أيها الإخوة الفضلاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فيا أرض الشهوات! ابلعي ماءك، ويا سماء الظلمات أقلعي، فقد قطع دابر الكفر والخراب في العالم بوصول هذه السفينة، وقد انطلق الهوى مع الإنسان: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] فأخبره أن السفينة لمساكين يعملون في بحر الشهوات، حتى جاء رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فأخرجهم من الظلمات إلى النور؛ لأن مهمته أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومهمة الهوى والشيطان إخراج الناس من النور إلى الظلمات أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39].
خالد
لم يفلل لها نفلعن أبي ذر وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) مرة روي الحديث عن أبي ذر ومرة عن معاذ، وهذا الحديث أصل من أصول الدين وقاعدة كبرى من قواعد الملة، وفيه ثلاث ركائز: تقوى الله، والدواء هو: أتبع السيئة الحسنة تمحها، ولما انتهى من حق الله على الإنسان ثلث بحق الناس على الإنسان فقال: وخالق الناس بخلق حسن.
عبد الله بن بسر
عندالترمذي
- قال: {ابن سلام
، وأوصى صلى الله عليه وسلمأبا أمامة
فقال: {أحمد
. وأوصىمعاذاً
لما سأله عن شيء يقربه من الجنة ويباعده عن النار فقال: {الترمذي
. ووصاياه عليه الصلاة والسلام كثيرة، مرة في المعتقد فقال لـأبي ذر
: {معاذ
كما فيأبي داود
: {أبي بكر
{أبي هريرة
في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغضب، ومرة في التفكير في آيات الله عز وجل يوم قال لـأبي جري الهجيمي
: {فهي وصيته سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].. يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] ولا يأنف أحد من أن يقال له: اتق الله.
قال بعض الفطناء: إذا رأيت الرجل يأنف من قول الناس له: اتق الله، فاعلم أنه قد باع نصيبه من الله. وقال رجل لـعمر: [[اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فيَّ إذا لم أسمعها]].
وتقوى الله عز وجل نص عليها في الكتاب والسنة بأحاديث وبآيات سوف أشرح بعضها وأستعفيكم من كثير منها؛ لأن المجال لا يتسع والوقت أضيق من ذلك.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإثْمِ [البقرة:206] قالوا: من يكابر إذا نصح فهو من جنس من تأخذه العزة بالإثم.. أعاذنا الله وإياكم من ذلك!
فمنهم من نظر إلى أصلها في الكتاب والسنة، ومنهم من نظر إلى مردودها، ومنهم من عرفها بمنطق أهل السلوك وأعمال القلوب، ومن التعريفات ما قاله ابن تيمية إذ يقول: هي فعل المأمور واجتناب المحذور. وهذا كلام جيد جميل، وهو كلام علمي شرعي سني، هي فعل المأمور واجتناب المحذور، ولو قال شيخ الإسلام: وتصديق الخبر لتم التعريف. ولكن هذا يدخل -إن شاء الله- في تعريفه.
وقال أهل السنة وهو تعريف مشهور لهم: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وهي أن تعمل بما أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وأن تنتهي عما نهى الله ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مسعود وقد رفع هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يصح مرفوعاً بل هو من كلام ابن مسعود قال: [[تقوى الله: أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر]]. سبحان الله! وأي درر هذه؟! أي جواهر؟! من علم هؤلاء الأعراب الذين كانوا قبل الوحي يرعون الغنم في غدير الخضمات وفي حرقات جهينة؟
وقال علي فيما نسب إليه: [[التقوى العمل بالتنـزيل -وهو الوحي من الكتاب والسنة- والرضا بالقليل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل]] وهذا الكلام يحتاج إلى محاضرة مستقلة، هذه التقوى فهي ببساطة وهي أن تعمل بالكتاب والسنة أمراً وتنتهي عنها نهياً وأن تصدق خبرها، فإذا فعلت ذلك فقد نجوت من عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، ونجوت من الخزي والشقاء.
أما كلام السلف في التقوى فقد امتثل معاذ رضي الله عنه ذلك، وقد شرحه هو كما قال ابن رجب فقال: [[التقوى: هي أن تتجنب الشرك، وأن تطيع الله، وأن تخلص العبادة]]. وقال الحسن البصري في التقوى: [[هي أن تؤدي ما لله عليك وما للناس عليك من حقوق، وأن تجتنب ما نهى الله عنه]] أو كما قال.
وذكرها عمر بن عبد العزيز قال: [[أما إنها ليست بقيام آخر الليل ولا بصيام الهواجر والتخليط بين ذلك -أي بالسيئات- ولكنها الانكفاف عن المعاصي]]. وقال طلق بن حبيب -وهذا اعترف بتعريفه شيخ الإسلام - قال: [[هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله]]. وقد ذكر أبو الدرداء لها تعريفاً آخر وهي: [[أن تكون مراعياً ما لله عليك من حقوق]]. وكل هذه التعريفات تتداخل.
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال للسائل: [[أمررت بواد فيه شوك؟ قال: نعم. قال: ماذا فعلت؟ قال: تحفزت وانتبهت. قال: فهذه التقوى]].
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى |
وقد امتثل معاذ هذه الوصية منه عليه الصلاة والسلام، فقد ذهب إلى اليمن فلم يأخذ من مال المسلمين لا قليلاً ولا كثيراً، فلما عاد إلى المدينة قالت له زوجته: أما أخذت مالاً نفعتنا به. قال: إن عليَّ ضاغطاً. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم، يقصد المراقبة والمحاسبة.
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني |
ورأيت في ترجمة رجل من بني إسرائيل أنه اختفى في غابة، فأراد أن يفعل معصية، فقال: لا يراني أحد ولا يعلم بي أحد، فسمع هاتفاً يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
وأوصى بعض الصالحين ابنه قال: أريد سفراً. فقال له: اتق الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، فهو لا تخفى عليه خافية، سبحان الله العلي العظيم!
هذا محمد صلى الله عليه وسلم في بيته الطيني في المدينة تدخل عليه خولة بنت ثعلبة، فتشكو إليه زوجها والله فوق سبع سماوات يخبره بشكواها، ولم تسمع عائشة مع أنها كانت قريبة منهم؛ فيقول الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] فهذا هو اللطيف الخبير القريب الذي يرى ويسمع ويبصر.
أحد العباد اسمه حبيب أبو محمد: كان يبيع ويشتري فكان يبيع الدرهم بالدرهمين -وهذا ربا لكنه ناسك جاهل- فمر بالصبيان فقالوا: أنت حبيب المرابي؟! قال: سبحانك يا رب! فضحتنا أمام الناس! قال: فتاب إلى الله عز وجل من الربا، وسأل أهل العلم ثم تصدق بأمواله، فعاد إلى الصبيان فقالوا: مرحباً بك يا عابد يا أبا محمد. قال: سبحانك! أنت الذي تمدح وأنت الذي تذم! وهذا كلام جيد ويوصف به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن مدحه زين وذمه شين.
أتى بنو تميم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الظهر، وطرقوا بابه قالوا: اخرج إلينا يا أبا القاسم؛ فإن مدحنا زين وذمنا شين. يقولون: نحن إذا مدحنا مدحنا واحذر ذمنا، وحاول أن تكسب مدحنا، قال عليه الصلاة والسلام: {ذلكم هو الله} الذي مدحه زين هو الله، والذي ذمه شين هو الله، فقال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] وإلا فالمادح حقيقة هو الله، فإذا أثنى الله على العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد ممدوح وإذا ذم العبد بواسطة قلوب العباد فالعبد مذموم مسبوب؛ ولذلك يقال في بعضهم آلاف القصائد وهو مذموم عند الله، ويهجى بعضهم بآلاف القصائد وهو ممدوح عند الله، فالحب من عنده والبغض من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يأتي الحب والبغض من السماء، ولا يأتيان من الأرض.
قال علي فيما ذكره الغزالي في الإحياء: عجباً لكم! عندكم الداء والدواء. قالوا: ما هو الدواء والداء؟ قال: الداء الذنوب والدواء الاستغفار، ونحن عندنا دواء لكننا ما استخدمناه، صرف من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعالج به إلا الربانيون الذين كلما عثروا ومرضوا عرضوا أنفسهم على محمد صلى الله عليه وسلم فعالجهم.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس |
يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه سئل: كيف تكون الجنة عرضها السماوات والأرض؟ أين السماوات والأرض والجنة عرضها السماوات والأرض؟ فقال: أين الليل إذا أتى النهار؟ وهذا قياس صحيح أصلي مطرد، أين الليل إذا أتى النهار؟ قال: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133-134] فمن يكظم ويعفو ويحسن يدخل الجنة، لكن انظر ما قال بعد ذلك: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135-136] سبحان الله! يدخلون جنة عرضها السماوات والأرض وهم يرتكبون الفواحش، هذا يجعل الإنسان بلحمه ودمه يفرح ويضحك؛ لأنه يفعل الفاحشة ولكنه يدخل الجنة..!!
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أذنب عبد ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فغفر الله له، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فغفر له، فأذنب ذنباً فقال: يا رب! اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنب إلا أنت، قال الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا، فليفعل عبدي ما شاء}. هذا في الصحيحين بهذا اللفظ، والمعنى عند أهل العلم حتى لا يفهم فهماً خاطئاً معناه كما قال النووي: إن عبدي ما دام أنه كلما أذنب تاب واستغفر فإنه سوف ينجو، أو أنها حادثة عين لسر رآه الله عز وجل في ذلك العبد، وليس المعنى: أن العبد مهما كان يذنب الذنوب فإن الله سوف يغفر له.. هذا لا يكون، ومن فعل ذلك أو ظن ذلك أو اعتقد ذلك فقد تمنى على الله الأماني، والله يقول: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].
سهر ابن عباس ليلة كاملة يقرأ من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الحرم ويردد قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].
قال عطاء: والله لقد رأيت إلى جفنيه كشراك النعلين الباليين من البكاء، لأنه يفهم القرآن.
ورأيت في سيرة أبي بكر {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ عليه الآية والصحابة جلوس، فتلا قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] فتماط أبو بكر حتى سمع لظهره أطيط، قال: ما لك يا أبا بكر غفر الله لك؟ قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ أي كيف النجاة؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: فوالذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا غم ولا حزن ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله له بها من سيئاته}.
وليس المعنى أن يضحك على الله كما يضحك على الصبيان، ويلعب على الله كما يلعب على الولدان، فإن بعضهم يقول: أذنب ثم أتوب، فإذا غفر لي أذنبت ثم تبت ثم يغفر لي.. وهكذا، وهذا من ذكاء بعض الجهلة.
يروى في بعض المناطق أن بعض الجهلة في رمضان، كانوا صياماً، ومن جهلهم على الله عز وجل، وقلة فقههم في الدين أن نزل منهم اثنان في غدير، واشتد عليهم الحر في الظهيرة وهم صيام في رمضان، فنزل أحدهم وأدخل رأسه ثم أدخل جسمه، ثم لما نزل في أسفل الغدير شرب، وخرج وقال لزميله: الله لا يعرف حيل الرجال..!
وروى الطبراني وفي سنده ضعف، عن عائشة قالت: قال حبيب بن الحارث يا رسول الله! إني رجل مقراف للذنوب -أي: من طبيعتي أن أقترف الذنوب- وهذا تجده في الإنسان، والله هو الذي خلق الأنفس سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [النجم:32] فهو أعلم بنا سبحانه.
وأما حديث: {التائب من الذنب كمن لا ذنب له} فقد رواه ابن ماجة وحسنه حافظ الدنيا ابن حجر بشواهده، وشرح هذا الحديث ابن تيمية في مختصر الفتاوى وأيده وقبل الكلام، وكأنه -والله أعلم- يتحمس لمعناه، ومعناه صحيح، فإنه من تاب من الذنب فهو كمن لا ذنب له.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط |
ومنهم من قتل مائة نفس وتاب الله عليه، ومنهم من غش وخان وغدر وتاب الله عليه، وسوف يأتي كلام في ذلك.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المؤمن واه راقع، فسعيد من هلك على رقعة} رواه الطبراني في الكبير وفيه ضعف لأن في سنده سعيد بن خالد الخزاعي وهو ضعيف. معنى: واه أي: يخرق دينه كالقربة، فتجد فيه ثلوماً مما لا يخلو منها أحد، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: لا يخلو المرء من الجروح، لكن الله الله لا تكن الجروح في الوجه. وإلا فإن هناك معركة بين صف الشيطان، وصف الإيمان، فدائماً هناك مقاتلة حتى يأتي الموت وقد قاتلت، فاحذر أن يأتي الجرح في الوجه، أما في الجسم فلا يخلو الجرح منه، وبعض الجروح تعالج بالمرهم، وبعض الجروح لا تعالج إلا بالبتر، فاللبيب إذا شكا من جسمه مرضين داوى الأخطر، وقال: راقع: أي أنه يرقع بالاستغفار، وبالعمل الصالح والمكفرات، قال: من مات على رقعة أي: من مات وهو راقع والحمد لله فهذا السعيد، أما من مات على وهيه وعلى خرقه فهذا في خطر.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما ذكره أهل العلم عنه: {ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون}رواه أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد والخطيب في تاريخ بغداد، وسنده يقارب الحسن.
أما قول: {واغفروا يغفر لكم} وهو الشاهد أنه سامحوا الناس يسامح الله لكم والجزاء من جنس العمل.
وأما أقماع القول: فهم الذين يستمعون القول فكانوا كالأقماع، أو أنهم لا يستمعون ولا يدخل الكلام قلوبهم ولا يتعظون به؛ لأن المؤمنين إذا استمعوا القول اتبعوا أحسنه.
وقال ابن عباس ولا يصح مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: [[لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار]] والمعنى: أن صاحب الكبيرة كلما استغفر وأناب وتاب غفر الله له، وأن صاحب الصغيرة إذا أصر عليها وداوم عليها واستمر أصبحت كالكبائر تهلك صاحبها.
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف صاحب الصغائر: بقوم ذهبوا في الخلاء فجمعوا حطباً صغيراً؛ جمع هذا عوداً وهذا عوداً ثم أججوا ناراً عظيمة. فالصغار تجتمع على العبد حتى تهلكه والعياذ بالله!
وفي عيون الأخبار لـابن قتيبة: أن رجلاً حل مع بدو أعراب في الكوفة فقالوا له: لا تسكن معنا إلا بالاستغفار فإنه لا ينـزل القُطار إلا بالاستغفار (والقُطار: الماء) وهذا صحيح ومصداقه قوله تعالى في سورة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً [نوح:10-11].
قحطت مزرعة أنس في البصرة واشتد ظمؤها، وذبل ورقها، فجلس بجانب المزرعة وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.. قالوا: تستغفر وقد ماتت المزرعة؟! قم صل، قال: الاستغفار معه القطار (المطر) قالوا: فما انتهى إلا وغمامة روت مزرعته حتى أمرعت، وهذا صحيح فالاستغفار ينفع.
قال أهل العلم: ومن أراد المتاع الحسن فعليه بالاستغفار؛ قال تعالى: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3] هذا من الاستغفار، والاستغفار ليس كما يراه بعض الناس أن يستغفر الله باللسان ويفعل باليد الفواحش؛ كمن يسرق من السوق، ويسحب الغرض وهو يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، وكمن يشرب الخمر والكأس بيده ويقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. فهذا كذاب، واستغفاره يحتاج إلى استغفار.
رأى علي بن أبي طالب رجلاً يستغفر الله وقلبه في واد آخر فقال: [[استغفارك هذا يحتاج إلى استغفار]] وقال أحد الصالحين: أستغفر الله من قولي أستغفر الله، وعلى كل حال لابد من التقوى.
ومن الاستغفار أن تستحضر في قلبك أنك تقول: أستغفر الله، قال بعض أهل العلم: وقد تكون أستغفر الله غيبة، فقد دخل أحد الناس الواشين النمامين على أحد السلاطين فقال السلطان لهذا الواشي: ما رأيك بفلان؟ قال: أستغفر الله؛ قصده النكاية بذاك، فهي غيبة، وعليه وزرها، وما قصده أستغفر الله من الذنوب بل قصده أن يقول: انتبه له.
وقد يكون الدعاء غيبة، فيكون سيئة، كقولهم إذا ذكر أحد الناس: هدانا الله وإياه؛ فإنك اغتبته، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام في فتاويه، ولكم أن تراجعوا ذلك.
ثم التوبة وأمرها آخر وسوف يأتي في ذلك تفصيل قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] قال أبو العالية وهو من أئمة أهل السنة: من عصى الله فهو جاهل. ولذلك يغفر لمن عصى الله ثم تاب وأناب.
الأول: العزم؛ أن تعزم من هذا المكان وهذا الوقت على ألا تعود إلى ما أخطأت.
الثاني: الندم على ما فات؛ دائماً تتقلب وتتأوه؛ فإن وله النادمين وتأويه الباكين أحب إلى الله عز وجل من عمل العابدين العاملين، وقال عمر: [[اقتربوا من أفواه التائبين فإنهم يلقنون الحكمة]].
وقد مر في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من الذي يتألى عليَّ؟ أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهذا وأحبطت عمل هذا فليستأنف العمل} فذاك اغتر بعمله وفخر، وذاك انكسر فغفر الله له.
وروي عن عيسى عليه السلام: أنه ذهب إلى بيت المقدس، ومعه رجل من العصاة وهو من أهل الخمر والسرقة، فأراد عيسى عليه السلام أن يدخل بيت المقدس فقال السارق وشارب الخمر: مثلي لا يدخل بيت المقدس لأني أدنسه؛ فأوحى الله إلى عيسى: يا عيسى! أخبره وبشره أني قد غفرت له ما تقدم من ذنبه. ما دام انكسر وأقر واعترف.
وقفنا على الباب يا ذا الفلك وجئنا ببابك والملك لك |
ذرفنا الدموع فسارت شموعاً وقلبي من الحب سبح لك |
لا يفتح لك باب إلا بابه، وليس لك حبل أقوى إلا حبله، وما معك طريق إلا طريقه.
يقول زين العابدين علي بن الحسين بن علي: قمت في آخر الليل أطوف بالبيت؛ فإذا بشاب متعلق بستار الكعبة يقول: يا رب! من يقبلني إذا رددتني؟ قال: فجلس يبكي عند المقام حتى خر مغشياً، فأتيت إليه فإذا هو قد مات.
هذا موجود في التاريخ والتراجم، وقالوا لـعلي بن الحسين وهو مثال لشباب الإسلام- قالوا له: قل لبيك اللهم لبيك. وهو حاج على الناقة قال: أخشى أن ألبي وفي نفقتي شيء، فيقال: لا لبيك ولا سعديك. قالوا: لبِّ؛ فلبى فغشي عليه وسقط كما قال ابن كثير، وكما يقول فيه الفرزدق:
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا |
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم |
في كفه خيزران ريحها عبق من كف أروع في عرنينه شمم |
يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم |
ومنها -أي من شروط التوبة- رد المظالم إلى العباد: فترد مظالم العباد التي أخذتها: الأموال، الأراضي، السيارات، الممتلكات، أما أن تأخذ أموال الناس وتسرقها، وتحلف على ديون الناس وتقول: تبت إليك يا رب..! فليست بتوبة؟! حقوق الناس مبنية على المشاحة وحقوقه تعالى مبنية على المسامحة، أنت إذا أذنبت على الله من الأرض إلى السماء، ثم تبت إليه غفر لك، وإذا أذنبت مع العبد، فأخذت من حقه، بقي معك حتى يلحقك يوم القيامة.
قال: {رحمة الله واسعة. قالوا: إذاً نكثر. قال: الله أكثر}.
هذا الشافعي حضرته سكرات الموت، فلما ضاقت به الضوائق -وكان شاعراً لبيباً- رفع الوسادة وتلفت إلى السماء وقال:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا منى لعفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي صار عفوك أعظما |
فلا أعظم من عفوه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أنت الآن إذا جاهدت وسارت مهجتك وقتلت ثم نزل من السماء تاب الله عليك تقول: بعد هذا الجهد يتوب الله علي؟! نعم تاب الله عليك. قال ابن تيمية: وختم الله حياة الرسول عليه الصلاة والسلام بـ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً [النصر:1-2].
فهل قال له: استبشر بالمنـزلة العالية هل قال له: ادخل الجنة؟
هل قال له: قصرك في الجنة كالربابة؟
بل قال: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3] أي نعلم أن جهدك كبير لكن استغفر، أنت بذلت وأعطيت لكن استغفر، أنت منحت وقدمت وضحيت وفديت وتعبت وسهرت لكن استغفر؛ لأن هناك تقصيراً.
قال ابن تيمية: وختم الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة بالاستغفار. نصلي ونتعب وبعد أن نسلم نقول: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله. وختم الله الحج بالاستغفار؛ قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199] إذا أفضتم فاستغفروا.
هذه أسرار في دين محمد صلى الله عليه وسلم يفهمها أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
الآن لا ينسى الناس وهم يسمعون الرسول صلى الله عليه وسلم: { لله أفرح بتوبة عبده} لو قال صلى الله عليه وسلم: لله أفرح بتوبة عبده وسكت، لكن قال: كرجل (تصور الرجل أمامهم) في صحراء (الصحراء في الصورة) معه ناقته (الناقة في الصورة والشكل) عليها طعامه وشرابه (ضاعت) ثم وجدها بعد الإعياء؛ لكن في الرواية الأخرى: {ضاعت منه فبحث عنها والتمسها، فلم يجدها، فنام جائعاً ظامئاً، فلما قام وجدها عند رأسه قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح} والذي يظهر أنها حادثة عين وقعت، ومع شدة فرح هذا، فالله أشد فرحاً منه بتوبة العبد إذا عاد إليه، الله لا يريد أن يعذب العباد، ومن ظن أن الله يريد أن يعذب العباد فقد أساء الظن بربه، بل إن الله رحيم يفرح بتوبة العبد، فإذا أردت أن تفرح الله -وله فرح يليق بجلاله- فتب إليه وعد، حتى قالوا: الله أفرح بتوبة العبد من شفاء الولد عند الوالد، ومن وجدان الضائعة عند الواجد، ومن حصول الماء عند الوارد.
ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:{إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة} كما روي في صحيح مسلم؟ قال بعضهم: الغين: غشاء يقع على القلب؛ ليس من الذنوب، ولكن من كثرة مخالطة الناس، فلصفائه صلى الله عليه وسلم وتقواه ظهر الغين عليه، أما نحن فغانت ورانت، وطبعت وأصبحت كالجبال؛ لأن الثوب الأبيض تظهر فيه النقاط، أما الثوب الأسود فلو طليته بالقار لما ظهر عليه شيء.
يا بن الذين سما كسرى لجمعهم فجللوا وجهه قاراً بذي قار |
والمستجير بـعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار |
قيل لـابن الجوزي: الأحسن عندنا الاستغفار أم التسبيح؟ قال: الثوب الوسخ لابد له من الغسل قبل الطيب. فالتسبيح مثل الطيب وأما الغسل فهو الاستغفار، فنحن نحتاج إلى غسل واستغفار ولا بأس أن نسبح.
ويتاب من التقصير؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع رسوله صلى الله عليه وسلم دائماً منزلة بعد منزلة، فكانوا يقولون: إنه كان دائماً يستغفر من المنزلة السابقة التي كان فيها عليه الصلاة والسلام.
وهناك نكتة ذكرها صاحب الوابل الصيب: في مسألة من دخل الخلاء ثم خرج وقال: غفرانك! وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {غفرانك!}. فما هو السر؟
الجواب: لأهل العلم رأيان:
الرأي الأول: غفرانك بسبب التقصير في تركنا التسبيح في أثناء قضاء الحاجة، انظر إلى أولياء الله حتى في أثناء قضاء الحاجة لما سكتوا استغفروا لأنهم قصروا!
والرأي الثاني: قيل: غفرانك لأننا ما أدينا شكر النعمة، أطعمتنا وأخرجت الطعام ولو بقي الطعام لقتلنا.
قصص التائبين كثيرة ولا أعيدها فقد تكررت في دروس ومحاضرات، ومنها: من قتل مائة نفس فغفر الله له، وكثير من الشباب يعرضون رسائلهم حول موضوع التوبة، ومنهم من يقول: أنا ليس لي توبة، أنا ما تركت خطأً إلا ارتكبته، وتأتي رسائل محترقة ملتهبة، فنقول: أأنت أكثر جرماً ممن قتل مائة نفس معصومة وتاب الله عليه؟ ولو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم تبت إلى الله غفر الله لك، ومن أحرق نفسه غفر الله له لأنه خاف لقاء الله عز وجل.
وهنا كثير من الناس يسأل عن الذي يتوب ثم يعود، وقد تعرضت لها فيما سبق قبل كلمات، فأنا أرى أنه يتوب دائماً فسوف يكفر عنه الذنب إذا صدق، فإذا عاد من جديد فقد طويت الصفحة الماضية، وافتتح سجل جديد، فكأن الذي انصرم قد فات، وأمامه ذنب جديد، فيتوب منه.
الأولى: تعاظم الذنب؛ فإن بعضهم يحبط نفسه ويصاب بإحباط، ويظن أن الله لا يغفر له أبداً، فيترك التوبة، حتى إن بعضهم ترك العودة إلى الله والعودة والإنابة والتوبة بسبب أنه قال: لا يمكن أن يغفر الله لي، وقد ظن بالله ظن السوء؛ فالله يغفر سبحانه، وهذا إحباط من الشيطان.
الثاني: التسويف؛ فإن بعضهم يسوف فإذا قلت له: تب، قال: سوف أتوب وسوف أفعل إذا تخرجت، إذا كمل شبابي، إذا حصنت نفسي بزواج وإذا وإذا... فتأتيه سكرات الموت، ويقبضه ملك الموت، فيعود إلى الله خاسراً نادماً.
الثالث: تزيين الشيطان والرفقة؛ فإن الشيطان يزين لصاحب المعصية معصيته قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8].
ورفقة السوء يزينون؛ وعلى سبيل المثال فإن كثيراً ممن وقع في شرب الدخان إنما هو بالتزيين من الرفقة السيئة، يقول: يا أخي! لا يضرك تدخن الليلة وما هي إلا سيجارة، وتب إلى لله، وهي من المؤانسة، وأنت جرب فإذا لم تعجبك فتب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وحتى في القرآن ما سمعنا بآية تنص على تحريم الدخان، ورأينا كثيراً من الناس يشربون الدخان، والدخان يزيل الهموم، والغموم، فيأتونه من هذه المداخل حتى يتورط في شرب الدخان، ثم يجرونه إلى المعاصي واحدة تلو الأخرى، فجلساء السوء أعدى من الجرب.
والصحيح أن هذه الآية في الفرائض، والحمد لله أنها في الفرائض، وقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هود:114] أي: صلاة الفجر وصلاة العصر وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود:114] أي صلاة المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] ومن أدخل فيها النوافل فقد أصاب.
وعند أحمد في المسند بسند صحيح أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: كان الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته فإن حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له ثم تلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]}
وتسمى هذه ركعتي التوبة وهي ثابتة وصحيحة وأرشد بها إخواني، فمن فعل سيئة أو خطيئة صغرت أو كبرت أن يذهب إلى الماء فيتوضأ ويصلي ركعتين، ثم يستغفر الله ويستقيله من ذلك الذنب.
وفي الصحيحين أن رجلاً قال: {يا رسول الله! أصبت حداً، فسكت عليه الصلاة والسلام، فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: أين فلان؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد غفر الله لك ذنبك بصلاتك} لكن ما هو شرح الحديث؟ وهذا الحديث في الصحيحين وهو ثابت وشرحه الإمام النووي، ومن المعاني:
قيل: إن الرجل كان يظن أن على هذا الذنب حداً وليس عليه حد أصلاً، ولو كان عليه حد لأقامه صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الذنب ليس عليه حد؛ وكفارته الصلاة وقد حصل.
وقيل: بل كان هذا الذنب قبل أن تنزل الحدود؛ فجعل صلى الله عليه وسلم كفارته الصلاة والله أعلم، إنما هذا هو الحديث، والحديث لـعلي رضي الله عنه، ورواه أحمد في المسندو أبو داود والترمذي والنسائي.
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا} أو كما قال، فالصلاة كما قال بعض السلف: تحترقون وتحترقون ثم تصلون فيكشف ما بكم، وهنا قال: قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها؛ فأطفئوها بالصلاة.
وعند مسلم في الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره}.. نسأل الله من فضله، وهذا في وضوء الفريضة، والحديث في الصحيح عن أهل الصغائر، أما أهل الكبائر فلابد لهم من التوبة.
وعند مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: قال عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره}.. إسباغ الوضوء معناه: تعميم مواطن الوضوء بالماء، وإدخال الماء إلى البشرة، والوضوء على منهج السنة كما في الحديث الآخر: {أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} ما معنى على المكاره؟ قيل: أن تسبغ في شدة البرودة، فإنك إن أسبغت الوضوء حتى في شدة الثلج وشدة الشتاء يكفر الله عنك به الخطايا في المكاره. ولا يصح من قال: على الجروح؛ لأن هناك رخصة: أن من به جرح لا يغسل عليه.
{وكثرة الخطا إلى المساجد} كلما بعد البيت عن المسجد كان أحسن، وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار كان بعيد الدار عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له أصحابه: لو اشتريت حماراً تركبه إلى المسجد في ذهابك وإيابك قال: لا. إني أرجو الله أن يكتب لي ممشاي ورجوعي إلى بيتي، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {بشروه! إن الله قد كتب له ذهابه ورجوعه إلى بيته}.
وفي السنن: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} قال: {وكثرة الخطا إلى المساجد} قالوا: كان ابن عمر يقارب خطاه إذا ذهب إلى المسجد حتى كأنه نملة -هذا في الحديث- لأن كل خطوة ترفع بها درجة وتحط بها سيئة وتكتب به حسنة، وهذا فقه عجيب لـابن عمر.
{وانتظار الصلاة بعد الصلاة} أي أنك إذا صليت تنتظر الصلاة الثانية، قالوا: انتظارها في المسجد، وهذا قول، ولكن الظاهر والله أعلم أنه انتظارها بالقلب ومراعاة الوقت؛ وذكر الإمام أحمد عن عدي بن حاتم في كتاب الزهد قال: [[ولا دخلت علي صلاة إلا كنت لها بالأشواق]]. فالصالحون دائماً ينظرون إلى الوقت ويراعون الزوال وينظرون إلى ساعاتهم هل أذن، كم بقي من الأذان، متى يؤذن عندكم، قلوبهم معلقة بالمساجد، وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمساجد
وداعٍ دعا إذ نحن بـالخيف من منى فهيج أشواق الفؤاد وما يدري |
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بليلى طائراً كان في صدري |
سمها ما شئت؛ لكن خذها كالوردة شمها ولا تعكها فتفسد عليك.
وكثير من أولياء الله كذلك، فهؤلاء قلوبهم معلقة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسمعت رجلاً آخر يقول: أنا إذا سمعت الأذان يصبح جسمي كأنه على الجمر حتى أقوم إلى المسجد؛ لا يستطيع أن يقف.
نجار من الصالحين كان يشتغل في النجارة، فكان يطرق بمطرقته فإذا سمع الله أكبر وهو رافع للمطرقة، ألقاها خلفه ولم يردها ثانية..!
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقطع اللحم مع عائشة -وهو هذا المعصوم قائد البشرية يقطع اللحم، إما أن يمسك لها وهي تقطع أو أنه يقطع وهي تمسك له قالت: {فإذا سمع النداء قام كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}.
وقل لـبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا |
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا |
تولى المدينة أحد الناس، وكان من أسرة علمية وأسرة عبادة وزهد، فلما تولى هذا الأمير الإمرة كأنه ترفه قليلاً، وكان بيته في العوالي، فكان يأتي في الظلمات إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فوضع سرجاً (وضع لمبات فيها زيت وأشعلها) حتى يرى الطريق، فكتب له عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد الراشد رسالة قال فيها: سبحان الله! أنسيت العشيات؟ أنسيت: {بشر المشائين بالظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} قال: ذكرني أثابه الله فأطفأ السرج. لأن هناك نوراً يغنيه عن ذاك النور: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] فالذي نور قصره وبيته بأنوار الكهرباء، ثم ترك أنوار رب الأرض والسماء فلا نور له.
ومد بالنور فالأيدي قد اختلفت على الصراط وهذا الجمع محتفل |
لاينفع العلم قبل الموت صاحبه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا |
وهذه الأبيات من قصيدة طويلة لـابن المبارك رحمه الله.
وهناك على الصراط قال: يقف فينطفئ نور المنافقين، والشيخ حافظ في منظومته في العقيدة يقول:
ثم انطفا نور المنافقينا فوقفوا إذ ذاك حائرينا |
لأنهم بالوحي ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء |
فما استضاءوا بالوحي والنور الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم: نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] تركوا النور.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه |
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه |
فرسول الله يحمل النور من يركب معه ير النور، ومن يتخلف عنه لا يغنيه نور الدنيا، فالآن الذين لا ينزلون إلى النور في المساجد أين يجدون النور؟ الذين لا يحضرون الدروس ولا المحاضرات ولا صلاة الفجر ولا القرآن، أين يجدون النور؟ لأن النور ليس إلا رسالته صلى الله عليه وسلم
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]؛ فمحمد صلى الله عليه وسل نور، والقرآن نور، والسنة نور، والإسلام نور، فهو نور على نور وقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
وقف أبو تمام يحيي المعتصم في انتصاراته، والعلماء والوزراء أمامه، قال أبو تمام:
ما في وقوفك ساعة من باس تقضي ذمام الأربع الأدراس |
واستمر يصف الخليفة حتى قال:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس |
قال الفيلسوف أبو يوسف الكندي: ما زدت يا أبا تمام! على أن شبهت الخليفة بأجلاف العرب. يقول: تصف الخليفة بالبدو؟! عمرو بن معد يكرب من العرب أي: أنه بدوي أعرابي، وإياس وفلان وفلان؛ فتوقف أبو تمام قليلاً ليعتذر وأتى ببيتين قال فيهما:
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس |
فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس |
يغضي عن الفحشاء من خوف الردى ويلين للإخوان والأصحاب |
وبيت آخر:
عليه وقار الحلم يهتز للندى أمر من الدفلى وأحلى من العسل |
والدفلى: نبت شديد المرارة ذكره بعض أهل الأدب، ولـجعفر بن الزبير قصيدة على هذا، ذكر منها:
وقالوا سحيرات اليمام وأرسلوا أوائلهم من آخر الليل في الثقل |
وردن على ماء العشيرة والهوى على ملل يلتف منهم على ملل |
ثم يقول فيها:
له الجلالة من حسن الفعال ولا تراه إلا بشوشاً ضاحكاً فاه |
ومن قصيدة نظمتها قبل أربع سنوات في مدح المتواضعين وذم المتكبرين:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار |
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار |
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أعطوك من نورهم ما يتحف الساري |
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
وما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان: {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم} وهذا حديث حسن، وهو صحيح المعنى، فإن بعض الناس بحسن تعامله وخلقه يدرك أكثر مما يدركه كثيرُ النوافل وكثير الصيام، ولكنه شديد الغضب وسيئ الخلق، فبعضهم يصوم النهار ويقوم الليل لكن إذا سلمت عليه غضب، وعنده حدة واستفزاز، وربما يكون عنده تيه وشدة غضب وضجر، فربما أفسد بذلك عمله الصالح.
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان: {ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق يبلغ درجة الصائم القائم}.
وعند أبي داود بسند صحيح والطبراني في الكبير قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: {أنا زعيم -والزعيم: الوكيل- ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه} وكأن في الجنة أعلى وأوسط وربض (أدنى)؛ وأعلى الجنة: الفردوس سقفها عرش الرحمن، ومنها تتفجر أنهار الجنان، فمن حسن خلقه أسكنه الله أعلى الجنة في الفردوس، نسأل الله أن نكون منهم.
قال بعض المطالعين من المربين: أبلغ نظرية في الأخلاق نظريته صلى الله عليه وسلم وهو يقول للرجل: { لا تغضب} ولو اختصر الخلق في شيء لاختصر في كلمة لا تغضب، وإذا أردت أن توصي أحداً في حسن الخلق فقل له: لا تغضب.
وحسن الخلق عرَّفه الأئمة بأنه: بسط الوجه وألا تغضب. فبسط الوجه بأن تتبسم وألا تكفهر.
قال أهل الطب: العضلات إذا عبس الوجه انعقدت تسع عشرة عضلة منها، وإذا ابتسم في الوجه وانطلق لا تنعقد إلا عضلة فأنت توفر بهذا ثماني عشرة عضلة، حتى أنك تجد الدم فائراً والقلب يحترق بسبب الغضب، والعبوس ليس في الإسلام والعبوس ليس ديناً، وبعض الناس يريد أن يظهر العبادة والدين والزهد في وجهه، فتجده يظهره في وجهه وفي ثوبه، ولكن قلبه ليس بذاك، ودينه ليس بذاك.
حتى أن ابن الجوزي يقول في صيد الخاطر: رأيت أناساً يتزمتون ويظهر عليهم العبوس، ويظهرون التعبد للناس، وإن القلوب لتنفر منهم، ورأيت أناساً يتبسمون ويمزحون، وإن القلوب تطوف بهم؛ لأن الحب من الواحد الأحد وليس من الناس؛ فأنت لا تتصنع للناس.
أفدي ظباء فلاة ما عرفن به مضغ الكلام ولا زجَّ الحواجيب |
كن عفوياً، أي: أن تعامل الله عز وجل وما عليك من أحد لكن بحسن الخلق.
وهذا أفضل الفضائل، فليس من يصل رحمه التي وصلته، فهذا الكل يفعله، حتى عالم الحيوانات، وحتى عالم الكفر.
{وتعطي من حرمك} كثير من الناس يعطون من أعطاهم، لكن من حرمك من شيء وأعطيته، فهذا من أخلاق النبوة، وتصفح عمن شتمك.
وروى أحمدو أبو داود والنسائيو ابن ماجة وابن حبان {سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أفضل ما أعطي المسلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق} وحسن الخلق -أيها الإخوة-: بذل الندى وكف الأذى وبسط الوجه، وعلى المسلم كذلك ألا يحوج الناس لسوء الخلق، فإن بعض الناس من يضطرك إلى أن يسوء خلقك؛ إما بالإلحاح في الطلب أو بعدم معرفة الوقت المناسب، أو يكثر عليك في المسألة، أو أن يدخل عليك بجلافة وبكلام فظ، وعلى كل حال قد غضب عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم لكن أحوج إلى ذلك صلى الله عليه وسلم.
هذا ما هو في سفينة النجاة، وإنما سميتها سفينة النجاة؛ لأن من أخذ هذا الحديث وعرفه وعمل به وجعله نصب عينيه نجا في الدنيا والآخرة، فأسأل الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد أن ينجينا وإياكم من مزلات الفتن، وأن يحمينا وإياكم، وألا يجعلنا وإياكم ندامى أو خزايا.
نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لنا ولكم الحفظ والرعاية والتوفيق والهداية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: أنا أرشدك إلى جامع العلوم والحكم لـابن رجب بتحقيق شعيب الأرنؤوط.
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال فلا حرج؛ لما في دفع الزكاة إليهم من المواساة وتثبيت القلوب على الإسلام.. وفق الله الجميع!
الجواب: نعم. قال بعض المفسرين: (لا تَفْرَحْ) أي: لا تتبطر ولا تتكبر، وقالوا: هو فرح التجاوز والطغيان، وقال بعضهم: الفرح والفساد، وأما الفرح المحمود فهو فرح العبد بالطاعة كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
وأنت ينبغي أن تفرح بالعمل الصالح، أما من يفرح بالمعاصي أو يفرح بالكبر أو يفرح بالعلو، فهذا فرح فاسد.
الجواب: نعم. إذا كان مريضاً بهذا المرض وأراد أن يتوب إلى الله عز وجل فليتب؛ فهذا وقت التوبة وما زال بابها مفتوحاً فليعد إلى الله عز وجل؛ فإنه لم ينته من الحياة وما زال حياً فليتب، والله يتوب عليه.
الجواب: لا أظن أنه يشترط ذلك، ولو كانتا بعد أن يمر على الذنب فترة.
الجواب: مقصود الأخ: أن من أحب حب الهيام، وحب الوله والغرام والجوى والعشق، هل يكون من الشهداء، أما الحديث الذي ذكره ابن خلكان قال: {من عشق فعف فكتم فمات مات شهيداً} لا يصح.
قال ابن القيم: ليس عليه علامات النبوة، وليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن الحديث أتى من طريق سويد بن سعيد؛ قال يحيى بن معين: لو أن عندي فرساً وسيفاً لغزوت سويد بن سعيد من أجل هذا الحديث -أي: حاربته- لأن هذا ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم.
ولكن على أي حال من أحب فكتم فأجره على الله، لكن يكتم ولا يصل إلى فاحشة، ولا يصل إلى جريمة، وإنما هي مصيبة ابتلي بها، وبعض الصالحين أصيبوا بهذا الداء وماتوا فأسأل الله أن يأجرهم، وهي من المصائب التي يصاب بها العبد، لكن أنه من الشهداء ليس من الشهداء، وذكر ذلك جرير بقوله:
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا |
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا |
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل |
مثل هؤلاء عليهم أن يستغفروا الله وأن يتوبوا، وأن يلجئوا إلى الله عز وجل، وألا يصروا على ما فعلوا، وألا يزاولوا آثار هذا الحب بشيء من الحرام، بل يفروا إلى الله؛ قال الله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50] وابن الجوزي يقول هذا حتى يقول أحدهم:
بين عينيك علالات الكرى فدع النوم لربات الحجل |
قد كتمت الحب حتى شفني وإذا ما كتم الداء قتل |
لكن العبد عنده من الإيمان ومن الذكر والعمل الصالح ما يكفيه عن هذا.
الجواب: هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم، والصحيح عدم وجوب الذهاب ويكفي أن تستغفر لمن اغتبته وتندم على ما فعلت، وتذكره بمحاسنه، أما إذا ذهبت إليه فقد تكون الطامة الكبرى؛ فإنك قد تخبره فيقول: والله لا أغفر لك وأطالبك بحقي، خاصة إذا كان من المشاكسين؛ فإن بعضهم يتمنى الخصام في أي مكان، فإذا أظفرته بنفسك أخذك.
وأيضاً بعض الناس يتسرع ويؤذي قلوب العباد، فتجد بعضهم يقول: نلت منك في مجلس فادع لي، أي: بدل أن تطلب عفوه يطلب أن تدعو له وتجازيه على أنه نال من عرضك في المجالس، بدل أن يدافع عن عرضك في المجالس وبدل أن يثني على ما أنت فيه، وبدل أن يدعو لك يغتابك ويجرح عرضك ثم يقول: لا تنسني من دعائك..!!
وصل رجل إلى محمد بن سيرين فقال: قد اغتبتك فحللني. قال: والله لا أحل لك ما حرم الله.
أي: لأن الله يقول: حرام، وأنا أقول: حلال! لا.
وأتى رجل إلى الحسن البصري قال: فلان اغتابك. قال: تعال؛ فأتى فقال له: خذ هذا الطبق من الرطب وقل له: أهديت لنا حسناتك ونحن أهدينا لك رطبنا.
وهذا درس عملي، حتى قال بعض الصالحين: من أراد أن يغتاب فليغتب والديه حتى إذا أخذ من حسناته، فإنها لن تكون إلا لوالديه؛ لأنهم أقرب الناس إليه، ومسكين بعض الناس يوزع حسناته طيلة الليل والنهار، وبعضهم مثل الشيطان الرجيم لا يشتغل إلا بالصالحين في المجالس: أسمعتم؟ أرأيتم؟ ثم يبدأ بسكاكينه في أعراضهم، فالله حسيبه، والله الذي يكفي عباده الصالحين؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38] فهو المدافع وحده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
مر عامر الشعبي برجل جالس وراء حائط وهو يغتاب عامراً الشعبي فأشرف عليه عامر فقال:
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لـعزة من أعراضنا ما استحلت |
عسى الله أن يغفر، وعسى الله أن يرحم، وعسى الله أن يهدي، وعسى الله أن يسدد، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر