إسلام ويب

النفوس التي هاجرت إلى اللهللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • استعرض الشيخ وفقه الله سيرة معركة أحد مجلياً فيها بعض المواقف البطولية التي أبرزت بجلاء شجاعة الصحابة الكرام وإقدامهم وتضحيتهم، وحبهم وفدائهم للرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومستخلصاً في نهاية درسه نتفاً من الفوائد المستنبطة من تلك الغزوة.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    صلى الله على النعمة المهداة، والعطية المسداة، أفصح من نطق بالضاد، ورفع علم العباد.

    صلى الله على باني دولة الإسلام، وهادم دولة الأصنام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    فإننا في هذا الدرس سوف نعرض بإذن الله موقعة أحد، حيث المهُج التي سافرت إلى الله، والأرواح التي هاجرت إلى الحي القيوم، حيث المواقف الخالدة التي لا تنسى أبد الدهر، حيث البيعة المجيدة التي بايع فيها المهاجرون والأنصار ربهم تبارك وتعالى، فما نكصوا وما تأخروا، ويشترك القرآن مع الحديث النبوي في هذه الموقعة لينتقل القرآن بنا إلى معركة أحد، يصور لنا المعركة والقتل في سبيل الله والشهادة والثبات، ثم ثمرة النصر أو الهزيمة.

    ولنكن ونستمع إلى الإمام البخاري وهو يصل إلى كتاب الغزوات، ويواصل مسيره في نقل الأحداث بأسانيد كنجوم السماء.

    من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم     مثل النجوم التي يسري بها الساري

    يقول رحمه الله تعالى في كتاب المغازي: باب غزوة أحد، ثم ساق بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه قال: (لما حضرنا معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر على الرماة رجلاً من أصحابه -اسمه عبد الله- قال: فلما بدأنا المعركة فر المشركون، حتى إني لأرى خدم سوق نسائهم يصعدن في الجبل، قال: فلما رأى الرماة هذا الفرار؛ نزلوا إلى الغنائم، وقد خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة، فالتجأنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدناه جالساً ومعه أبو بكر وعمر، وإذا بـأبي سفيان ينادي: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين أبو بكر؟ فلم يجبه أحد، فقال: أين عمر؟ فلم يجبه أحد، قال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم -أو فقدتموهم كما في بعض الروايات- فقام عمر لما آنس هذه الغضبة لله عز وجل في نفسه فقال: لا والله لقد أبقى لك الله ما يسوءك يا عدو الله، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وأنا عمر، فقال أبو سفيان: اعل هبل -وهبل صنم لهم يعبدونه من دون الله- فقال عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.

    فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم -يعني هناك صنم آخر اسمه العزى وليس لكم عزى- فقال صلى الله عليه وسلم: ردوا عليه، قالوا: وماذا نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم فقالوها، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والحرب سجال، فقال صلى الله عليه وسلم -أو قال بعض أصحابه-: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) أو كما قال البراء والله أعلم.

    والقرآن ينتقل بنا في سورة آل عمران من الآية العشرين والمائة إلى قبل أواخر السورة ليعرض لنا تلك المشاهد الحية، ومعركة أحد تصل إلى روح المؤمن وتلامس قلبه، وتحدث شغاف روحه، وهي معركة حية في ضمير الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،وفيها صور عجيبة، ومن يقرأ أواخر سورة آل عمران بتدبر؛ يجد العجب العجاب.

    يقول الله عز وجل وهو يتحدث عن تلك الأحداث والوقائع للرسول عليه الصلاة والسلام: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:121-122] ثم يقول جل ذكره: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ * لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:123-128] وهذه ست آيات من أربعين آية أو ما يقارب الخمسين تتحدث عن معركة أحد.

    سبب معركة أحد

    لما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم من معركة بدر منتصراً، متواضعاً لله عز وجل، وقد قدم قرباناً إلى الله سبعين من كفار قريش؛ لأنهم عارضوا الله عز وجل وخالفوا أمره، فعاد إلى المدينة المنورة عاصمة الإسلام، وسكن فيها ما يقارب سنة، ولكن كفار قريش ما أعجبهم هذا، وبقيت حرارة الهزيمة تعمل في قلوبهم يوم كان العربي بلا دين، يغضب لعرضه، ويغضب لماله، ويغضب لدوره فحسب، فقل لي بالله: أي عربي معه دين يدعي أنه ديِّن ثم لا يغضب لماله ولا لأرضه ولا لعرضه؟!

    يأتي أبو سفيان ليعلن المعركة والحرب مرة ثانية على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، ويتوجه بجيش قوامه ثلاثة آلاف، قلوبهم تغلي من الحقد والمرارة والأسى واللوعة على أقاربهم الذين قتلوا في معركة بدر.

    ولم يعلم عليه الصلاة والسلام بالجيش إلا عندما طوق المدينة، ونزل تجاه جبل أحد المعروف، وشاك الجيش برماحه وبسيوفه أطراف المدينة، وأصبح أبو سفيان في مركز قوة يهدد عاصمة الإسلام، عاصمة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كلما خرجت سارحة من إبل أو بقر أو غنم أخذها أبو سفيان، وكلما خرجت امرأة سباها، وكلما رأى رجلاً من المهاجرين والأنصار آذاه بسب أو شتم أو ضرب، فأصبحت المدينة تعيش في مأساة وفي خوف ورعب.

    خطاب النبي لأصحابه ومشاورته لهم

    حينها ألقى عليه الصلاة والسلام بيانه التاريخي، وخطابه الشهير على المنبر، وأخبر ماذا فعل أبو سفيان بالناس، يوم أتى بثلاثة آلاف يهدد أمن مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأعلن صلى الله عليه وسلم الحرب عليه، لأن الظالم إذا اعتدى فما جزاؤه إلا أن يرد اعتداؤه.

    أخي جاوز الظالمون المدى     فحق الجهاد وحق الفدا

    فجرد حسامك من غمده     فليس له اليوم أن يغمدا

    وقف عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصحاب المهج الحارة والكتائب المنتصرة من الذين بايعوا الله يوم العقبة وقبلها وبعدها، والذين اشترى الله أرواحهم منهم.

    ومن الذي باع الحياة رخيصة     ورأى رضاك أعز شيء فاشترى

    أم من رمى نار المجوس فاطفئت     وأبان وجه الصبح أبيض نيرا

    واستشارهم عليه الصلاة والسلام وهم في المسجد، وليس بينهم وبين أبي سفيان إلا ما يقارب الميل والمعركة حتمية لا بد منها، هل ترون أن نبقى في المدينة عاصمة الإسلام، فتدار رحى الحرب داخل العاصمة؟ أو نخرج إليهم، خارج حدود المدينة فنقاتلهم هناك؟ وما هو الرأي الأحسن؟ ولماذا يشاورهم عليه الصلاة والسلام والله قد آتاه من الرشد والسداد والحكمة ما الله به عليهم؟

    إن المشاورة معناها: التواضع،ومعناها: التربية، وذلك درس لكل مسئول أو مدير أو رئيس هيئة بأن يشاور مقربيه وأعضاءه، ليكون أقرب إلى قلوبهم، يقول تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159] فلذلك شاورهم عليه الصلاة والسلام، وإلا فإنه يعلم الرأي السديد، وكان رأيه أن تبقى المعركة داخل مدينته عليه الصلاة والسلام، وأن تدار رحى الموت داخل العاصمة، وأن تبقى السكك مفتوحة للكتائب، ويقوم النساء والأطفال برجم المعتدين داخل شوارع المدينة؛ لأنهم سوف يدخلونها، وهذا هو الرأي السديد في منطق الحق، وقد ذكر ذلك بعض الذين تكلموا في سياسته صلى الله عليه وسلم، وأظنه سعيد حوى وقارن بينه صلى الله عليه وسلم وبين نابليون في الجوانب العسكرية، ولكن أين الثرى من الثريا.

    ألم تر أن السيف ينقص قدره     إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

    فقام الكبار والشيوخ من الصحابة، وقالوا: نرى رأيك يا رسول الله! نرى أن تدار المعركة داخل المدينة، فهو الرأي السديد، وقام عبد الله بن أبي رأس الضلالة وعمود الجهالة.. المنافق الشهير.. حربة النفاق، وما أصاب في حياته إلا في هذا الرأي، والمخطئ قد يصيب، والظالم قد يعدل ولو مرة، فقال: يا رسول الله! والله ما اعتدى علينا معتدٍ فبقينا في المدينة إلا هزمناه، فنرى أن تبقى في المدينة حتى يدخلوا، فإنا إذا قاتلناهم هزمناهم بإذن الله، وهذا هو الرأي.

    ولكن شباب الصحابة غلت مراجلهم، وتحركت أرواحهم، فخرج من المسجد ما يقارب ثمانين شاباً، أعمارهم بين الثلاثين إلى العشرين، يقودهم حمزة وقد نصب ريش النصر على عمامته، ودخلوا بعد برهة في المسجد وانتظموا في آخر المسجد وقالوا: يا رسول الله! كيف تبقى بنا في المدينة؟ إنه لا يقاتل أحد في أرضه إلا ذل.

    وقام أحد بني سالم بن عوف فقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى الأعداء لا نقاتلهم داخل المدينة، لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي لا إله إلا هو لأدخلن الجنة، فتبسم عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، وقال: بم تدخل الجنة؟ قال: باثنتين: -انظر إلى المؤهلات والشهادات العالية- أولاهما: أني لا أفر يوم الزحف، والثانية: أني أحب الله ورسوله، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصدق الله يصدقك}.

    ثم وقف رجل آخر وقال: يا رسول الله! تسبى ذرارينا، وتؤخذ بهائمنا، ولما نقاتل! اخرج بنا إليهم يا رسول الله!

    ورفع أنس بن النضر صوته من آخر المسجد وعليه السلاح، وقد سل سيفه وقال: يا رسول الله! أنا فاتني يوم بدر -أي أنه لم يحضر معركة بدراً - فلا تحرمني قتال الأعداء، فوالذي لا إله إلا هو لئن حضرت ليرين الله ما أصنع.

    وتتابع كلام شباب الصحابة من يمين المسجد ويساره، وفي الأخير رأى صلى الله عليه وسلم أن الأغلبية الساحقة مع الذين يرون الخروج، فقال: نخرج إليهم إن شاء الله.

    ثم ترك المنبر ودخل إلى بيته واغتسل ولبس الدرع عليه الصلاة والسلام، ثم خرج والسيف مسلول، سيف ذي الفقار -بالتخفيف- وعليه لامة الحرب قد غطت رأسه الشريف عليه الصلاة والسلام، وقال: الرأي أن نخرج.

    البس لكل حالة لبوسها     إما نعيمها وإما بوسها

    فلما رأوا ذلك رجعوا إلى أنفسهم وقالوا: لعلنا أكرهناك يا رسول الله! نرى أن تبقى في المدينة -ولكن الله يقول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159] - فقال صلى الله عليه وسلم: {لا والله لنخرجن إليهم، ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يخلعها حتى يقضي الله أمره}.

    وفي الأخير سكتوا، وأعلن صلى الله عليه وسلم أن المعركة سوف تقوم غداً، وأن من بايع الله فعليه أن يثبت على بيعة الله عز وجل؛ لأن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] من أصدق من الله؟ من أوفى بعهده من الله؟ من الذي يثيب بالإخلاص إخلاصاً وبالصدق صدقاً إلا الله.

    خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى أحد

    ثم قام صلى الله عليه وسلم فاستنفر الناس، وسأل عن أقرب طريق يخرج منها من المسجد النبوي الشريف إلى جبل أحد -وكلكم يعرف جبل أحد - وأراد صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً أقرب ما بين نقطتين ليختصر الوقت، وليناجز أعداء الله في مكانهم الذي نزلوا فيه، ثم خرج عليه الصلاة والسلام واقتحم مزارع رجال هناك؛ لأن الطرق سوف تبعدهم وسوف تشتت الكتائب والجيش، ففتحت له مزرعة من النخيل لرجل من المنافقين أعمى القلب والبصر، يدعي الإسلام ظاهراً ولكنه منافق.

    دخل عليه الصلاة والسلام مزرعته، ودخلت الجيوش بعده من الصحابة، وقوامهم ألف مقاتل، فلما رأى الرجل ذاك قال: يا محمد! -ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم- لا تدخل مزرعتي؛ فإني لا أبيح لك ذلك، ثم أخذ حفنة من التراب، وقال: والله لو كنت أعلم أنها لا تصيب إلا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لرميت بها وجهه، فغضب الصحابة وتقدم إليه رجل من الأنصار بقوسه فضربه حتى أدماه، وأراد الآخر أن يقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: اتركوه، هذا رجل أعمى الله قلبه وأعمى بصره.

    ووصل صلى الله عليه وسلم إلى جبل الرماة، ولكن في الطريق أتى النفاق العائر، وأتى الفشل والهزيمة في قلوب الذين ما أخلصوا وصدقوا مع الله، والذي لا يصدق في أيام الرخاء لا يصدق في أيام الشدة، فانعزل عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة مقاتل، أي: بثلث الجيش، فقد كانوا ألفاً، فظل يوسوس لهم كالشيطان ويمنيهم، ويقول: خالفوا رأيي وخرجوا من المدينة، والرأي أن نقاتل في المدينة، ولو أطاعوني ما خرجوا، فاستمع له بعض الناس، وقد قال تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].

    وكادت فئتان اثنتان هما بني سلمة وقبيلة بني حارثة أن تسمعا وتفشلا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران:122] همت كتيبتان أن تتراجعا من المعركة: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122] فالله هو الذي عصم وسلم، قال جابر وكان من بني سلمه: نزلت هذه الآية فينا، وما أحب أنها لم تكن نـزلت لأن الله يقول فينا: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122].

    كادوا يستمعون لكلام هذا المجرم الآثم، وكادوا يعودون من الطريق إلى المدينة ولكن الله سلَّم وعصم، فتوجهوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ونزل عليه الصلاة والسلام عند جبل الرماة وأسند ظهره، ورأى كفار قريش تمور في وجوههم الضلالة وتغلي قلوبهم بالبغي، وكانوا تعاقدوا وتعاهدوا ألا يفروا في المعركة أبداً.

    وأتى أبو سفيان قبل المعركة -وهو قائد نحرير نسأل الله أن يغفر له ذنوبه فقد أسلم- وكانت الراية عند بني عبد الدار، وهم أسرة مجيدة عندهم مفاتيح الكعبة، وعندهم اللواء دائماً، فإذا كانت معركة مع قريش سلموا لهم الراية، فأراد أن يحمسهم على المعركة، ويضريهم على القتال، فقال: يا بني عبد الدار! أعطونا اللواء، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم أخذتم اللواء يوم بدر فهزمنا، فاليوم نخاف أن نهزم، فسلموا لنا اللواء، فهموا أن يقتلوه فحال بينهم الناس،وقالوا: كيف نسلم إليك اللواء؟ لأنهم ورثوه كابراً عن كابر.

    فوقفوا هناك، ونزل عليه الصلاة والسلام ورأى أن ذاك الرجل الداهية والعسكري الفارِه أبو سفيان قد غلب على المكان، وهو مخطط جهبذ علمته التجارب، فأخذ جبل أحد وهو الجبل الذي يضرب به صلى الله عليه وسلم الأمثال في الحديث، ويقول: مثل جبل أحد، ويقول: {جبل أحد جبل يحبنا ونحبه} فأخذ أبو سفيان الجبل وراء ظهره ليحمي ظهره وظهر الجيش، وسبق إلى المكان، فتلفت صلى الله عليه وسلم فلم يجد إلا الصحراء وراءه، وفي الأخير وجد الجبل الصغير جبل الرماة، فتمركز فيه صلى الله عليه وسلم، واختار خمسين مقاتلاً من أصحابه، وقال: أميركم عبد الله بن جبير، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل إذا رأيتموهم اقتربوا، ولو رأيتم الطير تتخطفنا فلا تنـزلوا من الجبل أبداً حتى نهاية المعركة، هذا رأيه صلى الله عليه وسلم، وهو من أحسن الآراء.

    وأتى عبد الله بن جبير فلبس أكفانه لأنه صدق مع الله، وهو أمير الخمسين ووقف على رأس الجبل، وأتى صلى الله عليه وسلم قبل المعركة فسل سيفاً بيده، وقال: {من يأخذ هذا؟ -هذه جائزة المعركة، وهذه هي المباراة العظيمة التي تمتحن فيها القلوب والأرواح إلى الله عز وجل- فكل الأيادي امتدت إلى أخذ السيف، فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فأحجمت الأيادي لأن الحق صعب، وهم لا يدرون ما تحت هذه الكلمة، فقال أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به أعداء الله حتى ينحني، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه ثم أخرج لفافة حمراء فلف بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت} ومعنى هذه العصابة: خطر ممنوع الاقتراب، أي: أن هذا هو الموت فمن أراد أن يقترب فهذا الموت أحمر.

    فأخذها ثم أخذ يتبختر ويمشي أمام صفوف القرشيين، وقد آتاه الله بسطة في الجسم، فقد كان كالأسد.

    فجرد حسامك من غمده     فليس له اليوم أن يغمدا

    ثم أخذ يختال أمام الكفار كأنه يقول: من كان في رأسه حب لم يطحن فسوف أطحنه هذا اليوم، ثم اقترب رضي الله عنه وهو ينشد ويزمجر بنداء الموت ويقول:

    أنا الذي عاهدني خليلي     ونحن بالسفح لدى النخيل

    ألا أقوم اليوم في الكيول     أضرب بسيف الله والرسول

    يقول: أنا الذي عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أقف في آخر الصفوف، عاهدته بين النخل، وسوف أضرب بسيف الله وسيف الرسول، وسوف ترون ماذا أصنع، قال الزبير بن العوام: فتتبعته أنظر ماذا سوف يفعل؟ فوالله لقد رأيته يضرب بها هام الأعداء فينزلها في الأرض.

    فعليه فصل الرءوس وعلى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يقسم التركة.. يعطي الجدة السدس، ويعطي البنت النصف.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088932109

    عدد مرات الحفظ

    779971761