إسلام ويب

يوسف عليه السلام في الجبللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة يوسف عليه السلام من السور التي ما يقرؤها القارئ إلا ويذوب فيها ولا يفيق من صورها البديعة وقصتها المؤثرة إلا بانتهائها، لأنها تخاطب كيان الإنسان كله، تخاطب مشاعره ووجدانه كما تخاطب عقله، تخاطب وجدانه بما تحمله من عواطف جياشة، ومواقف مؤثرة؛ آلام.. آحزان.. فراق.. بكاء.. شكوى.. لقاء.

    وهي تخاطب العقل بما فيها من دروس وعبر لمن تأملها وتدبرها.

    الحمد لله القائل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:3-6].

    والصلاة والسلام على رسول الله القائل: (أتدرون من هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أمَّا بَعْد:

    [[دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد قاصاً يقص على الناس، وواعظاً يعظهم بأخبار الجاهلية، فقال عمر: من هذا؟ فيقولون: هذا قاص يقص علينا، فيعلوه عمر بالدرة -وهي عصى غليظة- ويضربه، ويقول له: أتقص يا عدو الله! والله يقول: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]]] ومن أحسن القصص قصة يوسف عليه السلام وبطلها يوسف عليه السلام، وهو يمر فيها بأربعة مشاهد:

    المشهد الأول: مشهد الفراق من أبيه، أربعون سنة لا يرى أباه وأهله.

    المشهد الثاني: مشهد الفتنة، امرأة العزيز تتعرض له وهي من أجمل خلق الله.

    المشهد الثالث: مشهد السجن ليسجن في ذات الله.

    المشهد الرابع: مشهد ملك مصر، والتحدث من مصدر القوة بعد الفراق والسجن.

    يقول الله عز وجل في بداية السورة: الر من هذه الحروف نتكلم بحروفنا، ومن هذه الحروف نقول كلماتنا، ومن هذا الكلام قرآننا.

    فيا أيها الفصحاء! يا قريش البليغةالعرباء! صوغي من هذه الحروف كما صغنا منها قرآناً يتلى، المادة موجودة، والخام معروف؛ لكن هل تستطيعون أن تصوغون قراناً كهذا القرآن؟!

    الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] كتاب مبين واضح: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2] فيا من نام ولم يستيقظ! استيقظ بهذا القرآن، ويا من غفل ولم يصح! اصح بهذا القرآن، ويا من عطل عقله! اعقل بهذا القرآن: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل من بعده عليه الصلاة والسلام، ثم يقول تبارك وتعالى مقدماً للقصة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] أطيب وأصدق وأروع القصص: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب، كنت أمياً في صحراء مع أمة أمية جاهلة، ليس عندها قصص ولا كتاب.

    ثم ينتقل بنا القرآن إلى يوسف عليه السلام، وإلى أبيه يعقوب، الأنبياء المطهرون المشرفون المكرمون، والأسرة العريقة في الكرم والجود والتقوى وفي الورع:

    وما كان من خير أتوه فإنما     توارثه آباء آبائهم قبل

    وهل ينبت الخطي إلا وشيجة     وتغرس إلا في مغارسها النخل

    يوسف عليه السلام يصحو وهو غلام لا يقارب العاشرة، وفي الصباح يجلس أمام أبيه، ومن أعجب الأعاجيب عند الطفل أن يرى في النوم ما يرى، لذلك الأطفال يرتاحون إيما ارتياح إذا رأوا في نومهم ما يقصونه على آبائهم، لو رأى حتى خيالاً أو طائراً أو جبلاً، لزاد عليه ونمق وزخرف ولأخبر أهله في الصباح، أما يوسف عليه السلام فما زخرف ولا زاد، يجلس أمام أبيه ويقول: يا أبتاه! إني رأيت البارحة أحد عشر كوكباً -نجماً في السماء، والشمس والقمر- ولو سكت لما كان في القصة عجب كل يرى أحد عشر كوكباً، وكلهم يرون الشمس والقمر، لكن ما هو المذهل يا ترى؟ إن سر الحلم والرؤيا هو: رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] رأيتهم نزلوا من السماء وسجدوا لي في الأرض، فلمح يعقوب عليه السلام وهو نبي آتاه الله من العلم والإدراك والفطنة والفهم، أن ابنه هذا سيكون له شأن أيما شأن، وسوف يكون وارثه بالنبوة، فخاف أن يخبر إخوانه، فيأتي الشيطان فيحول بينهم وبينه، وهذا ما حدث. فقال: يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ [يوسف:5] احذر أن يسمعوا هذه القصة، لا تخبرهم أبداً أنك رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون لك، ولكنه ما أخذ الوصية وما حفظها وما شك في إخوانه، بل أخبر إخوانه من أبيه، الأشقاء الرحماء، والأصفياء كيف ينقم بعضهم على بعض؟ ولذلك علمنا صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم رؤيا فلا يقصها إلا على من يحب).

    فأتى يوسف عليه السلام إلى إخوانه وهو أصغرهم وقص عليهم القصة، فثار الحقد في قلوبهم، والحسد في نفوسهم، وبدا تدبير عملية اغتيال يوسف أمراً مؤكداً، بل من المهمات التي يجب أن تنفذ، وأخبر يعقوب عليه السلام وسقط في يديه، وعلم أن المكيدة سوف تتم: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:5-6] وكذلك يجتبيك بهذه الرؤيا وبغيرها، ويعلمك من تأويل الأحاديث: لأنك رأيت رؤيا، ويتم نعمته عليك: نعمة الرسالة والاستقامة.

    لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:7] أي: عظات وعبر للمعتبرين، إخوان ينقمون على أخيهم، بل حاولوا طرده وإبعاده من بيت أبيه بل هموا بقتله.

    تدبير الخطة لقتل يوسف

    اجتمع إخوة يوسف، ويوسف ليس معهم، وقال قائلهم: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] إخوان في بيت واحد من أب واحد قالوا: أخطأ حين قدم أخانا، لماذا يقبله أكثر مما يقبلنا؟ لماذا يجلسه بجانبه ولا يجلسنا بجانبه؟ ولذا فهذا درس في التربية؟ من كان عنده أبناء أو بنات فلا يميز أحدهم على الآخر، فإن هذا يورث الضغينة والحقد بينهم، إلا أن يكون طفلاً صغيراً فله أن يميزه بين الآخرين: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] فكانت النتيجة: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ [يوسف:9] مكيدة ما سمع التاريخ بمثلها، شاب بريء طفل عاقل من أبناء النبوة، وليس البعيد الذي سيقتله بل إخوانه: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً [يوسف:9] أو اذهبوا به إلى أرض بعيدة، وسوف تنفردون بأبيكم وينفرد بحبكم -وظنوا أن هذا سوف يحدث- ثم تتوبون من الخطأ وتستغفرون من الجريمة ويتوب الله عليكم.

    قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[نووا بالتوبة قبل الذنب]].. وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:9-10] والقائل أظنه أكبرهم، القتل صعب وجريمة نكراء، فتحرك هذا الأخ برحمة الأخوة والقرابة والعاطفة، وقال: لا تقتلوه وألقوه في بئر مغيبة إن كنتم مصممين على هذه الفعلة، وأجمعوا أمرهم على هذه المكيدة، ولكن من يخرج يوسف من بين يدي أبيه عليه السلام، فيأتون ويجلسون:

    كاد المريب أن يقول خذوني.

    فيقولون: يا أبتاه! مالك لا تأمنا على يوسف أنحن خونة؟! أتشك فينا؟! ماذا فعلنا هل أسأنا إليه! نحن نحبه -والله- وننصح له ولا نريد إلا الخير له: قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [يوسف:11-12] أرسله غداً معنا يرعى الغنم، وهم لا يحتاجون راعياً فإنهم أحد عشر، وربما كان بعض الرعاة أكثر من الغنم، فهم لا يريدون أن يعاونهم بالرعي، ولكن أضافوا عذراً آخر وقالوا: ويلعب، فهو لم يشك ولكنهم شككوه.

    قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ [يوسف:13] أولاً: أجد وحشة أن يخرج من بيتي، وأخاف أن يأكله الذئب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لو لم يقل لهم أخاف أن يأكله الذئب، لما قالوا له في الأخير أكله الذئب]] لأنه ليس في أذهانهم أنهم سيقولون: أكله الذئب.

    فهم يقولون: نلقيه في غيابة الجب ولم يجهزوا عذراً لكنه فتح لهم طريقاً وأتى لهم بعذر، فقال: أخاف أن يأكله الذئب، ولذلك في بعض الآثار: أن الله عاقب يعقوب عليه السلام بسبب هذه الكلمة أن أفقد عليه ابنه أربعين سنة، وأوحى إليه، قال: يا يعقوب! أخفت الذئب ولم تخف مني ولم تثق بي، كيف تقول: أخاف أن يأكله الذئب، ولم تقل كما قلت في آخر القصة: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64]؟ ولذلك في آخر السورة بدأ يغير من هذا لكلام فكان يقول: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] فخرجوا، وعذر أكل الذئب في أذهانهم. فلما أصبحوا في الصحراء بغنمهم، الغنم ترتع وهم يلعبون والجو ساكن وهادئ، والطيور تغرد وتزغرد، ولكن القلوب تغلي بالحقد على الأخ القريب الصغير، فأخذوه أول ما وصلوا إلى الصحراء ولم يتركوه يرتع ويلعب كما قالوا، وإنما قيدوه بحبل وأنزلوه في البئر، فأخذ يستغيث ويظن أنهم يمزحون، وقد خيروه بين القتل، وبين أن يطرحوه في البئر:

    كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً     وحسب المنايا أن يكن أمانيا

    تمنيتها لما تمنيت أن ترى      صديقاً فأعيا أو عدواً مداجيــاً

    فأنزلوه وهو يتشبث بالحبل ويبكي، ويقول له أخوه الأكبر وهو يستهزئ به ويتهكم، كما في الآثار: [[هذه أحد عشر كوكباً وهذا الشمس والقمر يسجدون لك]] فأخذ ينزل في الحبل، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم أنه لما نزل أخذ يقول: "حسبي الله ونعم الوكيل" ويقول: فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:83] قال ابن عباس وهو يبكي عند قراءة سورة يوسف: [[هدأت الحيتان في البحر من التسبيح، ولم يهدأ يوسف عليه السلام من التسبيح]] فأنزلوه، فلما نزل قطعوا الحبل فبقى في حفظ الله، فصار في حفظ الله ورعايته، وفي عين الله.

    وإذا الرعاية لاحظتك عيونها     نم فالحوادث كلهن أمان

    يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني

    وعدا الظلوم علي      كي يجتاحني فحميتني

    فانقاد لي متخشعاً      لما رآك نصرتني

    قطعوا الحبل وتركوه في البئر، وهو يلهج بذكر الله في صحراء ليس معه فيها إلا الله، الذئاب حوله والجو مقفر، لا خبز ولا ماء ولا طعام ولا أهل ولا جيران ولا أحبة، لا ماراً يمر، وإنما الذئب يعوي في صحراء مدوية:

    عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى     وصوّت إنسان فكدت أطير

    الأخطاء التي وقع فيها إخوة يوسف

    وعادوا والذي يظهر من القصة أنهم أخطئوا في ثلاثة مواقف:

    الأول: أنهم استعجلوا في التنفيذ فلو كادوه في غير هذا اليوم وعادوا به في ذلك اليوم ليطمئن أبوه، ولكن من أول يوم يأكله الذئب! ما هذا الذئب الذي ينتظر يوسف في الصحراء، وكأنه يرصد متى يخرج يوسف في تلك الساعة ثم يعدو عليه؟!

    والأمر الثاني: أنهم أتوا بثوبه وهم قد خلعوا قميصه، ولم يمزقوه، والذئب لا يعرف خلع القميص، وفك الأزرار، وإنما يفك الثياب تمزيقاً، فهم خلعوا الثوب ولفوه بدم شاة.

    الأمر الثالث: أنهم قالوا لأبيهم عندما جاءوا إليه: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]

    كاد المريب أن يقول خذوني.

    فهم يقولون: لن تصدقنا، وهذا علامة على أن في الأمر شيئاً.

    ولكن ماذا فعل يوسف؟ أظلم عليه الليل، قال أهل العلم: أنزل الله عليه جبريل يسكنه تلك الليلة، وأخبره أنني معك أسمع وأرى، فلا تفتر لسانك من ذكري، فإني جليس من ذكرني، فبدأ يوسف عليه السلام يذكر الله، فلما استأنس قال: يا جبريل! استأنست بجلوسي مع الله فإن شئت فاذهب، فأوحى الله إلى يوسف: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15] سوف تمر الأيام ونخبرهم بصنيعهم هذا.

    ولماذا أتوا عشاءً ولم يأتوا في المغرب أو العصر؟ أولاً: ليظهروا أنهم تأخروا في مصارعة الذئب، وملاحقته فتأخروا حتى أتوا في العشاء.

    والأمر الثاني: لئلا يرى أبوهم الدم في النهار فيميز بين دم الإنسان والشاة، وانظر إلى المكيدة أتوا يتباكون، وجاءوا إلى أبيهم ولم يذهبوا إلى بيوتهم، وإنما تركوا كل شيء وعمدوا إلى أبيهم وهو في البيت عليه السلام وهم يبكون، قال: ماذا حدث؟ يا لله ما هذه الرحمة التي أبكتهم!! ما هذه الدموع الحارة على فراق يوسف عليه السلام، فسألهم ما الخبر؟ قالوا: إنا ذهبنا نستبق -تجارينا وتسابقنا- وتركنا يوسف إشفاقاً عليه عند متاعنا، فأكله الذئب، وهذا التعليل لأنه أخبرهم وقال: أخاف أن يأكله الذئب: قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] والدليل على ذلك هذا الثوب، وهذا دمه، فقد أتوا بدم شاة على الثوب، فأخذه عليه السلام وهو يبكي ويقلب الثوب، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] قال ابن تيمية رحمه الله: الصبر الجميل: الذي لا شكوى فيه، والصبر الجميل: الذي لا يظهر فيه الفقر والمسكنة لغير الله، والصبر الجميل: أن تتجمل أمام خلق الله.

    قيل لأحد العباد: ما هو الصبر الجميل؟ قال: أن يقطع جسمك قطعة قطعة وأنت تتبسم، وقال آخر: الصبر الجميل: أن تبتلى وقلبك يقول: الحمدلله.

    ثم تولى يبكي حتى ابيضت عيناه.

    وفي بعض الآثار:أن الملائكة بكت لبكاء يعقوب عليه السلام، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقرأ سورة يوسف في صلاة الفجر فإذا بلغ قوله تعالى: ((فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:18] بكى وبكى الناس معه.

    وافترق يوسف ويعقوب عليهما السلام أربعين سنة، واستوحش الفراق وخلا الدار، وعاد يعقوب منكساً رأسه ولسان حاله يقول في فراق ابنه:

    بنتم وبنا فما ابتلت جوارحنا     شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

    نكاد حين تناجيكم ضمائرنا     يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

    إن كان قد عز في الدنيا اللقاء     ففي مواطن الحشر نلقاكم ويكفينا

    وللحديث بقية أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم..

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088933487

    عدد مرات الحفظ

    779991819