إسلام ويب

حياة شيخ الإسلام ابن تيميةللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أخرج الله لهذه الأمة رجالاً يجددون لهذه الأمة أمر دينها، فينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية.

    والمتأمل في سيرته في مجال الدعوة، والعلم والتأليف، والتدريس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، ومحاربة البدع، يعجب أشد العجب من هذه الشخصية الفذة كيف جمعت تلك الأوصاف.

    1.   

    ثلاثة أمور مهمة تتعلق بالعلم والدعوة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الجمع المبارك الكريم: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. سلام الله عليكم يوم اجتمعتم على ذكر الله.. وسلام الله عليكم يوم تعلقت قلوبكم لمرضاة الله.. وسلام الله عليكم يوم أتيتم لتسمعون دعاة الله، وتراجم أئمة هذا الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

    معنا اليوم إمام عملاق، وجهبذ قدير، وعظيم في هذا الدين.. معنا مجدد من المجددين، وزاهد من الزاهدين، وعابد من العابدين، وعالم من العاملين بعلمهم.. معنا ابن تيمية، وينبغي أن تعرفوا ابن تيمية معرفة واسعة مكثفة.

    اسمه: أحمد بن عبد السلام بن عبد الحليم بن تيمية الحراني.

    ولد سنة (666هـ) وتوفي سنة (728هـ).

    وقبل أن نبدأ في ترجمة الرجل أبين لكم ثلاثة أمور لا بد أن تعرفوها:

    الأمر الأول: العلماء هم الدعاة والدعاة هم العلماء؛ فلا علم إلا بدعوة ولا دعوة إلا بعلم، يقول الله تبارك وتعالى مندداً ببني إسرائيل حينما توقف علماؤهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:63] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

    الأمر الثاني: زكاة العلم نشره؛ فعلم لا ينشر بين الناس ولا ينفق منه كنزٌ مشئوم على صاحبه.. يقول أبو إسحاق الألبيري، يوصي ابنه بطلب العلم، ويمدح العلم، ثم يوصيه بنشره فيقول:

    هو العضب المهند ليس ينبو     تصيب به مضاربَ من أردنا

    وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً     خفيف الحمل يوجد حيث كنتا

    يزيد بكثرة الإنفاق منه     وينقص إن به كفاً شدتا

    الأمر الثالث: تهاون العلماء بالدعوة هزيمة للأمة؛ فما تأخرت أمة الإسلام ولا انهزمت ولا انحصرت إلا بسبب تهاون بعض العلماء عن إبلاغ دعوة الله، وعدم جلوس العلماء مع الأمة وتفهيمها، والله تبارك وتعالى يقول: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف:175-176].

    معنى الآية: مثل هذا العالم الذي ما نفع نفسه وما نفع الأمة كمثل الكلب، والكلب يلهث ويمد لسانه دائماً وأبداً، سواء أكان في الظل أم في الشمس سيَّان، فهذا السيء المشئوم سواء تعلم أو لم يتعلم فحاله حاله لم يتغير.

    1.   

    مؤهلات ابن تيمية في مجال الدعوة

    ابن تيمية ولد في بيتٍ ملتزم عابدٍ زاهد يريد وجه الله والدار الآخرة، ونشأ على هذه الحياة.

    بعضنا الآن عمره عشرون سنة ولا يعرف كيف يشتري الخبز من الفرن، والبعض عمره عشرون أو ثلاثون سنة وما يعرف البدهيات في هذا الدين؛ إنما هو سبهلل أخبل.

    وهذا عمره ثمان سنوات ويمرغ وجهه في التراب مع الفجر، ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.. ويبكي.

    انظر إلى مستقبل هذا الذي يدعو دائماً، وينيب إلى الله ويمرغ وجهه في التراب، فعلَّمه معلم إبراهيم وفهمه مفهم سليمان، وأعطاه علماً لا كعلم بعض الناس، وفهماً لا كفهم بعض الناس.. علم اخترق به ما يقارب عشرة قرون، وأمضاه هذا العلم حتى أصبح مجدداً لمئات السنوات.

    يقول مستشرق فرنسي وهو يترجم لـابن تيمية ويأخذ كلامه في التربية وعلم النفس: ابن تيمية وضع ألغاماً في الأرض، فجر بعضها ابن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر.

    ومؤهلاته في مجال الدعوة خمسة مؤهلات:

    الإخلاص والنصيحة عند ابن تيمية

    المؤهل الأول: الإخلاص والتجرد والنصيحة.. فقصده وجه الله عزوجل، ومراده ما عند الله والدار الآخرة.

    ولذلك أنصح نفسي وإياكم إذا أراد أحدكم أن يتكلم بموعظة، أو أراد أن يتحدث بحديثٍ في ناد، أو يلقي قصيدة في أمسية، أو يشارك بكلمة في حفل أو سمر؛ أن يصحح نيته ويقف مع نفسه وقلبه ويقول: ماذا أريد بهذه الكلمة؟ أليمدحني زملائي؟ أو يثني عليَّ مشرفيّ.. أم ماذا؟

    فلذلك ينبغي أن نقف مع أنفسنا، ونمحص قلوبنا.

    وابن تيمية كان من هذا الطراز؛ من المحاسبين لأنفسهم دائماً وأبداً.

    يقول شيخ الإسلام: ينبغي الاعتناء بقوله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين؛ فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم} وكثيراً ما كان ابن تيمية يعيد هذا الحديث ويشرحه؛ فقد شرحه في الفتاوى، وذكره عنه ابن القيم في الوابل الصيب.

    وكان يكرر ويعيد دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} ومعنى هذا الحديث: أن تنصح ولا تفضح، فالدين النصيحة وليس الفضيحة.

    كتب الإمام الشافعي للإمام أحمد يخبره بأصول الدعوة؛ والإمام أحمد يعرف أصول الدعوة، ولكن الإمام الشافعي يريد أن يخبر غير الإمام أحمد؛ كأنه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة.

    يقول الإمام الشافعي:

    أحب الصالحين ولست منهم     لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وهذا تواضع منه.

    والآن الإنسان منا الذي لا يصلي الفجر في جماعة، إذا قلت له: أنت لست من الصالحين؛ قام لمضاربتك وقال: مَنْ في الوجود من الصالحين إذا ما كنت أنا، أما تعرفني؟! فمن تقصيرنا ونقصنا ندعي الصلاح.

    أما الشافعي لإمامته وجلالته وزهده وعبادته يقول:

    أحب الصالحين ولست منهم     لعلي أن أنال بهم شفاعة

    وأكره من تجارته المعاصي     ولو كنا سواءً في البضاعة

    ثم يقول:

    تعمدني بنصحك في انفراد     وجنبني النصيحة في الجماعة

    أي: إذا أردت أن تنصح أخاً لك ثوبه طويل؛ فلا تأت من عند المكرفون وتقول: يا فلان بن فلان ثوبك طويل، الله يجزيك بما أنت أهلٌ له، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إما أن يصلحك أو يزيلك.. فهذا مبدأ خطأ، وأسلوب غلط، يلغيه الإمام الشافعي والإمام أحمد، ويتفق الجمهور على إلغائه، بل هو شبيه بالإجماع.

    تعمدني بنصحك في انفراد     وجنبني النصيحة في الجماعة

    فإن النصح بين الناس نوعٌ     من التوبيخ لا أرضى استماعه

    فإن خالفتني وعصيت أمري     فلا تجزع إذا لم تعطَ طاعة

    وكثير من الناس يظن أنه يدعو إلى الله وهو ينفر عنه بشدته وكلماته السيئة.

    فالمقصود: أن ابن تيمية كان يريد النصيحة لعباد الله عزوجل، ويريد أن يهدي القلوب إلى الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النعم}.

    إذاً ماذا نفعل مع الناس؟

    الأمر الأول: إذا أردنا أن نتحدث مع الناس فيجب أن نكلمهم على أنهم بشر وليسوا ملائكة.

    الأمر الثاني: أن نتكلم معهم بخلق حسن، ووجه منبسط ضاحك.. بالبسمة والكلمة الطيبة.. ولا نأتي إلى المسلم ونمسكه من تلابيب ثوبه ونجره، ونقول: اتق الله عزوجل، احضر الصلاة في المسجد، قصر ثيابك، ربِّ لحيتك... هذه أوامر سلاطين المغول والتتر والبرابرة!

    أما المسلم فإنه يعتني بالدعوة، ويعرف أنه يسير على منهج محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يقول الله فيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    يقول ابن تيمية في مختصر الفتاوي: بعض الناس يتعصب لهوى، أو مذهبٍ، أو طائفةٍ، أو حزب؛ فيجعلها هي المقصودة بالدعوة، وهذا أخطأ خطأً بيناً، فإن المقصود بالدعوة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس الحزب، وليست الطائفة، وليست الفرقة، وليس الرأي الذي يدعو إليه.

    ويقول في باب الإخلاص، في مختصر الفتاوي أيضاً: من أراد أن يبحث عن منصب في الدنيا فليعلم أنه لن يحصل على منصب أرفع من منصب فرعون.. ولكن أين فرعون؟! يعرض على النار غدواً وعشياً، يفطر ويتغدى في النار النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] هذا الفطور والغداء، وأشد العذاب: العشاء.

    ولذلك يسمى هذا: المنشر والمحشر؛ فالمنشر أن تخرج بالغنم في الصباح، والمحشر أن تردها في المساء. فيقول: أما المنشر ففي القبر، والمحشر يوم القيامة.

    فـابن تيمية يقول: إن كنت تريد المنصب فانظر إلى فرعون صاحب المنصب، وإن كنت تريد المال فاعلم أن قارون حصل على مالٍ كثيرٍ لا تحصل عليه أنت.. فكيف كانت عاقبتهما؟!

    فعليك بإخلاص العمل لوجه الله؛ فإن وجه الله هو الباقي وما سواه فان.

    العمل بالعلم

    المؤهل الثاني من مؤهلات ابن تيمية في النصيحة والدعوة إلى الله عزوجل: العمل بعلمه وتقواه لربه تبارك وتعالى.. وعلم ليس فيه عمل ولا خشية ولا ابتهال؛ إنما هو حفظ للمعلومات، وسلة مهملات يحفظها الإنسان في ذهنه ولا تنفعه أبداً، ولا تقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وعمله بعلمه له جوانب:

    الجانب الأول: الزهد..

    فقد كان منقطع النظير في الزهد، وللعلم فإن ابن تيمية رحمه الله لم يتزوج.. وترك الزواج ليس من الزهد، بل من الزهد أن تتزوج؛ لأن أزهد الناس عليه الصلاة والسلام وهو أكثر الناس نساءً، وعلي رضي الله عنه كان من أزهد الناس على الإطلاق وعنده أربع زوجات وتسع إماء.. فتركُ الزواج ليس من الزهد، لكن ابن تيمية لم يتركه تزهداً، وما تولى منصباً في حياته بالإجماع.

    فقد جاء في كتاب العقود الدرية لـابن عبد الهادي، وكتاب الأعلام العلية للبزار: أن ابن تيمية كان له ثوب أبيض، وعمامة بيضاء من الخام العادية، وكان ربما ارتدى في البرد ثوبين، فقد كان ذات مرة يمر في سكة من سكك دمشق فمر به فقير يسأله، فبحث في جيوبه فلم يجد شيئاً من الدراهم والدنانير، فاختفى وراء سور ثم خلع ثوبه الأعلى وطواه وأعطاه المسكين. ومرة يسأله مسكين فيبحث فلا يجد إلا ثوبه الذي عليه؛ فيأخذ العمامة فيقسمها نصفين ويلف رأسه بنصفها ويعطي المسكين النصف الآخر.

    يقول صاحب الأعلام العلية: تأتيه الدنيا من ذهب وفضة وجوار وخيول إلى غير ذلك فينفقها من ساعتها، ولا يدخر درهماً واحداً.

    أما في جانب الشجاعة؛ فحدث عنه ولا حرج.. وقف مع سلطان المغول لما دخل دمشق وحدثه بقوة وجرأة منقطعة النظير.. المغول (التتار) الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وما وقف أمامهم أحد من الناس، كانوا يموتون قبل أن يقتلوا من خوف التتار، وبلغت الذلة بالمسلمين في تلك الفترة أنه كان التتري يأتي فيقول للمسلم: انتظر هنا حتى آتي بالسكين فأذبحك بها؛ فيقف المسلم منتظراً، وفاء بالعهد، لأنه لا يريد أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاثٌ من كنَّ فيه كان منافقاً -منها-: وإذا وعد أخلف} فمن أمانة هذا المسلم أن وقف ينتظر حتى يذهب التتري إلى البيت ويأتي بالسكين فيذبحه كما تذبح الشاة!!!

    بل بلغ من الذلة في فترة من الفترات -ويرويها ابن كثير -: أنه كان يقول التتري للمسلم: ضع خدك على هذه الصفا حتى أذهب وآتي بالسكين.. فيضع خده على الصفا -ما شاء الله تبارك الله، الطاعة في موضع المعصية- فيأتي ذاك بالسكين ويذبحه بها.

    ولكن ابن تيمية لم يرض بهذا المبدأ.. فقد دخل التتار دمشق في رمضان، وأرادوا اجتياحها ليلحقوها بـبغداد، التي فعلوا فيها الأفاعيل؛ فقد أخذوا الكتب وقذفوا بها في نهر دجلة ونهر الفرات حتى تغير لون الماء.. والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ أن الكتب التي ضاعت في النهر هي كتب الفلسفة وكتب الخزعبلات، أما كتب الحديث والتفسير والفقه وكل ما يتعلق بدعوة الإسلام فقد حفظها الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] وأما كتب الخزعبلات فأغرقت في النهر فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].

    دخل التتار يوم الجمعة في رمضان، فخرج رحمه الله وجمع الناس وسل سيفه، وقال: أيها الناس! أفطروا هذا اليوم.. ثم تناول كوباً من الماء أمام الناس فأفطروا، ثم قال للسلطان: ينبغي عليك أن تنـزل الجيش من الثكنات للقتال؛ فأنزل الجيش، وبدأت المعركة وشيخ الإسلام في المقدمة، وكان يقول: والله لننتصرن هذا اليوم. فيقول له تلاميذه: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

    وذكروا عنه: أنه كان إذا ضرب بالسيف تتكسر شظاياه على رءوس الناس.. وقد آتاه الله قوة في الجسم وبسطة؛ لأن الرجل زعيم يريد أن يقود أمة.. فهو مفكر وموجه ومنظر.

    وكان يدخل على السلاطين فيكلمهم بجرأة حتى يرتعد منه السلطان.. مع أن السائد في مفهوم الناس أن الإنسان يرتعد إذا دخل على السلطان، لكن ابن تيمية يدخل على السلطان فيرتعد السلطان لا أن يرتعد ابن تيمية، حتى قال مرة لسلطان دمشق: ماذا تريدون غير تحكيم كتاب الله عزوجل؟

    فقال له السلطان: إنني سمعت أنك تريد ملكي وملك آبائي. فقال له ابن تيمية: أريد ملكك وملك آبائك؟! والله ما ملكك وملك آبائك يساوي عندي فلساً واحداً.. ثم خرج وتركه.

    الأخلاق عند ابن تيمية

    وأما مؤهلاته في عالم الأخلاق؛ فقد آتاه الله تعالى حسن الخلق، لولا بعض الأمر الذي سوف أبينه وهو أنه كان فيه حدّة لقوته، حتى يقول شاعر من اليمن وهو يمدح شيخ الإسلام ويرد على السبكي، يقول:

    وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته     يكاد يخشى عليه من تلهبه

    يمدح ابن تيمية بأنه إذا سال ذهنه في الكتابة والتأليف يخشى أن تحترق ثيابه وملابسه من كثرة ذكائه.

    فأكسبه هذا الذكاء حدة في الطبع، فكان يرد بعنف، لم يكن عنده إلا نسف وتدمير للجاهلية، ولا يعرف بناءً وتعميراً لها: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25].

    لذلك ألف رسالة التدمرية؛ وهي لأهل تدمر في الشام، لكنها تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] حتى إن أكثر الطلبة في أصول الدين لا يرسبون إلا في التدمرية.

    والمقصود: أن ابن تيمية كان عنده من الصبر الشيء العجيب، فقد كان له خصوم من العلماء، يريدون قتله ولو قلت لأحدهم تمنَّ. لقال: أتمنى أن يقتل السلطانُ ابن تيمية لنرتاح.. لماذا؟ لأنه اجتاح الدنيا، حتى أصبح التاريخ كله، يقول ابن كثير: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية في السجن.. فقد نُسي التاريخ، ونسيت السلطان، ونُسي الدولة، وأصبح التاريخ كله ابن تيمية، وعليكم أن تقرءوا البداية والنهاية في الجزء الرابع عشر، يقول: ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجاهد النصيرية في جبل كسروان، ودخلت سنة كذا وكذا وفيها كان ابن تيمية يجلد البطائحية الصوفية في السوق.. فإذا خرجت ضحى النهار وجدت ابن تيمية يجلد المخالفين في السوق، ويقيم الحدود، وتأتي يوم الجمعة وإذا به على المنبر يزلزل كأنه صاعقة، وتأتي بعد الفجر وإذا به يشرح التفسير، وتأتي في الليل وإذا به قائم يصلي لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتأتي وقت الصدقة وإذا به ينفق ويعطي، وهو متبسم.. يصدق فيه قول القائل:

    محاسنه هيولى كل حسن     ومغناطيس أفئدة القلوب

    يقول ابن القيم: مات أحد أعداء ابن تيمية من العلماء، فأتيت أبشره؛ فاحمرَّ وجهه ودمعت عيناه وقال: تبشرني بموت مسلم..! ثم قام فقمنا معه، حتى ذهب إلى بيت خصمه الذي كان يعاديه، والذي أفتى بقتله، قال: فدخلنا على أهله فسلم ابن تيمية عليهم وعزاهم ودعا لميتهم، وقال: أنا أبوكم بعد أبيكم، ما تحتاجون إليه فارفعوه إليَّ. قال: فبكى أهل البيت تأثراً من هذا الموقف.. بالأمس أبوهم ألد الأعداء لـابن تيمية واليوم يقول ابن تيمية هذه الكلمات الطيبة.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].

    اعتصام ابن تيمية بالكتاب والسنة

    المؤهل الرابع لـابن تيمية في مجال دعوته: اعتصامه بالكتاب والسنة.

    يقول في المجلد العاشر من فتاويه: وعلى طالب العلم أن يعتصم بالدليل في كل مسألة، وأن يترك كل رأي يخالف ما فهمه من كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه المعصوم.

    ولما اعتصم بالكتاب والسنة رزقه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تمييزاً وذكاءً وفهماً، فيأتي ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في الأسماء والصفات، ووسط في الوعد والوعيد، ووسط في الإيمان، ووسط في القدر، ووسط في النظر، ووسط في الأمر بالمعروف، ووسط في الفقه. وسوف أفصل لكم هذه السبع النقاط، وهي جديرة بمحاضرة وبكتيب صغير تجمع فيه؛ لأنها من أحسن ما كتب ابن تيمية في كتبه.

    فأما في القدر فيقول:

    أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية.

    فإن الجبرية يقولون: إن العبد مجبور على فعل المعصية والقدرية يقولون: الأمر أنف، وما قدَّر الله شيئاً قبل أن يحدث، فإذا حدث علم الله به.

    فـابن تيمية يتوسط بـأهل السنة والجماعة في هذا، وليُعلم أن ابن تيمية هو المنظر لـأهل السنة والجماعة.

    صحيح أن العقيدة محفوظة في الكتاب والسنة، لكن ابن تيمية جمع أقوال الفرق، ومحضها، وصحح مسارها، ثم اختار منهج أهل السنة والجماعة، وقرره، وحدده، ورسمه للناس، وما أعلم أحداً قبل ابن تيمية نظَّر هذا المنهج العقدي المنظم لـأهل السنة والجماعة.

    ويقول: أهل السنة والجماعة وسط في باب الإيمان بين الخوارج والمرجئة.

    فإن الخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة كافر. فإذا شرب الإنسان الخمر عند الخوارج كفر بالله العظيم، واستبيح دمه وعرضه.

    والمرجئة يقولون: العمل لا يدخل في الإيمان، فلك أن تقول: لا إله إلا الله، ثم لا تصلي أبداً وأنت مؤمن، والذي يصلي ويتقطع ظهره من قيام الليل فأنت وهو في ميزان واحد، والذي يشرب الخمر في المقهى -على مبدئهم- والذي يقوم الليل ويبكي سيان؛ لأن الإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والعمل لا يزيد في الإيمان ولا ينقصه.

    ولكن ابن تيمية لا يرى هذا، بل يقول: أهل السنة وسط، فلا نكفر صاحب الكبيرة ولكنه فاسق، ولا نخرج العمل من الإيمان بل العمل من أركان الإيمان.

    ويقول: أهل السنة في باب الأسماء والصفات وسط بين المعطلة من والجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وبين المشبهة وهذا له مجالات خاصة، لكن أريد أن أعرض لكم شيئاً من فهم الرجل لهذا الدين.

    يقول: وهم وسط في النظر والفكر. فإن الفلاسفة يقولون: الدين أن تفكر فقط.. فهم لا يعرفون (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) يصلون في المسجد لكنها صلاة ميتة مثل صلاة البدو. ولذلك يقول في المجلد الرابع: أهل الكلام بمنـزلة المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فـأهل السنة وسطٌ في إعمال الفكر، بخلاف أهل الباطل الذين يقولون: اذكر الله وسوف يفتح الله عليك ويلهمك، والعلم معروف، وهذه القضايا التي تقرءونها معروفة، فتجد بعض الطلاب يذاكر في الامتحان وزميله الفاشل العاطل الباطل لا يذاكر، فإذا قلت له: لماذا لا تذاكر؟ قال: الحمد لله هذه مفهومة، وهي قضايا مسلمة وسهلة، فلماذا أجهد نفسي وأضيع وقتي في هذا الكلام. فدائماً أهل البطالة والعطالة يرسبون.

    فيقول ابن تيمية: أهل السنة والجماعة وسط، يعملون الفكر ويشتغلون بالذكر... فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

    ويتوسط في كتاب الاستقامة ويقول: أهل العلم في باب الفقه ثلاث طوائف:

    فطائفة حكمت الرأي.. كبعض الأحناف، فقط حكموا الرأي، وعندهم افتراضات دائماً: لو حدث كذا لصار كذا، ولو صنع كذا لصار كذا، حتى إن بعض الفقهاء يمزحون على الأحناف ويقولون: لو خرجت سمكة من البحر فصلت بالناس جماعة ثم عادت إلى البحر، فهل صلاتها صحيحة؟ وهذا من كثرة افتراضاتهم.. هذه الطائفة الأولى.

    وأتى ابن حزم الظاهري وقابل هذه الطائفة.. فأولئك غلوا في جانب الرأي، ولا يوجد دليل، وابن حزم أتى في الطرف الآخر وقال: القياس ملغي، والإجماع فيه شيء، فأرى أنه لا بد لكل مسألة من دليل، والدليل ظاهر الكلام.

    يقول في المحلى فالاضجاع واجب عند ابن حزم، ومن لم يضطجع لم تجزئه صلاة الفجر لحديث: {إذا صلى أحدكم سنة الفجر فليضطجع على شقه الأيمن}.

    وأتى ابن تيمية فقال: منهج التطرف في الرأي فيه شيء من الخطأ، ومنهج التطرف في الظاهر فيه شيء من الخطأ، والأحسن أن نأخذ الأدلة ونفهمها كما فهمها الفقهاء والمحدثون من أهل السنة والجماعة.

    بالله لفظك هذا سال من عسلٍ     أم قد صببت على أفواهنا العسلا

    أم المعاني اللواتي قد أتيت بها     أرى بها الدر والياقوت متصلا

    هل هناك فهم كهذا الفهم الذي منحه الله هذا الرجل؟!

    صدق لجوء ابن تيمية وتوكله

    المؤهل الخامس من مؤهلاته في عالم الدعوة: صدق اللجوء وقوة التوكل على الله.

    فقد كان ابن تيمية يجلس بعد صلاة الفجر إلى ارتفاع النهار -كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب - فيكرر الفاتحة حتى يهتز في بعض الأوقات من كثرة ما يجد من يقينٍ وسكينةٍ واطمئنان.. حتى إنه كان يقول لـابن القيم: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

    فكان يكرر الفاتحة حتى يرتفع النهار، ويقول: إنه لتصعب وتستغلق عليَّ المسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله عليَّ.

    لكننا لم نعش هذه المعاني كما ينبغي.. يأتي الواحد منا في صالة الامتحان وهو خائف، ويركز على مذاكرته فقط، ويلمح هل ماسة زميله متقدمة حتى يلقط كلمتين بالرادار مع السرعة والعجلة، أو يرسل برقية للجانب الأيسر يأخذ منه بعض المعلومات للتصحيح!! ابن تيمية لا يرى هذا، يرى أن المدد كل المدد والسبب كل السبب واللجأ كل اللجأ إلى الله، فيقول: كلما استغلقت عليّ المسألة, استغفرت الله ما يقارب الألف أو أكثر أو أقل فيفتحها الله علي.

    وكتاب سيبويه كتاب معقد في النحو، يقولون: نسجه كما ينسج الإنسان الحرير من الهواء, وهو أول كتاب وضع في النحو.. أتى ابن تيمية يبحث عن شيخ يقرأ عليه هذا الكتاب فما وجد, فأخذ القلم والكراسة ثم بدأ يقرؤه من أوله إلى آخره، وأخرج ثمانين خطأ على سيبويه.

    قال أبو حيان صاحب البحر المحيط: إن كتاب سيبويه كتاب عجيب لا يؤلف مثله فقال ابن تيمية:

    نعم! كتاب عجيب لكنه يؤلف مثله، وفي كتاب سيبويه ثمانون خطأ لا تعرفها أنت ولا سيبويه.

    وأتى إلى علم الكلام الذي هو مثل الحديد, فبحث عن شيخ ليقرأ عليه فما وجد، فاستعان باللهَ عز وجل وأخذ كراسة وقلماً وبدأ يقرأ علم المنطق على نفسه، وفي الأخير استظهر علم المنطق، وألف كتابه: الرد على المنطقيين، وخطَّأ فيه ابن رشد , والغزالي , وابن سيناء , والرازي , وخطأ أشياخهم إلى أفلاطون جدهم العاشر، يقول: أخطئوا في هذه المسألة في علم المنطق.

    وفي الحديث يقولون:حديث لا يحفظه ابن تيمية ليس بحديث.. حتى أنه في بعض الأوقات يكتب في المسجد وليس عنده مرجع؛ أما نحن الآن فإذا قلنا لأحدنا: ابحث في المضمضة.. جمع خمسة عشر كتاباً وبحث وفي الأخير يقول: وهذا البحث يحتاج رسالة دكتوراه وما أستطيع أن أحيط به, وعندي مشاغل واهتمامات، وقد بحثت جهدي، وسهرت ليلي، وأفنيت نهاري، وفعلت وصنعت.. ثم يأتي البحث خطأ. أما ابن تيمية فكان يأخذ الكراسة ويبحث من نفسه، فيأتي بالحديث بسنده، ومن قرأ في الفتاوى في باب القصر في السفر وصلاة الجمعة والعيدين، فإنه يجد أنه قد جمع الأحاديث من كتب السنة وهو في السجن، ثم وقف مع كل عالم وأوقف كلاً عند حده، وتكلم مع كل عالم فإذا انتهى منه أخذ العالم الثاني وتكلم معه وناقشه... وهكذا حتى انتهى وحقق المسألة.

    وهذا دليل صدق اللجوء إلى الله، ولذلك أورد عنه ابن القيم في مدارج السالكين: أنه كان يقول بين أذان الفجر والإقامة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث.. أربعين مرة.

    وذكر عنه الذهبي أن عينيه كأنهما لسانان ناطقان يكاد أن يكلمك باسمك قبل أن تتكلم عنه، وهذا من كثرة الذكر والذكاء.

    ولذلك يقول المزي صاحب تحفة الأشراف: ما أظن أنه وجد كـابن تيمية من خمسمائة سنة.. نقلها صاحب طبقات الحنابلة ابن رجب الحنبلي في ترجمة ابن تيمية وكانت فيما يقارب ثلاثين صفحة.

    وقال الذهبي عنه في معجم الشيوخ: لو حلفت بين الركن والمقام أني ما رأيت كـابن تيمية لصدقت، ولو حلفت بين الركن والمقام أنه ما رأى مثل نفسه لصدقت.

    ويقول ابن دقيق العيد كما ينقل عنه ابن رجب في طبقات الحنابلة أيضاً: والله ما أظن أن الله يخلق مثلك.

    وابن دقيق العيد هو مجدد الشافعية في القرن السادس، وهو رجل موهوب، يأتي بالمعاني الدقيقة، حتى إنك تبقى في المعنى الواحد ساعتين وأنت لم تفهم سطراً واحداً.

    أما كثرة اللجوء والذكر فحدِّث ولا حرج، يقولون: ما كان لسانه يفتر من ذكر الله عزوجل دائماً وأبداً؛ حتى قال له بعض تلاميذه: نراك ما يفتر لسانك من ذكر الله. قال: قلبي كالسمكة إذا خرجت من الماء ماتت، فإذا تركته من الذكر مات.

    ويقول عنه ابن القيم: رأيته في السجن وهو ساجد يبكي ويقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.. يرددها ليلاً طويلاً.

    وأما صلاته؛ فكان يصلي بعض الأحايين بالناس في مسجد بني أمية في دمشق، وكان إذا قال: الله أكبر؛ رفع صوته حتى يسمعه من في الطرقات، فتكاد تنخلع القلوب إذا كبر.. ويروي ابن القيم في روضة المحبين ونزهة المشتاقين عن تقي الدين بن شقير: أنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية صلى صلاة العصر في مسجد بني أمية، ثم خرج إلى الصحراء وحده، قال تقي الدين بن شقير وكان من تلاميذه: فخرجت وراءه حيث أراه ولا يراني، فلما توسط الصحراء رفع طرفه إلى السماء وقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ثم بكى، ثم قال:

    وأخرج من بين البيوت لعلني     أحدث عنك النفس بالسر خاليا

    وهذا البيت لـمجنون ليلى، يقول:

    وأخرج من بين البيوت لعلني     أحدث عنكِ النفس بالسر خاليا

    وإني لأستغشي وما بي غشوة     لعل خيالاً منكِ يلقى خياليا

    فأخذه ابن تيمية واستخدمه في جانب المحبة الواجبة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله، لا محبة النساء، ولا الأوثان، ولا الصلبان، ولكن جعله في حق الحي القيوم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    هذا موقفه من اللجأ وقوة التوكل؛ ولذلك يقول ابن رجب: إن من الأسباب التي منعته وحمته من كيد الأعداء: كثرة الذكر والأوراد التي ما كان يُخلُّ بها.. كان له بعد كل صلاة ذكر يذكر الله به؛ فحماه الله تعالى من الحسدة والحقدة، ومن الأعداء والخصوم، فما استطاعوا أن يكيدوا له أبداً، وكلما كادوه رفع الله منـزلته.

    معرفة الواقع عند ابن تيمية

    المؤهل السادس من مؤهلات ابن تيمية رحمه الله في عالم الدعوة: معرفته لواقعه وحال عصره.

    وبعض الناس يعيش هذا العصر وهو يعيش في القرن الثالث، عقله وفكره ومعرفته في القرن الثالث، لكن ابن تيمية يعيش في القرن السابع؛ ويعرف مشاكل العصر ومتطلباته، وماذا يريد منه أبناء العصر، ولذلك عرف الكتاب والسنة، وعرف هذا الدين، ثم أتى يتكلم إلى الناس بواقع العصر. واقرءوا إن شئتم كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم، الذي سماه محمد حامد الفقي: القنبلة الذرية.. لا. ما صنعه اليهود والنصارى.. هذا الكتاب ينبغي أن يقرأ وأن يكرر وأن تحفظ منه جمل؛ فإنه كتاب ألفه ابن تيمية بعد أن بلغ النضوج والنبوغ مبلغه في ذهنه، فألف هذا الكتاب وهاجم فيه الجاهلية التي عاشرها، وعراها وفضحها.

    واقرءوا -إن شئتم- السياسة الشرعية؛ لتعرفوا مدى فهم هذا الرجل للدين.

    ومعرفته لواقعه وحال عصره؛ أفاده ذلك حيث كان يضع الدواء على الداء، ويضع الأمور في نصابها، فقد حلَّ كثيراً من مشكلات عصره، وصحح كثيراً من الأخطاء التي عاشها في عصره، وعالج كثيراً من الأمراض التي رآها في عصره.

    1.   

    وسائل الدعوة عند ابن تيمية

    وسوف نتكلم هنا عن وسائل دعوة ابن تيمية، ووسائل دعوة ابن تيمية ثلاث وسائل:

    التأليف والكتابة عند ابن تيمية

    الوسيلة الأولى: التأليف والكتابة؛ وهي على ثلاثة أقسام:

    الرسائل، والردود، والمصنفات الكبار.

    وهذه الوسيلة التي استخدمها ابن تيمية في الدعوة؛ هي أكبر وسيلة نفذ بها حتى بلغ بها هذا العصر، ونفع بها أهل هذا العصر.

    فالرسائل: إما أن يسأل عن قضية فيجيب عليها -رحمه الله- كـالحموية لأهل حماة، والواسطية لأهل واسط، والتدمرية لأهل تدمر، فيرسل الرسائل للناس، ينفعهم ويفيدهم، ويقودهم إلى الله عزوجل. ويقول في مقدمة اقتضاء الصراط المستقيم: سألني بعض الإخوة أن أؤلف لهم كتاباً يبين هذه المسائل فأجبت سؤالهم.

    أما الردود: فكان -دائماً- مشغولاً بالرد على الأفكار التي تجتاح أصول الدين وتؤثر فيها، فكتابه الصارم المسلول سببه أنه سمع أن نصرانياً يشتم الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى السلطان فشكا النصراني، فشهد العوام الحمقى للنصراني على ابن تيمية!

    نصراني، وشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكاه ابن تيمية عند سلطان المسلمين، فأتى العوام فقالوا: لا. الحق مع النصراني والخطأ مع ابن تيمية!! فأتى السلطان وجلد ابن تيمية في المجلس؛ لكن:

    إن كان سركمُ ما قال حاسدنا     فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ

    فما دام الجلد في ذات الله فأهلاً به وسهلاً.

    فخرج مغضباً من المجلس، وكتب الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقد أبدع في هذا الكتاب أيما إبداع، ونزل فيه على اليهود والنصارى بحكمةٍ وأناةٍ ودليل.

    ومن الردود: الرد على الأخنائي، وهو مالكي، رد عليه في مسألة الزيارة، ورد على السبكي كذلك في الزيارة؛ وهو في الفتاوى، لكن كتاب الرد على الأخنائي مستقل.

    ومنهاج السنة رد به على الشيعة، يقول في أوله: يقول عامر الشعبي: قاتل الله الشيعة، لو كانوا من الطيور كانوا رخماً، ولو كانوا من الوحوش كانوا حُمُراً.

    ويقول: هم من أجهل الناس في المنقولات، ومن أضلهم في المعقولات.. حشفاً وسوء كيلة.

    أما المصنفات الكبار: فقد ألف درء تعارض العقل والنقل؛ وهذا الكتاب من يفهمه فهو من أذكى أذكياء العالم. يقول ابن القيم: ما طرق العالم مثل هذا الكتاب بعد كتاب الله عزوجل والسنة المطهرة، وقد رد في أوله على الرازي وقال: قال الرازي: عند تعارض الدليلين المتضادين (العقل والنقل) إما أن نقدم العقل، وإما أن نقدم النقل، وإما أن نبطلهما، وإما أن نعمل بهما؛ فقال شيخ الإسلام: لا تعارض بينهما، وألف هذا الكتاب.

    تفاعل ابن تيمية مع قضايا الناس

    ومن وسائله في إبلاغ الدعوة: اللقاء مع الناس،.. ولقاؤه مع الناس على ثلاث طوائف:

    التقى مع العلماء، والتقى مع السلاطين، والتقى مع عامة الناس.

    فأما العلماء: فكان يلتقي معهم ويخرج وهو أذكى وأقوى من في المجلس، وقد جُمع له قاضي قضاة الحنابلة في الشام، وعالم الشافعية ابن الزملكاني، وعالم المالكية الأخنائي، وعالم الأحناف؛ فاجتمعوا في المجلس، وبدأ كل واحد يتكلم، وابن تيمية ساكت، فلما انتهى الأربعة، عاد ابن تيمية يعيد الشريط من أوله، فقال للمالكي: أما أنت فتقول كذا وكذا، وقد أخطأت في كذا وكذا، وفي كتابكم كذا خطأ كذا... حتى انبهر الناس.. ثم أتى إلى الحنفي وقال: أخطأت في كذا وكذا وكذا.. ثم أتى إلى الشافعي، ثم الحنبلي -وهو في الأصول حنبلي- وفي الأخير كان الناس يهللون ويكبرون ويقولون: فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:119].

    وأما مع السلاطين: فإنه -كما أسلفت لكم- دخل على سلطان الشام وتهدده مرات كثيرة.. بلا سيف، ولا رمح، ولا جيش، ولا جند، ولا شيء، لكن عنده قلب كبير؛ قلبٌ فيه نور وعلم وهداية، وقلبٌ فيه نصيحة وشجاعة ويتحدث ذاك، وعنده الجنود والحرس والجيوش، وهو يرتجف وابن تيمية صامد كالجبل، حتى اضطره إلى أن ينازل التتر.. وكلم قائد المغول فارتجف من شيخ الإسلام، وقال له -وهو لا زال كافراً-: ادع لنا. فرفع ابن تيمية يديه وقال: اللهم إن كان هذا العبد يريد ما عندك فوفقه بهدايتك، وإن كان غير ذلك فاعم بصره واطمس بصيرته.. وذاك يقول: آمين آمين.. ما يدري ما يقول.

    أما الطائفة الثالثة فهم عامية الناس:

    ولما دخل السجن -لا أدخلكم الله السجن- حوله إلى روضة من رياض الجنة.. قرآن وحديث.. صحيح البخاري وصحيح مسلم، فأصبح الناس في السجن ملتحين، والسواك في أفواههم، ويسبحون، ويهللون، فقاد السجن حتى أحياه وأصبح روضة.. وقد تحدث ابن القيم عن موقفه في السجن، وكذلك صاحب العقود الدرية ابن عبد الهادي.

    أما في المسجد: فكان يجلس يوم الجمعة بعد الفجر يفسر القرآن، وقيل عنه: أنه بقي في تفسير سورة نوح خمس عشرة سنة، كان يفسر كل جمعة، وما كان ينتهي من المجلس حتى يرتفع النهار، وحضر مجلسه بعض أهل العلم، وقالوا: لما حضرت المجلس أغلق ابن تيمية عينيه، ثم بدأ يندفع في الكلام، فوالله لكأن القرآن أمام عينيه، وكأن الحديث أمام عينيه، يأخذ منه ما شاء ويترك ما شاء، ووالله لقد استفاد من في المجلس؛ من الصوفية، والفلاسفة، ومن أهل أصول الفقه، والفقهاء، وأهل العقيدة، حتى انبهر الناس، ثم فتح عينه وختم المجلس، ثم اعتذر إلى الجلوس، وسلم عليهم يميناً ويساراً.

    وأما في السوق: فكان يخرج إذا ارتفع النهار ومعه تلاميذه ومحبوه، فيأتي إلى أصحاب المعاصي فيؤدبهم، ويأتي إلى من يشهد الزور ومعه عصا ويأمر تلاميذه أن يجلدوه وهو يعد، حتى ينتهي السوق وقد حاسب المخالفين، ثم يعود إلى هناك.. حتى أصبح يحرك التاريخ.

    أما في المعركة: فقد أسلفت لكم عن شجاعته في المعركة، وبذله وعطائه.

    1.   

    خاتمة فيما لقيه ابن تيمية من الصعوبات

    أما عن الصعوبات التي لقيها ابن تيمية، فهي تتمثل في الآتي:

    أولاً: وقوف السلاطين مع خصومه.

    ثانياً: جرأة وحدة في طبعه رضي الله عنه ورحمه، هكذا خُلق؛ فما كان يلين، بل كان قوياً دائماً، فلو لان لتألف الناس رحمه الله.

    ثالثاً: خطورة القضايا التي عالجها؛ فكان يتكلم في الأصول ولا يتكلم في الفروع؛ ما كان يتكلم في الحيض، والغسل من الجنابة.. مع أن هذه من العلم وهي مهمة، لكنه كان يتكلم في العقيدة والحاكمية، ويتكلم في قيادة الناس إلى الله، ويتكلم في محاربة الطاغوت الحي قبل الميت.. وهنا طواغيت في الأمة الإسلامية يحكمون بغير ما أنزل الله، وتجد بعض الناس يتكلمون دائماً في القبور، وفي النذر، وفي الكواكب، وفي عبادة الشجر، وهؤلاء هم أكبر الطواغيت.. فهو يتكلم إلى الطاغوت الحي قبل الميت.

    رابعاً: كثرة الخصوم وتعدد الجبهات.

    فإلى أين يتوجه ابن تيمية؟ مرة إلى الصوفية، ومرة إلى الفلاسفة، ومرة إلى متعصبة الفقهاء، ومرة يتعرض للمغول من التتر، ومرة يتعرض للظلمة من السلاطين، ومرة إلى جهلة العامة.. ففي كل مكان له كمين.

    من تلظي لموعه كاد يعمى     كاد من شهرة اسمه لا يسمى

    خامساً: الحبس والكبت.

    فقد حبس وكبتت أنفاسه فما يزداد إلا قوة، كالبركان كلما حبسته انفجر بقوة وعنف.

    سادساً: الجلد والتشهير.. فقد جلد وشهر به، وتكلم في عرضه في كل مجلس؛ وما زاده الله إلا رفعة.

    وفي الختام: نجاح منقطع النظير يحققه ابن تيمية في عالم الدعوة، وينتهي إلى أن يُعقد إجماع من قلوب الموحدين في الأمة، ويكون هو رجل الساحة، ورجل الساعة في فترته، ويستمر عطاؤه وبذله حتى هذا الحين، وتحيا كتبه حياة تنفض الغبار عن رءوس الجامدين، وتنفض الجهل عن قلوب الراقدين الغافلين، وتيقظ رءوس اللاهين السادرين.

    فرحمك الله يـ ابن تيمية، وهنيئاً لك الفردوس -إن شاء الله- ونسأل الله أن يجمعنا بك في مستقر رحمته يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم:8] يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الحديد:12].

    ومن أراد منكم أن يتزود من ترجمة شيخ الإسلام فعليه بـالعقود الدرية في مناقب ابن تيمية لـابن عبد الهادي، والأعلام العلية للبزار، وفي طبقات الحنابلة، وفي معجم الشيوخ للذهبي، وفي الدرر الكامنة لـابن حجر العسقلاني، وترجمته في البدر الطالع للإمام الشوكاني.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    1.   

    الأسئلة

    .

    من مواقف شيخ الإسلام في السجن

    السؤال: أرجو أن تزودنا من مواقف ابن تيمية رضي الله عنه في سجنه؟

    الجواب: من مواقف ابن تيمية رحمه الله في سجنه ما يلي:

    أنه لما دخل السجن أغلقوا عليه الباب، نظر إلى الباب، وقال: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].

    ولما دخل السجن وقف يتأمل ثم قال: ماذا يصنع أعدائي بي؟ -انظر هذه الكلمة ما أعظمها!- يقول: ماذا يصنع أعدائي بي؟ ماذا يريدون؟ وأي كيد يكيدون؟ إنهم لا يستطيعون.

    ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي.. أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة مع الله عزوجل.

    رسائل في تكفير ابن تيمية

    السؤال: سمعنا عن رسائل حضرت في تكفير ابن تيمية رحمه الله، أرجو منكم نبذة حول هذه الرسائل إن وجدت؟

    الجواب: أما رسائل الماجستير والدكتوراه لا أعلم شيئاً في ذلك.

    لكن بعض أهل العلم تحاملوا عليه وضللوه، فهذا تاج الدين السبكي يقول في طبقات الشافعية في ترجمة الذهبي: أما ابن تيمية فقد أوقف الذهبي والمزي وفلان وفلان في دكدكٍ من النار.

    ويقول ابن حجر الهيتمي صاحب الفتاوى الكبرى المكية: ابن تيمية عبدٌ أضله الله على علم.

    وهنا من العلماء من أهل البدع من كفره لمسائل.. نسأل الله السلامة، ونسأل الله ألا يجعل فقهنا كهذا الفقه.

    لماذا لا يكون لابن تيمية مذهب

    السؤال: لماذا لا يكون لـابن تيمية مذهبٌ خاصٌ به، مثل: الشافعي وبقية الأئمة، بالرغم من علمه الغزير؟

    الجواب: التمذهب مسألة فيها نظر، وإن أبا حنيفة وأحمد والشافعي ومالك لم يدعوا الناس إلى أن يتمذهبوا بمذهبهم؛ لكنهم لما جمعوا مسائل قلدهم الناس، فأصبح هناك مالكية وشافعية وحنابلة وأحناف، وإلا فـابن القيم يقول في إعلام الموقعين: من خصص هذه الأنفس الأربع بالاقتداء والتقليد من بقية العلماء!!!

    أما ابن تيمية فهو أولاً: اهتم بالأصول أكثر من الفروع، فليس له كتب في الفروع؛ أعني: في فروع دقائق المسائل، لأنه يرى الأصول والخطوط العريضة هي المهمة.

    الأمر الثاني: أن الرجل لا يرى أن يتمذهب لرجل بعينه، بل هو اتباع الدليل في أي مسألة؛ ولذلك ليس بواجب أن تتبع إماماً حتى تموت، ولا أن تكون حنبلياً ولا شافعياً، ولا مالكياً، ولا حنفياً، بل عليك أن تتبع الدليل من المعصوم صلى الله عليه وسلم حتى تلقى الله.

    الأمر الثالث: أن الرجل عاش عصر مشاكل، وفتن، وأزمات؛ أخذت عليه جانب هذه الدقائق، أو تجميع التلاميذ في مذهب خاص.

    السبب في كثرة تأليف ابن تيمية في العقيدة

    السؤال: لماذا كانت أكثر مصنفات ابن تيمية في علم العقيدة؟ وهل له كتب في التفسير والفقه والحديث وغير ذلك؟ وما هي؟

    الجواب: أما سبب كثرة تأليف ابن تيمية في العقائد والأصول؛ فهو لأن الخلاف في الفروع وفي دقائق المسائل أمر سهل، لكن الأصول هي التي يكفر بها الإنسان، ويخرج -نسأل الله السلامة- من الملة فلذلك اعتنى بهذا الجانب.

    أما في جانب الفقه فقد شرح جزءاً من العمدة في فقه الحنابلة ثم توقف.

    وأكثر مصنفاته في الفقه في الفتاوى ما يقارب ستة أو سبعة مجلدات، من المجلد الحادي والعشرين فما بعد.

    وأما الحديث فلم يؤلف كتاباً منظماً على أبواب الحديث، لكنه جمع له في الجزء الثامن عشر من فتاويه في علم المصطلح، رسائل وأسئلة في علم الحديث.. وأكثر مؤلفاته في العقيدة.

    وأما في التفسير؛ فله أربعة مجلدات في التفسير، حتى يقال عنه: إنه كان يطلع في تفسير الآية على مائة تفسير، وبعدها قد لا يطمئن لبعض التفاسير فيمرغ وجهه في التراب ويبكي ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.. ثم يكتب هو بعد.

    وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768238725