الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله عبوديةً واعترافاً، الحمد لله استخذاءً وذلة، والصلاة والسلام على معلم البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمد ما اتصل مرأى بنظر، وما اتصلت أذنٌ بخبر، وما هتف وُرْقٌ على شجر، وما نزل المطر، وما تلعلع الظل على الشجر، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أشهد أن لا إله إلا الله، على رغم من تجبر وكفر، وعلى رغم من جحد واستكبر، وعلى رغم من بعُد وتنكر.
أيها المسلمون!
لا يزال الحديث عن جانب من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم؛ وعظمته تبهر العقول، وتخلب الألباب، وتحير الأفكار.
إنه عظيم لأنه عظيم، وإنه صادقٌ لأنه صادق، بنى رسالة أرسى من الجبال، وأسس مبادئ أعمق من التاريخ، وبنى جداراً لا يخترقه الصوت.
إنه صلى الله عليه وسلم حيثما توجهت في عظمته وجدت عظمته.
فهيا بنا إلى جانب الصبر في حياته صلى الله عليه وسلم.
ذكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً؛ مرةً يمدح الله الصابرين، ومرةً يخبر الله بثواب الصابرين، ومرةً يذكر الله عزوجل نتائج الصابرين، يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا رأيت الباطل يتحدى، وإذا رأيت الطغيان يتعدى
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا قلَّ مالك، وكثر فقرك وعوزك، وتجمعت همومك وغمومك
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا قتل أصحابك، وقلَّ أحبابك، وتفرق أنصارك
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا كثر عليك الأعداء، وتكالب عليك البغضاء، وتجمعت عليك الجاهلية الشنعاء
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا وضعوا في طريقك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوك بالسيئات، وأقبح الفعلات
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
إذا مات أبناؤك وبناتك، وتفرق أحباؤك وأقرباؤك:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
فكان مثالاً للصبر عليه الصلاة والسلام.
سكن في
مكة فعاداه الأقرباء والأحباء، ونبذه الأعمام والعمومة، وقاتله القريب قبل البعيد؛ فكان من أصبر الناس.
افتقر، واشتكى، ووضع الحجر على بطنه من الجوع، وظمأ؛ فكان من أصبر الناس.
موت أقاربه صلى الله عليه وسلم
ملاحقة قريش للنبي صلى الله عليه وسلم
خرج إلى
غار ثور؛ ليختفي من الأعداء، فتألب عليه الأعداء، وتجمعوا، وصعدوا على سطح الغار، ونزلوا في ميمنة الغار، وأحاطوا بميسرته، وطوقوه، وأرادوا أن يدخلوا الغار؛ فسلط الله وسخر عنكبوتاً وحماماً فعششت تلك وباضت تلك:
فما دخلوا الغار، يقول أبو بكرٍ وهو في الغار مع المصطفى: {يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم وهو فوق الغار إلى موطن قدميه لرآنا} فيتبسم عليه الصلاة والسلام -يتبسم الزعيم العالمي، والقائد الرباني، الواثق بنصر الله- ويقول: {يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويقول:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
[التوبة:40] وهي دستورٌ للحياة.
إذا ظمئت وجعت، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا مات أبناؤك وبناتك، فلا تحزن، إن الله معك.
وإذا أرصدت في طريقك الكوارث، والمشكلات، فلا تحزن، إن الله معك.
فكان عليه الصلاة والسلام من أصبر الناس.
ويخرج من الغار، ولا يدري الكفار أنه كان في الغار؛ فينسلُّ إلى المدينة، وليتهم تركوه بل يعلنون عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجده، جائزة الدمار، والعار، وقلة الحياء والمروءة، مائة ناقةٍ حمراء لمن يأتي به حياً، أو ميتاً؛ فيلاحقه سراقة بن مالك بالرمح والسيف؛ فيراه صلى الله عليه وسلم، والرسول يمشي على الصحراء جائعاً، ظمآناً، فارق زوجته، وفارق بناته، وفارق بيته، وفارق جيرانه وأخواله، وأعمامه وعمومته، ليس له حرس ولا جنود، لا رعاية ولا موكب، وسراقة يلحقه بالسيف، فيقول أبو بكر: [[يا رسول الله والله لقد اقترب منا]] فيتبسم عليه الصلاة والسلام مرةً ثانية؛ لأنه يعلم أن رسالته سوف تبقى ويموت الكفار، وسوف تبقى دعوته حية، ويموت المجرمون، وسوف تنتصر مبادئه وتنهزم الجاهلية، فيقول: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما}.
ويقترب سراقة، فيدعو عليه صلى الله عليه وسلم، فتسيخ أقدام فرسه، ويسقط، وينادي في فرسه فيقوم ويركب ويقترب، فيدعو عليه فيسقط، فيقول: يا رسول الله! أعطني الأمان، ويطلب أن يحقن دمه، والسيف معه وذاك بلا سيف، فرَّ من الموت وفي الموت وقع:
فيعطيه أماناً، يصل إلى المدينة ويشارك في معركة بدر، فيجوع حتى يجعل الصخرة والحجر على بطنه.
يا أهل الموائد الشهية! يا أهل التُخم والمرطبات! والمشهيات والملابس! رسول الإنسانية وأستاذ البشرية، يجوع حتى ما يجد دقل التمر وحشف التمر:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
تموت بناته الثلاث، واحدة تلو الأخرى، تموت الأولى فيغسلها ويكفنها، ويعود من المقبرة وهو يتبسم:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
وبعد أيام تموت الثانية، فيغسلها ويكفنها، ويعود وهو يتبسم
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
تموت الثالثة؛ فيغسلها ويكفنها ويدفنها، ويعود وهو يتبسم
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
يموت ابنه إبراهيم فيغسله ويكفنه ويدفنه، ويعود وهو يتبسم.
عجباً من قلبك الفذ الكبير، لأن الله يقول له:
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
صبره في غزوة أحد
يشارك في معركة أحد، فيهزم أصحابه، ويقتل من قرابته، ومن سادات أصحابه، ومن خيار مقربيه سبعون رجلاً أولهم
حمزة، عمه، سيفه الذي بيمينه، أسد الله في أرضه، سيد الشهداء في الجنة.
ويقف على القتلى في معركة أحد، وينظر إلى حمزة وهو مقتولٌ مقطع، وينظر إلى سعد بن الربيع وهو ممزق، وأنس بن النضر، وأولئك النفر؛ فتدمع عيناه، وتسيل دموعه الحارة على لحيته الشريفة، ولكن يتبسم
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
ويعود عليه الصلاة والسلام، فيرسل قادته إلى مؤتة في أرض الأردن ليقاتلوا الروم؛ فيُقتل الثلاثة القواد في ساعةٍِ واحدة؛ زيد بن حارثة وجعفر الطيار ابن عمه، وعبد الله بن رواحة، ويراهم وينظر إليهم من مسافة مئات الأميال، ويرى أسرّتهم تدخل الجنة من ذهب فيتبسم وهو يبكي
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً
[المعارج:5].
صبره في غزوة الأحزاب
صبره وزهده في الدنيا
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
ما هو الصبر الجميل
يقول الله له:
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً 
[المزمل:10] ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبره؟
الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه، أن تصبر ولا تشتكي إلى أحد، فالشكوى إلى الله، ولا يرفع الضر إلا الله، ولا يجيب دعاء المضطر إلا الله، ولا يغنيك من الفقر إلا الله، ولا يشافيك من المرض إلا الله، ولا يجبر مصيبتك إلا الله، فلذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يشكو همومه وغمومه إلا على الله.
الصبر الجميل في مرضه صلى الله عليه وسلم