إسلام ويب

دعاة المستقبلللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الاهتمام بالدعاة الناشئين والأخذ بأيديهم ومساندتهم وإعانتهم؛ يجعل منهم قادة في هذه الأمة التي فقدت الكثير من القادة والعلماء الكبار؛ كأمثال ابن باز، وابن عثيمين، والألباني وغيرهم من العلماء والدعاة الكبار.

    وقد ذكر في هذا الدرس ثمان كلمات لثمانية من الدعاة الذين نسأل الله لهم أن يجعلهم قادة لهذا الدين ولهذه الأمة المباركة.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذا الدرس: (دعاة المستقبل) وأستميحكم عذراً فقد كان من المعهود أن يكون هذا الدرس لمسلمين أمريكيين وليم جنسون ورايت جنسون وقد وفدا إلى أبها قبل أسبوع، وطلبنا من فضيلة الدكتور عبد الله أبو عِشِّي وأصحاب الفضيلة الدكاترة ترجمة ما يقولون لكم، ولكن قدر الله وما شاء فعل، أحدهم اتصل به أهله، وتوفي أبوه وهو مسلم فسافر قبل هذا الموعد، ثم رأينا أن نقدم لكم شبابكم وأبناءكم وأفلاذ أكبادكم ليتحدثوا إليكم الليلة، ثم بالمناسبة أشكر الإخوة الذين يتقدمون بقصاصات وصحف ومجلات مما يخص الإسلام والدعوة والدعاة، حتى نكون على بينة، أشكرهم على جهدهم وغيرتهم.

    قبل هذا معي قصيدة هي بنت الساعة بعنوان (تباركت يا ذا الجلال)

    تباركت يا ذا الجلال

    وربك ذو السلطة القاهرة

    قلوب من الحب ينسجها محمد في بردة طاهرة

    ويغمسها في سناه رؤاه بها بل علاه تعيش برياه في آصره

    تباركت صوت الرعاة.

    وهمس السواني حداء الجلال

    لك الحمد دنيا وفي آخره

    تباركت ترسل دمع المحب على وجنتيه

    لك الحب صفواً

    أردت لنا يا إله جناً

    ما درى قاطفيه

    بأن لنا في جنادريتنا قصة الأذكياء

    عباقرة نحن ننتج ودلواً وغرباً من الجلد في معمل الكيمياء

    بعيراً نسيره للأنام كمركبة في الفضاء

    تراث من الجير والخزف النائم في غرف الأقوياء

    نحفِّظ أنشودة البدو سكان روما

    ونسأل أصحابنا في جنيف

    ألم تجدوا الناقة الحائرة

    فلا بدر لا زمزم لا أبو بكر نعرضه في القديم

    لأن التراث جديد ونحن نحب الجديد سوى الدلوِ والغربِِ والجرة العامرة

    صواريخنا أرض جو من الرقصات على ضربة الزير في الهاجرة

    نسينا مع العرض صوت بلال وجبة سعد ودرة فاروقنا الظافرة

    سنخبر كل العوالم أن لنا من المجد كبري المشاة مع قاطرة

    قديم هو القيروان مع بيت لحم مع الأزهر الراقد في القاهرة

    فلا تدخلوا في النوادي مالك والشافعي فقد حُنِّط القوم في الحافرة

    فضيلة الدكتور عبد الله أبو عشي! فضيلة الدكاترة الذين حضروا! أيها الجمع الكريم! سوف يكون لهؤلاء الفضلاء موعد آخر إن شاء الله ليقدموا ما عندهم ولتلتقوا بهم في ترتيب أرتبه معهم بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    ولكن رأيت من المصلحة أن أقدم دعاة المستقبل الذين سوف يكونون بإذن الله غداً هم رجال المنابر والمتحدثون للناس، وكان قصدي من هذا والله الموفق أموراً:

    الأول: أن تكون هناك طاقات تستغل وتوجه، وهي المناجم البكر التي تكتشف في عالم الخطابة.

    الثاني: التمرين والتدريب ليجرأ الواحد منهم لمقابلة الجمهور، والعجيب أن الغربيين والشرقيين سبقونا في تأسيس جامعات ومعاهد وأقسام للخطباء والخطابة، وهو فن الخطابة المؤثر، وكتبوا عن ذلك في مجلدات ومؤلفات، فحق علينا أن ننشئ أقساماً ومعاهد ودورات نعلم فيها أبناءنا مقابلة الجماهير والخطابة لأنها آصرة.

    الثالث: عنيت أن تكون الكلمات التي تلقى مكتوبة من الكتاب والسنة بما ينفع الناس في دنياهم وأخراهم، أنا أقدمهم لكم هذه الليلة وهم ثمانية من أبنائكم وشبابكم ومن جيلكم.

    لكن أبشر هذا الكون أجمعه      أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا

    بفتية طهر القرآن أنفسهم      كالأسد تزأر في غاباتها غضبا

    عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا      بتوبة لا ترى في صفهم جنبا

    شؤم المعصية

    الأخ الداعية علي بن غُرم الشهراني معه كلمة عن (شؤم المعاصي) فليتفضل:

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    أيها الإخوة في الله! ليس من شر وبلاء إلا وسببه المعاصي والذنوب، فبالمعصية تبدل إبليس بالإيمان كفراً، وبالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجنة ناراً تلظى، وعم قوم نوح الغرق، وأهلكن عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على اللوطية ديارهم فجعل الله عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل فساء مطر المنذرين، قال تعالى: فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

    إنها الحقيقة الصارخة، فكلاً أخذنا بذنبه، تلكم الذنوب وشؤمها وعواقبها وما هي من الظالمين ببعيد، ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها.

    أيها المسلمون! إن للمعاصي شؤماً ولها عواقب في النفس والأهل والمجتمع، وفي البر والبحر، تضل بها الأهواء وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه فيرفع مهابته من قلبه، قال تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18].

    يقول الحسن البصري رحمه الله: [[هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم]] أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال: [[لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي. فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فنعوذ بالله من سخط الله]].

    عباد الله! بسبب الذنوب والآثام يكون الهم والحزن والعقد النفسية، إنها مصدر العجز والكسل، ومن ثم يكون البخل والجبن وغلبة الدين وقهر الرجال، وتسلط الأعداء، واندراس الحق وفشو الباطل، بها تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويستجلب سخط الرب ويحجب القطر.

    إذا كنت في نعمة فارعها     فإن المعاصي تزيل النعم

    وحافظ عليها بشكر الإله      فإن الإله سريع النقم

    إذا ابتلي العبد بالمعاصي استوحش قلبه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، وجفاه الصالحون من أقاربه وأهله، حتى قال بعض السلف: [[إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي]].

    أيها الإخوة في الله! إن ملازمة المعصية ومعايشتها تورث بلادة في الحس، وموتاً في القلب، واستئناساً بها، فلا يحس العاصي بالعقوبة، ولا يشعر بالذنب لما قد أورثته في قلبه من ذل وخضوع لها؛ لأن الذنب بعد الذنب يقطع طرق الطاعات، ويصد عن سبل الخيرات، ومن ثم يقسو القلب فلا ينتفع بموعظة ولا يطمئن بذكر، يقول ابن المبارك:

    رأيت الذنوب تميت القلوب      وقد يورث الذل إدمانها

    وترك الذنوب حياة القلوب      وخير لنفسك عصيانها

    فالحذر الحذر يا عباد الله! من مخالفة أمر الله، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] وإياكم والأمن من مكر الله، قال تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].

    فعلينا أن نأخذ أنفسنا من أوحال المعاصي وأن نفكها من أسر الذنوب، وأن نبادر بالتوبة النصوح، وأن نسارع في فعل الخيرات والأعمال الصالحات، ولا نصر على المعاصي والمخالفات، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].

    نحن أمة أعزها الله بالإسلام وحده، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

    فنسأل الله أن يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة؛ فإنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويحفظ دعاة الإسلام والمسلمين من كل سوء ومكروه وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    الشيخ عائض:

    أثابكم الله.

    أولاً: هذا العرض الذي تسمعونه وترونه هذه الليلة من التجديد في أساليب الدعوة، فإنه قد يكون من المسُئم الممل أن تعرض المحاضرة في كل مرة بنفس أسلوب العرض الأول.

    ثانياً: سوف يكون مساء كل جمعة من المغرب إلى العشاء درس في الفقه، ومن أذان العشاء إلى الإقامة معالم ودروس في فن الخطابة لمن أراد أن يتعلم وسوف يحضر معنا أساتذة متخصصون في هذا إن شاء الله، ونحضر كتباً متخصصة في فن الخطابة حتى يتعود من أراد ذلك إن شاء الله.

    التوبـة

    الكلمة الثانية للأخ علي بن حسين بن علي السحاري بعنوان (التوبة) فليتفضل:

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]

    أمَّا بَعْـد:

    فربما يسأل الإنسان نفسه ويقول: أنا أسرفت على نفسي بالمعاصي وأكثرت من ارتكاب المحرمات، فهل يا ترى إذا تبت إلى الله فإنه سيقبل توبتي، أم أن ذنوبي وآثامي ستحول بيني وبين التوبة والعودة إلى الله؟ إننا نبشره ببشارة من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ونقول: ألم تسمع قول الله جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    فهي دعوة من الله إلى كل من أسرف على نفسه بالمعاصي، وأكثر من ارتكاب الذنوب والآثام والتعدي على حدود الله أن يعود إلى ربه ومولاه، وأن يصحح مساره بالتوبة إلى الله الذي يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم، والذي يقبل التوبة من عباده.

    يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لو كان لابن آدم وادياً من ذهب؛ لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب} متفق عليه، بل إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أخبر عن الذي يستمر في غيه وفي عصيانه وتعديه على الله ولم يتب من ذلك أنه ظالم، يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] ظالم لنفسه؛ لأنه لم يجعلها طائعة لله منقادة لأوامره؛ لأنه عصاه وهو الذي أنعم عليه، وخلقه ورزقه، وجعل له البصر والسمع والفؤاد، قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23].

    ونقول للذي يريد أن يتوب: أبشر بالفلاح في الدنيا والآخرة إن كانت توبتك صادقة خالصة لله تعالى يقول تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] فقرن الله الفلاح بالتوبة والإنابة إليه.

    واعلم -أخي المسلم- أن التوبة سبب في تكفير السيئات، بل سبب في تبديلها إلى حسنات، يقول تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:68-70].

    ونقول لمن أراد التوبة: ألم تسمع بقصة ذلك الرجل الذي انتهك حرمات الله، وأسرف على نفسه بالمعاصي، وفي يوم من الأيام أراد أن يتوب إلى الله من فعل المحرمات، ويحرص على فعل الطاعات ليفوز برضا رب الأرض والسماوات، فسأل ذلك الرجل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال له: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً، فهل له توبة؟ فقال له الراهب: لا. فقتله فكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال له ذلك العالم: ومن الذي يحول بينك وبين التوبة؟ نعم. لأن باب التوبة مفتوح لا يقفل إلى يوم القيامة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} رواه مسلم.

    وقال له العالم: ولكن انطلق إلى أرض كذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبده معهم ولا تعد لأرضك فإنها أرض سوء، فلما وصل إلى منتصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقالت ملائكة الرحمة: جاء مقبلاً إلى الله بقلبه تائباً، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أقرب فهو لها، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة.

    أخي المسلم! بعد أن سمعت الأحاديث والآيات السابقة التي توضح لك سعة رحمة الله تعالى، ألم يأن للقلوب القاسية أن تتوب؟ أولم يأن للقلوب الضالة أن تهتدي؟ أولم يأن للقلوب البعيدة من الله أن تقترب إليه؟ ألم تسمع قول الله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].

    أسأل الله العلي القدير أن يرزقنا توبة نصوحا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

    الشيخ عائض:

    أثابكم الله.

    أيها الإخوة! في آخر الكلمات سوف أقدم عرضاً لبعض الملاحظات، وبعض ما يجب على الخطيب أن يلم به، كل ذلك من كتب من ألف في الخطابة في هذا العصر ومن قبله.

    أيضاً نريد من أهل أصحاب الكلمات أن يحذفوا ثلث الكلمة؛ لأنها قد تطول، ونريد أن يبقى وقت لبعض الملاحظات وبعض الفوائد.

    أثر الطاعة

    الكلمة الثالثة للأخ محمد بن عبد الله بن مبطي الشِّهري

    بعنوان (أثر الطاعة) فليتفضل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أمَّا بَعْد: أيها المسلمون: لقد مر على المسلمين زمن لم يكن الإسلام فيه سوى لا إله إلا الله، وقد لبث الرسول صلى الله عليه وسلم حقبة طويلة من الدهر وهو يدعو الناس إلى هذه الكلمة الطيبة، حيث مكث في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يقوي في المسلمين جانب العقيدة الصحيحة التي بموجبها يصبح المؤمن طائعاً لله منفذاً لأوامره في كل شئون حياته، حيث إن هذه الكلمة غير بها الحبيب صلى الله عليه وسلم مجرى تاريخ الأمة البشرية، فاستطاع أن يغير معتقداتهم الباطلة إلى معتقدات صحيحة وغير كذلك لباسهم ومظهرهم، واقتصادهم ومعاشهم، وتعاملهم وأوقاتهم وكل شئون الحياة، حيث جعلهم مرتبطين ارتباطاً مباشراً بخالقهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى محققاً فيهم قول الحق تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) [آل عمران:32] وقال موضحاً للأمة المحمدية أنه لا فوز ولا فلاح إلا في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [النور:52] لقد كانت آيات القرآن الكريم تنزل على هذه القلوب الرطبة والطيبة فتصهرها على بوتقة الإيمان، ونور الهداية المحمدية حتى أصبحوا كما وصفهم الله فقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)) [البقرة:165] فلما رأى نبيهم الحبيب صلى الله عليه وسلم الاعتراف بفضل القادر على عباده، وأنه الرازق المدبر، المسخر الموجد لكل هذه النعم حيث أعطى الإنسان كل ما سأل، فجدير بالمؤمن أن يكون طائعاً لله وحده ممتثلاً لأمره في السر والعلن، وفي الغنى والفقر، وفي الصحة والسقم، وفي الصغر والكبر، وفي حال السلم والحرب وكل الأحوال، يتحقق فيهم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عن العباس

    {<} لأن الإسلام جاء وافياً مستوفياً لكل المعاني النبيلة والطيبة ليعيش هذا الإنسان في سعادة ونعمة حتى يلقى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى. معشر الجمع المبارك! من آثار الطاعة: الإخبات لله عز وجل، والخشوع، وحسن السمت. وأيضاً: انشراح الصدر يقول الله عز وجل: ((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)) [الزمر:22]. وأيضاً: قد يصبح الطائع لله ولياً من أوليائه. وأيضاً: إذا تقرب الإنسان إلى الله بالطاعات وبالنوافل كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأل الله ليعطينه، ولئن استعاذ الله ليعيذنه. والإسلام -يا معاشر المسلمين- كما وضحه صلى الله عليه وسلم للسائل عن العمل الصالح فقال له: {قل آمنت بالله ثم استقم} وإليكم معشر الجمع المبارك! بعض النماذج الخالدة التي قال الله فيها: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)) [البقرة:207] كأمثال الصديق

    فقد حقق الطاعة لله بكامل وأسمى معانيها، وكذلك بقية الصحابة رضوان الله عليهم. ومثال آخر كـأم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية

    رضي الله عنه وطاعتها لربها وحبها لله، وكيف قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: {اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة} إن المؤمن يجد نفسه أمام بحر لا ساحل له أمام هؤلاء العمالقة، الصدر الأول، الذين اختارهم الله لشرف صحبة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، كيف لا! وهم تخرجوا من جامعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن نحذو حذوهم وأن نستشعر عظمة الله جل وعلا ونلتزم بأمره، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعلمنا ويوجه إلينا خطاباته القرآنية في مواضع كثيرة فقال سبحانه: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ)) [آل عمران:32] ويقول أيضاً: ((وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ)) [التوبة:71] ويقول جل وعلا: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) [الأحزاب:71] وقال جل وعلا: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36]. نسأل الله جل وعلا أن يجعل ما سمعنا حجة لنا لا علينا، وأن يوفق الجميع لاتباع أوامره واجتناب نواهيه وصلى الله وبارك على نبينا محمد. الشيخ عائض

    : أثابكم الله. أنتم تعلمون أيها الإخوة! ويعلم المسلمون جميعاً أننا أمة معطاءة فينا الكثير والكثير، وأنا أعلم وأمامي المئات من شباب الإسلام ومن الصالحين الأخيار أن فيهم من هو أقدر مني ومن إخواني الذين يتكلمون ولكنها وللأسف طاقات معطلة لم تستخدم إلا القليل، أفلم يأن بعد أن يتحرك أصحابها بطاقاتهم وبمواهبهم التي سوف يسألهم الله عنها ليقولوا للناس: نحن أحفاد أبي بكر

    وعمر

    ، وعثمان

    وعلي

    ، فأردنا أن نقدم نموذجاً من أبنائكم لتسمعوا ولتروا وكلٌ يرى موهبته ويرى تجربته أمام هؤلاء.

    الاستقامة

    والكلمة الرابعة الآن للأخ سعيد بن أحمد النعِّمي بعنوان (الاستقامة) فليتفضل:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله القائل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] والصلاة والسلام على خير الأنام وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته واستقاموا على دينه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    أيها المسلمون: اتقوا الله واعلموا أن الله سبحانه أمر عباده بالاستقامة عموماً وأمر نبيه بها خصوصاً، قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] فأمره ربنا أن يستقيم هو ومن تاب معه، وألا يجاوزوا ما أمر به، وأخبر أنه بصير بأعمالهم مطلع عليها، وذكر القشيري وغيره عن بعضهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: { يا رسول الله! قلت: شيبتني هود وأخواتها} فما شيبك منها؟ قال: قوله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112].

    والاستقامة هي: سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القيم من غير عوج يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، والاستقامة كلمة جامعة وهي: القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، فهي من جوامع الكلم، ولهذا لما جاء سفيان بن عبد الله رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: {يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله ثم استقم} رواه مسلم، ولهذا فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه إعراضاً عن الدين أو تكاسلاً عن الطاعة رغبه بالتساهل والتكاسل، حتى يتحلل من الدين فيترك الواجبات ويفعل المحرمات، ولا يزال يغريه حتى يقطع صلته بالدين ويتركه في متاهات الهلاك، وإن رأى من العبد حرصاً على الدين فلم يتمكن من صده عنه؛ أمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاعتدال، قال بعض السلف: [[ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة -وهي الإفراط- ولا يبالي بأيهما ظفر زيادةً أو نقصاناً]] فكل الخير في الاجتهاد المقرون بالاعتدال، والسير على منهج أهل السنة والجماعة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، وكما خرجه الإمام أحمد وابن ماجة من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} وفي رواية الإمام أحمد: {سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { سددوا وقاربوا} فالسداد: هو حقيقة الاستقامة وهو الإصابة في جميع الأقوال، والأعمال، والمقاصد، كالذي يرمي إلى هدف فيصيبه، والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الهدف إذا لم يصب الهدف نفسه، لكنه مصمم وقاصد إصابة الغرض، فالمطلوب من العبد الاستقامة وهي: السداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن لم يحصل منه سداد ولا مقاربة فهو مفرط مضيع والعياذ بالله.

    فالحمد لله الذي لم يكلفنا ما لا نطيق، وشرع لنا ما يجبر تقصيرنا ويكمل نقصنا، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25] ويضاعف الحسنات فضلاً منه وتكرماً.

    عباد الله! في الختام: يجب على كل مسلم أن يستقيم في عقيدته على عقيدة أهل السنة والجماعة، ويجب عليه أن يستقيم على محبة الله ورسوله، أسأل الله الواحد الأحد أن ينفعني وإياكم بما سمعتم، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين الاستقامة على دينه حتى نلقاه وهو راض عنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

    الشيخ عائض:

    أيها الإخوة! أنا وإخواني نلحن في كلامنا، ولو أني صححت معهم قبل أن نحضر ولكننا نلحن جميعاً، وكما قال الأول:

    سامح حبيبك إن فيه فهاهة     بدوية ولك العراق وماؤها

    ولكن الذي يتكلم ويخطئ أحسن من الذي لا يتكلم وهو جالس، ولذلك يقول الصينيون: الجالس لا يسقط، والذي لا يتحرك بهذا الدين، ولا يتفاعل مع مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعظ ولا يبلغ رسالة الله، ولا يحمل الميثاق وينتقد! هو أقل بكثير من هذا الذي يتكلم ولو أخطأ.

    أيضاً أيها الإخوة! من أسباب خطئنا في اللغة العربية أننا ما لقنا، ولا حفظنا ولا عُلمنا القرآن ونحن أطفال، تصوروا أن من يدرس أطفالنا الآن القرآن في مساجدنا هم الأفغان والباكستان العجم، ولا أقولها من باب العنصرية أو القومية لكن العجم أصبحوا الآن يدرسون أبناءنا: الضاد ومخارج الضاد، أثابكم الله.

    خشية الله عند السلف

    الكلمة الخامسة للأخ الداعية خالد بن عبد الله العَسِيري فليتفضل:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد المجاهدين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    أمَّا بَعْد:

    أيها الأخيار! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذه الكلمة (خشية الله عند السلف).

    نعم. سوف نعيش في هذه الدقائق لنأخذ طرفاً من أحوالهم، وشيئاً من أخبارهم تجاه هذا الموضوع المهم.

    أيها الأبرار! سوف نقضي بعضاً من الوقت مع ذلكم الجيل، جيل البطولة والتضحية، وقد صدق الشاعر حين قال عنهم:

    عباد ليل إذا جن الظلام بهم      كم عابد دمعه في الخد أجراه

    وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم      هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه

    يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً      يشيدون لنا مجداً أضعناه

    نعم -أيها الإخوة- أين الأندلس؟ أين فلسطين؟ وأين أفغانستان؟ لقد ضيعنا تلك البلاد يوم أن ضيعنا لا إله إلا الله، والمقصود من هذه الكلمة يا عباد الله! أن نعيش بعض الوقت مع أولئك النفر؛ عل الله أن يوقظ القلوب من غفلتها، والأنفس من سباتها.

    يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في وجهه خطان من البكاء، وثبت في مستدرك الحاكم أنه لما حج وضع شفتيه على الحجر الأسود ثم قبله وبدأ يبكي، وكان يصلي بالمسلمين ذات مرة صلاة العشاء فقرأ بهم سورة الطور فلما بلغ هذه الآية: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7] سقط مغشياً عليه وأصبح يعاد في بيته شهراً كاملاً رضي الله عنه وأرضاه، وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر؛ بكى حتى تخضل لحيته من البكاء، وكان يقول: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه} وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعده أعظم} وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى صلاة الفجر وجلس حزيناً مطرقاً، فلما طلعت الشمس قبض على لحيته وبدأ يبكي ويقول: [[لقد رأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجداً وقياماً، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهطلت أعينهم بالدموع، والله، لكأن القوم باتوا غافلين]].

    وهذا موقف آخر لصحابي جليل هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [[أُتى له بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم نجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا]] ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام الله أكبر! قلوب عرفت الله عز وجل.

    وثبت في ترجمة سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: [[أضحكني ثلاثه: غافل ولا يغفل عنه، ومؤمل دنيا والموت يطلبه، وضاحك ملء فيه ولا يعلم أساخط عليه رب العالمين أم راض عنه، وثلاث أبكينني: فراق الأحبة محمداً وصحبه، وَهَولُ المطلع، والوقوف بين يدي الله عز وجل]].

    وموقف من مواقف الخشية لله عز وجل مع خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، جاء عنه أنه بكى وهو غلام صغير فجاءت إليه أمه فقالت: ما يبكيك؟ قال: [[ذكرت الموت]] فبكت أمه. وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار جميعاً، فلما تجلى عنهم البكاء جاءت زوجته فاطمة وقالت له: بأبي أنت يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟ قال: [[ذكرت يا فاطمة! منصرف القوم بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير]].

    أسأل الله أن يجمعنا وإياكم بهم في دار الكرامة مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    الشيخ عائض:

    أثابكم الله.

    محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

    والآن مع الكلمة السادسة للأخ محمد بن عمر بن محمد الزُّبيدي

    بعنوان (محبة الرسول عليه الصلاة والسلام) فليتفضل: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. يا حملة المبادئ! يا درة التاريخ! يا صفحة الدهر الناصعة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوار وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار عن أنس

    رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} ومعنى الكلام أي: لا يكون أحدكم مؤمناً خالصاً حتى يُؤثر طاعتي وأمري على هوى نفسه وشهوات قلبه، ولا يذوق طعم الإيمان إلا من آثره عليه الصلاة والسلام على الوالد والولد والناس أجميعن. وقد غرس عليه الصلاة السلام حبه في نفوس أصحابه حتى خالطت شغاف قلوبهم وجرت مع مجرى دمائهم، تصوروا هذا الحب في مواقف سطرها التاريخ بمداد من ذهب، فهذه صورة من صور هؤلاء الصحابة الذين أحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا خُبيب بن عدي

    حين أسرته قريش وصلبته يقول له أبو سفيان

    : أتحب أن يصاب محمد بأذىً وتكون أنت سليماً معافى في أهلك؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: [[]]. نعم أيها الأحباب! إنها المحبة الخالدة، كيف لا وهو الذي أخرجهم من ظلمات الكفر إلى أنوار الإيمان، قال تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)) [الأنعام:122]. ويصوغ الفاروق

    رضي الله عنه هذه المحبة في قالب آخر كما ذكر البخاري

    أن عمر

    رضي الله عنه قال: {يا رسول الله! لأنت أحب إليَّ من كل شيء من إلا نفسي، فقال له عليه الصلاة السلام: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فيقول عمر

    : فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي، فيقول عليه الصلاة والسلام: الآن يا عمر

    !}. أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر كيف لا يحبونه وقد جعل منهم قادة للأمة، وحملة للواء الحق، ومجاهدين لإعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله!! أيها الأحباب! ما من طفل ولا امرأة ولا شيخ ولا فتى إلا رفرف قلبه بحبه عليه الصلاة والسلام، فعندما مات صلى الله عليه وسلم بكت عليه المدينة بأسرها، صغيرها وكبيرها، وبكى عليه الدهر، ورثاه التاريخ، وأظلمت المدينة على أهلها، قال تعالى: ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) [الزمر:30]. لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد شهم يموت لموته بشر كثير وقال أبو بكر الصديق

    رضي الله عنه: [[طبت يا رسول الله! حياً وميتاً]] ثم تفطرت كبده على فراق خليله وصاحبه، فيموت رضي الله عنه ليلحق بصاحبه بعد فترة وجيزة إلى جنة عرضها السماوات والأرض. فما لقلوب تعي مثل هذا الكلام، وما لعقول تفهم هذا الحديث لا تعيشه عليه الصلاة والسلام في سويداء قلوبها!! أيها الإخوة الأحباب! نسأل الله جل وعلا أن يجمعنا به وبصحبه في مستقر رحمته، في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه على ذلك قدير وصلى الله وسلم على الهادي البشير المبعوث رحمة للعالمين، والحمد لله العليم الحكيم. الشيخ عائض

    : أيها الإخوة الكرام! لعل من المصلحة أن نذكر بعض المساوئ للخطباء من المقصرين أمثالنا في مجتمعاتنا ولكن نرجئ الحديث حتى نكمل النصاب بشخصين فاضلين الأخ محمد بن شبلان

    عن (استقبال شهر رمضان) فليتفضل:

    استقبال شهر رمضان

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

    أمَّا بَعْد:

    اعلموا أنه قد أظلكم شهر عظيم وموسم كريم تضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات، إنه شهر رمضان، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] إنه شهر الصيام والقيام، شهر الصدقات والبر والإحسان، شهرٌ تفضل الله به على هذه الأمة بخمس خصال لم تعطها أمة من الأمم:

    الخصلة الأولى: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.

    الخصلة الثانية: تستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا.

    الخصلة الثالثة: يُزيِّن الله فيه كل يوم جنته ويقول: {يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليك}.

    الخصلة الرابعة: تصفد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره.

    الخصلة الخامسة: يغفر الله لهذه الأمة في آخر ليلة منه.

    شهر من صامه إيماناً بالله واحتساباً لثواب الله؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً؛ غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النيران، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان يفرح بهما: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه} يفرح عند فطره بأمرين:

    الأمر الأول: باستكمال صوم اليوم الذي من الله عليه بصيامه وقواه عليه.

    الأمر الثاني: بتناول ما أحل الله له من طعام وشراب.

    ويفرح عند لقاء ربه بما يجده عند ربه مدخراً له من أجل الصيام.

    واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنهما، فأما اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتستعيذون به من النار، واحرصوا على الدعاء عند الإفطار فإن في الحديث: {إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد}.

    واعلموا أن الصيام إنما شرع ليتحلى الإنسان بالتقوى، ويمنع جوارحه من محارم الله، فيترك كل فعل من الغش والخداع والظلم ونقص المكاييل والموازين، ومنع الحقوق والنظر المحرم وسماع الأغاني المحرمة، ويترك كل قول محرم: من الكذب، والغيبة والنميمة، والسب والشتم، وإن سابه أحد أو شاتمه فيقل: إني صائم، فلا تجعل -أيها المسلم- يوم صومك ويوم فطرك سواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه}.

    هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله أعلم.

    الشيخ عائض:

    أثابكم الله.

    احفظ الله يحفظك

    وآخر الإخوة الأخ عبد الحكيم بن سِعِيدان القحطاني بعنوان (احفظ الله يحفظك) فليتفضل:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله أمَّا بَعْد:

    أيها المسلمون: صح عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي وأحمد أنه قال لابن عمه حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف} زاد الإمام أحمد في مسنده: {واعلم أن الفرج مع الكرب وأن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرى} هذا حديث صحيح وهو وصية محمد صلى الله عليه وسلم للأولين والآخرين (احفظ الله يحفظك).

    من يتق الله يحمد في عواقبه      ويكفه شر من عزوا ومن هانوا

    من استجار بغير الله في فزع      فإن ناصره عجز وخذلان

    فالزم يديك بحبل الله معتصماً      فإنه الركن إن خانتك أركان

    أفاد الحديث أموراً عديدة منها:

    أولاً: تحريم سؤال غير الله تعالى مما لا يقدر عليه إلا هو كالرزق والمغفرة والنصر وغيرها، أما ما جرت عليه عادة الناس أن يتعاونوا فيه مما يقدرون عليه فلا مانع من سؤالهم كالاستعارة والاستقراض والاسترشاد وغير ذلك.

    ثانياً: ما أثبته سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله معلوم لله، ولا يقع شيء إلا بعلمه تعالى.

    ثالثاً: الحديث أصل عظيم في مراقبة الله تعالى، ومراعاة حقوقه، والتوكل عليه، وشهود توحيده وتفرده، وعجز الخلائق كلهم وافتقارهم إليه.

    رابعاً: حقيقة التوكل: إن الكرب إذا اشتد وتناهى؛ أيس العبد من جميع المخلوقين وتعلق قلبه بالله وحده.

    وروى البخاري في صحيحه في باب الوكالة: {أن رجلاً من بني إسرائيل ذهب إلى أخيه ليقترض منه فقال له: من يكفلك؟ فأنا لا أعرفك، قال: يكفلني الله، قال: رضيت بالله ومن رضي بالله أعطاه الله ما تمنى وسلمه، فكتب صكاً، فلما بقيت خانة الشهادة قال: من يشهد لك؟ قال: الله، قال: رضيت بالله شاهداً، فكتبوا وشهد على ذلك الحي القيوم، وأخذ الصك وأعطاه ألف دينار وأتى وقت أداء القرض، فذهب المقترض ليركب البحر وليوصل هذا الدين فلم يقدر ولم يجد سفينة ولا قارباً تحمله، فدمعت عيناه وقال: يا رب! سأل كفيلاً فقلت: أنت الكفيل فرضي بك، وطلب شاهداً فقلت: أنت الشاهد فرضي بك، اللهم ادفع له هذا المال، وأخذ خشبة فنقرها ووضع فيها ألف دينار ثم كتب رسالة إلى صاحبه ثم قال: باسم الله، ووضعها في الماء فأخذها الكفيل الذي ما بعده كفيل، والشاهد الذي ما بعده شاهد، وأخذت تتدحرج على ظهر الماء ولا تعرف.

    وخرج ذاك الرجل في نفس الميعاد ليستقبل صاحبه على الموعد وإذا بالبحر يرمي عليه خشبة قال: لا أفوت سفري آخذ هذه الخشبة حطباً لأهلي فكسر الخشبة فوجد الألف دينار والرسالة} فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    الشيخ عائض:

    أثابكم الله.

    انتهى الإخوة الذين شاركوا في هذه الندوة، وأسأل الله أن يثيبهم على ما قدموا، وباسمكم أشكرهم، وأتمنى لهم ولإخوانهم من شباب هذه الأمة أن يكونوا دعاة إلى منهج الله عز وجل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088938247

    عدد مرات الحفظ

    780016946