أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أجلس في هذا المكان معتذراً من جلوسي مكان الشيخ الأستاذ الداعية سعيد بن مسفر، وأنا أدري أن هذا المكان والفراغ لا يحل فيه إلا هو، ولسان حالي يقول:
لعمر أبيك مـا نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم |
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رُعيَ الهشيم |
وليس في ذلك لشيء؛ فطلبة العلم بعضهم ينوب عن بعض، وكذلك الدعاة، ولكن هذا الشيخ سبقنا في الدعوة بسنوات، والهذلي يقول:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابةً لكنت شفيت النفس قبل التندم |
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم |
فلا بد أن نعرف كل صاحب فضل بتقدمه وسابقيته في الإسلام وفي الهجرة وفي الدعوة وفي الجهاد، وهذا لنعرف للأشخاص وزناً وقيمة.
والطموح هو الهمة التي كتبها محمد صلى الله عليه وسلم بميراثه، وما فعل أحد في الأرض كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يأتي بالإنسان كتلة من لحم ومن دم ميت، فيغرس في قلبه لا إله إلا الله، فينتفض حياً بلا إله إلا الله، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] لا والله.
والطموح يوم فقدناه متنا، ماتت دروسنا ومحاضراتنا، وكلماتنا، وشبابنا إلا عند من رحم الله، الطموح همة عالية، يقول الحسن البصري في الهمة: [[هي ألا ترضى لنفسك ثمناً إلا الجنة]] لأن بعض الناس رخيص يعرض بضاعته بأي سوق، ويبيع نفسه بأي ثمن، ولكن الغالي لا يبيع نفسه إلا بشيء غالٍ، إنها سلعة الله الغالية، وهي الجنة التي أعدها الله عز وجل للمتقين ولا يدخلونها إلا بأحد أمور ثلاثة:
إما بشهادة تسفك الروح والدم، وإما بعلم ينهض بالناس من الجهل والخرافة والتقليد والتبعية، إلى النور والبصيرة والأصالة والعمق، وإما بعبادة وزهد يجردك عن الدنيا وتجعلك كماء الغمام أو كحمام الحرم، والحب سوف يكون درسنا هذه الليلة عن الحب والإيمان والطموح.
الحب هو الشيء الذي سكبه محمد صلى الله عليه وسلم في القلوب، وجعله إكسيراً لهذه الحياة، ومعنى أمة بغير ذلك هي الخراب والدمار والعار والشنار، والتعامل بلا حب هو الجفاء، والزيارة بلا حب قطعية، والصلة بلا حب جفاء.
وربما يتسائل متسائل: أنتحرج ونقف حتى تأتينا فتيا في الضحك أو البكاء؟
يقول ابن عباس كما علقه البخاري: [[هو أضحك وأبكى]] مادام الله هو المضحك المبكي، كيف نضحك ونبكي؟
لأننا أمة كل حركة وكل سكنة فيها مسيرة بأمر الله الواحد الأحد.
قال البخاري رحمه الله: (باب ما جاء في قول الرجل: ويلك) لأنه يتحفظ من كلمات وعرة موحشة تجرح المشاعر وتخدش القلوب، ولكن يلتزم من ذلك بكلمات استخدمها ألطف الناس وأرحمهم وأجلهم، الذي يقول الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فما دام أنه قالها من باب أولى أن نقولها نحن، والذي يتورع عن شيء فعله صلى الله عليه وسلم يقول ابن تيمية: فورعه بارد، هذا إن كان يتورع عن شيء فعله صلى الله عليه وسلم وهو أتقى الناس لله، وأعلم الناس بالله، وأخشى الناس لله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك} في هذا الحديث قضايا.
إن هذه التراجم تميت القلوب، وفيها فوائد لكن إذا بقيت المسارات على هذه المسارات أن تسجل بهذه الأمور المحددة، فليس في الأمة انبعاث ولا روح.
قتادة بن دعامة السدوسي مولى من الموالي من حفاظ الكوفة الكبار، جلس عند سعيد بن المسيب شهراً كاملاً، فقال لـابن المسيب: أسمعني ماذا تحفظ من القرآن؟
قال: خذ مصحفك، قال ابن المسيب: فوالله لقد تلا علي سورة البقرة ما أسقط حرفاً واحداً وما رددته في كلمة، فقال ابن المسيب: حفظك يا قتادة كالسحر.
ولكن من طرفة الذهبي في سير أعلام النبلاء يقول: أقام قتادة عند سعيد بن المسيب ثلاثة أيام، وكان سعيد رجلاً فقيراً، قال: يا أعمى! اخرج أفقرتني.
وهذا وارد لأن دخل سعيد بن المسيب كان سهلاً بسيطاً، عشرين درهماً في الشهر من زيت يتمول به، وهو سيد التابعين، وكلمته تهتز لها الخلافة في دمشق، ولكنه ما رضي أن يتمندل به وأن يباع في سوق المزاد، فرضي بالزيت وكسر الخبر كما قال الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركـوا فؤادي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
يقول الذهبي في ترجمة قتادة: كان فيه شيء من البدع، أي: التشيع اليسير، قال: ولكنها منغمرة في بحار حسناته، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
بعض الناس له سيئات بسيطة لكنها منغمرة في بحار حسناته، فلا ننسى هذه البحار ونأتي إلى السيئات فنبينها للناس.
أين الحسنات أين قدم الصدق، أين البذل والعطاء، إن الناس يقومون بميزان الله قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
فالمقصود أن هذا الرجل كان قدرياً، لكن لا يضره بحمد لله، روى عنه البخاري ومسلم، وكان حافظاً جهبذاً متقياً لله عز وجل من أكابر المفسرين.
مولى لكن ما اعترف محمد عليه الصلاة والسلام بالتفرقة العنصرية في دستوره كما قالها نابليون وهتلر أعداء الإنسان وقتلة الإنسان.
الموالي علماء وقادات الأمة، وبلال قصره في الجنة كالربابة البيضاء، وأما أبو لهب ففي نار ذات لهب، لأن هذا تلعق بالنسب فانقطع من حبل الله، وذاك أتى من الحبشة بمفتاح (لا إله إلا الله) ففتحت له الجنة، قال عمر: [[
عن أنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم، وله هذا الشرف العظيم، وأيامه ثلاثة، يقول: يوم لا أنساه في حياتي، وهو يوم: قدم المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة، فو الله الذي لا إله إلا هو ما كنت أظن أن أحداً يبكي من شدة الفرح، حتى رأيت الأنصار يبكون من شدة الفرح بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام.
طفح السرور علي حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني |
واليوم الثاني: يوم أتت به أمه هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم لها قصر في الجنة كالربابة البيضاء، يقول صلى الله عليه وسلم: {دخلت الجنة البارحة فرأيت
وأما ماله فكثر، وكانت مزرعته في البصرة تنبت في السنة مرتين، والنخلة لا تطلع إلا مرة واحدة، كان شذى ريح المسك يهب على البصرة، فقحطت هذه المزرعة فجلس بجانبها يستغفر، قالوا: مالك؟ قال: يقول الله عز وجل على لسان نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً [نوح:10-11] فنـزل الغيث مدراراً على مزرعته، وما أصابت قطرة خارج المزرعة.
وأما غفران الذنب؛ فهي دعوته صلى الله عليه وسلم عند الله، خدم المصطفى صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، قال: والله ما قال لي في شيء فعلته: لم فعلته؟ ولا في شيء لم أفعله: لمَ لم تفعله؟ وأي خلق هذا الخلق؟!
وأما يومه الثالث: فيوم فارق المصطفى صلى الله عليه وسلم وودعه، وقال: {صلينا الظهر يوم الخميس، فرفع رسول صلى الله عليه وسلم ستار غرفته، فرأينا وجهه كأنه ورقة مصحف، فما رأيت وجهه بعد تلك المرة إلى الآن} ولكن سوف يراه يوم القيامة إن شاء الله:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
في السيرة أن أعرابياً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: سعيت قبل أن أطوف، لأن الأصل الطواف قبل السعي، وعند أبي داود بسند جيد عن أسامة بن شريك: قال رجل: يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف، قال: افعل ولا حرج.
فذهب يتأكد من عمر رضي الله عنه، فسأله، قال: افعل ولا حرج، قال: صدقت، قال: ولم؟ قال سألت الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبرني كما أخبرتني.
قال: خررت من يديك، تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تسألني؟!
إن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال وأفتى وإذا سن فمن يتأمل وراء السنة فقد جاوز السنة، ولذلك ما أتى إنسان يتأمل عند السنة ويتعمق إلا خرج من السنة، فبعض الناس يخرجون في الطول، وبعضهم يخرجون في العرض، إما رجل كسلان متبذل، مل من لباس السنة فخلع التاج فلا يستطيع، وأخذ يستهزئ، وإما إنسان تَّربى بها وظن أنه لا سني في الأرض إلا هو، فزاد وعمقه الشيطان فخرج منها، وأحسنهم من اعتدل واقتصد وسار على منهجه صلى الله عليه وسلم.
(وويلك) أصلها: وي، أي تعجباً من هذا الفعل، قال سيبويه: فلما نطق بالكلمة أراد العرب أن يقفوا على ساكن، فقالوا: ويلك، فزادوا اللام والكاف.
ونحن لا نختلف الليلة مع البصريين ولا مع الكوفين وإنما قالها صلى الله عليه وسلم، فيجوز لنا أن نقولها عند التذمر والتحسر، وعند عدم الارتياح للشيء، لأن ألفاظنا لا بد أن تقيد، هل قالها صلى الله عليه وسلم؟ هل وردت فنقولها أم لا نقولها؟ نحن أمة توقيفية تشريعية، تأتي بنص وتتكلم بنص، وتقوم بنص وتجلس بنص، فإذا تجاوزت عن ذلك فهو البدعة.
فمعنى ذلك: أنه لا بأس أن نقولها، لأن بعض الألفاظ نهى عنها صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً... ثم ساق الحديث وهو كالحديث الأول.
خـذا جنب هرشى أوقفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق |
لماذا يكرر البخاري الحديث؟
قال الندوي: ربما تفتح له جبهات، أو إلهامات وإشراقات وإبداعات؛ فيكرر الأبواب تكريراً، وهذا عجب من العجاب، فهو له سر يعرفه المتخصصون في هذا الباب.
الحداء: هو التجلية بالصوت الجميل لتتنشط الإبل عليه، قال ابن عباس: أول من حدا من العرب غلام لـعبد المطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام، ضربه عبد المطلب فأخذ يبكي، فأخذت الإبل تسرع في مشيها، فاكتشفوا أن الحداء ينشط الإبل على المشي.
وفي مناقب ابن الجوزي بسند جيد إلى عمر قال: [[ عليكم بالشعر في السفر، فإنه زاد الراكب]].
وكان عمر رضي الله عنه إذا أظلم به الليل، جعل يقرأ القرآن ويبكي حتى السحر، وذلك عند ابن الجوزي وهذا يدلنا على أن الحديث الذي روي عند الطبراني: {من أنشد بيتاً بعد صلاة العشاء لم تقبل له صلاة تلك الليلة} حديث باطل لا يصح كما نبه عليه أهل العلم، وهو يناقض أصول الإسلام وقواعد هذا الدين، قبل أن يكون ضعيفاً في السند.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان في غزوة خيبر، فقال: ألا ينزل عامر بن الأكوع يحدو بنا، يريد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يروح على أصحابه، شريعة متكاملة، فيها كل ما يريده الإنسان، لكن في حدود المباح والحلال لا تتعدى إلى الحرام.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى |
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
أتى خالد بن الوليد، فما هو تخصصه؟
هل تخصص خالد صاحب البنية والشجاعة والبسالة والإرادة والقوة العسكرية أن يجلس يقسم الفرائض بين الجدة والعمة؟
لا. أنت يا خالد! سيف من سيوف الله، سلك الله على المشركين، مهمتك أن تفصل الرءوس من أكتافها.
زيد بن ثابت: عقلية عينية منظمة {أفرضكم زيد}.
علي بن أبي طالب: صاحب قضاء وبراعة أصولية في عقله، قال: {أقضاكم
أيَّ أمة هذه الأمة التي خرجت من بين التراب ومن الصحراء لا تعرف شيئاً ولا تفهم ولا تعي، إلى أن يصبح يتحدث بها فوق النجوم، سبحان الله!
فلذلك كان عليه الصلاة والسلام يعطي أهل التخصصات تخصصاتهم.
يأتي حسان رجل قافية، شاعر نجيب، وزارة أعلام متنقلة!
فخصصه صلى الله عليه وسلم في الشعر، وقرَّب له المنبر، وقال: {اهجهم وروح القدس معك}.
وأبو بكر ما هو تخصصه؟
أما أبو بكر فهو شيخ مجاهد، أبو بكر هذا متكامل عظيم، ترجم له ابن القيم، ثم وقف، وقال:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول |
أما جسمه فنحيل، وأما بنيته فضئيلة؛ لكنه أول الذاكرين، وأول الزاهدين، وأول الصائمين، وأول المتصدقين، نزلت عليه أبواب الخير، ويدعى يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية جميعاً.
لا تقول لكل أحد من الناس: ويحك! ولا تُستخدم لنقول: إنها سنة، وتطبيق السنة في بعض هذه المواضع تأتي من الجهل بالأحاديث، أن تأتي إلى عالم شهير أو كبير في السن أو سلطان، وتقول وأنت تخاطبه: ويحك! فإذا قال: مالك؟ قال روى البخاري بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـأنجشة: ويحك!
لا تقبل الأسانيد الصحيحة في هذا المكان، يصبح هذا من الاستنباط المهجور الذي لا ينبغي أن يحكم في هذه القضايا، قال: (ويحك يا أنجشة).
أنجشة صوته جميل، ترنم وأرسل نغمته على هيئتها، فأخذت الإبل تهرول.
شأن هذه الإبل عجيب! وقد تكلم عنها الجاحظ في كتاب الحيوان وأتي بخصوصيات الإبل، ولذلك رد الله أفكارهم وأنظارهم للإبل، فقال لهم: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] أما هناك فيلة؟ أما هناك طواويس ووز وبط؟
نعم. لكن الجمل شأنه غريب؛ فإنه أخذ خمسين صفة من خمسين مخلوقاً، من الجرادة، ومن الإنسان، والظبي، والذئب، والفرس، ومن كل مخلوقات الله؛ فهو عجيب الخلقة.
ومن خصوصياته: أنه حقود، تقول العرب: أحقد من الجمل.
فإذا حقد عليك الجمل لا ينسى حقده سنوات، وبعض الناس يبقى بحقده، فيظلم حقده بالحسنات، تحسن إليه كل الدهر ثم تسيء إليه في ساعة، فيخلع هذه الحسنات ويغمرها في بحر السيئات، ويحقد عليك كما يحقد الجمل.
ومن ميزته: الصبر، وهذا شيء شريف ينبغي للإنسان أن يأخذه من الجمل، فإنه يسير الأيام والليالي الطوال ويصبر على الجوع والعطش، والمؤمن أولى بذلك، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يمدح بالصبر على الجوع والعطش، أرسل شببة كلهم مترفون، فذهبوا إلى ساحل البحر في جهينة، فلما مستهم الشمس تركوا القتال، وأتوا بحفظ الله ورعايته إلى المدينة، فقال عليه الصلاة والسلام: هل قاتلتم؟ -وأصل الحديث في مسلم - قالوا: لا يا رسول الله، قال: مالكم؟ قالوا: جعنا وظمئنا، قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لأرسلن معكم رجل أصبر على الجوع والظمأ} فمن أرسل؟
أرسل عبد الله بن جحش القرشي الشاب الذي قتل في أحد، وهو أول من قاد سرية في الإسلام.
قال سعد بن أبي وقاص -وهذا الحديث أورده الغزالي في الإحياء بسند منقطع، لكن وصله الأئمة في كتبهم -لما حضرنا أحداً قام عبد الله بن جحش فرفع يديه، وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك-.
وهذا من التوسل بأفضل العمل؛ يقول عمر [[ يا
قال: [[اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم لاق بيني وبين عدوٍ هذا اليوم شديد حرده،فيقلتني فيك، فيبقر بطني،ويجدع أنفي،ويفقأ عيني، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب قلت: مالك؟ لماذا فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب، يقول سعد: فوالله الذي لا إله إلا هو ما انتهت المعركة إلا وقد رأيته مبقور البطن، مجدوع الأنف، مفقوء العينين، مقطوع الأذنين، فسألت الله أن يُلِّبي له ما سأله
أحد العقلاء وأظنه ابن هرثمة القائد دخل على الخليفة المهدي، وكانت امرأته اسمها الخيزران وهي جارية، وكان بيد هذا القائد العظيم خيزران، والخيزران هذا شجر يؤخذ منه الرماح كما يقول زهير:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويغرس إلا في مغارسه النخل |
فدخل وبيده خيزران، فقال له الخليفة: ماذا؟ قال: هذا شجر يؤخذ منه الرماح، هو يعرف أنها خيزران، لكن كنى، فأعطاه جائزة وشكره على هذا، ومن الأدب أن يقال: كريمة فلان، قريبة فلان، وإلا إذا ورد للحاجة فلا بأس بإظهار الاسم.
والأغنية تبني في قلب المرأة صروحاً وقصوراً من الفسق والظلم والفجور والعياذ بالله.
والأغنية تترك المرأة متبرجة سافرة سافلة رخيصة حقيرة.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: رويدك! أي: احذر، أما تعلم أن أمامك نساء يفتتن بالنغمة، المرأة قد تفتتن بصوت الخطيب والمتكلم، فما بالك إذا كان هناك وتر وناي، ودف، وطبل، ونغمة ساحرة؟! معناها: الفتنة العظيمة.
وهل أفسد مجتمعاتنا إلا الغناء؟!
وهل حبب الزنا إلا الغناء؟!
وهل شيب البيوت وهدمها إلا الغناء؟!
وهل أرسل النظرات وفتك بالقلوب إلا الغناء؟!
وهل أخرج القرآن من البيوت وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا الغناء؟!
هذا أمر وارد لذلك لا نلوم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الاستقامة إذا سال قلمه في مسألة الغناء.
السباعي الداعية السوري، ذهب إلى مكان من الأمكنة في البلاد الإسلامية، فقام يتكلم، فقامت امرأة من آخر الحفل -وبينه وبينهن حجاب، وأظنه عرف أنها سمينة بدينة- فقالت: مالك يا أيها المحاضر أنت لا ترفق بنا والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رفقاً بالقوارير}.
فقال وكان لماعاً ذكياً: نعم الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـأنجشة رويداً بالقوارير، لكن لو رآكن قال: رويداً بالبراميل، وهذا معروف!
فقامت مرة ثانية وقالت: كيف يقول صلى الله عليه وسلم: إنهن ناقصات عقل ودين، ومنا المسئولات والوزيرات والمرشدات.
فقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: في عهده وفي فترته: إنهن ناقصات عقل ودين، وأما أنتم فلا عقل ولا دين، لكن ما زال للخير بقية إن شاء الله، وفي المجتمعات من يحمل هذا العبء، ذكوراً وإناثاً بحوله وقوته.
أما المدح: فهو الإطراء بخصال الخير في الرجل أو في الأجناس والأشخاص، ومدح الله عباده في القرآن لأنه أمر تربوي لا بد منه.
والرجل الذي يعيش في بيته دون أن يرسل بعض الكلمات التشجيعية والمدح والإطراء لأبنائه، معناه: أنه يثبط الفضيلة ويطفئ النور في قلوبهم، لا يسمع الطفل والابن دائماً إلا التبكيت والتعنيف، لا يسمع كلمة: يا ذكي، يا أيها المصلي، يا أيها الخيِّر، يا أيها البارع، يا أيها المطيع البار حفظك الله ورعاك! كم فيك من خصال الخير! إن هذه الكلمات كفيلة بأن تؤثر أكثر من الدراسة والتأنيب والصوت، وهذا أمر جعله الله في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول: الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ويقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
وقد مدح الله الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
الشرط الأول ألا يكون فيه كذب: وأكذب الناس من مدح الناس بالكذب من أجل الدنيا، وأكثر ما يضطر الإنسان للمدح من أجل الدنيا، أما الدين فلا يحتاج الناس أن يمدحوا.
هل تمدح رجلاً وتكذب عليه ليصلي الليل أو ليقرأ القران؟! إنما يكذب في المدح من أجل الدنيا، فالكذب إذا وجد في المدح فهو محرم.
الشرط الثاني: عدم الغلو فيه.. أن ترفع الممدوح أكبر من منـزلته، قال تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً [الطلاق:3] فتطري الرجل بما فيه من الخير؛ ولكن احذر أن تسكب عليه إطراءات لا تليق به، تأتي وتقول: يا فاتح الدنيا، يا عين الزمان، يا قبة الفلك، يا من جعله الله من العشرة المبشرين بالجنة، يا من بايع رسوله تحت الشجرة، فيغرق وينسى نفسه، والمدح هذا سُكار مثل الخمر، إذا أصاب العقل أسكره.
الشرط الثالث: ألا يكون في الوجه: فإن المدح في الوجه هو الذم، لكن استثنى أهل العلم من ذلك أمور: منها أنه إذا عرف من زهد الرجل وإيمانه ويقينه أنه لا يتضرر، وأنه أصبح فيه رسوخ وثقل فلا بأس أن تذكر فيه فضائل، لأننا إذا غمطنا فضائل الناس، وجحدنا فضائل المرموقين والعلماء والأخيار والدعاة والشهداء والمجاهدين، فمعناه: أننا ساوينا بين الناس جميعاً! لا والله.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام ينـزل الناس منازلهم، ونحن أمة نقول للمحسن: أحسنت، وللمسيء أسأت: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] خطأ لا يجعل هذا كهذا، لكن ننـزلهم منـزلتهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مدحه بما فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على كثير من الصحابة، وهذا أمر تربوي.
يبقى أبو بكر في حياته يكدح ويكدح لوجه الله، لكن لا يلقى ولو بسمة، لا يلقى ولو ثناء، لا يلقى ولو وساماً من الإطراء أمام الناس، يقول عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: {لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت
وقال في عمر: كما في صحيح البخاري {عرض عليَّ الناس وعليهم قمص منها ما يبلغ الثديين ومنها ما دون ذلك، وعرض علي
أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {ويلك! قطعت عنق صاحبك} ومعنى قطع عنقه: أي أنه فتنه فلا يفلح بعدها، واغتر وأعجب بنفسه، وقيل معناها: قطع عنقه، أنه قطعه من مواصلة هذا الشيء، لأن بعض الناس يحبط بالمدح إذا أكثر عليه، وبعض الناس إذا قبَّل رأسه ظن أنه بلغ منـزلة الولاية ووصل المطلوب.
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها |
فالناس لهم مطالب ومقاصد، وأعظمهم مطلوباً هو من يرضي الله عز وجل.
ابن تيمية الجهبذ، العلامة مجدد ألف سنة، دخل على ابن قطلوبغا السلطان، فقال له: يـابن تيمية! يزعم الناس أنك تريد ملكنا، فضحك ابن تيمية، وقال: ملكك؟! قال: يقولون ذلك، قال: والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً.
ابن تيمية يريد جنة عرضها السموات والأرض، يريد رضا الله، ولما وضع في القلعة وأغلق الباب عليه، تبسم وتلا: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13].
سبحان الله! يقول لمعلم الخير وأعدل الناس وأتقى الناس: (اعدل) إنها كلمة تنهد منها الجبال، وتتقصم بها الظهور، ويندى منها كل جبين يؤمن بالله واليوم الآخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل) صدق عليه الصلاة والسلام، أين توجد العدالة إذا لم توجد عنده؟!
وأين توجد التقوى والخشية والوضوح والإنصاف إذا لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم؟!
ما بعد شريعته إلا الظلم والفشل والانهزامية والتقهقر.
قال خالد: ائذن لي فأضرب عنقه، قال: (إنا لا نقتل من يصلي، ثم قال: يخرج من ضئضئ هذا رجال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فرقة من الناس، آيتهم رجل إحدى يديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، قال:
خلاصة القصة أو بسطها في غير هذا النص من الحديث بجمع الزيادات.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين يقسم الغنائم بين الناس، وكان يعطي وجوه القبائل لأمور يعلمها الله عز وجل، منها التألف ليدخلوا في الدين، فدخولهم في الدين مصلحة عظيمة للإسلام؛ لأن بعض الناس إذا دخل في الدين دخل معه ألوف، ويترك الرسول عليه الصلاة والسلام بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الإيمان واليقين والسكينة.
قام عليه الصلاة والسلام خطيباً في الناس فقال: ( يا أيها الناس! والذي نفسي بيده إني لأعطي بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الهلع والجزع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلبه من الخير منهم
فأتي صلى الله عليه وسلم يفعل بالغنائم على هذا المنوال فيترك الصحابة ووجوه أهل الهجرتين، والبيعتين، والعقبتين، وأعطى أناساً ما تمكن الإسلام في قلوبهم، أعطى هذا مائة ناقة وهذا مائة، وفي الأخير تذمر الناس من هذا، فهم بشر يصيبهم الضعف، فاجتمع الأنصار، لكن اجتماعهم كان عقلاً وتؤدة وسكينة وحكمة، لا كالخارجي المقطوع من حبل الله، فاجتمعوا في مكان بعد أن أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بعد أن سمع أنهم يقولون: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي أولئك وسيوفنا تقطر من الدماء ويدعنا، وقال عليه الصلاة والسلام لسيدهمسعد بن عبادة: يا سعد! أين أنت من هذا الكلام؟ قال: أنا من قومي -أي: أنا أقول مثل ما قالوا- قال اجمع لي قومك، فاجتمع الأنصار جميعاً، ثم أتى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، وأشرف عليهم بوجهه الطاهر المنور، فخطبهم خطبة ما سمع الدهر بمثلها، فقال: يا معشر الأنصار ما مقالة سمعتها منكم؟
قالوا: هو كما سمعت يا رسول الله حق -هذا مجلس مناصفة ومحاقة وحوار صريح- قال: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي، قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ ثم لما انتهى قال: يا معشر الأنصار! والذي نفسي بيده، ولو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وفقيراً فأغيناك، وشريداً فناصرناك، أو كما قال، قالوا: المنة لله ولرسوله، فرفع صوته صلى الله عليه وسلم وقال: (يامعشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، والله لما تعودون به خير مما يعود به الناس، والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار) فبكى الأنصار.
وخرج عليه الصلاة والسلام ورجع إلى الغنائم؛ لأنه قد حل هذه المشكلة، لأنه يتكلم مع فقهاء، وعلماء، وعقلاء.
وقضية أن يعيش الإنسان المسلم الموجه للخير، العابد الزاهد المستقيم بدون خدش لعرضه مستحيل، فقد طلب موسى عليه السلام -كما في الآثار الإسرائيلية بأسانيد لا بأس بها- من الله عز وجل يوم كلمه ألا يتكلم الناس في عرضه، فقال الله عز وجل: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأعافيهم، وإنهم يسبونني ويشتمونني.
وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة: {يقول الله عز وجل: يشتمني ابن آدم ولا يحق له ذلك، ويسبني ابن آدم ولا يحق له ذلك، أما شتمه إياي فيقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت صاحبةً ولا ولداً، وأما سبه إياي فيسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
فما دام أن الله ما سلم من ألسنة البشر، فكيف يسلم الإنسان من ألسنتهم؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] كلما تكلم في عرضك رفعك الله، وهذا ابتلاء يحصل لكثير من الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في عرضه، فسكت وقال: {رحم الله موسى أوذي بأكثر من هذا فصبر، قال
وفي حديث سنده حسن يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تحدثوني عما يقول أصحابي، فإني أريد أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر} إن إسكات الكلمات، وإنهاء المشاكل، وعدم النميمة هي حل وصفاء للقلوب بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فقام عليه الصلاة والسلام يقسم وهو أعدل الناس بحكم الله عز وجل وتوفيق الله من فوق سبع سموات، فأتى هذا الخارجي الذي ما فقه في الدين شيئاً ليقول له: اعدل.
العلامة الأولى التكفير بالذنوب: يكفرون عباد الله بالكبيرة، فيخرجون الزاني عن الإسلام، وكذا شارب الخمر، ومنهج أهل السنة والجماعة ألا نشهد لأحد بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا من المسلمين أما الكفار ففي النار، ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، فمن شهد أن لا إله إلا الله، وأتى بالذنوب فنخاف عليه العقاب لكنه لا يكفر، فمنهجهم التكفير، وهذا أول ما تخصصوا به من بين الفرق والطوائف، وهو ضلال عجيب.
العلامة الثانية: لا يأخذون من السنة إلا ما وافق ظاهر القرآن: إذا وافق ظاهر القرآن أخذوا به كما يقول ابن تيمية وإذا خالف فلا يأخذون به، فهم أبطلوا كثيراً من نصوص السنة، ولذلك الرجم ما وجدوه في كتاب الله فتركوا الرجم، فلا رجم عند الخوارج.
والخوارج لما رأوا هذه المسألة ليست في القرآن تركوها، والآية التي تدل على هذه المسألة هي مما نسخ المسألة مما نسخت تلاوة وبقي حكماً، وقس على أمثالها.
حاكمهم عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، المجدد في القرن الأول، فقال: مالكم لا تأخذون بنصوص السنة؟ قالوا: القرآن متواتر، وأما السنة فأحاديث آحاد ويدخلها الكذب والوضع، قال: ائتوني بعدد ركعات الظهر من القرآن، فسكتوا، قال: ائتوني بأنصبة الزكاة من القرآن فسكتوا، قال ائتوني بالمفطرات للصائم من القرآن؟ فسكتوا، ورجع منهم فئام كثير.
العلامة الثالثة: التشديد في العبادة على حساب الفهم: هذا الدين هو دين عبادة، ودين اتصال بالله ونوافل، لكن لا يكون ذلك على حساب الفهم، وفي سنن ابن ماجة بسند جيد موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: [[فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد]].
الإسلام هو العلم، قال الله: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وإذا سمعت أحداً من الناس يهون من شأن العلم فإنما يثلم الإسلام، ويهدم بمعوله الإسلام، ويهون من شأن رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام.
والمذموم في النصارى: أنهم عبدوا الله بالجهل، وهذا ما وقعت فيه بعض طوائف الأمة كغلاة الصوفية، قال تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27].
والمذموم في اليهود: أنهم علموا ولكن ما عملوا بعلمهم، قال الله عنهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13].
العلامة الرابعة: أنهم يقاتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان، قتلوا عبد الله بن خباب على نهر دجلة، وتركوا نصرانياً، ذلك أنه مر من الطريق فأخذ أحد الخوارج من بضاعته تمرة ثم سأل علماء الخوارج الذين هم جهلة، قال: أنا أخذت تمرة نصراني فهل يحق لي ذلك؟
قال: استغفر الله، ويلك من الله، تب إلى الله، وعد واستسمح منه لأنه من أهل الذمة، ثم أتوا عبد الله بن خباب أحد الصحابة، فقالوا: أتوافق علي بن أبي طالب؟ قال: نعم، فذبحوه على نهر دجلة، وهذا من سوء الفهم.
العلامة الخامسة: الخروج بالسيف على الأئمة بلا مكفر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم: {إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان}.
خالد رضي الله عنه جاهز لضرب الأعناق، وهو لا يتوقف أبداً ولو أمره صلى الله عليه وسلم أن يضرب العشرات لضربهم بأسهل ما يمكن وهو يقول ويفعل رضي الله عنه وأرضاه، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعيد النظر، وإن هذا الرجل لو قتل لارتد أناس من البشر ومن القبائل وما اهتدوا إلى الله عز وجل، وقال: لا إن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.
عبد الرحمن بن ملجم وكان خارجياً، وهو الذي قتل علياً، صلى في الليل حتى أصبحت جبهته كركبة العنز، ولا يفهم من هذا أننا نهون من شأن الصلاة، إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة لكن على الكتاب وعلى السنة، عبادة على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم، أصبحت جبهته كركبة العنز من كثرة العبادة، وختم حياته بالمأساة الكبرى قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وأتي به إلى علي، قال علي: ويلك أقتلتني؟ -وعلي ما زال في سكرات الموت- قال: نعم! أردت أن أتقدم بأفضل عمل، وقد نذرت ذلك لله عز وجل، وقد سممت هذا السيف شهراً كاملاً حتى أصبح أزرق، وحلفت لأقتلن به شر الناس، قال علي بن أبي طالب: فوالله إنك شر الناس، ولا تقتل إلا بسيفك هذا، فأول ما فعل أن قتل به، وقصته طويلة، ولكن المقصود أنهم كانوا مع كثرة عبادتهم لا يفهمون الإسلام، ولا يتفقهون في دين الله عز وجل، قتلهم علي رضي الله عنه، وهذا من حسناته ومواقفه الكبرى، وهو مؤيد منصور بإجماع أهل العلم سلفاً وخلفاً.
هذا الحديث يدور حول الحب، والحب حياة وطموح وجمال وقوة واستبسال، والحب تفَّوق وإقدام وبسالة، والحب عظمة وشموخ وعبقرية.
الحب يقع على الماء فيصبح زلالاً، وفي الهواء فيصبح عبيراً، وفي الروض فيصبح ناطقاً، وعبادة بلا حب طقوس لا تنفع، وتلاوة بلا حب تمتمة، ودعوة بلا حب كلام وهدر، حب لمن؟ لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم يتكلم للناس على المنبر، وكان أمامه علماء الإسلام ونجومه وأخياره، فأتى هذا الأعرابي الذي لا يعرف من الأجر شيئاً و(من بدا جفا) -كما في الحديث الذي تُكِّلم فيه؛ لكنه يقبل التحسين- فقال: يارسول الله! متى الساعة؟
والرسول لا يعطي حقوق الكثرة للقلة، أمامك جمع من الناس، وفئام تحدثهم، ألف رجل من الأخيار الأبرار تعبوا وحضروا، وتقطعهم من أجل طارئ، أتى يأخذ مسألته ويطير! فاستمر عليه الصلاة والسلام في كلامه، فقال بعض الناس: سمع ما قال فكرهه؟
وقال بعض الناس: بل لم يسمع؟
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام أنكر عليه السؤال، ولكنه أراد أن يسأل عما أعد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟
أما سؤالك فليس بوارد، لا يعلم قيام الساعة إلا الله، لكن ماذا أعددت لها؟
فقال الرجل وكان فصيحاً: والله ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء يحشر مع من أحب) قال أنس في البخاري، فنحن نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، ولم نعمل بعملهم، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرتهم، ونحن كذلك ما جاهدنا، ولا سفكت دماؤنا، ولا داومنا على قيام الليل، ولا بذلنا أموالنا، ولكن معنا بعد الإيمان أننا نحب الله ورسوله وأصحابه الأخيار، عليه الصلاة والسلام.
كتب الإمام الشافعي للإمام أحمد رسالة توَّجها بأبيات، يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة |
تربية دعوية يقول:
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تُعطَّ طاعة |
فوصلت الإمام أحمد فردها وقال:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة |
الشافعي قرشي من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: أنا من ميزتي ومن حسناتي أني أحب الصالحين، وبعض الناس فيه تقصير، لكنه يحب الصالحين، وبعض الناس فيه خير، لكنه يبغض الصالحين، ويحب الفسقة فهو مع الفسقة، لأن المبادئ والولاء والبراء عقائد، والعقائد أكبر من الأمور التعبدية، العقائد كالجبال إذا رست في القلب أصبحت الحركات على هذه العقائد من زيارات ومن صلات وحب، يقول أبو عبيدة كما في كتاب الزهد للإمام أحمد: [[والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت متقياً لله حراً أو عبداً أبيض أو أسود إلا وددت أني في مسلاخه]] هل أجمل في الدنيا من التقى؟
وأنت جرب نفسك وإيمانك، إذا رأيت التقي بهيئته، بلبسه، بحركاته، بمنصبه، وهو تقي لله وأحببته، فهذا لارتفاع حب الله عز وجل في قلبك، أما إذا أحببت الناس على موازين أرضية وأشياء دنيوية، فهو من النفاق والخور الذي في القلب، نسأل الله العافية.
يقول الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه: [[تزودوا من الإخوان، فإنهم ذخر في الدنيا وفي الآخرة، قيل: يا أمير المؤمنين! أما في الدنيا فصدقت. لكن في الآخرة بماذا؟ قال: أما يقول الله عز وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] أما يقول الله عز وجل في الكفار لما عُتِبوا قالوا: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100-101]]]
لو كان هناك صديق لكان نفع في هذا الموقف الحرج، قال ابن عمر رضي الله عنه في أثر صح عنه: [[والله لوقمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، ثم وجدت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية، لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
وبعض الناس يحب الفسقة والفجرة، ويرضى بصنيعهم، ويزورهم ويزرونه على الرحب والسعة، وكأنه ما فعل شيئاً، وهذا لب درسنا هذه الليلة.
أما كان صلى الله عليه وسلم يقيم مبادئ الولاء والبراء على هذه الأسس (الحب في الله عز وجل).
بعض الناس يبلغ بهم درجة الحب أنه إذا ذكر الله في مجالسهم دمعت عيونهم، وهذا هو الحب الصادق.
ابن تيمية يترجم لبعض العلماء يذكرهم في الفتاوى، يقول: الإمام مالك كان إذا ذكر صلى الله عليه وسلم في مجلسه تغير وجه، وكان زين العابدين علي بن الحسين يصفر وجه إذا ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم، لماذا؟
لأنه يتذكر أمامه رجل قاد العالم، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنقذ نفسك عليه الصلاة والسلام، فقال: لما مات هذا السلطان، رئي في المنام، قيل: فما فعل الله بك يا فلان؟ قال: غفر لي مغفرة أخذت ما قرب وما قدم من ذنبي، وأدخلني الجنة، فأنا أطير من شجرة إلى شجرة، قالوا: أما كنت تفعل كذا وكذا؟ -يذكرون أموراً وذنوباً لا يسلم منها الناس- قال: أليس في الحديث الصحيح: {المرء يحشر مع من أحب} قالوا: بلى.
وذكر ابن كثير في ترجمة نور الدين محمود زنكي، هذا السلطان العالم العابد، ورحم الله تلك العظام، سادس رجل في العدل، فهو من أعدل الناس بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، كان إذا انتصف الليل ضربت له الأسوار حتى يقوم هو وحاشيته وأهله يصلون إلى الفجر، هو الذي قتل المغاربة الذين أرادوا أخذ جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم وأتوا من عكا.
نور الدين محمود كان يحب الله ورسوله حباً جماً، يقول لأحد الناس وقد حضر مجلس أحد المحدثين: أيذكر عندك الرسول صلى الله عليه وسلم وأنت تتكلم؟! وسمع ضوضاء فغضب وصاح، قال: إذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتكلم أحد، وكان يسل سيفه ويقول: أنا خادم للرسول عليه الصلاة والسلام.
نور الدين هذا عمل مهرجاناً في دمشق حضره ألوف من الناس، فلما اكتمل الحفل والمهرجان، قام أحد العباد العلماء اسمه الواسطي، فدخل عليه بجبة قديمة زهيدة، وبعصاه، ووقف أمامه، وقال: يا سلطان محمود! يا نور الدين! اسمع! قال: ماذا تقول؟ قال:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إن قيل نور الدين جاء مُسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور |
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور |
قال: فبكى حتى سقط من على الكرسي إلى الأرض، حتى رش بالماء.
ولذلك ليس حب الله ورسوله حجر على أحد من الناس، لا يظن أهل الحديث الذين يقرءون الحديث أنهم فقط هم مظنة الحب، لكن المحبة منثورة في رياض أصحاب الرسول وأتباعه صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،قال: {المرء يحشر مع من أحب}.
فالقضية الكبرى في هذا الحديث ليست كلمة (ويحك) فهي مرت وتكررت، لكنها قضية الهجرة والهجرة على ثلاثة أضرب:
فأما هجرة الكفر: فهي إذا ضيق عليك في مكان لا تستطيع ممارسة إسلامك فيه فاخرج من هذا البلد، وهذه واجبه.
وأما هجرة المعاصي: فهي هجرة واجبة على كل مخلوق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومن لم يهاجر بهذه الهجرة، فسوف يبقى في الخطايا والذنوب من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه، وهذه الذي نحن بحاجة إليها، ونشكو حالنا إلى الله فيها.
وأما هجرة الواردات والشواغل والقواطع: فهذه للأولياء الصديقين السابقين بالخيرات، وهم الذين يقطعون كل قاطع يقطعهم عن الله عز وجل، وهؤلاء قاربوا درجة أبي بكر الصديق، وما بلغوا درجة أبي بكر؛ لكن أصبحوا من الولاية بمنـزلة عظيمة.
والواردات والشواغل هي كل ما يشغلك عن الله عز وجل، فهم تركوها لوجه الله، وهؤلاء من مثل حنظلة الغسيل، سمع داعي الله عز وجل والهجرة إلى الله من الواردات والشواغل إلى جنة عرضها السموات والأرض وهو في ليلة عرسه، مع زوجته في اليوم الأول، فثار من على فراشه، واخترط سيفه وعليه الجنابة، وهب ليلقى الله عز وجل وقاتل حتى قتل، فأتى صلى الله عليه وسلم بعد قتله بلحظات، يشيح بوجهه صلى الله عليه وسلم، قالوا: مالك يا رسول الله؟ قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بصحاف من ذهب بماء المزن.
فهل أرفع من هذه هجرة يوم ترك الدواعي والشواغل؟!
إن بعض الناس باستطاعته أن يضحي بصلاة العشاء والفجر أو أي فريضة من فرائض الله، ليدهده ابنته الصغيرة لئلا تبكي على أمها، لأن القلب إذا مات حبسه كل شيء حتى خيط العنكبوت يربطه بسارية من السواري في البيت، أما أولئك فكان لا يحبسهم شيء؛ حتى الحديد يكسرونه، وينفذون إلى جنة عرضها السموات والأرض.
كذلك هجرة عبد الله بن حذافة، دخل على ملك الروم، فقال له ملك الروم: ارجع عن دينك وأعطيك نصف ملكي؟
فضحك ضحكة المعتز الشجاع، المتمكن من دينه، المتيقن بحفظ الله، قال: والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وأجدادك على أن أعود عن الإسلام طرفة عين ما فعلت.
قال: اذهبوا به إلى النار، فأخذوه فوجد إخوانه من الشهداء الأسرى قد ألقوا في قدور تغلي بالماء وقد تفصلت لحومهم عن عظامهم، فبكى عبد الله بن حذافة، فعادوا به إلى الملك.
فقال: أتبت من جريمتك؟ جريمة أن يقول: ربي الله، وديني الإسلام.
قال: لا والله ولكن أبكي أنه ليس لي إلا نفس واحدة، وأريد أن لي بعدد شعر رأسي أنفساً تعذب في سبيل الله.
فقال: والله لا أطلقك حتى تقبل رأسي، فَقَّبل رأسه، وتفل على رأسه، فأطلق له الأسارى فقال عمر: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأس
وأعظم ما يهاجر فيه العبد اليوم إذا سمع داعي الله في الصلوات الخمس، الآن عبادتنا الكبرى الصلوات الخمس؛ لأن هناك جبهات موجودة لكن من لا ينفع هنا لا ينفع هناك، بعض الناس لا يداوم على الصلوات الخمس، ويتحسر في مجلس وقد ملأ بطنه بما لذ وطاب من الطعام، ويقول: يا ليتني في أفغانستان أجاهد في سبيل الله.
وأنت لا تصلي في المسجد؟! والله لو كنت في أفغانستان، لكنت أول من يفر وآخر من يأتي من المجاهدين، لأن من لم ينتصر في عالم قلبه لا ينتصر في عالم الأرض، والذي لا يعلي لا إله إلا الله في المجلس، لا يعليها في الميدان ولا في المعركة.
أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا رواداً لذا كانوا في الصف الأول، أما أصحاب الصفوف المتأخرة، فلا يأتون إلا متأخرين دائماً: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].
الجواب: نعم البخاري روى عن بعض الخوارج، روى عن عمران بن حطان الشاعر الذي مدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي وقال:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا |
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خلق عباد الله ميزانا |
أو كما قال، وقال عالم أهل السنة يرد عليه:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا |
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن عمران بن حطانا |
أما عمران بن حطان وأمثاله الذين روى عنهم البخاري، فيجاب للبخاري بثلاثة أعذار، ذكر بعضها الذهبي وأبو داود علق على ذلك، الأول: أنه روى عنهم بعد التوبة، ولكن ما أقاموا على هذا القول دليلاً.
الأمر الثاني: روى عنهم في أمور لا تتعلق ببدعتهم.
والأمر الثالث: وهو الصحيح أن الخوارج من أصدق الناس فهم لا يكذبون أبداً، قرر ابن تيمية في الصفحة الخامسة في مقدمة منهاج السنة: إن من أصدق الناس الخوارج، ومن أكذب الناس الروافض.
حتى يقول الشعبي: قاتل الله الروافض، لو كانوا من الطيور كانوا رخماً، ولو كانوا من الحيوانات كانوا حمراً، ثم ذكر صدق الخوارج فهم صادقون لا يكذبون، فيروى عنهم.
الجواب: هذا إذا كان للاحترام فلا بأس به، ففي الصحيح أن ابن عمر قبَّل يد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن هناك أمور تذكر تحفظاً وهي: أن بعض الناس يفتح هذا الباب على نفسه، وتصبح هناك قداسات، وتصبح أخلاق عبيد وموالي، كأن يأخذ المشايخ والأساتذة يده، ويقول: يا سيدي، يا مولانا، يا بركة الوقت، يا فتح الزمان، هذا لا يقبله الإسلام، هذه جاهلية وخرافة وتقليد لا يقبل.
فالمقصود أن الوالد لاحترامه لا بأس أن يقبل يده، والعالم كذلك؛ لكن أجدى أن يبقى التعظيم لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحمي جناب هذا الباب، ويقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم} لأنه إذا فتح باب التقبيل والتبعية والإطراء، عظم الأشخاص حتى صاروا أعظم من الله عز وجل، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد ذكر بعض الناس بالتبجيل والإطراء والتعظيم في الأمة أكثر مما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، وابن السبكي يترجم لأبيه في كما في طبقات الشافعية، فيقول: الإمام الأصولي المحقق، هدية الزمان، بركة الوقت، قبة الفلك، ما بقي عليه إلا أن يقول روح القدس.
أما إلى الوالد فلا بأس، أما العالم فلا يفتح هذا الباب ولا لغيره، ويكتفى بالاقتصاد فيه، لتبقى العقيدة سليمة من الثلم.
الجواب: نعم. عند الترمذي والنسائي عن عمار رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{إن من أحدكم من يخرج من صلاته ما له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها} هذه رواية العدد التنازلي.
وورد في روايات أخرى: {إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها} هكذا، والأول أصح؛ فالإنسان ليس له من صلاته إلا ما وعى، وحد الوعي هو أن يدري ما يقول في الصلاة، إذا سألته وقلت له: ماذا قرأت بعد الفاتحة؟ قال: إذا جاء نصر الله والفتح، فقد وعى، أما من لا يدري ماذا قرأ الإمام، وما قرأ هو، فهذا ما وعى صلاته وقد ذهب عليه إلا ما وعى منها، فليعلم هذا.
الجواب: ابن تيمية يقول: ابن سيناء وأمثاله من أفراخ الصابئة، ومن أذناب المجوس، ويقول: إن كان صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وذكر عنه في كتاب المنطق في المجلد التاسع أنه كان يقول: بعبادة الكواكب وهذا أمر خطير، والذين يترحمون عليه أناس عندهم علم لكنه علم دنيوي، وأهل تكولنوجيا مثل بعض أساتذة الجامعات والمؤسسات، عندهم خير لكن لا يعرفون منهجهم في الدين، فهم يكتبون الأقسام بـابن سيناء، والسكن والجامعات، افتخاراً بهذه العقلية، وهو محسوب على الإسلام، ونبرأ إلى الله من كل ضال، وما ندري هل تاب أم لا؟!
الجواب: هذا يقوم بالحسنات والسيئات، هذا الكتاب من أحسن الكتب لأمور:
أولاً: جودة الأسلوب، فالنصوص والتراجم قدمت في قوالب طيبة، يشكر صاحبها عليها.
الأمر الثاني: أنه اختار المواقف الرائعة من حياة الصحابة ولأنها بشيء من الأدب فكانت مؤثرة.
الأمر الثالث: أن الرجل يظهر فيه حب لله ولرسوله، لأنك تعرف من قلم الرجل ومن كلام الرجل أنه يحب الله ورسوله، ليس كرجل حاقد على الإسلام يتكلم على الإسلام، حاشا وكلا، أما المآخذ عليه فتؤخذ عليه ثلاثة مآخذ:
أولها: أنه تكلم في ترجمة أبي ذر بكلمة ينبغي أن يستغفر الله منها، وثقافته كانت اشتراكية قبل أن يتوب وقد أعلن توبته كما أعلنت ذلك مجلة المجتمع قبل سنوات، فأتى بالكادحين ومسألة العمال، وهذه ما أتت من الشرق، وإنما أتت من ماركس، وموسكو لا من المدينة المنورة، فيحسب عليه ذلك.
المسألة الثانية: أنه لم يوثق بعض القصص والأحاديث بل تركها بلا زمام ولا خطام.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
فعليه أن يقيدها إن أراد أن يكون محققاً.
المسألة الثالثة: أنه أضفى بعض التهويل على بعض الأمور، وينبغي أن يكون الإنسان متعقلاً مع الأصالة، فلا يجنح به الخيال إلى أن تكون نصوصه فلسفية.
محمد إقبال أخذوا عليه أنه جعل نصوص الدين فلسفة يعرضها في قوالب فلسفية، ونحن عباد ندين الله بأننا مذنبون، والصحابة أخيار وأبرار وفضلاء ونبلاء لكن عندهم ذنوب، وليسوا بدرجة العصمة كالرسول عليه الصلاة والسلام، فقضية أن يأتي بمثل بلال، وأن يجعله كأسطورة لا يذنب ولا يخطئ، ولا يسهو ولا ينسى؛ فهذه درجة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأما الكمال المطلق فهو لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
تكلم الأخ أن بعض العلماء في هذه المنطقة صححوا حديث: {من قرض بيتاً بعد صلاة العشاء فلا تقبل له صلاة ذلك اليوم} نقول هذا العالم يحترم رأيه في هذا، ووصل اجتهاده إلى هذا، وأمر التصحيح والتحسين والتضعيف أمر اجتهادي ومسائل تختلف، وحديث صلاة التسابيح كتب فيه ناصر الدين الدمشقي رسالة التنقيح في صلاة التسابيح، قال: صححه بعض العلماء وحسنه بعضهم، وضعفه بعضهم، ووضعه بعضهم، فليس بغريب أن يختلف في حديث؛ فهو أمر اجتهادي، وأنا كطويلب علم توصلت من دراسة الأسانيد وكلام أهل العلم بأن هذا الحديث لا يصح؛ لأنه ثلم في قواعد الدين وأصول الإسلام.
سبحان الله! رجل صائم مصل عابد يقوم الليل، قال بيتاً من الشعر بعد صلاة العشاء فحبط صلاته وصيامه وعبادته، ولا تقبل له صلاة ذاك اليوم.
عمر رضي الله عنه كان ينظم الشعر ويقوله بعد صلاة العشاء في السفر.
الصحابة كانوا يحدون به بعد صلاة العشاء، والأمر الغريب إذا أتى إلى قواعد مشهورة ليثلمها رددنا هذا الأمر الغريب، فهذا حديث شاذ يقدح في أصول أصبحت كالجبال فلا يقبل.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر