما يقول عز من قائل عن العلماء المخلصين: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] فذكرهم بالخشية والخوف وقربهم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولذلك كان أكثر الناس خوفاً ووجلاً وخشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لـابن مسعود، وهو أحد تلاميذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبرار، وأحد خريجي تلك المدرسة التي ما عرفت البشريةُ مدرسةً مثلَها، مدرسة حياة الإنسان، وصنع الأجيال، ورقي القلوب، وزيادة الأرواح إلى بارئها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، لأننا -أيها الإخوة الأخيار!- قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا أمواتاً، ما كانت عندنا حياة؛ لا حضارة ولا معرفة، لا رُقي ولا تقدم ولو دجل الدجالون من القوميين وأذنابهم فليس عندنا حضارة ولا رقي ولا ثقافة إلا بدعوته صلى الله عليه وسلم، فمن تلك الفترة بدأ تاريخنا، ولذلك يقول عز من قائل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] فبدأنا الحياة يوم أتى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] أو مَن كان ميتاً في جهله ومعصيته، وشهوته وشبهته كمن أحياه الله بالإيمان.
والشاهد من ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـابن مسعود، هذا التلميذ البار الحبيب النجيب؛ الذي كان قوة متفجرة في توجيه الأمة، وإن كان هزيلاً في جسمه ضعيفاً في بنيته ضئيلاً في هيكله لكنَّ ديننا لا يعترف بالأجسام، وإنما يعترف بالقلوب والأرواح، فلما أتى صلى الله عليه وسلم جعل من هذه القلوب مادة قوية توجه الناس، وتضيء للحائرين، يقول أهل السير عن ابن مسعود: كان ضئيل البنية إذا وقف بجانب الرجل القاعد وازاه في القامة.
(صعد مرة شجرة فأخذت الريح تهز هذه الشجرة وهو على أغصانها، فتضاحك الناس من دقة سافيه -فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الضحك ليس له مجال هنا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من دقة ساقية؟ والذي نفسي بيده إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد) بالإيمان واليقين والاتصال بالله.
قال له صلى الله عليه وسلم: (اقرأ علي القرآن - كما في الصحيحين - قال: يا رسول الله! أأقرأ عليك القرآن وعليك أُنزل؟ - هذا هو الأدب والحياء، وهذا خجل من أهل الفضل - قال صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليَّ القرآن فإني أحب أن أسمعه مِن غيري، فقرأ رضي الله عنه على الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول يستمع، فلما بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] أخذ صلى الله عليه وسلم يبكي، ويقول: حسبك الآن) حسبك فقد أبلغت، وحسبك فقد أثرت، وحسبك فقد وصل الكلام مكانه ومستقره، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأتم الله عليه نعمته ظاهرة وباطنة، لكنه ما اغتر وما انخدع وما زاده ذلك إلا عبادة وخوفاً.
كان يقوم عليه الصلاة والسلام في الليل يستمع إلى الصحابة وهم يقرءون القرآن:
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه |
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه |
استمع صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى في الليل وهو يقرأ القرآن بصوته الشجي الندي مع الصدى العجيب، وفي الصباح قال له صلى الله عليه وسلم: (يا
وفي تفسير ابن أبي حاتم بسند حسن، قال أبو هريرة: ( ذهب صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بعد أن أظلم الليل، فمر بسكة من سكك المدينة وإذا بعجوز تقرأ القرآن، فوضع صلى الله عليه وسلم رأسه على صائر الباب، وأخذ يستمع إليها - عجوز مُسِنَّة كبيرة طاعنة في السن لكن قلبها حي مع الله - فأخذت تردد قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وكانت ترددها وهي لا تدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليها، ويقول: نعم أتاني نعم أتاني، كلما قالت: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] قال: نعم أتاني، نعم أتاني، نعم أتاني).
لقد عرف السلف الصالح مقام الخوف فجعلوه من أعظم المقامات الموصلة إلى الله، ولذلك لام الله عز وجل ومَقَتَ البشرية جمعاء على عدم خوفهم من الله؛ إلا بقايا من أهل الكتاب.
رُوي في كتاب الزهد للإمام أحمد بسند جيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لك يا بن آدم! خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتذكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي! خيري إليك نازل، وشرك إلي صاعد!) وهذه صفة العبد إذا تمرد على الله وخرج على حدود الله وترك رقابة الله.
كأن رقيباً منك يرعى جوانحي وآخر يرعى مسمعي وجناني |
ولذلك كتب الأندلسي لابنه وهو يوصيه بتقوى الله:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
ولو أنا قلنا جميعاً: إن الذي خلق الظلام يرانا، ما عصينا وتمردنا على الله، وما انتهكنا حدود الله، وما فجرنا؛ لكن رقابة الله قلت في كثير من القلوب والنفوس.
يقول ثعلب الأديب - كما في بعض التواريخ - دخلت على الإمام أحمد رحمه الله، فقال: من أنت؟ قلت: أديبٌ أحفظ شيئاً من الشعر، قال: أسمعني، قال: قلت: يقول أبو نواس:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ولا أن ما تُخفي عليه يغيب |
قال: فترك كتبه ومحبرته، وأغلق على نفسه حجرته، ثم -والله- سمعته يبكي وهو يردد البيت:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكنْ قلْ عليَّ رقيب |
فهذه هي رقابة الله عز وجل.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا |
لأن أهل الدنيا اهتماماتهم دنيوية، يهتمون بالمناصب والوظائف، والصدارة وحب الظهور، وحب المال، وأما المؤمن فهمته دائماً متعلقة برضا الرب سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فـأبو بكر الصديق لما حضرته الوفاة - كما في سيرته - أتته ابنته عائشة المطهرة المبرأة من فوق سبع سماوات فقالت: [[يا أبتاه! صدق الأول الذي يقول: فالتفت إليها كالمغضب وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:19-20] لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فلما توفي -وكان الخليفة- وقد كان ذهب الأمة وفضتها الأمة تحت يديه، فلما بحثوا عن ميراثه ما وجدوا إلا بغلة وناقة وثوبين فأخذها عمر إلى بيت المال وهو يبكى، ويقول: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر!]].
وروى ابن القيم في كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين: أن عمر رضي الله عنه كان يترقب أبا بكر بعد صلاة الفجر، فكان يراه إذا صلى الفجر يخرج من المسجد إلى ضاحية من ضواحي المدينة كل يوم، فيتساءل: ما له يخرج؟ ثم تبعه مرة من المرات، فإذا به يدخل خيمة، فلما خرج أبو بكر دخل بعده عمر فإذا في الخيمة عجوز حسيرة كسيرة عمياء، معها طُفَيلات لها، فقال لها عمر: من هذا الشيخ الذي يأتيكم - وهي لم تعرفه - قالت: هذا شيخ لا أعرفه، يأتي كل يوم فيكنس بيتنا ويصنع لنا فطورنا ويحلب لنا شياهنا، فقال عمر: أتعبتَ الخلفاء بعدك يا أبا بكر! إي والله، أتعب كل خليفة إلى قيام الساعة بهذه العبادة، والاتصال بالله؛ مَن كنا لو لا هذا الدين؟
إننا أمة نتخاطب مع النصوص ومع الخوف من الله عز وجل.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواهُ |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاهُ |
لما خفنا الله خافت منا الأمم، وخاف منا الفجرة والمردة، فلما خفنا منهم ولم نخف من الله خوفنا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى منهم، وإلا فنحن ما انتصرنا على الأمم إلا يوم أتينا بلا إله إلا الله، ونشر أجدادُنا لا إله إلا الله، وساروا بلا إله إلا الله على البحار، وما حاربناهم بشيء إلا بهذه العقيدة.
دخل ربعي بن عامر على رستم في القادسية ورستم في وزارته وإمارته، ومعه الذهب والفضة، والإكليل والديباج وزخرف الدنيا، فيدخل ربعي وعليه ثياب ممزقة، وفرس هزيل، ورمح مُثلَّم، لكنه يخاف الله ويرجو رحمة الله، ويتصل بالله -القوة العتيدة التي لا تُغلب- فيضحك رستم من هذه الهيئة، ويقول: جئتم تفتحون الدنيا بهذا الرمح المثلم، وبهذه الثياب الممزقة، وبهذا الفرس الهزيل؟! فقال ربعي: [[إي والله، إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا |
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
كنا نكبر فتهتز لنا قصور الأعداء، ولذلك يذكر أن من شدة خوف سعد بن أبي وقاص لله - كما يروي الذهبي وابن كثير - أنه لما رأى قصر كسرى الضلالة والعمالة، والبطالة والعطالة.. كسرى الصد عن الله، لما رآه سعد حين فتح القادسية قال ودموعه تتساقط من فرحة النصر:
طفح السرور عليَّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني |
وقرأ قوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:26-29]]].
كان الصحابة أقرب الناس من الله، وأخوفهم منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ فقربهم وأفضليتهم ومصداقيتهم بالخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
حتى يقول حسان رضي الله عنه وأرضاه وهو يتعجب من مقتل عثمان محيي الليل.. الشهيد العظيم، قال:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا |
ولذلك روى المروزي في كتاب الوتر وذكره ابن حجر في كتاب الوتر من صحيح البخاري بسند صحيح أن " عثمان رضي الله عنه قام ليلة من الليالي بركعة واحدة من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر فقرأ في هذه الركعة القرآن كاملاً ". خوفُه من الله أهَّلَه إلى هذه المرتبة.
فيا أمة الرسالة! نحن بحاجة إلى أن نراجع حسابنا مع الله في مقام عبوديتنا معه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأن نحاسب أنفسنا، أين نحن من أولئك الرجال والطراز الرفيع الذين ما عرفت الإنسانية مثلهم رضوان الله عليهم؟ هذا خوفهم مع عظيم أعمالهم الصالحة التي عملوها، ونحن ماذا قدمنا؟ وماذا فعلنا؟
يقف عليه الصلاة والسلام قبل معركة تبوك على المنبر فيقول للمسلمين وهم في المسجد: (من يجهِّز جيش العسرة وله الجنة؟ فيسكت الناس - لأن التكاليف باهظة وغالية لا يجهزها إلا رجل يريد الله والدار الآخرة - فيقول صلى الله عليه وسلم ثانية: من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟ فيسكتون، فيقول ثالثة: من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟ فيقوم
وإنما نسرد أخبار هؤلاء وسيرهم لأنها عبرة، ولأن الله جعلهم قدوة، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
فمن أراد العبادة والاتصال بالله فعليه بسير الصحابة:
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباه |
إن الصحابة عندما تجردوا لله، وخافوا من لقائه؛ بلغهم الله ما أرادوا، وأعطاهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ما تمنوا.
أحسن من عرَّف الخوف ابن تيمية شيخ الإسلام رحمه الله، الداعية الكبير، يقول: " حد الخوف ما حجبك عن المعاصي، وما زاد فلا يُحتاجُ إليه "، وصدق رحمه الله.
حد الخوف: ما حجبك عن المعاصي، وما زاد فلا يحتاج إليه، لا خوف غلاة الصوفية الذين أدى بهم خوفهم إلى ترك الطعام والشراب والنكاح، وهذا لا يطلب في الإسلام لكن حد الخوف ما حجبك عن المعاصي.
ومن كثرة خوف عباد الله الصالحين لربهم، أثمر الخوف فيهم الاستقامة وترك المعاصي، والخوف الذي لا يجعل صاحبه يترك المعصية ليس بخوف، إنما هو كلام باللسان، ولذلك يقول الحسن - كما في الموطأ -: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]].
كلٌّ يجيد العبارة والتذوق، أو الكلام وتلميع العبارة، لكنَّ الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، ولذلك يظهر الإيمان وآثار الخوف بالأعمال الصالحة.
وأُثِر عنه أنه كان يغتسل يوم الجمعة فسمع ابنه الصغير يقرأ قوله تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47] فأُغْمِي عليه وسقط وهو يغتسل.
إن هؤلاء اتصلت قلوبُهم بالله، وقلَّلوا من المعاصي، وأكثروا من التوبة والإنابة، والرجوع والعودة إلى الله؛ فأعطاهم الله ما تمنوا.
فنحن كنا ندعو الناس بأعمالنا قبل أقوالنا، وبزهدنا وبتقوانا وباتصالنا بالله عز وجل؛ فأثمرت جهودُنا، وأثمر علماؤنا الثمرة الطيبة الخيِّرة في الأمة، وربوا الأجيال، ولذلك كان الخوف دائماً أعظم المنازل عند أهل العلم.
والموت فاذكره وما وراءهْ فمنه ما لأحد براءه |
وإنه لَلفيصل الذي بهِ ينكشف الحال فلا يشتفِي |
والقبر روضة من الجنانِ أو حفرة من حفر النيرانِ |
إن يك خيراً فالذي من بعدهِ أفضل عند ربنا لعبده |
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ |
أيها المسلمون! إننا بحاجة إلى مراجعة أنفسنا بالرقابة مع الله، وفي تدبر أيام الله، والاستعداد للقاء الله عز وجل، قبل أن نصل إلى حفرة نستَعْتِبُ فلا نُعْتَب، ونطلب العودة فلا نُعاد، ونرجو الرجعة فلا نرجع أبداً.
يقول ابن كثير: أُثِر عن عمر بن عبد العزيز أنه صلى صلاة العيد، ومعه أمراء ووزراء بني أمية فقربوا له المراكب ليركب، فقال: [[ما أنا إلا رجل من المسلمين، ثم مضى، فلما مر بالمقبرة وقف عندها وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أيتها القبور! كم فيك من خد أسيل، وطرفٍ كحيل، ثم قال: ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا لعبوا مع من لعب، ولا تمنوا مع من تمنى، ثم رفع صوته باكياً وقال: يا موت! ماذا فعلتَ بالأحبة؟! فأجاب نفسه بنفسه وقال: يقول: أكلتُ العينين، وذرفتُ بالحدَقَتَين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين]].
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها |
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها والجار أحمد والرحمان بانيها |
قصورها ذهبٌ والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها |
من أراد أن يعمل فليعمل لدار البقاء، ودار الغناء ودار الحياة، لا فيها هم، ولا حزن ولا غم، من أراد ذلك فعليه بمركب الخوف.
وفي مسند الإمام أحمد بسند حسن أن: {الجواري (الحور العين) في الجنة ينشدن الحور العين -فيقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا}.
إنهن يتغنين بصوت جميل لمن ترك الغناء واللذات في الدنيا، أما من استمع هنا وتمنى ولها فلا يستمع هناك؛ لأن الله يقول: جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26].
لذلك يقول ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصانِ |
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزانِ |
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان |
يا أيتها الأذن التي تريد النعيم: لا تستمعي إلى اللغو الأثيم.
يا أيها القلب الذي يريد أن يرضى عنه الله، وينشرح برضوان الله، لا تنغمس في الخطايا.
يا أيتها العين التي تريد أن تنظر في الجنة: لا تنظري إلى الحرام.
إن مركب الخوف كان أقرب المراكب عند السلف الصالح وصولاً إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهم أقرب الناس إلى الله بالخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وطلب ما عنده.
يقول تلميذه عطاء بن أبي رباح: [[والله لو رأيتم
ولذلك ذكر عنه المترجمون: أنه لما حضرته الوفاة في الطائف أُدْرِج جسدُه في أكفانه - رحمة الله على ذلك الجسد - ثم عُرِض على الصلاة، فإذا بطائر يقع على أكفانه، وسُمع هاتف يقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
ذُكرت هذه الحادثة في البداية والنهاية، ومعنى الآية: أن النفس تدخل في عباد الله وفي جنة الله؛ لأنها رضيت بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، فجزاؤها عند الله أن يرضى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنها.
وجاء في كتاب الإيمان في صحيح البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوفكم وأعلمكم بالله أنا) وصدق عليه الصلاة والسلام، فهو أخوفنا لربه، وهو أخشانا لمولاه وأقربنا منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
روى ابن مردويه بسنده عن بلال قال: (مررت قبل صلاة الفجر أوْذِنُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فإذا هو يبكي، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما الذي يبكيك؟ قال: يا
إن وقاية عذاب النار وغضب الجبار تكون بالخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبمراقبته جل وعلا.
إن العبيد إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ |
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النارِ |
فالعتق من النار بالخوف من الواحد القهار، ومراقبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وأُثِر عن إمام أهل السنة والجماعة، أحمد بن حنبل أنه كان إذا جلس في البيت وحده تربع وجلس وعليه السكينة والخشوع، فإذا ظهر أمام الناس لا يرى عليه ذاك الخشوع، فسئل عن ذلك فقال: "إن معي رقيباً يجالسني"، وصدق رحمه الله، فإن الله عز وجل كما في الحديث القدسي الصحيح يقول: (أنا جليس من ذكرني) وفي حديث أبي هريرة: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه).
حتى يقول الإمام الشافعي: " لما ودَّعت الإمام مالك، قلت: أوصني يا أبا عبد الله! قال: إن عليك نوراً؛ فلا تطفئ نورك الذي أعطاك الله بالمعصية، ولا يردعك عن المعاصي والذنوب إلا الخوف من الله عز وجل ومراقبة الله، ولذلك يتحسر المتحسرون عند السكرات.
وفي صحيح مسلم في كتاب الإيمان عن ابن شماسة المهري، قال: [[حضرت كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو تمكنت منه لقتلته، فلو مِتُ على تلك الحال لكنت من جثي جهنم. ثم أسلمت - وهذه أحسن الذكريات عند عمرو بن العاص، داهية الإسلام وأرطبون العرب، الذي رمي به أرطبون الروم - قال: فقدمت المدينة، فلما رآني صلى الله عليه وسلم حيا بي، وقال: أهلاً وسهلاً، وهش في وجهي وبش وأجلسني وقال: ابسط يدك لأبايعك، فلما بسط صلى الله عليه وسلم يده قبضتُ يدي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمرو! قلت: أشترط، قال صلى الله عليه وسلم: وماذا تشترط؟ فقلت: أشترط أن يغفر لي ما أسلفت في الجاهلية، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما تدري يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟ قال عمرو: فأسلمت، فوالله ما كان من أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، والله لو سألتموني الآن أن أصفه ما استطعت أن أصفه، فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم تخلفتُ بعده فلعبِتْ بي الدنيا ظهراً لبطن، فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أم إلى النار! ولكن معي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم قبض يده عدا السبابة، وأُدخِل في أكفانه ويده مقبوضة، وأُدخِل قبره ويده مقبوضة
ورد في ترجمة معاذ رضي الله عنه وأرضاه قصة، وقبل أن أحكي القصة لا بد أن يعرف شباب الإسلام معاذ بن جبل، ولا بد أن يعيشوا معه ومع أمثاله، فبمثل سيرهم يرفع الله قدرنا ورءوسنا، ويشرح صدورنا، فهذا معاذ الذي توفي وعمره ثلاث وثلاثون سنة لكنها كلها جهاد وعبادة، وزهد ودعوة، وفتح الله على يديه اليمن، وكان سبب وفاته أن أصيب بقرحة في يده من الطاعون - كما يقول أهل العلم - فأخذ الناس يدعون له بالشفاء، قال: [[والله لو كان شفائي أن أمس أذني ما مسست أذني، ثم قال: اللهم إنك تكبر الصغير، وتكثر القليل، اللهم بارك في هذه القرحة]] فأخذت القرحة تتفشى في جسمه، ثم توفي.
فتوفي رضي الله عنه وأرضاه وعرف مصيره أنه -إن شاء الله- من المقبولين، لِمَا رأى من قرائن الخير.
عجباً! أما كان يعلم أنه سوف يلقى الله؟ أما كان يعلم أنه سوف يُصرع في هذا المصرع؟ يقول: والله لو كنت أعلم أن عمري قصير ما فعلت ما فعلت من المعاصي. ولذلك نَدِمَ.
وجاء في سيرة عبد الملك بن مروان كما في سير أعلام النبلاء: أنه قال عند وفاته وهو في سكرات الموت، وكان يسمع غسَّالاً ينشد: [[يا ليتني كن غسالاً، يا ليتني ما ملكت أمر الأمة، يا ليتني ما توليت الخلافة]] فأُخبر سعيد بن المسيب رحـمه الله أو غيره فقال: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر عند الموت إليهم]].
إنه موقف الصدق للصادقين، وموقف الصلاح للصالحين، وموقف الندم للمتندمين والمفرطين، فساعة الموت يُذَل فيها الجبار، ويُذعِن فيها الكافر، ويُسلِّم فيها العنيد، ويفتقر فيها الغني، فلذلك عرفوا أنهم فرطوا لما حضرتهم الوفاة.
وهذا الوليد بن عبد الملك لما حضرته الوفاة بكى طويلاً وقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] فلا بقاء إلا لمن أحسن حياته بطاعة الله عز وجل، وتزوَّد بالصالحات وأنهى عمره بالخوف من الله ومراقبته.
فهذه منزلة الخوف.
وإنما بدأت بها لحاجتنا إلى هذه المنزلة، ولأننا بأشد الحاجة للعودة بالخوف إلى الله عز وجل، وإلا فالرجاء مبذول ومطلوب وموجود، وليس الناس بحاجة أن يبين لهم الرجاء إلا في بعض الحالات؛ لأنهم ما قصروا في الرجاء وما فاتتهم منزلة الرجاء، بل أسرفوا فيها، لكنهم بحاجة إلى خوف.
فالله الله في الإخلاص! فإنه الطريق العامر وهو الباب المفتوح إلى الله عز وجل، فلا قبول إلا بإخلاص ومتابعة، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـمعاذ - كما عند المنذري وغيره -: (يا
ولما أُخْبِر معاوية بهذا الحديث بكى حتى خضَّبت دموعُه لحيتَه وقال: [[صدق الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]]] فمن أراد الرياء راءَى اللهُ به، كما في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة: {مَن راءَى راءَى اللهُ به، ومَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به} ومَن أراد الظهور مُنِحَ الظهور؛ لكن لا حظَّ له عند الله، ومن أراد المنزلة عند الناس ولم يرد ثواب الله أعطاه الله ما تمنى في الدنيا وحرمه ثواب الآخرة: جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26].
وفي صحيح مسلم عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يُقْرِي الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الحق، فهل ينفعه ذلك عند الله شيئاً؟ - يقصد أباه
وكذلك ابن جدعان القرشي، كان من أكرم كرماء العرب، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إنَّ شيمتك الحياءُ |
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناءُ |
ففي صحيح مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: {قلت: يا رسول الله! إن
يذكر أهل السير وأرباب التاريخ أن زبيدة امرأة هارون الرشيد التي أجرت عين زبيدة المشهورة في مكة للحجيج، فشربوا وسَقوا بعد ظمأ وحاجة للماء، لما تُوفِّيت رآها ابنها الأمير في المنام، فقال: " يا أماه! ماذا فعل الله بك؟ قالت: كدتُ أهلك -كدت أعذب عذاباً ما يعذبه الله أحداً من الناس- قال: لماذا؟ قالت: ما نفعني بعد الفرائض إلا ركعتين في السحر، كنت إذا ركعت ركعتين في السحر أقول: لا إله إلا الله أقضي بها عمري، لا إله إلا الله يَغْفِر بها ربي ذنبي، لا إله إلا الله أقف بها في حشري، لا إله إلا الله أدخل بها قبري، قال: يا أماه! وعين زبيدة! أما نفعتكِ؟ قالت: والله ما نفعتني أبداً، قال: ولماذا؟ قالت: لأني ما أردت بها وجه الله ".
وقد ذُكرت هذه القصة في سيرتها وفي ترجمتها لمن أراد أن يرجع إليها.
فكل عمل لا يراد به وجه الله قليل وزهيد وحقير، لا نفع فيه ولا بركة، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23] ولذلك كان الصدق والإخلاص هو الباب الأول من أبواب الدخول إلى العبودية الحقة، فهو يقترن مع مقامات كثيرة لكنه شرط أكيد في صحة الأعمال، فلا عمل لمن لا إخلاص له، ولا إخلاص لمن لا متابعة له.
وواجبنا في الإخلاص أن نصدق النية مع الله عز وجل، يقول عز من قائل: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد:21].
إن منزلة الإخلاص لا بد للعبد أن يحققها؛ ليقبل الله سبحانه وتعالى منه طاعته، وليجيبه، وليجعله من المقبولين عنده تبارك وتعالى، ولذلك من نوى نية ثم لم يستطع أن يعمل بما نوى من العمل الصالح كتب الله سبحانه وتعالى له أجر ما نوى، على حد الحديث الذي قَبِلَهُ ابن تيمية في مختصر الفتاوى: (نية المؤمن خيرٌ من عمله) ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: (من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وهذا من الصدق؛ لأن من طلب الصدق وحققه حقق الله له ما تمنى.
وتعلمون أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما حج وقف في الأبطح ورفع يديه، وقال: [[اللهم انتشرت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرطٍ ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك وموتة في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم، فقال له الصحابة: يا أمير المؤمنين! إن من يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور، فقال: هكذا سألت واسأل الله أن يلبي لي ما سألت]]
فلمّا وصل إلى المدينة طعن في صلاة الفجر، وفي أحسن وقت، وفي أجلَّ مقام، وفي أحسن مكان، طُعن بعدما صلَّى الركعة الأولى ودخل في الثانية بيدٍ غادرة فاجرة، ما تقربت إلا إلى النار بقتله، وتقرب هو رضي الله عنه إلى الله سبحانه وتعالى، فوقع يقول: [[حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم]] وعلم أنها الشهادة التي سألها رضي الله عنه وأرضاه، لما توفي يقول أنس: [[والله لقد خفنا خوفاً وحزنا بعد وفاة عمر حزناً ما حزناه أبداً إلا على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاة أبي بكر]] فلما وضع في بيته، وضعوا رأسه على مخدة فقال لابنه: [[انزع المخدة من تحت رأسي وضع رأسي على التراب علَّ الله أن يرحمني]] فدخل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه وقال: [[طوبى لك يا أمير المؤمنين! لطالما سمعت رسول الله يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فقال عمر: يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ]].
فالشاهد: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما صدق في تمني الشهادة، وصدق في طلب مرضاة الله أعطاه الله عز وجل، وبلغه الله تلك المنزلة، وهذا مأثور بالاستقراء والنقل، والمشاهدة والأثر من جميع من أخلص لله سبحانه وتعالى وصدق مع الله.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا |
كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنـ ـهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا |
فبلغ محمد بن واسع مدينة كابول مجاهداً في المعركة، وقد كانوا عبَّاداً في المحراب، وخطباء على المنابر، ومفتون في المحافل، وحملة سيفٍ في الجهاد في سبيل الله.
وكان قائد الجيش قتيبة بن مسلم القائد الشهير فقال قتيبة قبل المعركة والناس مصطفون للقاء موعود الله، ولمناجزة أعداء الله، قال القائد قتيبة: ابحثوا عن محمد بن واسع، والتمسوه لي، فذهبوا يلتمسونه؛ فوجدوه قد شخص بطرفه إلى السماء، ورفع سبابته واتكأ على رمحه وهو يقول: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت! اللهم انصرنا عليهم، فلما رجعوا وأخبروا قتيبة بن مسلم قال: نصرنا ورب الكعبة، والله لإصبع محمد بن واسع خيرٌ عندي من ألف سيفٍ شهير، ومن ألف شابٍ طرير. لماذا؟ لأن النصر من عند الله.
فلما بدأت المعركة نصر الله جنده على أعدائه؛ لأنهم صدقوا معه، وأخلصوا له الدعاء والإنابة، فأعطاهم ما تمنوا من الشهادة والنصر والتمكين وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17].
فلما صدقوا الله عز وجل، ووجد مثل هؤلاء في الجبهات، ومع الجيوش، وعند الكتائب؛ نصر الله الأمة ورفع رايتها؛ لأنهم صدقوا مع الله في عبادتهم، وفي علمهم وجهادهم.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
إني وزنت الذي يبقى لأعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا |
فلما وصل إلى المعركة، وحضر ضرب أعناق الأبطال، نزل بسيفه وتلثم، فأخذ يقرع الأبطال، وأخذ يضرب رءوس الكفار، فيقول القائد: من هذا؟ قالوا: لا نعرفه، قال: التمسوا لي إياه، فذهبوا فلما وصلوا إليه وهو ملثم عرفوه بشارته وأخبروا الخليفة، قال: ادعوا لي ابن المبارك، فذهبوا إلى ابن المبارك ودعوه، قال ابن المبارك: لا أريد أن يعرفني إذا عرفني الله عز وجل.
وأتته رسالة وهو في القتال من الفضيل بن عياض يقول: تترك الإفتاء، وتترك الحرم، وتخرج إلى الجبهات؟! يخرج صدقاً وإخلاصاً لطلب مرضاة الله، فيرد عليه ويقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ |
إن كانت العبادة مجرد صلاة وركعات في المسجد، ثم يقف الإنسان ولا يكون لهذه الصلاة دوراً في حياته وفي صدقه، وأخلاقه وفي تعامله وتوجهه، وفي بناء بيته وتربية أبنائه، وفي تعامله مع الناس، فما الصلاة إذن؟
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ |
الدم أغلى من الدمع، إن كنت تبكي فدماؤنا تتحدر من نحورنا، ولذلك صدقوا الله فصدقهم الله.
فالصدق والإخلاص مقام، بل هو أول مقام من مقامات العبودية، ولا بد معه من متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو العمل المقبول والمطلوب عند الله، وهو العمل الذي يثاب عليه صاحبه، فالله الله في قصد الله في العمل، وتصفية الأعمال من الرياء والسمعة! فإنها عدوة الثواب، وإنها مطردةٌ للأجر والمثوبة من الله عز وجل.
السبب الأول: أن يعتقد العبد أن النافع الضار هو الله عز وجل، وهو الذي يعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويرزق ويعدل، وهو الذي بيده مقاليد الأمور سبحانه وتعالى، فلماذا يتوجه إلى الناس؟!
والسبب الثاني: أن يعتقد أن الدنيا ومن عليها زائلون، وأنه سوف يلقى الله فيوفيه عمله، ويوفيه حسابه، إن أحسن فبالإحسان يجازى، وإن أساء فبالإساءة يعاقب.
والسبب الثالث: أن يستحضر دائماً عظمة الله، ويدعو بالدعاء الخالص، بدعاء الاستغفار، ودعاء المثوبة، ودعاء الكفارة، فيقول دائماً وأبداً كلما أصبح وأمسى: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) فحياة القلوب هي في العبودية.
يا رب نفسي كبت مما ألمَّ بها فزكها يا كريمٌ أنت هاديها |
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رمت إليك فحنت قبل حاديها |
إذا تشكَّت كلال السيف أسعفها شوق القدوم فتدنو في تدانيها |
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها |
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها |
إن لم تجرني برحبٍ منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها |
اللهم رد الأمة إليك رداً جميلا، اللهم أغث قلوبنا بغيث الرحمة والغفران والرضوان.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، أحينا حياةً طيبة، حياةً صادقة، حياةً مخلصة، حياةً متقبلة، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم رد شباب الإسلام إليك رداً جميلا، اللهم تب عليهم، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، اللهم أصلح بالهم، اللهم اهدهم سبل السلام، اللهم وجههم وجهةً صالحةً في الدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله، هذا الأثر لا بد أن يُعتنى به، وأن يفهم، وهو عن الحسن البصري رحمه الله، كما علَّقه البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان، قال: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن، ولا أمن النفاق إلا منافق، فالمؤمن دائماً يخاف النفاق، ويخاف من الرياء والسمعة، ودائماً يتوجد ويوجل، ودائماً يحاسب نفسه خوفاً من النفاق أن يكون فيه، فهو دائماً يخاف هذا الأمر؛ لأنه مؤمن، وأما المنافق فيمضي قدماً لا يلوي على شيء، وإن قلت له: نخاف أن يكون عملك رياءً، قال: ليس في عملي رياء، ولا سمعة، ولا نفاق، أنا مخلص. فمن ادعى الإخلاص يُخشى عليه من النفاق.
وفي صحيح البخاري في كتاب الصلاة بوب البخاري باب: الصلاة كفارة، عن حذيفة قال: قال لنا عمر ونحن جلوس عنده: {أيكم يحفظ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: قلت: أنا، قال: إنك عليها لجريء، قال: سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصلاة والصوم والصدقة، قال
فمعنى أثر الحسن البصري: ما خافه -أي النفاق- على إيمانه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق أي:لم يخف من النفاق. ولذلك يقول ابن مسعود كما أثر عنه: [[إن المؤمن ينظر إلى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق والفاجر ينظر إلى ذنوبه كأنه ذبابٌ طار على أنفه فقال به هكذا]].
الجواب: أولياء الله عز وجل عرفهم سبحانه وتعالى في كتابه فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فالولاية: هي الإيمان والتقوى، ولها تعريفات أخرى، كتعريفات بعض أهل المقامات وبعض أهل الغلو والتنطع، الذين ارتقوا من الأحوال إلى المقامات، والذين عبروا من الواردات إلى الفقرات والسكنات، وهذه ليست بتعريفات، بل هذه جهالات وسفسطات، بل التعريف المقبول والصادق: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} وهذا يسمى حديث الولي، شرحه الشوكاني في قطر الولي على حديث الولي، وهو من أعظم الأحاديث عند أهل الإسلام، وهذا يبين الولاية فيما تحصل عليه، فهي تحصل في أداء الفرائض، وفي اجتناب النواهي، وبالتزود بالنوافل.
فعلامات أولياء الله: امتثال أمر الله، والانتهاء عن نهي الله عز وجل، والوقوف عند حدود الله، واحترام حرمات الله عز وجل، وأن يتحلوا بالسنة ظاهراً وباطناً، فهؤلاء أولياء الله سواءً لبسوا القباء أو العباء، فالإسلام لا يعترف بالطقوس التي أحدثها بعض أهل الغلو وأهل التنطع والتعمق، وإنما يعترف بلباس السنة، وبالإخلاص وإقبال القلب إلى الله عز وجل فهذه علاماتهم، من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو وليٌ من أولياء الله عز وجل، سواءً كان سلطاناً، أو تاجراً، أو فقيراً، أو فلاحاً، أو جندياً، أو طالب علم، أو في أي مكان من الأمكنة، وشروط الولاية فيه فهو وليٌ من أولياء الله عز وجل.
الجواب: يتهيب المجيب في مثل هذه المسألة؛ لأنها ذكرت عن عمر رضي الله عنه، ففي البداية والنهاية عن أنس قال: [[سمعت
اليهود كانوا يعذبون أنفسهم، ويقتلون أنفسهم؛ كما قال سبحانه وتعالى: اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء:66] فهي كفارة ذنوبهم وخطاياهم، أما نحن فأمرنا أن نتوب ونستغفر ونندم، وأن نعمل الحسنات التي تذهب السيئات، وأما أن نضرب أنفسنا فليس بوارد وليس بمسنون ولا مشروع، لا كتاباً ولا سنة.
وإرهاق النفس بهذا من أعمال أهل الرهبنة وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27] ولذلك من خزعبلاتهم: أنه ذكر عن بعض النصارى أنه نظر إلى امرأة فاقتلع عينه التي نظر بها بإصبعه. وهذا هو الخرافة والجهل في أمر الله عز وجل، وبعضهم فعل معصية فوقف في الشمس سنة، فهذه كلها من الضلالات التي أمرنا باجتنابها؛ لأنهم قومٌ ضالون عبدوا الله بلا علم، والواجب على المسلم أنه إذا أذنب أن يستغفر ويتوب ولا يضرب نفسه، ولا يظمئ، ولا يجوع، بل عليه أن يندم ويعمل صالحاً قال عز وجل: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] وقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وفي مسند الإمام أحمد بسندٍ صحيح عن علي رضي الله عنه قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا حدثني بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- ما استحلف أبا بكر - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبدٍ يذنب فيتوضأ ويصلي ركعتين ويستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له ذاك الذنب}.
الجواب: قول الجمهور في هذه المسألة وهو الصحيح: أن العبد في الحياة يكون بين الخوف وبين الرجاء، ويكون له الخوف والرجاء كجناحي طائر، لا يغلِّب الرجاء فيقع في الأمن من مكر الله، ولا يغلب الخوف فيقع في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله عز وجل، بل يكون معتدلاً؛ عنده الرجاء والخوف، والنووي له رأيٌ أظنه انفرد به يقول: يغلب في الحياة جانب الخوف، ويغلب عند الموت جانب الرجاء، وطاوس بن كيسان كما يروي عنه ابن كثير في ترجمته كأنه يرى: أن الرجاء يغلب حتى في الحياة، وأما عند سكرات الموت فالأولى للمسلم أن يغلب جانب الرجاء لحديث جابر الصحيح مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم: {لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} فلا بد من إحسان الظن.
وأما سؤال السائل: هل يخاطب الناس بالخوف أو الرجاء؟
فهذا يختلف باختلاف المواقع والناس والأحوال، فمن كان مقبلاً على المعاصي، متهتكاً في الحرمات، متجاوزاً لحدود الله، فيخاطب بالخوف، ومن كان منيباً تائباً، مقبلاً نادماً، كثير الإقبال والشفقة والخوف؛ فيخاطب بالرجاء، وقد جعل الله لكل شيءٍ قدره.
الجواب: أنت أصبت كل الإصابة بأنك كلما أذنبت تتوب، وهذا واجب المؤمن، يقول ابن القيم: إن للمسلم أحوالاً ثلاثة لا بد أن يتقلب فيها:
حال الصبر، وحال الشكر، وحال الاستغفار، فاستغفارٌ عند الذنب، وشكرٌ عند النعمة، وصبرٌ عند المصيبة، فأفلح من إذا أنعم عليه شكر، ومن إذا أذنب استغفر، ومن إذا ابتلي صبر، فأنت من المحسنين في هذا الجانب؛ أنك كلما أذنبت استغفرت، وأما قولك: أنك تعود، فالذنب حتمٌ على العبد، لكن على العبد أن يخلص نيته في التوبة ليرزقه الله توبةً نصوحاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] والتوبة النصوح قالوا: هي الخالصة من شوائب إرادة العمل لغير وجه الله، وقيل: النصوح التي لا رجعة بعدها، وفي سنن الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة} وأورد ابن رجب في جامع العلوم والحكم عن ابن حبان من حديث عائشة قالت: {جاء
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا أذنب العبد فقال: اللهم اغفر لي؛ غفر الله له سبحانه وتعالى وقال: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر؛ أشهدكم أني غفرت له، أو غفر له سبحانه وتعالى، ثم عاد فأذنب فقال ذلك، فقال سبحانه تعالى هذه المقالة، وفي الثالثة يقول سبحانه وتعالى: فليعمل عبدي ما شاء} والصحيح في معنى هذه الكلمة: {فليعمل عبدي ما شاء} أنه ما دام أنه يُذنب ويستغفر ويتوب إلى الله؛ فإنه سوف يغفر له، ليس معنى ذلك أن يكون في نية العبد أن يذنب ثم يستغفر دجلاً وكذباً، وخداعاً ومكراً على الله عز وجل وفي نيته أن يعود، لا. بل يكون في نيته التصميم على ألا يعود، فإذا وقع في الذنب فليتب مرة ثانية، وليحاول أن يتوب ولو عاد في اليوم سبعين مرة.
وعلامة الخير فيك أنك تحس بهذه الأمور، وأنك تحاسب نفسك، وأنك تريد الطريق إلى الله، فأبشر ثم أبشر وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفك ما علمتني الطلبا |
الجواب: لا أعلم مشروعية ركعتين إلا في حديث علي عن أبي بكر مرفوعاً في الصحيح، ومن حديث علي في مسند أحمد وسنده صحيح، فإن فعل العبد وصلى ركعتين فبها ونعمة، وإذا استغفر وتاب بلا ركعتين فعليه أن يتوب جازماً من قلبه بأن لا يعود، بأن يكون نادماً على ما فعل، عازماً على ألا يعود، فإن كان من حقوق العبيد استباحهم وطلب المسامحة منهم، ورد ما لهم من حقوق، وعليه أن يفعل الحسنات إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فالركعتان إنما وردت تفضلاً لمن أرادها، لكن ليست شرطاً في التوبة والندم.
الجواب: إحياء علوم الدين كثر الكلام فيه، وقد سئل عنه ابن تيمية، وأجاب بجوابٍ سديد، إنما ملخص القول في إحياء علوم الدين: أن أبا حامد محمد بن محمد الطوسي الغزالي من أهل الخير والاستقامة إن شاء الله، لكنه قليل البضاعة في الحديث؛ فأتى ببعض الأمور التي لا يوافق عليها، وربما تجمل الملاحظات في إحياء علوم الدين في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن العقيدة لا تؤخذ من إحياء علوم الدين، فهو أشعري العقيدة، يتفلسف في بعض النظريات وبعض استقرائياته إذا أوردها، ويعجب بأن ينقل من مشايخه الذين أخذ عنهم؛ فلا تؤخذ عنه العقيدة.
الأمر الثاني: أن بضاعته مزجاة في الحديث النبوي وقد قال ذلك عن نفسه، فهو يأتي بأحاديث لا سند لها، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وليست بصحيحة ويبني عليها بعض الأمور ثم يستنتج الاستنتاجات ويستخرج الفوائد والأحاديث في أصلها باطلة، وقد علق عليه العراقي؛ وخرج أحاديثه لكن هناك حاجة إلى أن ينتبه له.
الأمر الثالث: أنه معجب كل الإعجاب بـالصوفية وبكراماتهم التي ربما لا يوافقون عليها، وبشطحاتهم وإشاراتهم ووارداتهم، وخطراتهم وسكناتهم، وهذا لا يوافق عليه، فلا يوافق إلا ما وافق عليه الكتاب والسنة، أو وافق عمل الصحابة.
هذا مجمل القول فيه، وأنا أنصح: ألا يقرأه المبتدئ حتى يتمكن من تدبر كتاب الله عز وجل، وقراءة الكتب الستة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، ثم إذا أراد أن يطالع فيه فليطالع.
وأما الكتب التي ترشح في هذا المجال بعد كتاب الله عز وجل فـالكتب الستة، من أراد البصيرة بعد الكتاب العزيز، ومن أراد الفوز والفلاح والنجاح فعليه بـالصحيحين والسنن، وما سار في مسارها من كتب أهل العلم، ثم كما أسلفت كتب ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب ابن كثير، وكل ما لذ وطاب من كتب أهل العلم، بعد استشارة أهل العلم، ومن جمع هذه الكتب فقد جمع خيراً كثيراً.
الجواب: لا يقتضي من التعريف أن ينطبق على أحوال الناس، والتعريف الذي ذكرته لـابن تيمية موجود، وهو من أحسن ما عرف فيه الخوف: حد الخوف ما حجزك عن المعاصي وما زاد فلا حاجة له. وقلت: إن سيد الخائفين وأجلهم عليه الصلاة والسلام هو الذي عرف الله عز وجل، وهو أقربنا منزلة إلى الله، فهو أخوف الناس، أما هؤلاء النماذج الذي ذكرت مثل بعض المحدثين، والزهاد، والعباد، فإن وارد الخوف غلب عليهم، وقد سئل ابن تيمية عنهم قال السائل فيما معناه: كيف نرى أن بعض التابعين غلب عليهم الخوف حتى غشي على بعضهم وصعق بعضهم، ولا يوجد ذلك في الصحابة؟
قال: الصحابة تحملوا وارد الخوف فكانوا أقوى قلوباً، وأما هؤلاء فلم يتحملوا الخوف فسقطوا وغشي عليهم، فهذا هو الجواب.
والشاطبي في الموافقات يقول: إن الشريعة تخاطب جمهور الناس كما عُلم ذلك، لكن قد يرى من بعض الناس من يزيد عنده الرجاء أو تزيد عنده العبادة على ما أثر، فيصل إلى هذه المنازل، ولسنا مطالبين بتقليد عبد الله بن وهب ولا غيره فيمن صرع، لكن نعذرهم في ذلك، وهذا من إيمانه وإخباته، ونقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر خوفاً منهم، وأعلى منزلة عند الله عز وجل، وكذلك الصحابة بعده، فهذا هو الجواب، ولذلك سئل ابن تيمية في الفتاوى عن الفضيل بن عياض؛ لأنه ذكر عنه أنه لما مات ابنه علي دفنه ثم ضحك في المقبرة، والرسول عليه الصلاة والسلام لما دفن ابنه إبراهيم قال: {تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا
الجواب: قال شيخ الإسلام: الصبر واجب والرضا مستحب على الأصح من أقوال أهل العلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الرضا والصبر وبين الرحمة، رحم ابنه إبراهيم فدمعت عينه وحزن قلبه، لكن الفضيل ما استطاع أن يجمع بين الرضا والحزن أو الرحمة، أراد أن يرحم، فإذا رحم ابنه تدمع عينه ويحزن، وأراد أن يجمع بين الرضا فما استطاع فأخذ مقام الرضا، فمقام الرسول صلى الله عليه وسلم أجل وأرفع وأعلى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
الجواب: فضل العبادة يتفاوت بالحسن والإخلاص وليس بالكثرة، قال عز من قائل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ولم يقل: أكثر عملاً، فالجودة هي المطلوبة في العبادة وحسن العمل كما قال الفضيل: هو أصوبه وأخلصه، قالوا: يا أبا علي! ما أصوبه وأخلصه؟ قال: الخالص أن يكون لوجه الله عز وجل، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففضل العبادة يتفاوت بالإخلاص وبالحسن وليس بالكثرة، ولذلك يقول ابن القيم في مدارج السالكين: قد يقوم عبدان في صفٍ واحد -مصليان في صفٍ واحد- هذا بجانب هذا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، لما في قلب ذاك من إخلاص وإنابة وخشوع وخضوع.
ولذلك بعض التابعين كانوا يصلون في اليوم ثلاثمائة ركعة كما أثر عنهم، أو مائة ركعة وليسوا بأفضل من الصحابة، والصحابة أقل منهم نوافل كما عُهد ونقل، لكنهم كانوا أخلص وأصدق، وأصوب وأحسن لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] فالكثير مطلوبٌ إذا وافقه الصدق والإخلاص، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـربيعة بن كعب الأسلمي: {أعني على نفسك بكثرة السجود} وقال في حديث ثوبان: {فإنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك بها درجة} فالكثرة تحمد إذا وافقت الإخلاص والصدق والصواب.
الجواب: فعل أبي موسى هذا رضي الله عنه وأرضاه لا يدخل في الرياء، ولكم أن تنظروا إلى كلام ابن حجر على هذا الحديث، واستنباط الإمام مالك رحمه الله تعالى، فإنه استنبط من قصة ابن عمر لما سأله صلى الله عليه وسلم عن الشجرة التي تشبه النخلة، ما هي؟ قال ابن عمر: {فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت أن أقولها، فلما أخبرت أبي -
الجواب: نسأل الله أن يصلح حالنا وحالك، وإني أدعو نفسي وإياك وكل سامع إلى أن نجعل هذه الآية نصب أعيننا: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] وتصدر هذه الفعلة من طالب العلم أو من الداعية إذا كان واجهة للناس أو قدوة، ثم يأتي بهذا العمل، يقول عز من قائل في سورة الأعراف: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176] فالمطلوب أن نحاسب أنفسنا جميعاً ولا نقول إلا ما نفعله، هذا في الفرائض، أما النوافل فأمرها فيه سعة، فهي أوسع من أمر الفرائض، ولذلك سأل سائل الإمام أحمد: هل لا أدعو إلى شيء حتى أكمل في العبادة والنسك؟ قال: لو توقف كلٌ منا إلى أن يكمل.. ما دعا إلى الخير أحد. لكن علينا أن نسدد ونقارب، فلا نخل بالفرائض ولا نرتكب الكبائر، أما في الأمور المستحبة؛ فإنك تدعو إليها ولو لم تعملها ليكتب الله لك الأجر وتحاول أن تفعل، وليحذر كلٌ منا أن يكون من الذين يدعون إلى الخير ولا يأتونه ويدعون إلى الشر وهم يأتونه، ففي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه قال: {ذكر صلى الله عليه وسلم أن رجلاً يلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في رحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ألست أنت الذي كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! قال: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه} فنعوذ بالله من هذه المنزلة، فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه ويسدد ويقارب؛ ويعمل ليعلم أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له سبحانه وتعالى وصواباً.
الجواب: هذه المرأة تسأل تقول: أنها بلغت ثم لم تصم في هذه السنة، الذي أعلمه أن عليها أن تصوم، لأنها لما علمت وعرفت وجب عليها أن تصوم؛ لأنه أدركها سن التكليف، وقد دخلت في سن يتوجب عليها أن تصوم ثم فرطت فعليها أن تقضي هذا الصيام، وإن دخل عليها رمضان آخر؛ فعليها أن تصوم وتكفر عن كل يوم بإطعام مسكين، هذه فتوى ابن عباس رضي الله عنه في الكفارة لمن تجاوز رمضان آخر، ولا أعرف حديثاً مرفوعاً صحيحاً جاء في مسألة إضافة كفارة الإطعام مع الصيام إذا تجاوز رمضان، أما هي فتصوم.
الجواب: هذا نقل عن كثير، وبعضهم يقول: أين أنتم من فلان ما رفع طرفه إلى السماء أربعين سنة؟ والآخر يقول: أينكم مني ما أكلت رطباً خمسين سنة؟ يعني البلح، وآخر يقول: ما مددت رجلي، والآخر يقول: ما فعل وفعل، وهؤلاء يرد عليهم بالسنة؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وقع في عهده من أشباه هؤلاء القوم ثلاثة، قال أحدهم: {أما أنا فأقوم ولا أنام، والآخر قال: لا أتزوج النساء، والثالث قال: أصوم ولا أفطر، فاستدعاهم صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أعلمكم، وأشدكم لله خشية -وفي لفظ: لأنا، عليه الصلاة والسلام- وإني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
ترك الضحك ليس من السنة بل يضحك للحاجة، والرسول عليه الصلاة والسلام ضحك حتى بدت نواجذه في بعض الحالات لكن باقتصاد، ولا يكثر من الضحك للحديث الصحيح حديث أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب} فليقتصد الإنسان في هذا الأمر، وليلتفت ويتفكر في آيات الله في السماء، ويمد رجليه، ويأكل الرطب، وينام ويقوم، ويتزوج النساء، ويصوم ويفطر، وعليه بالسنة.
الجواب: واجبك على حالتين:
الحالة الأولى: أن تصبر في النصيحة وتحتسب، وتواصل معهم بالكلمة اللينة والطيبة والصبر والتودد؛ علَّ الله أن يهديهم سبحانه وتعالى ولا تيأس، فإذا فرغ صبرك ورأيت أنه لا حيلة لك بهم فعليك بالمقام الثاني وهو الهجر، فتهجرهم لئلا تكون شريكاً لهم، أو موافقاً لهم، أو مواداً لهم، والهجر واردٌ في الإسلام وهو من أسباب الردع للعصاة، وقد نص عليه الأئمة.
والرسول عليه الصلاة والسلام هجر كثيراً من العصاة؛ كما فعل بالمتخلفين في تبوك؛ فإنه هجرهم صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بهجرهم، فعليك أن تهجرهم، ولكن لك أسباب غير أسباب الزيارة أن ترسل لهم رسائل، أو تتصل، أو تصلهم ببعض الناس من الدعاة والأخيار علَّهم يؤثرون فيهم، وتدعو لهم بظهر الغيب علَّ الله أن يصلحهم.
الجواب: هذه المنازل كما تعرفون والمقامات والأحوال إنما عددت في القرن الثالث فما بعد، وإلا فالصحابة رضوان الله عليهم ما عددوها كهذا التعداد، كأركان الصلاة، وشروطها، وأركان الوضوء وشروطه وفروضه فإنها لم تعدد عند الصحابة هكذا وإنما عددت فيما بعد، فأعمال القلوب كفروع الفقه، فقلت: إن المرتبة الأولى من مراتب الخوف: المراقبة، وهي أول شيء، ثم لا يقتضي أن يكون بعدها مراتب، لكن مرتبة المراقبة فالعمل فالمرابطة ويسمونه الحسبه، وقد ذكر هذا الغزالي في الإحياء، وأنا قلت لكم: التحفظ من هذا الكتاب، ومن أحسن من كتب في هذا المجال ابن القيم صاحب طريق الهجرتين ومدارج السالكين، وينتبه للكتب الأخرى فإن فيها الغث والسمين -غير كتب الشيخين- وابن تيمية في المجلد العاشر وفي المجلد الحادي عشر من فتاويه فإنه أتى بهذه المقامات وذكر كثيراً من هذه الأحوال، وأقر هذا الكلام، فلينتبه لهذا.
الجواب: الأمور التي تعين على استحضار الخوف من الله عز وجل هي:
أولاً: المحافظة على الفرائض والتزود بالنوافل، وهي أول أسباب الولاية لحديث أبي هريرة المتقدم.
ثانياً: تدبر القرآن، فإنه كلام الله عز وجل وأحسن ما عبد به سبحانه وتعالى هو هذا الكلام، فتدبر الكلام من أسباب الخوف.
ثالثاً: ملازمة الذكر دائماً وأبداً فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152] وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فالذكر من أسباب الولاية:
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا |
وناده إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى |
رابعاً: تذكر الموت، والاعتبار بالمقابر وزيارتها؛ فإنها من الأسباب العظيمة في توريث الخوف عند العبد.
خامساً: مجالسة الصالحين والأخيار وموانستهم وزيارتهم، وموادتهم ومراسلتهم، وطلب دعائهم... إلى غير ذلك، وبمفهوم المخالفة: مقاطعة الفجار والأشرار والعصاة.
وأسأل الله عز وجل أن يتقبلنا وإياكم في هذه الليلة المباركة، وأنه كما جمعنا في هذا المكان الطاهر الطيب أن يجمعنا في مستقر رحمته، وأن يتقبل منا أحسن ما عملنا، وأن يتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر