وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
وكان من ضمن من فر عدي بن حاتم الطائي ابن كريم العرب، وترك أخته في بيته، فنزل خالد وتمركز بجيشه هناك، وسبى سبايا، وأخذ أسارى، وعاد بهم إلى عاصمة الإسلام، إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضمن الأسارى: سفانة بنت حاتم الطائي الكريم المشهور، والجواد العظيم، وأنزلهم خالد حول المسجد، وقامت سفانة إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وقالت: اشفع لي إلى ابن عمك، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي: إنا لا نشفع إليه، ولكن إذا خرج إلى الصلاة، فسوف ينظر إليكم، فتشفعي عنده واذكري أباك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأبرهم وأوصلهم.
وخرج صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر ومعه بعض الصحابة، وفي طريقه استعرض الأسارى، فقامت سفانة، وقالت: يا رسول الله! إن أبي كان يحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر، أنا بنت حاتم الطائي كريم العرب، فاعف عني عفا الله عنك. فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: {خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، ثم قال: يا هنتاه، لو أن أباك مات مسلماً لترحمنا عليه} ثم أكرمها صلى الله عليه وسلم، وأعادها صيّنة محتشمة إلى ديار أهلها؛ فلقيت أخاها عدي، فقالت: يا قطوع، يا عقوق! تركتني وفررت، جئتك من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، من عند أبر الناس، وأوصلهم، وأرحمهم.
فتهيأ عدي ولبس لباسه، وركّب صليب النصرانية على صدره، وأتى إلى المدينة، وتسامع الناس أن ابن حاتم الطائي قادم، أو أظل المدينة ضيفاً؛ فخرجوا في استقباله، واستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجلسه في بيته، وقدم له مخدةً ليجلس عليها، فأبى وجلس على التراب، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أشهد أنك من الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}.
وبينما هو جالس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بروح القدس، وإذا بجبريل عليه السلام ينزل بآيات الله البينات، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة مقدم عدي بن حاتم، وهي قوله تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31] فقال عدي، وعرف أن الخطاب له، وأنه المقصود بلفظ الفحوى "إياك أعني واسمعي يا جارة" فقال: {ما عبدناهم يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم ونظر إليه: بل عبدتموهم، أما أحلوا لكم الحرام فأحللتموه، وحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم}. ثم تنمر له صلى الله عليه وسلم، وقرب منه، وأخذ بتلابيب ثيابه وقال: {يا
والمقصود من هذا كله: أنه لا عظيم إلا الله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يتوكل إلا على الله، ومن توكل عليه كفاه، ومن عظَّم الله عظمه الله، ومن امتهن أسماء الله أمتهنه الله وحقره وأذله.
ثم أخذ خشبة، فنقرها، ووضع فيها الدنانير، ووضعها على ظهر ماء البحر، فسلط الله الريح؛ فأخذت هذه الخشبة، وساقتها إلى الساحل الآخر، وخرج ذاك الرجل صاحب الدين في ذلك اليوم، يقول لأهله: علني أتعرض للسفن، أركب إلى صاحب المال الذي جعل بيني وبينه الله شهيداً وكفيلاً. فانتظر سفناً فلم تأتِ سفينة، فقال: لقد يئست، وحسبي الله ونعم الوكيل.
ثم نظر إلى الخشبة، فقال: آخذ هذه إلى أهلي لتكون حطباً لهم. فلما أتى بها إلى البيت كسرها؛ فإذا الدنانير فيها، وإذا الرسالة، والمبايعة، فقال: من استكفى بالله كفاه، ومن توقى بالله وقاه
}.فأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أشيمط زانٍ) فهذا شيخ شائب، شابت لحيته، وشاب رأسه في الإسلام، ثم وقع في الكبائر، ومنها: الزنا، بعد أن وعظه الله بالشيب، قال ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما، لما قرأ قوله تبارك وتعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] قال: [[النذير والله الشيب]]وكفى بالشيب نذيراً.
ومر عمر رضي الله عنه وأرضاه برجل وهو يترنم بقصيدة، ويقول:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا |
فدمعت عينا عمر وقال: [[إي والله، كفى بالإسلام والشيب للمرء الذي يخاف الله ناهياً]] وأثر عن إبراهيم عليه السلام: [[أن الشيب لما ظهر في لحيته نظر إلى المرآة، فقال: يا رب ما هذا الشيء الأبيض في لحيتي؟ قال: يا إبراهيم! هذا وقار. فقال: اللهم زدني وقاراً]].
فمن وقرَّه الله بالشيب، ثم وقع في الفواحش؛ فلن ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه يوم يزكي الصالحين، وله عذابٌ أليم، فهذا أشيمط أسرف في الخطايا، شيخٌ ومذنبٌ ومسيء، وقد دنى من حفرته ولبس أكفانه!
كان سفيان الثوري يقول: [[يا من بلغ الستين سنة! خذ لك كفناً على أكتافك، واحفر قبرك فإنك بلغت من الموت قاب قوسين أو أدنى]].
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (عائل مستكبر) فهو فقير يتكبر على عباد الله -حشفاً وسوء كيلة- ليس عنده ما يدعوه إلى التكبر، أو يجذبه إلى الزهو والعجب، ثم ينفخ صدره، ويزور بزوره، فهذا ممقوت مبخوس الحظ، فاقد عند الله عز وجل، وإلا فإن الله عز وجل إذا أراد أن يصحح نية العبد جعله من المتواضعين، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].
وأثر عن موسى عليه السلام: [[أن الله أوحى إليه، فقال: يا موسى! أتدري لماذا اصطفيتك من الناس، واخترتك من بني إسرائيل؟ قال: لا يا رب. قال: نظرت في قلوب بني إسرائيل، فوجدت قلبك يحبني أكثر من كل قلب، ورأيتك ما جلست مع أحد إلا شعرت في نفسك أنك أوضع منه، وأنك أحقر منه]] ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {من تواضع لله رفعه، وحق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه}.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي داود من حديث ابن عباس: {أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسو الله! ما شاء الله وشئت. فغضب عليه وقال: ويحك! أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده}.
وصح أن أعرابياً قدم عليه صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! قحطنا، أجدبنا، فادع الله أن يغيثنا، فإنا نستشفع بك إلى الله، ونستشفع بالله إليك. فجلس صلى الله عليه وسلم، وقال: ويحك! ويلك! سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! أجعلتني لله نداً! أتدري ما شأن الله، إن شأن الله أعظم من أن يستشفع به أو يتشفع به إلى أحد من خلقه تبارك وتعالى}.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، كما صح عنه: [[لأن أحلف بالله كاذباً خيرٌ من أن أحلف بغير الله صادقاً]] لأن من حلف بغير الله صادقاً فقد أشرك، ومن حلف به كاذباً فقد أذنب، والشرك أكبر الذنوب.. فيا عباد الله وقروا الله في أيمانكم.
أولها: ألا نحلف إذا اضطررنا إلى اليمين إلا بالله تبارك وتعالى.
قال الشافعي رحمه الله تعالى كما ذكر ذلك عنه الذهبي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً في حياتي؛ توقيراً لله تبارك وتعالى وتعظيماً له.
وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: عظِّموا الله تعالى، لا يقل أحدكم لمولاه: أخزاك الله، أو قبحك الله، فتقرنون الله بهذا الكلام.
وذكر ابن تيمية رحمه الله أن محمد بن جعفر الصادق كان إذا قال له الرجل: لا والله؛ احمر وجهه إجلالاً لله تبارك وتعالى.
فالذي لا يستكفي بالله عز وجل فلا كفاه الله، والذي لا تشفيه اليمين به تبارك وتعالى، بأسمائه وصفاته فلا شفاه الله؛ لأنه قد عظّم غير الله أكثر منه.
ثانياً: على المسلم إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيراً منها أن يُكفِّر عن يمينه، وأن يأتي الذي هو خير.
فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه -كما في الصحيحين- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فكفِّر عن يمينك وأتِ الذي هو خير} والذي يحنث في يمينه، أو الذي يلج في يمينه؛ هو الرجل الذي يحلف ألا يفعل الخير، ثم يمنعه يمينه عن فعل الخير، وهذا هو المقصود بقوله تبارك وتعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] أي: مانعاً عن فعل الخير، فبعض الناس يحلف ألا يزور أقاربه، وألا يصل أرحامه، وألا يبر أباه، فواجب هذا أن يكفر وأن يعود إلى ما هو خير.
ثالثاً: ومن واجبنا في الأيمان كذلك ألا نحلف بغير الله تبارك وتعالى -كما أسلفت- فإنه شرك، ويدخل في ذلك الحلف بالطلاق والحرام؛ فإن هذا تعظيم لغير الله، والطلاق في الإسلام إنما وضع لفظاً لمفارقة الزوجة، لا لليمين، ولا لعقد الحلف، فمن فعل ذلك؛ فقد عظَّم غير الله أكثر منه تبارك وتعالى، وكثيرٌ من الناس لا يستجيبون إلا بالطلاق وبالحرام، وما هذا إلا لبدعتهم وجهلهم، وقلة فقههم، ولقلة عظمة الله عز وجل في قلوبهم، فأولى لهم ثم أولى أن يرضوا بالله تبارك وتعالى.
ذكر الغزالي في إحياء علوم الدين: [[ أن عيسى عليه السلام رأى سارقاً يسرق، فقال عيسى للسارق: أتسرق؟ قال: والله ما سرقت. -وقد سرق- فقال عيسى عليه السلام: صدقت بالله عز وجل وكذبت عيني]]. وذلك احتراماً لليمين؛ لأنه حلف بالله.
وفي سنن أبي داود عن سهل بن سعد {أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فعل فعلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: أفعلت ذلك؟ قال: لا والله الذي لا إله إلا هو. فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد فعلته، ولكن غفر الله لك بالتوحيد} لأنه قال: والله الذي لا إله إلا هو.
رابعاً: ومن واجبنا في الأيمان: ألا نلغو بكثرة امتهان اسم الله عز وجل على الألسن، وفي المجالس والمنتديات؛ فهذا من قلة توقير الله تبارك وتعالى، فإن كثيراً من الناس يحلف في مجلسه عشرات المرات.. يقوم فيحلف، ويجلس فيحلف.. وهذا من قلة تعظيمه لربه تبارك وتعالى، فإن الله عظيم ولا شيء أعظم منه تبارك وتعالى، ولا يحلف الرجل إلا عندما يستحلف، فله أن يحلف.
وتقدم رجلٌ إلى محمد بن أبي داود الظاهري، فاستحلفه فحلف، فقال: كيف تحلف وأنت التقي الورع؟ فقال: إن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحلف في كتابه، فقال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس:53] فواجب على المسلم أن إذا استحلف في أمر وهو صادق أن يحلف.
خامساً: من واجبنا في الأيمان -وخاصة أهل التجارة والبيع والشراء- ألا يتعرض للفظ الجلالة دائماً؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، ورجل عرض سلعته بعد العصر، فحلف بالله عز وجل أنه أعطي بها كذا وكذا وقد كذب} فبعض الناس لا يبيع سلعته إلا باليمين الفاجرة.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين أنه قال: {اليمين منفقة للسلعة مذهبةٌ للبركة} فلا يبارك الله في مال الفاجر، ولا في سلعته، ولا في تجارته، فانتبهوا بارك الله فيكم لهذه الأمور.
سادساً: ومما يجب علينا كذلك: أن ننهى عما ابتدعه الناس من شركيات في ألفاظهم، كقول بعضهم: وحياتي، وشرفي، ونجاحي، وكرامتي، ولو كان له شرف وكرامة، لما كرم إلا الله، ولما عظَّم إلا الله، وهذا منتشر في الناس، إلا من رحم الله تبارك وتعالى.
فيا أبناء من نشروا لا إله إلا الله! ويا أحفاد من بينوا للناس التوحيد الخالص! هذه دعوته صلى الله عليه وسلم، وهذه رسالته، فاحفظوا أيمانكم، واحفظوا لهجاتكم، واحفظوا ألسنتكم.. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
ذكر الذهبي وابن كثير أن الحسن بن هانئ الشاعر وفد على ملك من ملوك الدنيا، فقال له:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار |
يخاطب بشراً مثله، لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؛ فابتلى الله هذا الرجل بمرض عضال؛ أسهره في الليل، وأحرمه الطعام، حتى يعرِّفه من هو الواحد القهار، فتداول عليه الأطباء، وأتاه الممرضون، فما أجدى فيه علاج، وأخذ يتقلب على فراشه يبكي ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالقِ |
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق |
فمن علق أمله بغير الله؛ خذله الله عز وجل ومقته وأذله.
وبعض الشركيين يتلفظون بألفاظ شركية بدعية، سوف يحاسبهم الله بها يوم العرض الأكبر، ومنهم البرعي، حيث يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما |
فأقلني عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما |
والرسول عليه الصلاة والسلام بشر لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فلا يعبد إلا الله، ولا يعظم إلا الله، ولا يحلف إلا بالله.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا من قلوبكم وألسنتكم، أصلح الله لنا ولكم ما ظهر من أمرنا وما بطن.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89] وفي هذه الآية حلٌ لمن حلف بالله ثم حنث، ليس حلٌ لمن حلف بغير الله، فإن من حلف بغير الله فقد أشرك، ولا تنعقد يمينه على الصحيح من أقوال أهل العلم.
والكفارة كما ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هي إطعام عشرة مساكين، قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[يطعمهم وجبة غداء وعشاء]] والجمهور على أنه يطعمهم وجبة واحدة ولا وجبتين ولا ثلاثاً، ولكل مسكين على الصحيح نصف صاع، وهو مدان، فيطعمهم ليبري الله ذمته، وليزكي يمينه، وليرفع الإثم عنه، ثم يأتي الذي هو خير.
وهو على التخيير، فله أن ينتقل إلى الكسوة، فيكسو كل مسكين ما يصلح له أن يصلي فيه، ثم عتق الرقبة، فإن عجز عن هذه الثلاث فعليه بصيام ثلاثة أيام، وله أن يصومها متتابعات، وله أن ينثرها في أي وقت شاء، ولكن عليه أن يوقر الله في اليمين، وإذا تتابع عليه أيمانٌ موجبها وسببها واحد، ولم يكفر؛ كفاه كفارة واحدة، وإن حلف على أيمان متعددة أسبابها مختلفة؛ فلكل يمين كفارة.
وقد مدح الله الذين يوفون بالنذر، فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً [الإنسان:7] وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة بن عامر في صحيح مسلم أنه قال: {كفارة النذر كفارة يمين}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من نذر نذراً لم يستطعه؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين.
والنذر الذي لا يستطيعه العبد هو ما كلف به نفسه، كأن ينذر أن يصوم الدهر إن نجَّح الله ولده، أو ينذر أن يصلي في يوم من الأيام ألف ركعة، إن أتى الله بحبيبه، فلم يستطيع؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين، فهي تكفيه عن النذر الذي لا يستطاع.
المهم أن يعظم الله تبارك وتعالى، وألا يحلف به العبد إلا مضطراً صادقاً، وأن يقدر أسماءه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصفاته، فإن هذا من تقوى القلوب، وهو من تعظيم شعائر الله.
وكثيرٌ من الناس يسأل بوجه الله في أغراض رخيصة، وفي أسباب حقيرة تافهة، وهذا من قلة تعظيمه لربه، ومن قلة دينه، فوجه الله تبارك وتعالى عظيم، لا يسأل به إلا ما عظم من الأمور.
ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعوذ بنور وجهك، الذي صلح به أمر الدنيا والآخرة، وأشرقت به السماوات والأرض، من أن يدركني غضبك، أو يحل بي سخطك) فإنما استعاذ من الغضب والسخط، وهما أكبر ما يستعيذ منهما العبد.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً).
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين المهديين، وسائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، من اليهود والنصارى ومن أعانهم يا رب العالمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر