إسلام ويب

الشباب وأدب الاختلافللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الاختلاف سنة من سنن الله في هذا الكون، وهذا الخلاف يختلف باختلاف الأشخاص، ولكن أي خلاف له آداب، وله أسباب، فيا ترى ما هي هذه الأسباب؟! وما هي هذه الآداب التي تفتقر إليها الجماعات والأفراد اليوم؟

    وهل الأئمة الأربعة كانوا يتعصبون لأقوالهم ولآرائهم؟

    للإجابة عن هذه الأسئلة ستجدها في هذا الدرس.

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذا الدرس: الشباب وأدب الاختلاف:-

    الشباب وأدب الاختلاف هو مجال هذا البحث في هذه الليلة، وسوف يكون بإذن المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى دروس تخص الشباب؛ كدرس الشباب والهمة العالية، الشباب والتأثير، الشباب والعزلة، الشباب والعلماء، نتكلم عن حديث من أحاديثه عليه الصلاة والسلام، فمنها: سنة الله في الاختلاف سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ومنها أسباب الاختلاف: البغي، الحسد، الكبر، التعصب للأشخاص والمناهج، ضيق الأفق، فساد التصور وضعفه، إلزام مالا يلزم، غلبة العاطفة على العقل، حب الخلاف لذاته، عدم التثبت من الأقوال والأفعال.

    أما أدب الاختلاف فمنها:

    1/ سماع الحجة والرأي الآخر.

    2/ إيراد الدليل.

    3/ الهدوء في الرد.

    4/ ذكر جوانب الاتفاق قبل الاختلاف.

    5/ التواضع في الرد.

    6/ تحديد الخلاف.

    7/ التحاكم إلى أصحاب الأهلية في الحكم.

    8/ الرد إلى الله ورسوله في المسائل الشرعية.

    9/ تجنب النيل من الأشخاص والتشفي بهم.

    10/ ترك الإزعاج ورفع الصوت والتهويل.

    11/ معرفة أنواع الاختلاف أهو تضاد أم تنوع؟

    12/ عذر المخالفين في أمور الشريعة.

    13/ قصد الحق وطلبه.

    14/ الإنصاف مع العدو ومع القريب.

    15/ ثم بعض القضايا حول هذا المنهج والله الموقف إلى سواء السبيل.

    اعلموا -حفظكم الله- أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118-119] قال بعض العلماء: وللاختلاف خلقهم، وبعضهم ألف في ذلك كتاباً يرى أن من سر خلق الخليقة الخلاف والذي يظهر أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى خلق الخلق للعبادة -وهو الصحيح- فإن الله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فخلقهم للعبادة لا للاختلاف، لكن من سننه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الكون، أنه ميَّز بين الأطعمة والأمزجة والألوان والمطعومات والمشروبات والأفكار، فجعل الحلو والحامض، والظلمة والنور، والليل والنهار، وجعل الحار والبارد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد:4] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الأيام: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وجعل سُبحَانَهُ وَتَعَالى من آياته التي تثبت تدبيره للكون سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبديع صنعه، اختلاف الألسنة والألوان، فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى خالف بين ألسنة الناس ونطقهم وألوانهم، فتبارك الله أحسن الخالقين، فسبحان الذي يغير ولا يتغير.

    إذاً فلابد أن يقع الاختلاف في الكون، ولا بد أن يقع في المجتمع الصغير، بدأ من الأسرة ثم القرية ثم المدينة ثم الشعب ثم الأمة ثم المعمورة، فلا بد أن يقف الإنسان أمام سنة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الاختلاف.

    ما هو موقف الشاب المسلم المقبل على الله عز وجل لأننا في مرحلة كثر فيها المتجهون إلى الله، وكثر الجيل الذي عرف طريقه إلى القبلة، وعرف اتجاهه والحمد لله.

    كل البرايا على أصنامها عكفت     وقومنا عند باب الله قد عكفوا

    في كفك الشهم من حبل الهدى طرف     على الصراط وفي أرواحنا طرف

    فقائدنا هو محمد عليه الصلاة والسلام، وبيتنا المسجد، ومطلبنا الجنة، وطريقنا الصراط المستقيم، ودستورنا وحي من السماء، وشيوخنا: أبو بكر وعمر وشاعرنا حسان، ومفتينا معاذ.

    ماذا تريدون؟!

    يريدون وجهه:(دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء، وترعى الشجر حتى يلقاها ربها) وهذه هي أمانة الجيل وهم في مرحلة يريدون فيها تنظير بعض المسائل؛ ليتجهوا إلى الله عز وجل وإلا فالعودة إلى الله فرضت نفسها على مستوى العالم، فكان لهذه القضية أهمية أوجبت على الدعاة أن يتكلموا عنها عن مسألة الاختلاف؛ لأنه يكثر التشاجر والردود والغضب والانفعالات التي إذا أعدتها إلى أصولها لا تجد لها مبرراً.

    البغي سبب للخلاف

    ما هي أسباب الاختلاف بين الناس؟ البغي والعدوان، البغي بغير علم ولا هدى، تجد بعض الناس يُحب أن يبغي على الآخر وفي طبيعته العدوان، فهو مركب في نفسه كالسم في العقرب إذا لم تنفثه ماتت، وبعض الحيات فيها سم إن لم تلدغ في السنة مرة ماتت، فتجد بعض الناس كهذه الفصيلة يريد أن يظلم على حد قول زهير بن أبي سلمى:

    ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه     يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

    وأوله صحيح وآخره خطأ.

    وقال المتنبي:

    ومن عرف الأيام معرفتي بها     وبالناس روى رمحه غير ظالم

    يقول من يعرف الناس مثلي روى رمحه من دمائهم، وهذا ظلم وخطأ.

    ويقول الشاعر الجاهلي -أيضاً- في الظلم والطغيان بحق أو بغير حق:

    وأحياناً على بكر أخينا     إذا ما لم نجد إلا أخانا

    يقول نهاجم الأعداء فإذا انتهى الأعداء هاجمنا جيراننا فلا بد أن نهاجم؛ فإنك تجد بعض الناس إذا لم يجد حرباً مع العدو رجع على جيرانه.

    وتجد بعض الناس لا يرتاح إلا أن يجلس معك في المجلس؛ فإذا سمع رأيك خالفك وإن كان يوافقك في سره لكن يحب الخلاف، يرى الأمر يجوز لكن إذا سمعك تقول: يجوز، يقول: لا يجوز، ولذلك جعلوا من آداب الصحبة ألا تخالف، وبعض الناس (مرفوس) في رأسه الخلاف، تسافر معه، فتقول له: ما رأيك، نجلس تحت هذه الشجرة؟ قال: لا؛ تحت هذه الشجرة، ما رأيك نجمع العصر مع الظهر؟ قال: لا نجمع الظهر مع العصر، ما رأيكم حفظكم الله نظل يوم الثلاثاء بالعمرة ويوم الأربعاء؟ قال: ما رأيك أنت، فتقول: يوم الثلاثاء، يقول: لا يوم الأربعاء، فيقول: ابن المبارك:

    وإذا صاحبت فاصحب ماجداً     ذا حياء وعفاف وكرم

    قوله للشيء لا إن قلت لا      وإذا قلت نعم قال نعم

    وهذا من أبيات التربية الرائعة البديعة اسمع إليه:

    وإذا صاحبت فاصحب ماجداً     ذا حياء وعفاف وكرم

    قوله للشيء: لا إن قلت: لا     وإذاً قلت نعم قال نعم

    وفي بيتين آخرين:

    إذا صاحبت قوماً أهل ود     فكن لهم كذي الرحم الشفيق

    ولا تأخذ بزلة كل قوم     فتبقى في الزمان بلا رفيق

    فالمخالف دائماً يكون مبغوضاً، الذي يحب الخلاف مغضوب عليه، والذي يحب أن يخالف بحق له مكانته ورأيه، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران:19] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89] اليهود يشهدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول فلما جاءهم بالعمل كفروا والنصارى كذلك بغياً وعدواناً.

    الحسد سبب للخلاف

    ومنها: الحسد؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109] ما خلى جسد من حسد، والحسد يسري في أهل المهن والمتقاربون في السن والزملاء، والأقران فتجد أحدهم يخالف زميله لا لشيء إلا لأنه زميله فقط؛ يقول: الشيخ تجده يخالف الشيخ، والطالب يخالف الطالب، والمهندس يخالف المهندس، والطبيب يخالف الطبيب، والشاعر يخالف الشاعر، يقول الشاعر:

    ولكل شيء آفة من ضده     حتى الحديد سطا عليه المبرد

    جعل الله لكل شيء آفة من ضده، فتجد الحديد هذا ما أقوى منه لكن عليه مبرد يقصمه.

    يقول أحد الحكماء: ما أقوى شيء خلقه الله؟ قال: خلق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الجبال، قالوا: ما أقوى من الجبال، قالوا: الحديد، قالوا: فما أقوى من الحديد، قال: الريح. ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] وأثبت العلم الحديث أن الريح أقوى قوة، قالوا: ما أقوى من الريح، قال: الصمت، الصمت أقوى من الريح ولذلك يقول البردوني يحيي الرسول صلى الله عليه وسلم ويحيي دعوته:

    بشرى من الغيث ألقت في فم الغارِ     وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار

    بشرى النبوة طافت كالشذا سحـراً     وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار

    وشقت الصمت والأنسام تحملها     تحت السكينة من دار إلى دار

    المقصود: أن الحسد هو الذي يحمل بعض الناس على أن يخالف بغير حق، وهذا مذهب بني إسرائيل -والعياذ بالله- لأنهم أحسد الناس فقد ذكر الله تعالى ذلك: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء:54] وهذا سارٍ في الشباب ولو استقاموا.

    قيل للحسن البصري أيحسد المؤمن، قال: ويلك أنسيت قصة أبناء يعقوب لما حسدوا يوسف عليه السلام، قال: إذا حسدت فلا تبغ، إذا حسدت أحداً فأخفهِ تسيء في قلبك، ولا تسيء بكلمة، لا تجرح عرضه، لا تسيء إليه بحركة غير مسئولة.

    الكبر سبب للخلاف

    ومن أسباب الاختلاف الكبر، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم عن الكبر، قال: {الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق: رده، تجد بعض الناس متكبراً تسلم عليه فلا يرد؛ لأنه من فصيلة أخرى دمه دم آخر، إذا نصحته قال: تقول لي هذا الكلام، مثلي ينصح؟! مثلي يوجه له مثل هذا الخطاب؟! ابدأ بنفسك فانصحها، هذا هو بطر الحق.

    وغمط الناس؛ لأن بعض الناس يتوهم أن الكبر في المظهر الجميل والرسول صلى الله عليه وسلم منع ذلك، يقول أحد الناس يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة، أفمن الكبر يا رسول الله؟ قال: {لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} رده وجحده وعدم قبوله، وما حمل أبا جهل على رد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا الكبر، وكذلك الوليد، وكذلك الطغاة كفرعون، وهامان وقارون، وإلا فـأبو جهل يقول: إنا نعلم أن محمداً صادق، لكن إذا قال بنو هاشم عندنا النبوة فماذا نقول نحن؛ لأنهم أسرة بنى مخزوم، تعارض بني هاشم دائماً في كل مكان، فقال: إذا قالوا النبوة عندنا فماذا نقول؟ فيقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] وقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ [الأعراف:146].

    فالمتكبر يرد الحق ويخالفك؛ لأنه يرى أنه ليس بإمكانه أن يتنازل لك ويسمع منك الحوار والمناظرة، والعالم يعيش الآن مبدأ الحوار وسماع الرأي الآخر، أن يستمع لك بغض النظر عن مستواك، فلاح أو مهندس أو راعي غنم أو بدوي؛ لكن يريد أن يسمع منك، وقف عمر رضي الله عنه وأرضاه على المنبر يشجع الحوار فقال: [[يا أيها الناس! ما رأيكم إذا رأيتموني عدلت عن الطريق هكذا؟ -يعني طريق الاستقامة- فقام أعرابي في آخر المسجد يرعى غنماً عنده سيف طوله متران فسل سيفه وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، قال: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو قلت عن الطريق هكذا لقال بالسيف هكذا]] فهذا مبدأ أن يسمع كل من الآخر، وأن يرى هل الحق معك أم معه.

    التعصب لشخص أو لمنهج سبب للخلاف

    السبب الرابع من أسباب الاختلاف: التعصب للأشخاص والمناهج، بعض الناس إذا أحب شخصاً تولع به، مثلاً: بعض الناس يسمونه مجنون أبي حنيفة، عالم توفي قبل فترة يسمونه مجنون أبي حنيفة، كلما جئته قال أبو حنيفة وخالف أبو حنيفة فلان قال: من خالفه فقد أخطأ (قاعدة على طول الخط) وأبو حنيفة ليس معصوماً، نعم إنه عالم جليل فاضل نحبه ونتقرب إلى الله بحبه، لكن ليس معصوماً، فتجد بعض الناس يتعصب مثلاً لشيخ، فيقول: شيخي إذا قال مسألة فهو الصحيح لا يمكن أن يخطئ، وتجده يدافع عنه ويرد على من رد عليه بالحق وبالباطل، وهذا لا يصح وليس أحد معصوماً إلا محمد صلى الله عليه وسلم، والكتب كلها فيها اختلاف إلا القرآن، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82].

    التعصب للمنهج: يرى بعض الناس أن منهجه ووسيلته وطريقته ما أسعد منها وما أصح منها وغيرها خطأ، وأنه يجب على الناس والشباب أن يمضوا مع منهجه، وأن يسلموا بطريقته، وأن يستسلموا لما يقول، ويرى أن الحق فيما يسير عليه وأن غيره مخطئ وهذا ليس بصحيح، ولذلك يقول هؤلاء أهل المبدأ: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51].

    فمثلاً يقول: أبو جهل كيف يكون الحق مع بلال ومع صهيب وابن مسعود حتى يقول أحد الكفار: لو كان ما جاء به محمد هو الحق ما كان معه بلال وهؤلاء الضعفة.

    يقول رجل لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: يا علي! أتظن أن الحق معك والباطل مع طلحة والزبير وعائشة -يعني في الجمل- قال: [[ويلك اعرف الحق تعرف أهله، ولا تعرف الحق بالرجال]] وجوابات علي دائماً تكون مسددة، وقد ذكرت لكم أنه فاجأه رجل فقال: سبحان الله! ما للأمة اتفقت على أبي بكر وعمر واختلفت عليك، قال: [[لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي ورعيتي أنت وأمثالك]] نعم؛ فالتعصب للأشخاص والمنهاج مصيبة بلغ الإسفاف عند بعض الناس في الأمة أنه يحب مطرباً مغنياً فيتوله به وبحبه ويدافع عنه ويغضب، أو يحب نادياً رياضياً فيعلق إشارة النادي في سيارته وفي غرفة النوم، وفي الطريق وفي كل مكان، ويكتب على سريره هلاليون حتى الموت:

    ناصريون نصرهم أين ولى     حين داست على الجباه اليهود

    وحدويون والبلاد شظايا     كل قطر عن البلاد شريد

    ويقول نزار قباني:

    وحدويون والبلاد شظايا     كل جزء من لحمها أجزاء

    ماركسيون والجماهير جوعى     فلماذا لا يشبع الفقراء

    لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس      وضاعت من قبلها الحمراء

    فتجد تعصب بعض الناس حتى للمطرب أو للرياضي، وتجد شركات تقوم بالدعاية على هذا ويتضارب أناس، وتتكسر أيدي، وتدق أنوف، وتطلق زوجات من أجل هذا، وهذه سفاسف تمتلئ بها عقول بعض الناس.

    ضيق الأفق سبب للخلاف

    ومن أسباب الاختلاف ضيق الأفق: بعض الناس ضيق الأفق، لا يريد أن يحاورك ولا يتسع صدره لتأخذ وتعطي معه وتورد له رأيك فهو مغلق من أول الطريق يقول لك: خطأ، لا يصح، لا يعرف إلا هذه الكلمات، فهو مستعد بهذه الطلقات يرد بها عليك، حسناً: اسمع الحجة، واسمع ماذا أقول، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] اتركه حتى يسمع كلام الله، حتى يسمع النور، ويسمع الوحي، اجعل له فرصة حتى يظهر لك ما في صدره، أما أن تلقي عليه محاضرة في التعليق ثم لا تعطيه فرصة للتكلم فهذا ظلم! ولابد أن تسمع كلام الآخر وأجمع العقلاء أن صاحب الحجة لا بد أن يسمع لحجة غيره، اسمع للشافعي صاحب العقل المتنور وهو يقول: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب، يقول: ويقول: والله ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق على لسانه وكان إذا ناظر أحداً قال: اللهم سدده، اللهم ثبته، ولذلك رفع الله الشافعي وأمثاله.

    يقول المتعصبون: قولنا حق، وقول غيرنا خطأ، وتجد أحدهم إذا أراد أن ينتصر لنفسه شتم المقابل -في المسائل الفرعية أقصد- واستهزأ به ونال عرضه وأسرته وكل شيء فيه.

    فساد التصور وضعفه سبب للخلاف

    ومن أسباب الاختلاف: فساد التصور وضعفه، فإن بعض الناس عندهم فساد في تصور الأمور وإدراكها مثل: أن يأتي بصغائر المعاصي فيجعلها كبائر، مثل إسبال الثياب يعدها الآن بعض العلماء من الكبائر لكنها ليست من الموبقات السبع التي عدها صلى الله عليه وسلم، ثم إن صاحبها لا يكفر بها، قد تجد بعض الناس يكبر هذه ويحجمها ويضخمها لفساد تصوره عن الإسلام وإلا فهي من المعاصي والذنوب، لكن هو لا يدرك حجم القضايا في الإسلام، وما هي الكبائر وما هي الصغائر وما هي أركان الإسلام وأركان الإيمان؟ فتجده يقول إذا مر برجل مسبل: أسأل الله أن يحاسبه بعدله، ثم يقيم الدنيا ولا يقعدها، فمسألة الإسبال عنده قضية الساعة مهما حدثته عن فساد المناهج، عن الخواء العقدي، عن التلوث الفكري، ما عنده إلا هذه المسألة وهو مأجور لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً.

    ضعف التصور: فإن بعض الناس يتصور بعض الأمور على غير ما هي عليه، كما فعل الخوارج يحملون آيات الكفار على المؤمنين فكلما سمعوا آية قالوا: المقصود بها أولئك وإلا فـأهل السنة يحملون آيات الكفار للكفار وآيات المؤمنين للمؤمنين.

    إلزام مالا يلزم سبب للخلاف

    السبب السابع من أسباب الاختلاف: إلزام مالا يلزم، تجد بعض المخالفين يقول: قال العالم الفلاني كذا وكذا، ويقصد به كذا وكذا، إذاً هو كذا وكذا مثل ماذا؟ مثل: رجل قال: من استمع للغناء ورضي به فهو فاسد، ومن كان فاسداً ورضي بالفساد في بيته فهو ديوث، ومن كان ديوثاً لا يدخل الجنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة ديوث} إذاً فمن استمع الغناء فهو ديوث هذه قواعد مثل قواعد الهندسة، وهذا المطلوب إثباته أي: يركب الفتيا تركيباً، وهذا خطأ عند أهل العلم لأنه يلزم ما لا تلزم، أضرب مثلاً: تقول له: رحمة الله واسعة، والله غفور لذنوب العباد، فيقول: المرجئة يقولون: إن الله غفور لذنوب العباد، والمرجئة يستسهلون المعاصي إذاً أنت مرجئ، إذاً أنت مبتدع من المرجئة، فينزل عليك الحكم أول ما تأتيه، وهذا إلزام ما لا يلزم وليس بصحيح.

    رد بعض الناس على بعض الدعاة فقال: يقولون: إن الإسلام ليس مسائل نقض وضوء، ولا نواقض وضوء ولا حيضاً، والخميني يقول: ليس الإسلام نواقض وضوء ولا حيضاً، إذاً هم مثل: الخميني إذاً فهم رافضة إذاً هم يشتركون مع الخميني، وهذا ليس بصحيح؛ لأن أهل السنة قد يشتركون في قدر نسبي مع أهل البدعة فمعنى العالم في الإسلام إذا قال: ليس الإسلام من الحيض ولا للنفاس ولا لنواقض الوضوء يعني معنى كلامه أنه دين شامل للحياة، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] ومعنى كلام الخميني أن هذا الدين بفرعيات ليس الذي هو شغل به بالناس، إنما المقصود: الحكم، فيلزم بعض الناس البعض بما لا يلزم وليس بصحيح، فإن الخوارج يوافقوننا أحياناً في بعض الجزئيات، واليهود يوافقوننا في بعض الجزئيات، والنصارى يوافقوننا في بعض الجزئيات، فاليهود والنصارى يوافقوننا أن الله موجود، ويخالفوننا في الرسالة والألوهية، بل ما أظن أنه ليس في العالم جنس إلا يتفق مع الجنس الآخر في شيء.

    حتى الشيوعيون يوافقوننا أن هناك مؤثراً في الكون ونحن نقول: المؤثر هو الله، وهم يقولون: إنها الطبيعة المؤثرة.

    تغلب العاطفة على العقل سبب للخلاف

    السبب الثامن: غلبة العاطفة على العقل: تجد الشباب في السن هذا المحدد بين العشرين والثلاثين، أو بين الخامسة عشرة والثلاثين، أو أقل بقليل تجده يندفع وعاطفته جياشة، ودائماً كلامه غليظ، ويستخدم من العبارات الثقيلة التي قد تضل أحياناً عن العقل، فإذا أتى يرد رد بقوة وجرأة، وبالحق والباطل، وأجلب بخيله ورجله؛ لأن العاطفة غلبت عنده، ولذلك نريد عاطفة شباب وعقول شيوخ؛ لأنها إذا أتت عاطفة شيوخ وعقول شيوخ ماتت الأمة فلا يغير أحد المنكر، وإذا أتت عاطفة شباب وعقول شباب تدمرت الأمة، لكن عقول الشيوخ وعاطفة الشباب هو المطلوب في الإسلام والمقصود.

    فأحياناً إذا حاورت شاباً تجده إنما يميل إلى هذا الرأي ميلاً وينتصف أكثر مما ينبغي، يخطئ بعض الناس في المحاضرات، تجد بعض الناس يقول: حسبنا الله عليه، لماذا يقول هذا الحديث صحيح وهو ضعيف وقد أخطأ، وهذا يدل على عدم معرفته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهجره للسنة وعدم اهتمامه بهذا الأثر الشريف، وهذا حماس لا داعي له، البيان أن تبين أنه أخطأ في الحديث، وأن تبين وجهة نظرك.

    حب الخلاف لذاته سبب للخلاف

    السبب التاسع: حب الخلاف لذاته، يقول أحد الشعراء أظنه الشريف الرضي:

    مشغوفة بخلافي لو أقول لها     يوم الغدير لقالت ليلة الغاري

    فبعض الناس مشغول بالخلاف، يحب الخلاف لذاته إذا قمت قعد، وإذا قعدت قام، وإذا تبسمت غضب، وإذا غضبت تبسم، فهو يريد أن يكون دائماً مخالفاً لك في كل شيء، لا لشيء إلا لأنه يحب المعارضة وهذه تنشأ مع الأطفال، أحياناً: تجد بعض الأطفال ينفرد عن أطفال الحارة في لعبهم وجلوسهم وسيرهم فينشأ معه الخلاف حتى يكبر، يقولون: إن الأشتر النخعي كان يحب الخلاف منذ أن كان صغيراً، الناس في كفة وهو في كفة.

    وهذا استطراد وهو الذي قتل محمد بن طلحة في معركة الجمل.

    خرج إليه ومحمد بن طلحة لا يريد القتال وكان الأشتر شجاعاً مهاباً نظر إليه عمر وقال: ويل لك وويل للعرب منك- اقترب هذا الأشتر من محمد بن طلحة فقتله، فيقول: محمد بن طلحة أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقال:

    وأشعث قواماً بآيات ربه     قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

    شققت له بالرمح جيب قميصه     فخر صريعاً لليدين وللفم

    على غير شيء غير أن ليس تابعاً     علياً ومن لا يتبع الحق يندم

    يذكرني (حم) والرمح شاجر     فهلا تلا (حم) قبل التقدم

    فالخلاف طبيعة في بعض الناس.

    عدم التثبت سبب للخلاف

    السبب العاشر: عدم التثبت من الأقوال والأفعال: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] كثير من الناس الآن يبني أحكامه على غير معرفة الرأي الآخر، سمع أن داعية قال كذا وكذا فقام على المنبر بخطبة يرد عليه، فيظهر له بعد الخطبة أنه ما قالها، قال: أخبرني فلان عن فلان، سند إسرائيلي معضل.

    وبعضهم يسمع طرف الخبر، ويقوم يبني عليه ويرد ويكتب ويدرب ويعلم وليس كذلك، أهل السنة إذا بلغهم الخبر تثبتوا من صاحبه وراسلوه، ماذا تريد؟ وما مقصدك؟ أما أن تسمع الخبر وتلقيه على عواهنه.

    والخطورة التي يعيشها شبابنا اليوم خطورة الشائعات، تجد الآن الشائعة تخرج شبراً وتعود إليك ذراعاً أو متراً أو باعاً، تخرج كلمة ثم تنتشر وتنتشر فلا تعود إليك إلا وهي حبل كبير من المصائب فالناس يحبون الشائعات، تعطيها جارك فيزيد عليها كلمتين، والجار يسلمها جاره بثلاث كلمات وهكذا تدور في الحارة فلا تخرج من الحارة إلا وهي محاضرة.

    من الأحاديث يقول الإمام مالك يخرج الحديث من عندنا من المدينة شبراً ويعود من العراق ذراعاً، وهذا مثل كثير من المبتدعة، فإنهم يأخذون الحديث من صحيح البخاري ثم يزيدون عليه ثلاثة أضعاف الحديث، فالمسلم دائماً يتثبت، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36] فوصيتي لإخواني إذا سمعوا خبراً من رجل أو من داعية أو من طالب علم أو من مسئول، أن يتثبتوا منه شخصياً، وأن يتأكدوا حتى لا يكونوا عرضة للتهم وبالمجازفة، ولا للنبز بالعجلة والطيش.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088933758

    عدد مرات الحفظ

    779993848