وفي هذه المادة عرض لآداب وأحكام السفر.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المصطاف الكريم! حللت أهلاً، ووطئت سهلاً بين إخوانك ومحبيك، سعدنا بك وسعدت بنا يوم جمعتنا بك لا إله إلا الله وقد قال تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
أيها المصطاف الكريم! إنك في رحلتك هذه إلى أماكن النزهة تحمل رسالةً ربانيةً خالدة، إنها رسالتك التي شرَّفك الله بها؛ رسالة الإيمان والتوحيد والطهر والعفاف، رسالة لا تغيب عنك أبداً إلا يوم تغيب أنت عن إيمانك وتوحيدك وإسلامك، يوم تشتري الدنيا بالآخرة وتقبل على غير الله.
هذه الرسالة هي معك وأنت في المسجد، والمكتب والحانوت والحديقة والجبل والبستان، إنها أمانة لا إله إلا الله ولقد قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيها المصطاف الكريم! إن للاصطياف آداباً وأخلاقاً لعلها لا تغيب عنك، فمن هذه الآداب:
من الذي أنبت الشجر؟
من الذي جعل القُمري يهتف على الأغصان؟
من الذي أسرى بالنسيم على الماء؟
قال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5] إنه كتاب الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتاب |
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10].
من الذي رسم هذا الجمال؟ وأبدع هذا الكمال؟
من الذي جعل الرابية تشكو إلى الجبل، والماء يتمتم بالإسرار إلى الزهر، والبلبل ينشد قصيد الشكر على أغصان الشجر؟
انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة |
من الذي أبدعها من حبة مندثرة |
ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة |
ذو حكمة بالغة وقدرةٍ مقتدرة |
أيها المصطاف! إن الدرس العظيم الذي تستفيده وأنت تجوب بسيارتك في هذا الإقليم الجميل، أن تتزود من التوحيد في كل ما ترى وتشاهد قال تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
مالهم لا ينظرون؟!! مالهم لا يتفكرون؟!! مالهم لا يعتبرون؟!!
ما للناس يعجبون من صنع الناس، ومن إبداع الناس ولا يعجبون من صنع رب الناس؟!
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك |
بم عرفت ربك؟ بالآيات، بالعظات، بالعبر في الكون، بالجمال، بالجلال.
إن عليك أيها المصطاف أن تقرأ أسماء الله عزوجل في سمائه وأرضه، وإبداعه وتصويره.
إن أول سورة نزلت على الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] فأين يقرأ الأمي الذي ما كتب، ولا قرأ؟
إنه يقرأ في الكون؛ في الشمس الساطعة وفي النجوم اللامعة، في الليل والنهار، في الجدول والغدير والماء النمير.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد |
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد |
ولا بتصرف أهوج، ولا بأذىً متعمد، قال سبحانه: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة:83] وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب:58] يقول ابن المبارك:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهم كذي الرحم الشفيق |
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق |
وإن من احترام مشاعر الآخرين: صون أعراضهم عن النظر الحرام، وعدم الإزعاج بالتصرف الأهوج من مضايقة في أماكن النزول، أو رفع صوت، أو منعهم من مرفق عام أو منفعة مباحة مشتركة ليست خاصة بأحد.
إن بطون المجاهدين والفقراء واللاجئين بحاجة ماسة إلى ما يلقى في القمائم من الفضلات.
فيا مسلمون! يا مصطافون! ويا أهل الدار! أنتم مدعوون لشكر نعمة الله، فإن نعمة الجو نعمةٌ امتن الله بها على من سبق، قال عن بني إسرائيل: وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ [الأعراف:160] فلا تحرقهم الشمس، ولا يلهبهم النسيم، وإنما يعيشون في رغد من الجو، وفي سعادة من العيش.
وامتن الله عزوجل على قوم بالحدائق والبساتين قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
وإن من حقوقهم أيضاً: أن نعلي منزلتهم احتراماً لهم؛ لأنهم تركوا بلاد الغرب وبلاد الاصطياف الكافرة العاهرة، وبلاد الخمر، وأتوا إلى بلاد الصلاة؛ بلاد لا إله إلا الله، بلاد القرآن، فنعلي منزلتهم احتراماً لهم وتقديراً لهم يوم آثرونا بزيارتهم على الآخرين:
ضيوف الخير قد شرفتمونا بلقياكم ربوع الجو طابا |
فـأبها من زيارتكم تباهت بثوب الخلد أطلقت الضبابا |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
إن من عظمة هذا الدين؛ أنه يصاحب العبد في حله وترحاله، فللمقيم أحكام وللمسافر أحكام، للصحيح أحكام وللمريض أحكام، للرجل أحكام وللمرأة أحكام، دين يسع كل أصناف الناس وكل أقسام البشر وطبقات العالم، دين يعيش مع المسلم في ليله ونهاره، في السراء والضراء، بل يصحبه وهو حمل في بطن أمه إلى أن يدخل إما إلى الجنة أو إلى النار، وما دام المصطاف مسافراً فله أحكام السفر، أقولها تكراراً لمن عرفها، وتعليماً لمن جهلها:
وأما قصر الصلاة فتقصر الرباعية إلى ركعتين، وأما المغرب والفجر فلا قصر فيهما، وأما النوافل الراتبة في السفر فمن هديه عليه الصلاة والسلام ألا يتنفل، لكن لا يسقط الوتر؛ بل يصلى الوتر حضراً أو سفراً.
يقول ابن تيمية: ومن أراد أن يصلي الضحى وهو مسافر فله ذلك لعموم الأحاديث المطلقة للمقيم والمسافر.
وأما الجمع، فكان هديه عليه الصلاة والسلام ألا يجمع إلا إذا جدَّ به السير، إذا كان على جناح السفر، وإذا مشى براحلته، أو انتقل المسافر بسيارته، فإن له أن يجمع الظهر مع العصر إما تقديماً أو تأخيراً، والمغرب مع العشاء إما تقديماً أو تأخيراً، أما إذا نزل المنزل وهو مسافر، فيصلي كل صلاة على حدة قصراً لا جمعاً، ومن اضطر لمشقة النزول، أو كان متعباً فله أن يجمع، لكن السنة المطلقة منه عليه الصلاة والسلام قصر الصلاة في أماكن النزول بلا جمع.
والمسافر إذا ائتم بمقيم، صلى بصلاته الحاضرة وهذه هي السنة كما قال ابن عباس عند البيهقي، لكن جوَّز كثير من المحدثين والعلماء للمسافر إذا أدرك من الرباعية الثالثة والرابعة أن يكتفي بها، ويسلم مع الإمام، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
قال ابن تيمية: ومن اشترط هذه الشروط التي ليست في كتاب الله عزوجل ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما قد وضع الآصار والأغلال التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برفعها عن الأمة قال تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157] فإذا انتهت مدة ثلاثة أيام للمسافر ويوماً وليلة للمقيم، فعليه أن يضع الخفين ويتوضأ ويغسل القدمين ويبدأ مدة جديدة، ومن خلع الخف في أثناء المدة فالأحوط أن يعيد وضوءه من جديد.
إنه دين نظيف راقٍ يرتقي بالإنسان ليكون عليه رداء الطهر والقداسة، فكأن الإنسان يشابه الملك، هذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام.
وإنما نبهت على هذه الأحكام؛ لأن المصطاف وهو مسافر يحتاج إلى مثل هذه الأحكام، وإني أوصي إخواني من المصطافين والمقيمين بكثرة ذكر الله عزوجل، وكثرة التوبة والاستغفار وفعل الصالحات.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.
وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم، وخذ بأيديهم لما تحبه وترضاه.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك في أفغانستان وفلسطين؛ اللهم أيدهم بكلمتك، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم زلزل أعداءهم، اللهم أنزل السكينة عليهم يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر