وفي هذه المادة ذكر لبعض مواقف هؤلاء الأبطال.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من حكمة الله عز وجل أن جعل من أسباب ثبات هذا الدين أن يقوم علم الجهاد، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد:25] فالرسل تأتي بالبينات، وهذه البينات لا تثبت إلا بحديد وقوة وجهاد، فديننا مصحف وسيف، وكان رسولنا عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ويقاتل أمامهم؛ يقوم في الليل قارئاً وتالياً وعابداً وناسكاً، ويحمل السيف في النهار مقاتلاً ومجاهداً ومتقدماً، وكان من لوازم هذه الفترة التي لا تنسى أن نتكلم عن الجهاد الذي عاشه أسلافنا والناس جميعاً لا يعترفون إلا بالقوي، ولا يحترمون إلا القوي إذا لم يكن هناك دين وورع ومخافة من الله.
والعرب في الجاهلية كان بعضهم يزري على بعض بضعفه وذلته وعدم قتاله، يقول أحد شعرائهم وقد سُرقت إبله، فذهب إلى قبيلته يستنجدهم فما أنجدوه وما نصروه، فقال في مقطوعة له:
لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي بنو اللقطية من ذهل بن شيبانا |
يقول: أنا لو كنت من آل فلان، ما أخذ إبلي آل فلان، لكني منكم وأنتم جبناء:
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم هبوا إليه زرافات ووحدانا |
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً |
فلامهم على ضعفهم وجبنهم وذلهم.
وهذا عمر رضي الله عنه وأرضاه يأتيه أناس يشكون أن أحد الشعراء يسب قبيلتهم، قالوا: يا أمير المؤمنين! سبنا وشتمنا وجدعنا، قال: ماذا يقول فيكم؟ قالوا: يقول لنا:
قُبيِّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردلِ |
فهل هذا سب أو مدح؟ هو مدح عند أهل الإسلام لكنه عند أهل الجاهلية سب، قبيِّلة يعني: صغيرة ذليلة.
قال عمر: يا ليتني منهم، وهو لا يدري أنه سب، قالوا: يا أمير المؤمنين! يعني أننا جبناء.
ولا يردون الماء إلا عشيةً إذا صدر الوارد عن كل منهلِ |
قال: هذا أحسن للزحام، يقول: ما يأتون بالإبل إلا إذا صدر الناس عن الماء من الخوف والخور، قالوا: يا أمير المؤمنين يسبنا ويجدعنا، فعرف عمر رضي الله عنه وأرضاه فأدب الشاعر، يقول زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلمِ |
فأمر الله عز وجل بالجهاد، وحمل لا إله إلا الله والسيف للقتال، ومبارزة العدو، وقد فعلها خلفاء الإسلام فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لما رأى أن الأمر سوف يخرج من يده في حروب الردة، وقد قال عمر: أرى أن نفاوضهم، وكأنها مسائل فنية فنعرض الأمر مثلاً على مجلس الأمن، فإن قرر بالأغلبية قاتلناهم، لكن تحول أبو بكر إلى أسد وصعد المنبر، وقال: [[والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام لقاتلتهم عليه]] قال الصحابة: لا نرى قتالاً، قال: [[والذي نفسي بيده لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]] ثم استدعى خالداً، وأعطاه الراية من على المنبر،.. ثم أدب المارقين تأديباً عظيماً، فعادوا ودخلوا في دين الله، فهذا هو منطق القوة.
عمر بن الخطاب أتاه الهرمزان يفاوضه على الصلح، يقول: نعطيكم بعض الأراضي، واتركوا لنا بعض الأراضي، كان يظن المسألة مسألة الضفة الشرقية والضفة الغربية لكن المسألة ليست مسألة أراضي أو رمال، بل المسألة أن تهيمن لا إله إلا الله في الأرض، فـعمر لا يكتفي بـإيران، أو تركيا أو أفغانستان يقول: هذه الأرض لا بد أن تفتح كلها بلا إله إلا الله، إما أن يجيبوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لماذا المفاوضة على الأرض؟ فهو لا يسمع مفاوضة على الأرض، فأرسل سعد بن أبي وقاص بجيش عرمرم عداده اثنان وثلاثون ألفاً كل واحد منهم في قلبه لا إله إلا الله، يحمل الموت ويصدق اللقاء، وفتحت الأرض حتى يقول الشاعر:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه |
وهذا معاوية يختلف مع علي رضي الله عنه وأرضاه وكلٌ مجتهد والحق مع علي، فيكتب ملك الروم لـمعاوية كتاباً يقول فيه: يا معاوية أجتمع أنا وإياك على علي لتستتب لك الخلافة، فهذا الكلب عدو الله وجدها فرصة أن علياً متشاجر مع معاوية، فيدخل في صراع ضد علي بن أبي طالب، فلو كان غير معاوية، لقال: حيهلاً وسهلاً، فكتب له معاوية: [[من معاوية بن أبي سفيان إلى كلب الروم. أمَّا بَعْد.. فوالذي نفسي بيده إن تقدمت بكثيب -يقصد الأرض- أو عبرت بسفينة البحر، لأجتمعن أنا وابن عمي علي بن أبي طالب عليك، فالحذر الحذر!
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجربِ |
يقول أبو تمام: كل مدينة تغار من الأخرى، يقول: فالخراب يسعى فيها أعدى من الجرب في الغنم، ووصل إليها هناك، قال: هذه عمورية؟ قالوا: نعم، قال: الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالوا: نفاوضك على الصلح، قال: حتى أرى حريقاً في المدينة، لا صلح حتى أرى الحصون تحترق، وبدأت الحصون تحترق، وأتى فارس الروم، فقال: من يبارز؟ قال المعتصم: أنا أبارزك، فنـزل المعتصم، فلما برز، قام المعتصم -من الشجاعة- فخلع الدرع من على صدره وقد كان من أشجع الناس، فالتقى بالرومي، فضربه الرومي، فنشب سيف الرومي في درع المعتصم فأخذ المعتصم سيفه، فضرب الرومي، فقسمه نصفين، ثم بدأت المعركة، فسحقهم سحقاً عظيماً، فلما دخلها قال: لن أخرج من المدينة حتى يأتي الرجل الذي ضرب المرأة، فاجتمعوا وقالوا: هذا هو المجرم، فأتوا به، قال: أين المرأة؟ فأتوا بالمرأة، قال: يا أمة الله! أنا المعتصم، وهذا هو الرجل الذي لطمك، فهو عبدٌ لك إن شئت أعتقتيه لوجه الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، وإن شئت فهو مولى لك، قالت: قد أعتقته يا أمير المؤمنين!
ربَّ وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتمِ |
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصمِ |
أمتي هل لكِ بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ |
أتلقاك وطرفي حاسرٌ خجلاً من أمسك المنصرمِ |
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرمِ |
أوما كنت إذا الموت اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دمِ |
كم من امرأة اليوم تقول: وا معتصماه! واإسلاماه! في أفغانستان وفلسطين والفلبين ولا يجيبها مجيب، كم من طفل يقتل! كم من مسجد يهدم! كم من شعيرة لله عز وجل تسحق! ثم لا مجيب يجيب! بلغت الأمة من الذلة والمهانة يوم تركت الجهاد وتخلت عن الدين مبلغاً لا يعلمه إلا الله، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم} وبيع العينة منتشر وهي أن تباع السلعة من الرجل ديناً، ثم يشتريها بثمن أقل قسطاً قسطاً ومقدماً وهذا موجود وفاشٍ.. {وأخذتم أذناب البقر} تتحول الأمة من أمة جهاد إلى أمة مزارعة، والزراعة ليست حراماً، لكن أبطال الإسلام وشباب لا إله إلا الله وحملة التوحيد يتحولون إلى باعة بطاطس، وخيار وباذنجان وجرجير وخس في الأسواق، ويصبح حمل السلاح لا يطيقه إلا القليل، ويصبح الآلاف من الشباب لا يستطيع أحدهم شحن المسدس والرمي به، ولا يحمل الرشاش، بل أجزم جزماً لو اعتدي على كثير من البيوت الآن لما استطاع الشباب المدافعة عن بيوتهم، بعضهم لا يملك سلاحاً، عندهم سكاكين للبصل في المطبخ، والسلاح أصبح كيماوي ومزدوج، وبعضهم عنده سلاح لكنه لا يستطيع أن يرمي، ولا يصيب الهدف، وما لديه تدريب قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] والرسول عليه الصلاة والسلام ربى شبابه على القوة العسكرية وعلى حمل السلاح والأنفة، اسمع إلى أبي تمام يصور معركة المعتصم في عمورية، لما انتهى المعتصم، وعاد إلى بغداد، عاد وعلم النصر فوق رأسه والعلماء يبكون لنصر الله ويفرحون، واستقبلته الأمة ونساء الأمة وأطفال الأمة، لأنهم أثبت عدة للا إله إلا الله، وقف أبو تمام يحيي هذا البطل ويقول:
السيف أصدق إنباءً من الكتبِ في حده الحد بين الجد واللعبِ |
فتح الفتوح تعالى أن يحيط بـه نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطبِ |
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلبِ |
ثم قال:
تدبير معتصمٍ بالله منتقم لله مرتقب في الله مرتغب |
ثم يروي أبو تمام قصة المنجمين الذين أتوا قبل المعركة إلى المعتصم وقالوا: لا تحاربوهم هذا الشهر، قال: ولمَ؟ قالوا: لأن برج الثور حل علينا، وبرج الثور إذا حل، لا ينتصر المقاتل، قال: آمنت بالله وكفرت بكم، قال: أبو تمام:
أين الرواية أم أين الدراية كم صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذبِ |
طلاسم وأحاديثٌ منمقةٌ ليست بنفع إذا عدت ولا غربِ |
فالنصر في شهب الأرماح لامعةً بين الخميسين لا في السبعة الشهبِ |
فالنصر في السيوف وليس في النجوم، إلى أن يقول في آخرها:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجربِ |
إلى أن يقول للخليفة: أنت لست الذي انتصر، بل الله الذي رمى بك: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]:
رمى بك الله جنبيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يصبِ |
إنه تدبير الله وقوته إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] إن يخذلكم بأعمالكم وتصرفاتكم وأكلكم الربا وسكوتكم على المنكرات؛ تبرج النساء، وانتشار المخدرات، وضياع الشباب: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] من يقدم لكم النصر؟ فهذه أمور عاشها السلف.
ماتت امرأة كانت تحكم الروم، فتولى نقفور بعدها، فكتب لـهارون الرشيد كتاباً، وهو لا يعرف هارون الرشيد يقول: أمَّا بَعْد:
فإن المرأة التي كانت قبلي كانت ضعيفة العقل، وكانت تدفع لك الجزية، وأما أنا الآن فلن أدفع لك درهماً ولا ديناراً، فوصل الكتاب وقرأه هارون الرشيد، ومن الاستهتار به أنه لم يكتب في ورقة أخرى، بل أخرج القلم وكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم.
أمَّا بَعْد.. فالجواب ما تراه لا ما تسمعه.
ثم قال لقائده: جهز جيشاً، فجهز جيشاً وما أمسى إلا وقد طوق الروم وأخذوا قائدهم وكتفوه، وقالوا له: هل تدفع الجزية؟ قال: أدفع الجزية، قالوا: مضاعفة، قال: مضاعفة، فقد كانوا يدفعون على الواحد عشرة دراهم، فجعل هارون على الواحد عشرين درهماً.
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلمِ |
أما نصف البيت فنؤمن به، وأما نصفه الآخر فنكفر به، ولكن نقول:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقى مربض المستأسد الضاري |
فالأمة تعيش في سؤدد وقوة وعظمة حتى يتخلى الناس عن الجهاد، ويتولى جيلها وشبابها عن حمل السلاح، وحتى يكون الكافر المستعمر يدرب قوته، ويجرب سلاحه.
قلنا: أنت يا صدام آخر من تنفر، فأنت تنفر لكن على الأطفال والنساء، وعلى أعراض المسلمين، وأنت تنفر لكن على الجيران وهدم البيوت وتمزيق المصاحف، وأنت تنفر لكن لهدم المساجد ولقتل الدعاة والعلماء، فأنت آخر من يتكلم عن المقدسات، أما من ينفرون خفافاً وثقالاً، فهم أبناء التوحيد وأتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وأنصار لا إله إلا الله، ليسوا بأتباع ميشيل عفلق والبيطار، أنت لا يحق لك أن تتكلم، لأنك نجس، ولا يجوز أبداً أن تدخل البيت إلا بعد أن تسلم، إذا قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ودخلت في الإسلام، وسجدت لله، وحكمت الشرع في شعبك، وكففت عن سفك الدماء، فعندما تنادي بحماية المقدسات، أما الآن فلا يجوز لك أن تطوف أو تسعى أو تتكلم عن المقدسات، غيرك الذي يحمي المقدسات: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10].
فالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة لمن ترك هذه التجارة، فكأن السائل يقول: ما هي التجارة؟ قال تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:11-12] فلما علم الله من أوليائه أنه يحبهم وأنهم يحبونه، قال: وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا [الصف:13] فما علموا ما هي الآخرى حتى بينها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا هي خصلةٌ من الجهاد نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الصف:13] ولكن النصر والفتح القريب من الله ينـزله على أوليائه متى شاء، فتقدم أهل السلاح يحملون أرواحهم على أكفهم وفتح الله لهم السوق، فأتوا من الصباح، فعرضوا السلعة، وقالوا: من يشتري؟ قال الله: أنا أشتري، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثمن فالجنة، وأما السلعة فأرواحكم، قال: تبيعون؟ قالوا: نبيع، فتبايعوا في السوق، ثم قام الأولياء عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: هل تريدون أن تردوا البيعة؟ قالوا: لا، ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، وتمت البيعة، والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا فقد وجب البيع.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيءٍ فاشترى |
أم من رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيراً |
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا |
والبراء بن مالك ثيابه مقطعة، ليس عنده دراهم، ولا قصر أو سيارة ولا رصيد أو شيكات، ولا شيء عنده إلا لا إله إلا الله، قالوا: نسألك بالله أن تقسم على الله اليوم أن ينصرنا، قال: سبحان الله! قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنك إذا أقسمت على الله أبر قسمك، ففي صحيح البخاري: {أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخت
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا |
كان نشيده مثل نشيد علي رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره أكيلكم بالسيف كيل السندره |
ونشيد جعفر:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها |
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها |
عليَّ إن لاقيتها ضرابها |
ليس نشيداً ميتاً، كنشيد الطعام والشراب، أو نشيداً من الذي يميت القلوب، فهذا لم يكن عندهم، قال: تنشد وأنت من الصحابة؟! فقال: اسكت عني، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد قتلت مبارزة مائة فارس، ولن أموت إلا شهيداً، فحضروا تستر، قالوا: تقدم، قال: انتظروني قليلاً، فانتظروه، فذهب واغتسل ولبس أكفانه وتحنط وتطيب، قال: [[اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وأن تجعلني أول قتيل]] وبدأت المعركة وقتل أول الناس وانتصر المسلمون: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ |
فثمن الجنة هو بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين، تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق (من يزيد) فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون: أهل الأغنيات الماجنات، والمجلات الخليعات، وترك الصلوات، وأهل الكيرم والبلوت، وتقدم لها أهل لا إله إلا الله، وأهل إياك نعبد وإياك نستعين من أمثال خالد وسعد وعلي وبلال.
إن دندن الطبل في الخراب دندنا آيات حق علي وبلال دندنها |
وقام المحبون ينتظرون من أيهم يصلح أن تكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، فتقدم الصحابة: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] فأتى أبو بكر بجسمه النحيف، فباعه إلى الله، فكان صدِّيقاً، وأتى عمر، فقاتل في الغزوات، فاغتيل في المحراب، وأتى عثمان فضرج بالدماء على المصحف، وأتى علي، فاغتيل في الكوفة مع صلاة الفجر، لأن نفوسهم قد بيعت بعقد ثابت، والله رضي العقد وشهده جبريل والملائكة، فأما أرواحهم فهي في حواصل طير خضر ترد الجنة وتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
قال: لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، ولو أعطي الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتقدموا بالشهود، قيل: ما شهودكم؟ قالوا: شاهدان عدلان، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، قالوا: ما هي؟ قالوا: قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] فاتبعوه عليه الصلاة والسلام، فأوصلهم إلى رضوان الله، فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الرسل، وجلس البطالون، وتقدم المؤمنون، فهذه سلعة الله عز وجل عرضت في سوق الجائزة، فكسبها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفازوا بها، وطمأنهم الله عز وجل على ذلك، فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
حضر جابر بن عبد الله وكان أبوه على الجمل في أحد فقال أبوه: يا جابر، انتظرني قليلاً، فذهب جابر في طلب مخيم الجيش، لأنه صغير في تلك الفترة لا يستطيع أن يقاتل مثل أبيه، وما بقي إلا ساعة وأتى، وإذا الجمل واقف، والرسول صلى الله عليه وسلم جالس عليه الكآبة والحزن والصحابة جلوس، قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك هذا، فإذا هو قد ضرب ثمانين ضربة، وإذا هو مغطى بثوب بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: فكشفت عن وجه أبي، فإذا هو قد قتل، قلت: يا رسول الله! هذا أبي؟ قال: هذا أبوك، قال: فأخذت أبكي وأخذ الناس ينهونني، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لا ينهاني، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا
فحيهلاً إن كنت ذا همةٍ فقد حداك حداة الشوق فاطو المراحلا |
وقل للمنادي حبهم ورضاهمُ إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا |
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا |
وقف ابن القيم يحيي أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم |
وحملها قلب المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألمُ |
لأنتم على قرب الديار وبعدها أحبتنا إن غبتم أو حضرتمُ |
اللهم اجمعنا بهم في الجنة، اللهم أدخلنا في زمرتهم، اللهم اسقنا من حوض نبيك عليه الصلاة والسلام.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا |
وذهب يقاتل، يقول عنه تلاميذه: كان من أشجع الناس، قتل في اليوم الأول سبعة فرسان، وأتته في أثناء المعركة رسالة من الفضيل بن عياض من الحرم، يقول فيها: يا بن المبارك تركت الحرم والعلم والفتيا، فكتب ابن المبارك رسالة إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب |
فلما أتت الرسالة للفضيل بكى وبلها بالدموع رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول أحدهم:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف |
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف |
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف |
ووافت أحدهم ميتته قتيلاً وشهيداً في سبيل الله في قندهار، فلما حضرته سكرات الموت، قال: بلغوا بناتي السلام وأنا في قندهار، ثم قال:
بـقندهار ومن تكتب منيته بـقندهار يرجم دونه الخبر |
يقول: أين أنا وأين هم؟ هو في قندهار، لكن في سبيل الله.
خرج سعيد بن عثمان بن عفان غازياً في سبيل الله، وكان مالك بن الريب قاطع طريق في حدود خراسان يسرق القوافل، لا تمر قافلة إلا سرقها، وكان سفاكاً للدماء، فمر به سعيد بن عثمان رضي الله عنه وأرضاه وناداه، فقال: من أنت؟ قال: مالك بن الريب فقال: وما عملك؟ قال: الله أدرى بعملي، قال: ألا تتوب؟ قال: كيف؟ قال: خرجنا نحن في سبيل الله، قال: ماذا تريدون؟ قال: نبيع أنفسنا إلى الله، قال: سبحان الله! أنا آكل أموال الناس سرقة، وأنتم تبيعون أنفسكم إلى الله، اللهم إني أشهدك أني تبت إليك، فتاب وأناب، وذهب معهم، وقاتل معهم الكفار، وبعد المعركة وهو راجع لدغته حية، فأتوا به وهو في سكرات الموت، فقال قصيدة من أعجب ما قيل في القصائد العربية يرثي نفسه، يقول فيها:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا |
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا |
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وداريا |
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا |
إلى آخر ما قال، وهي أبيات تقطع القلب تقارب الثلاثين بيتاً.
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغ تقذف الزبدا |
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا |
فرزقه الله الشهادة، يوم ورد المدينة ينظر إلى الناس ويبكي ويقول:
خلف السلام على امرئ ودعته في النخل خير مودعٍ وخليل |
يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، فنسي أهله وأطفاله وزوجته وإخوانه، وتذكر الحبيب عليه الصلاة والسلام، وأتى إلى المعركة، وكان يصوم -كما في البخاري - في السفر، وحضر المعركة مع صلاة المغرب وكان صائماً، فأتته النوبة، فقد قتل زيد بن حارثة أول النهار، وتقدم جعفر فقطعت يداه، واحتضن الراية، فقتل، فلما أتى الغروب، قال المسلمون: يا بن رواحة! يا بن رواحة، وإذا هو يأكل مع الغروب، لأنه يريد أن يتقوى، كان يأخذ من عرق بيده من اللحم، فلما سمع جلبة الصفوف ينادونه، ما عاد للطعم مذاق، وانتهى طعم الأكل، انتهى الطعام والشراب، أقبل على الجنة، فرمى ما في يده وأخرج اللقمة وقال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه |
لتنزلن أو لتكرهنه |
إن أقبل الناس وشدوا الرنة |
مالي أراك تكرهين الجنة |
هل أنت إلا نطفة في شنة |
فقاتل وقتل، وقام عليه الصلاة والسلام في المدينة وقد أراه الله المعركة من وراء ما يقارب ألف ميل، وعلم ما جرى في نفس اللحظة فقام وأخبر الصحابة، وقال: {ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تقدم
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {أيما عبدٍ من عبادي خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء مرضاتي، ضمنت له -إن أرجعته- أن أرجعه بما صاب من أجرٍ أو غنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة} أخرجه النسائي.
يقول أنس بن مالك: لما التقى المسلمون في اليمامة مع مسيلمة الكذابة، قال ثابت بن قيس بن شماس: يا أيها الأنصار! انتظروني، فانتظروه، فذهب فاغتسل وتحنط، ثم أخذ سيفه، وقال: بئسما عودتم أقرانكم، وبئس ما فعلتم، يقصد: مسيلمة، ثم قاتل رضي الله عنه وأرضاه، وقال بعض المؤرخين: حفر لقدميه في الأرض، ثم غرس قدميه، ثم ثبت في المعركه يقاتل حتى قتل في سبيل الله.
كان أبو بكر يودع أسامة رضي الله عنه وأرضاه، وأسامة يذهب لتنفيذ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فقال أسامة: [[يا خليفة رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله]] وكأن أبا بكر ما غبر قدمه في سبيل الله، وهو الذي منذ أسلم وقدمه مغبرة في سبيل الله، وكأنه لم يقاتل في تلك الجبهات، وفي تلك الأيام المشهودة، وكأنه لم يقدم روحه في أكثر من غزوة يريد ما عند الله، فرزقه الله الصديقية العليا التي هي بعد النبوة مباشرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة) رواه البخاري في التوحيد (باب وكان عرشه على الماء) وأحمد من حديث أبي هريرة، يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام لـأبي سعيد: (من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب أبو سعيد، فقال: أعدها عليَّ يا رسول الله، فأعادها، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله) رواه مسلم والنسائي، وقال: (من أنفق زوجين في سبيل الله، دعاه خزنة الجنة، كل خزنة باب: أي فُلُ -ترخيم يا فلان- أي فل هلَّم؛ فمن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أ هل الصيام، دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، فقال
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية، لأنه صادق مصل صائم مجاهد ذاكر، كل شيء فيه، يضرب في كل غنيمة بسهم، فهو الذي اكتملت فيه أعمال الخير، وقد صح عند مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال للصحابة: (هل زار أحد منكم مريضاً اليوم؟ قال
جاء أعرابي والرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى البذل في سبيل الله، وليس عند الأعرابي شيء، قال: (يا رسول الله! والذي نفسي بيده ما عندي من الدنيا قليل ولا كثير، ولكن عندي هذه الناقة، فخذها في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام -وكانت الناقة مخطومة بليف- فإن لك بها عند الله يوم القيامة سبعمائة ناقة في الجنة) حديث صحيح، فهذا جزاؤه عند الله عز وجل، لأنه قدم ما عنده، (ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضاً، أو أماط الأذى عن طريق؛ فله الحسنة بعشرة أمثالها، والصوم جنة، ومن ابتلاه الله بجسده، فهو له حطة) أي: كفارة. رواه أحمد في المسند من حديث أبي عبيدة وفي سنده عياض بن غطيف ويقال: غطيف بن الحارث ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، فلم يذكر فيه جرحاً، ولا تعديلاً، وباقي رجاله ثقات وفي الباب عند أحمد والترمذي والنسائي من حديث خريم بن ثابت مرفوعاً: (من أنفق نفقة في سبيل الله، كتبت له سبعمائة ضعف) وسنده صحيح وقد صححه الحاكم.
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه |
يقول: يا ربي والله لو أدخلتني النار، لأقولن لأهل النار: أنا والله كنت أحب الله.
وأفنيت جسمي في أمورٍ كثيرةٍ وما منيتي إلا رضاه وقربه |
أما قلتمُ من كان فيها مجاهداً سيكرم مثواه ويحسن شربه |
وذلك لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
(أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فبايعه، فلما بايعه على الإسلام أعطاه مالاً، قال: يا رسول الله! ما على هذا بايعتك، بايعتك على أن يأتيني سهمٌ يقع هنا ويخرج من هنا -أي: في حلقه ويخرج من قفاه- قال عليه الصلاة والسلام: إن تصدق الله يصدقك) فأتت المعركة، فأتاه سهمٌ وقع في لبته وخرج من قفاه، فقال عليه الصلاة والسلام والرجل قد أصبح قتيلاً: (صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله).. فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد:21].
فتحديث النفس بالغزو والجهاد وإعداد الجيل وإعداد الأمة، وإخراج جيل يجاهدون ويقاتلون ويحملون لا إله إلا الله، هو الأمر المطلوب وهو المفروض علينا جميعاً، وقال عليه الصلاة والسلام كما رواه أحمد والحاكم وهو حديث صحيح بمجموع طرقه: (من أعان مجاهداً في سبيل الله، أو غارماً في غرمه، أو مكاتباً في رقبته، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) فليس هناك ظل آخر، أرض المحشر كلها شمس تدنو من الرءوس إلا من أظله الله.
فنسأل الله أن يظلنا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ويقول عليه الصلاة والسلام والحديث عند البخاري والترمذي وأحمد: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار)>
ابن المبارك لما ذهب إلى الجهاد مرَّ في الليل، فرأى قصر عبد الله بن طاهر أمير خراسان، قال: يا فلان، والله لليلتي هذه خيرٌ لي من قصر ابن طاهر، يا فلان ضيعنا حياتنا في المسائل وقال فلان وقال فلان، ما الحياة إلا الجهاد في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع شحٌ وإيمانٌ في قلب رجل واحد، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في أنف واحد) يقول ابن المبارك في قصيدته:
ولقد أتانا من كلام نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ |
لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئٍ ودخان نارٍ تلهبُ |
ابن المبارك من أكبر الشعراء، وهو عالم محدث، لكنه من أكبر الشعراء، وشعره من أجمل الشعر وهو صاحب: يا عابد الحرمين، وهو صاحب:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفافٍ وحياءٍ وكرم |
قوله للشيء لا إذاقلت لا وإذا قلت نعم قال نعم |
وهو الذي يقول:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍ فكن لهمُ كابن رحمٍ رفيقِ |
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق |
وهو صاحب:
عجبت لدجال، يقصد: الجهم بن صفوان
عجبت لدجال دعا الناس جهرةً إلى النار واشتق اسمه من جهنمِ |
إلى آخر تلك الأبيات الجميلة، غفر الله له وأكرم مثواه، وقد ذكر الإمام أحمد قوله عليه الصلاة والسلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعةً من نهار، فهما حرامٌ على النار) وذكر عليه الصلاة والسلام قوله: (لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله، حرم الله سائر جسده على النار، ومن صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بينه وبين النار مسيرة ألف سنة)
اللهم باعد وجوهنا عن النار، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تحرمنا على النار.
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجى بفضل طمرة ولجامِ |
فلما أسلم الحارث بن هشام، أخبره بالقصيدة فبكى، وقال: والله لأجلون العار عن نفسي، يقول حسان: لمحبوبته: إن كنت كاذبة، فالله ينجيك مثل ما نجا الحارث بن هشام عنا يوم بدر يوم فر وترك أصحابه سبعين مقتلين، وهو من أفرس الفرسان، لكن غلبه حسان في الشعر، فبكى وقال: والله لأطهرن العار عن نفسي، فلما أتت معركة اليرموك، خرج من مكة، وكان يربي سبعين يتيماً في البيت، وكان من أغنى الأغنياء، وكان لا يشبع حتى يشبع كل من عنده في الدار، فلما خرج بكى اليتامى وتعلقت به الأرامل والمساكين قالوا: أين تذهب يا أبانا، قال: أذهب لأجلّي عني العار لأني أقسمت، فخرج إلى اليرموك، فلما أتى وقت الضائقة ووقت الشدة، لبس أكفانه، وقال للمسلمين: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، ثم خرج، فقاتل قتالاً عظيماً ما سمع الناس بمثله، فقتل، فأتوا به، فحمله خالد بن الوليد وهو والحارث من أسرة واحدة، فاحتضنه، وقال: يا عماه! قتلت؟ قال: نعم قتلت جلوت العار عني
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشامِ |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرَّة ولجامِ |
يا خالد! هل رأيتني تركت الأحبة؟ فبكى خالد، وقال: لا والله ما تركت الأحبة، وإذا عكرمة بن أبي جهل الذي أبوه فرعون هذه الأمة يقول: من يبايعني على الموت؟ لأن الدائرة دارت على المسلمين في تلك الفترة، ولما رأى خالد جيش الروم، أقبل، قال: لا إله إلا الله يا خيل الله اركبي، وتقدم أحد الروم إلى فرس خالد الأشقر فطعنه، فوقع الفرس على وجهه، فإذا خالد على الأرض واقفاً، واعتزى خالد وصاح، فسمع صديقه عكرمة، فقال: من يبايعني على الموت؟ يظن عكرمة أن خالداً قتل، فتقدم عكرمة، فشقوه بالرماح، فحملوه شهيداً في آخر رمق إلى الحارث ووضعه خالد بجانبه، وبعد قليل إذا ابن عكرمة يهادى، وإذا رجل من المسلمين يؤتى به كذلك، قال خالد: ماذا تريدون؟ فالتفت إلى عكرمة وكان في الرمق الأخير وهو يشير إلى الماء يريد ماءً، فأخذ خالد ماءً بارداً من الخيمة وسلمه لـ عكرمة، فرفض عكرمة حتى يشرب الحارث عمه، فسلموها إلى الحارث، فرأى الشاب الصغير، فرفض حتى يشرب الشاب: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] فأعطى الشاب، فرفض حتى يشرب المسلم، فأعطى المسلم، فامتنع، فأعطاه إلى الحارث، فوجده قد مات، فأعاده إلى عكرمة، فوجده قد مات، وإلى الشاب وقد تاقت روحه وخرجت ومات، وإلى المسلم، وقد انتهى، فانسكب الكوب من يد خالد وبكى وقال:
[[زعم الناس أنا لا نموت من ضرب السيوف لا ورب البيت بل قصعاً تحت الرماح]]
اللهم فاسقهم من جنتك، قال تعالى: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد:19]
وذكر ابن ماجة رحمه الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: {من راح روحة في سبيل الله، كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكاً يوم القيامة} وهذا الحديث إسناده حسن، فيجعل الله مثل وزن هذا الغبار مسكاً.
ونور الدين زنكي أمره عجيب، يقولون: عدول العالم الإسلامي ستة: الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز ونور الدين زنكي، كان إذا بقي من الليل ثلث، قام الحراس على قصره، فأيقظوا أهل مدينة دمشق وأيقظوا العسكر يصلون كلهم في الليل حتى يأتي الفجر، كان يقاتل في سبيل الله في الغزوات، فجمع الغبار الذي اجتمع له من الغزوات وصنعت منه لبنة له، وجعلت عند رأسه في القبر، هذا الغبار الذي كسبه في المعارك من ثيابه، ومن خوذه، وملابسه على فرسه؛ جمعوا منه لبنة توسدها رضي الله عنه وأرضاه.
نور الدين محمود له قصة عجيبة، وهي قصة القبر وهي أن بعض الناس من النصارى أرادوا الاعتداء على قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وأخذ جثمانه الشريف عليه الصلاة والسلام، وكان نور الدين محمود في دمشق، فرأى في المنام أن الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: أنقذني يا محمود! فقام، فسأل العلماء، فقالوا: قبره يؤذى عليه الصلاة والسلام، فجهز جيشاً عرمرماً، ودخل المدينة وطوقوها بالجيش، ودعا الناس إلى وجبة الغداء، وقال: من تخلف فاقتلوه، فأتى الناس جميعاً إلا مغربيين في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم تظاهرا بالعبادة، وهم نصارى، لكن تظاهروا بلباس المسلمين، قال: هل بقي أحد؟ قالوا: ما بقي إلا مغربيان، قال: عليَّ بهما، فلما أُتي بهما، فإذا هما كما رآهما في المنام بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يقول: أنقذني ويشير إلى الاثنين، فسألهما، فلم يخبرا، قالوا: عباد وزهاد، فأمر الجنود أن يجلداهما بالسياط، فجلدوهم فاعترفوا، فذهب فوجدهم قد حفروا تحت البساط إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فصب ما حول القبر قيل: بالرصاص وقيل: بالفضة، فهو هناك إلى الآن.
نور الدين محمود كان عنده مهرجان، وقد جمع الجيوش بعد فتح بعض المدن، فقام أحد الحكماء، وقال:
مثَّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ |
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي وما لك نور |
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدورُ |
فبكى حتى سقط من على كرسيه على وجهه ورشوه بالماء، كان من أخشع الناس لله والشاهد هذا الغبار، وأتى ابن عمه صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه وأرضاه، ففتح فتحاً ما سمع الناس بمثله، فرفع الله منازلهم وجمعنا بهم في عليين، يقول بعض المؤرخين: نور الدين لما مات، رؤي في المنام وهو يطير من شجرة على شجرة، قيل: أأنت نور الدين محمود؟ قال: أنا نور الدين محمود، قالوا: أين أنت؟ قال: أما كان في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: {المرء يحشر مع من أحب} وهذا ذكره ابن كثير، لكن ما ذكره في ترجمة نور الدين محمود، بل ذكره في ترجمة رجل من الأكراد في أول المجلد الرابع عشر، أو آخر الثالث عشر، والصحيح أنها في نور الدين محمود، وقصة القبر ذكرها السهيلي، قصة القبر، وأنا ذكرتها بمن رواها في شريط: (قتل المجرمين عدالة) ومن خرجها، فمن أراد أن يراجع هذه القصة فليراجعها في شريط: (قتل المجرمين عدالة) وقال عليه الصلاة والسلام: {ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار} رواه أحمد في المسند، يقول هنا: ما في بطن الإنسان من خوف أو جزع، وليس الرهج هنا الغبار، لكن الرهج في غير هذا الحديث الغبار، (رهجُ السنابك) هو الغبار، ولكن حين أتى مع القلب يصرفه إلى الخوف والجزع، فهو من أسماء المعاني لا من أسماء الذوات التي هي الغبار، وعرف بالسياق، فليعلم هذا أيها الإخوة الأجلاء.
الجواب: أنا أنبه الآن أن هذا مشروع موفق، وأن هذا يهاب به ويشاد ويشكر من قام به ومن أمر، نسأل الله لهم الرشد والسداد والصلاح ظاهراً وباطناً، فمن لوازم المسلم أن يذهب وأن يتعلم حمل السلاح، ويتدرب، فإنها فرصة، لأن السلاح أصبح متطوراً ومعقداً، ولو مدة شهر كل يوم ساعتين من الرابعة إلى السادسة عصراً، وسوف يكون هناك إن شاء الله حضور من بعض الدعاة وطلبة العلم، وتوجيه بعض الكلمات في التوحيد والتوكل على الله وفي التوبة والعقيدة، ومع ذلك توجيه إلى آداب الجهاد وسنته عليه الصلاة والسلام وآدابه في ذلك، وهي أيام مشهودة وفاضلة، فمن ذهب فلينو نية صالحة وصادقة، ويريد بهذا أن يحدث نفسه بالغزو، وأن يتهيأ للشهادة في سبيل الله، وأن يتهيأ للقتال تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الجواب: أنا تكلمت في أول الحديث عن الاعتماد على الله، وهو الركن الذي لا يغلب: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] فالناصر هو الله وأقول: لا بد للناس أن يقفوا مع التوكل كثيراً، وأن يعودوا بأنفسهم إلى مسألة التوحيد، وهذا ينبه على الدعاة وعلى طلبة العلم أن يكرروها في دروسهم ومحاضراتهم وندواتهم كثيراً، ويلزموا الناس بها، ويشدوا من الأزر في هذه مثلاً، لأنه وجد خور في بعض الجوانب عند الناس، بعض الناس خاف من الموت، وبعضهم هلع، وبعضهم يقول: نحن مغلوبون، وهذا خطأ، وهذا قاله بعض المنافقين: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12] وأما الأتقياء فقالوا كما قال أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22].
الجواب: الله أعلم ولا يعلم الغيب إلا الله: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ |
تقضون والفلك المسير ساخرٌ وتقدرون وتضحك الأقدار |
والأمم والشعوب والدول والحكومات كالذر، فالله عز وجل بكلمة كن فيكون يغير الأمور، أبرهة الأشرم أتى لمهاجمة الحرم فأتى الخبر عبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبرهة الأشرم كانت عنده قوة، فالفيل في تلك الأيام لا يطاق مثل: الكيماوي، فالعرب لا تدري ما هو هذا الفيل، فلما دخل وادي محسر وقف الجيش، فأتى الخبر لـعبد المطلب، قال: لا نستطيع لـ أبرهة، والحكمة أن نخرج بأطفالنا ونسائنا إلى رءوس الجبال، لكن قبل أن نخرج اتركوني ألقي أبياتاً وقد كان مشركاً، لكن أراد أن يوصي بها، فذهب إلى الكعبة، فأخذ بحلقة الكعبة وقال:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك |
وقد كان عبد المطلب مشركاً ولكن فيه نخوة وشجاعة وشهامة، وكان من سادات العرب:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك |
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالك |
فنحن لا نستطيع القتال، وأما هو فذهب إلى أبرهة، وسمع أبرهة أنه قادم، وقال حراس أبرهة وهو جالس في طرف وادي محسر وقد نزل في خيام وهيلمان وألوف من الجنود، قالوا: عبد المطلب أقبل، قال: من؟ قالوا: شيخ مكة، فظن أبرهة أنه جاءه يفاوضه مفاوضة سلمية في ترك بعض الأراضي والوقوف حتى يأتي ويصلح بينهم، فوصل عبد المطلب، فلما وصل قام أبرهة وأجلسه على السرير، ثم نزل معه، رآه جليلاً وشيخاً وفيه وقار، وكان سيداً من السادات، حتى يقول صلى الله عليه وسلم: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن
قال: ماذا تريد؟ قال: أريد إبلي عندي مائة ناقة أخذها جنودك، قال أبرهة: ظننت أنك عاقل أتيت أهدم بيتك وبيت آبائك وأجدادك، وأتيت تكلمني في الناقات، أعطوه الإبل، فأعطوه الإبل، قال: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، ثم تولى، فتقدم أبرهة، فوجهوا الفيل إلى البيت، فرد الله رأسه إلى اليمن، ضربوه فرفض، فتقدم أبرهة والجيش وتركوا الفيل، فأرسل الله عليهم الطير الأبابيل، يقول بعض المفكرين العصريين: الأفواج الاستطلاعية، والمفسرون من السلف على قسمين: قسم يقول: خلقها الله من البحر، وقسم يقول: خلقها الله تلك اللحظة: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وفي الصباح يقف عبد المطلب يتباكى هو والنساء والأطفال في رءوس الجبال، وإذا بجبال مكة تمتلئ من هذه الطيور، ويأتي كل طير معه حجر كالحمصة بين أرجله مكتوب عليها اسم الجندي، فلان بن فلان صاحب الحفيظة كذا ورقم الهاتف كذا، يعني: حجر أبرهة يهوي عليه لا على غيره، وعلى الجندي الذي في الطابور الخامس فلا تأتي إلى الطابور السادس، فسحقهم الله، ثم يقول الله للرسول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] أما سمعت؟ أما حدثك أشياخ مكة ماذا فعلنا بعدوهم؟ لأن أبا جهل يقول: يا محمد لو اتبعناك تخطفتنا العرب وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص:57] يقول: أوما سمعت ماذا فعلنا؟ أما قرأت الأخبار؟ أما أتى في التاريخ؟ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1] سماهم أصحاب الفيل تهويلاً لهم، ولم يقل أصحاب أبرهة، مثل: الناس معهم حمار يقال لهم تصغيراً أصحاب الحمار: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:1-5] بعض أهل العلم يقول: كانت هذه إذا رمت عادت فأخذت حجارة من جديد أي: أنها تعود إلى قواعدها وتتحمل مرة ثانية، وهذه هي التي ما شوهدت في التاريخ، وما صنعت في المصانع، وما عرفت إلا الغارات الموفقة، وما أخطأت واحدة منها، وهي عناية الله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].
ونستودعكم الله على أمل اللقاء بكم، وشكر الله لكم تعاونكم وحضوركم، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الشهداء في سبيله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر