أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله مساءكم، مع درس في كتاب الله عز وجل عنوانه: (الطغاة يغرقون في البحر).
الطغاة يغرقون في البحر يوم أغرق الله فرعون وأتباعه وأشياعه في البحر، وهذه نماذج من نهايات الطغاة والمجرمين والعصاة، يوم ينهيهم الله عز وجل إلى نهاية وبيئة لعينة خسيسة؛ جزاء ما قدموا في حق البشرية وما اقترفوا في حق الإنسانية، وسوف نستمع في هذه الليلة إلى درس من القرآن، وهو يصف لنا فرعون يوم خرج يطارد موسى إلى البحر على موسى السلام وعلى فرعون اللعنة.
سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام |
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:49-52] لا زال الحديث والخطاب يتحدث لبني إسرائيل ويقررهم بنعم الله تعالى عليهم كأنه يقول: أما نجيناكم من فرعون؟!
أما واعدنا موسى وأعطيناه التوراة وكلمناه لمصلحتكم؟!
أما عفونا عنكم؟
أما فرقنا بكم البحر؟
أما فعلنا وفعلنا بكم؟ فلماذا هذه الجرائم؟!
ولماذا هذه الفضائح؟ ولماذا هذه الفواحش؟
ولله المثل الأعلى. كأنك تؤدب ابنك فتقول: أما علمتك؟ أما اشتريت لك سيارة؟ أما بنيت لك بيتاً؟ فلله المثل الأعلى، وهذا تقرير لنعم الله على بني إسرائيل.
ما هو السر وما هو السبب؟
لأن هارون أفصح منه لساناً، موسى صاحب الرسالة ولكن هارون فصيح، موسى كان (أدرم) يأكل بعض الكلمات، ولا تتضح الكلمات التي ينطقها، ولكن هو أفضل من هارون بلا شك، والعجيب أن بعض المؤرخين قالوا: هارون أكبر من موسى بسنة! ولكن نعمة الله ورعايته وولايته وعطاءه جعلت النبوة والرسالة في موسى، ثم جعل ذلك في فضله ورحمته وعطائه حتى يقول الله له: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24].
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] أمر كليف صعيب وكأنه يحمل الجبال على كتفيه، وهل هذا أمر سهل؟
تصور أنك راعي غنم فقير، ومعك ضأن وعصا تهش بها على غنمك، عليك ثياب صوف، تدخل على طاغية من طغاة الدنيا كحكام مصر وحرسه -كما قال أهل العلم- معه ستة وثلاثون ألفاً عند الحدائق، وعند مداخل مصر فكيف تصل إليه؟ قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:25-27] أي: يا رب أنت تدري أن لساني يتلعثم، ما هو السبب؟
قالوا: لما عرضت له التمرة والجمرة أخذ الجمرة ووضعها على لسانه فأصابت لسانه وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28] قال الحسن البصري: [[رحم الله موسى، ما سأل إلا أن تحل عقدة واحدة من لسانه!]] فقط بمجرد أن يفهموا قولي، ما قال: أكن خطيب مصر ولا أديبها ولا متكلمها، إنما ليفقهوا قولي فقط.
ثم قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي [طه:29] وزيراً يساعدني ويكون من أهلي؛ لأنه لو كان من غير أهلي ربما يكون حاسداً أو عدواً أو حاقداً، ثم عينه باسمه؛ لأن أهله كثير، كبار وصغار وأبناء عمومة وأقارب هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:30-32] -لماذا؟- كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً [طه:33] -الاثنان يسبحان أكثر من الواحد- وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً [طه:34] -هو يذكرني وأنا أذكره- إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً [طه:35].
فأتى الجواب مباشرة قال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] لم يقل أسئلتك؛ لأنها سهلة في علم الله إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] هذه الأسئلة مجرد سؤال قال: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36].
ثم قال له وكأن الخطاب يقول: لا تنس أننا أعطيناك والأيادي التي منحناك قال: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37].
ثم أورد قصة فيها مذكرات حياته في الأربعين سنة يقول: وفعلنا بك كذا وكذا وكذا.
فلما أصبحا في الطريق؛ أوصاهما الله بأدب الدعوة قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] انتبهوا من الخبيث! عليكم بالأسلوب السهل ولين الخطاب، لأنه رجل فاجر، والله يعلم في علم الغيب أنه لا يؤمن، الله كتب عليه أنه من أهل النار: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
قال الله -وما أحسن العبارة!-: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] لا إله إلا الله! أنتم في إيواني وعلمي وأنا معكم، أنتم في الصحراء وأنا معكم، أنتم في البحر وأنا معكم بعلمي: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] الله معك بعلمه ونصرته وإحاطته وشهوده أينما كنت.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
يا حافظ الآمال أنتت حميتني ورعيتني |
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني |
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني |
قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ثم قص عليه القصة، دخل، تكلم، انتهى الحوار وشاهدنا قصته يوم خرج.
قال: ألقوا أنتم، ابدءوا، أنتم أهل الباطل.
قيل: كانوا اثنين وسبعين ساحراً وقيل ثمانين ألفاً، كل ساحر يأتي بالعجائب! فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:60] قالوا: متى الموعد؟ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً [طه:59] قيل: إنه يوم عيدهم مثل يوم الجمعة وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً [طه:59] يقول: موعدنا إذا ارتفعت الشمس، واجتمعت الجماهير، وامتلأت القصور والميادين والمحافل فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه:60] فلما أتى صف ثمانون ألف ساحر، وقام هو ووزراؤه وجيشه والناس من الشرفات من كل مكان، وأتى موسى وهارون..!!
والمعركة بين اثنين وبين الدنيا كلها! لكن الله معهما لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] تصور: موسى عليه السلام راعي غنم! لكنه يحمل الإيمان والتوحيد، وقف في أطرف الناس، قالوا: تلقي أو نلقي؟ قال: ألقوا؛ فبدءوا فأتت الحبال تصور تصويرات عجيبة من الهول والضنك، تأتي وتطيش على الناس، وتمور على الناس وتدلهم، والجماهير يصعقون في كل مكان!!
موسى عليه السلام ظن أن المسألة سهلة، وليست كذلك: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] الله يعطيه عهوداً يقول: أنا معك، لا تخف، يدخل القصر فيخاف، فيقول الله له: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أتى في الميدان فخاف، قال: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:67-68] أنت المنتصر اليوم، فلما امتلأت الساحة بالحيات والعقارب التي يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، قال الله: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:69] الآن هذا وقتك، الوقت ضائع معهم وأنت الآن مستلم الساحة.
فقال: بسم الله، فألقى عصاه على الأرض -قيل: إن أصلها من الجنة- فلما وقعت على الأرض صورها فاطر السموات والأرض صوراً عجيبة، انتفخت حتى أصبحت كبعض القصور، ثم امتلأت حتى أصبح رأسها كالجبل، ثم أتت على هذه الحيات والعقارب تأكلها وتأكل ما يأفكون.
ثم أقبلت على الجماهير فانصرعوا في كل مكان، ثم أتت إلى فرعون في المنصة فهرب.
قال الحسن: [[كان طائشاً خسيساً]] وأخذ يرفع يد الاستسلام -كما في بعض التفاسير- وقال: يا موسى، أسألك بالرحم.
الآن تذكر الرحم يا خسيس! فأوقف موسى العصا وأخذها بلسانها فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:119] ذليلين حقيرين خاسئين، وأتت الآن المصافاة، والقتال يبدأ الآن.
قال ابن جرير الطبري: كان بنو إسرائيل ستمائة ألف، اثنا عشر سبطاً (قبيلة)كل سبط خمسون ألفاً.
بنو إسرائيل أهل سرق ومرق إلا من آمن منهم، يحبون الخيانة، استعاروا الحلي من آل فرعون في الليل، كما يقال في المثل: (إذا كنت رايح كثر من الفضائح) فاستعارت كل جارة يهودية حلي جارتها من القبطيات المصريات، ثم مضوا مع الفجر.
قال ابن عباس: فمات كل بكر لكل مصري ولد له مولود، فاشتغلوا بدفنهم في ذاك الصباح لكي يتأخروا، ولذلك يقول تعالى في كتابه: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشعراء:60] أي: ما أتوا إلا مع شروق الشمس، أراد فرعون أن يخرج مع الفجر من المدينة وقال: انتبهوا علينا أن نذهب وراءه! فمكثه الله ولبثه بقضاء وقدر فتأخر حتى طلعت الشمس.
قطع موسى نصف المرحلة من الطريق يريد فلسطين، وفرعون خرج من مصر بالجيش وراءه، قيل كان معه ألف ألف أي: مليون مقاتل، وأما موسى فإن معه الأطفال والنساء والبنات من بني إسرائيل -على موسى وعلى هارون السلام- فلما أصبحوا في الصحراء التفت موسى، وكان دائماً كلما مضى قليلاً يلتفت وراءه، فهو يعرف أن هذا الخبيث سوف يتابعه ولن يتركه، وفجأة وإذا بالجيش أشرف كالجبال.. أين يلتفت؟ هل يلتفت إلى واشنطن أو موسكو؟ أو يقدم مذكرة إلى هيئة الأمم المتحدة؟ بل يلتفت إلى الله.. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62] فقال: يا رب.. قال: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى [طه:68] هذا هو الموعد الثالث، يقول: نحن أرسلناك، إذاً نحن نضمن سلامتك فلا تخف، ولماذا تخف؟
من الذي يحمي؟
من الذي يرعى؟
من الذي يهدي؟
من الذي يسدد إلا الله، فلا تخف، فلم يخف ومشى، وبعد قليل أصبح بنو إسرائيل تصطك لحاهم؛ لأن الخوف داخلهم والعرق يتصبب.. قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] فتوقفوا عند البحر ونظروا وإذا بالجيش يقترب منهم قال موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] يقول: أنا أسير بقوة الله، لا تخافوا فالنصر معي بإذن الله.
يقول المتنبي لـسيف الدولة:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال |
يقول: إذا تفوقت أنت على الناس فأنت مثلهم لك عيون كعيونهم ولك دم كدمهم وعظام كعظامهم، ولكن الله له سر في الناس! فإن المسك بعض دم الغزال.. المسك دم ولكن له تميز.
فقال: اضرب البحر يا هارون فضربه، قال ابن جرير: فقال البحر وتكلم بلسان أنطقه الله: من هذا الجبار الذي ضربني؟
فقال الله لموسى: اضرب البحر أنت، فتقدم واقترب وضربه. ماذا تفعل ضربة بعصا قصيرة في بحر مدلهم مشرف لا يعرف طرفه؟ هذه عناية الله، فلما وقعت في الماء وإذا باثني عشر طريقاً مفتوحة! اثنى عشر نفقاً، كل نفق كالطود العظيم، جبل من هنا وجبل من هنا.
وقال أهل العلم: وفتحت لهم نوافذ حتى ينظرون إلى الطبيعة من قرب؛ وحتى لا تكتتم الأنفاس وينظر بعضهم لبعض.
ولماذا اثنا عشر طريقا؟ لأنهم اثنا عشر قبيلة، فهم يشربون من اثنتي عشرة عيناً من الصخرة، وهنا اثنا عشر طريقاً كل قبيلة لها شيخ، هذا الكابتن لابد أن يقودها من هذا الطريق، وهو مسئول عنها فلا تأتي قبيلة مع قبيلة أخرى.
فأتى بنو إسرائيل وإذا هي اثنا عشر طريقاً، قبيلة بنو فلان تمر من هذا الممر حتى تخرج بإذن الله، أما قبيلة بني فلان فتدخل من هنا وتخرج من ذاك المخرج... حتى انتهت فأتوا فنزلوا، فلما نزلوا قال الله له: لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى [طه:77] قالوا: لو كان زلقاً لزلق بنو إسرائيل وتساقطوا، ولو كان ماءً غمسوا، ولو كان ثلجاً تدحرجوا، فجعله الله تراباً.
ذكر الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن ملك الروم كتب لـمعاوية بن أبي سفيان يسأله عن مسائل يقول: أسألك عن أرض ما رأت الشمس إلا مرة في عمرها؟
فـمعاوية تقهقر، لا يدري ما هو الجواب فأرسل لـابن عباس.
ابن عباس مرجع علمي ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4] قال: يا ابن عباس كتب لي ملك الروم يتحداني: ما هي الأرض التي ما رأت الشمس إلا مرة في عمرها؟ قال: هي أرض البحر الذي فلقه الله لموسى ما رأت الشمس إلا ذاك اليوم. وأجابه في مسائل كثيرة؛ أعطى الله ابن عباس فهماً؛ لأنه اتقى الله وفتح الله عليه.
مر بنو إسرائيل وأتى فرعون فرأى الطرق مفتحة ورأى أن بني إسرائيل قد مروا؛ فحاول أن يتقهقر، لأن الرجل ليس مجرباً لمثل هذه الأمور، ويعرف أن البحر بحر، وينظر إلى كتل الماء وهي كالجبال فهو لا يدري ولا يعرف آيات الله عز وجل بل يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] أتى إلى شيء جاهز فادعاه لنفسه، مثل الطفل الآن إذا رأى لعبة مع طفل الجيران قال: هذه لعبتي ويحلف اثنا عشر يميناً عليها! لجدته ولخالته، قالوا: لما قال: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] أجراها الله من فوق رأسه.
قال ابن جرير: فأتى فرس فرعون -وهذه نوردها من قصص بني إسرائيل وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج- فرأى بغلة جبريل عليه السلام، فأراد فرعون أن يكف يقول: تخلصنا، لا نذهب، انتهينا، فلنرجع، وإذا بجبريل عليه السلام يأتي ببغلة فرآها الفرس، والفرس إذا رأى البغلة رفع القلم عنه!
يقال: كان من أشجع الناس، هزم ألف مقاتل وهو في ستين مقاتلاً، هو خارجي واسمه شبيب، بطل شجاع؛ ولكنه مبتدع، كان يمشى على البغلة والناس والمقاتلون عن يمينه ويساره وينعس من شجاعته..! من الذي ينعس في المعركة؟! أحدنا لو أخبر أنه سيموت بعد عشر سنوات ما نام الليل! ينظر في الساعة والتقويم ويسأل الجيران متى بعد عشر سنوات! لكن هذا الموت والسيوف على ذهنه وينام على البغلة ويوقظه تلميذه يقولون له: اصح، القتال.
ووغزالة امرأته كانت من أشجع الناس، هرب منها الحجاج فما بالكم بزوجها..! إذا كانت المرأة يهرب منها الأبطال فكيف بالزوج؟! أتت غزالة هذه ودخلت الكوفة مع مقاتلين، فأتى الحجاج فقاتلها في طرف المدينة فدخلت واقتحمت القصر، فخرج من الباب الثاني، ودخلت في المنبر وألقت خطبة، حتى يقول الشاعر للحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر |
أسد علي: على أهل السنة وأهل الطاعة وعلى سعيد بن جبير والزهاد العباد.
أسد علي وفي الحروب نعامة إذ تنفر من صفير الصافر |
هلا برزت إلى غزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر |
أذكر لكم قصة لأحد الكتاب كان يدرس في مدينة من المدن، ثم يرجع يسكن في قرية، كان بين القرية والمدينة واد ومجار للمياه والقاذورات، وهناك جسر وضعه الأتراك، عبارة عن خشبتين يظن هو أن الدراجات تمر عليه والأصل أنه يمر عليه الناس، فأتى في الصباح بدراجته، فإذا بشيخ يريد المدرسة وعليه جبة وعمامة ومسبحة وكتب قال: يا شيخ، تركب معي على الدراجة، وهو لا يعرف قيادة السيارة والدراجة إلا من قريب.
قال: الله يرضى عليك اتركني هذا اليوم.
قال: والله لتركبن معي. وأركبه وراء ظهره على الدراجة ومشى بحفظ الله ورعايته، فلما أتى فوق الخشبتين قال: نظرت إلى المجاري مثل السيل فتلعثمت فسقطت يدي من على الدراجة! فأول من وقع في هذا النهر النجس هو الشيخ الراكب ثم وقع الأستاذ على رأسه ووقعت الدراجة من فوقهما ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40].
المقصود: أن شبيباً هذا أتى إلى نهر دجلة فرأى الجيش، فأراد أن يرجع فرأى فرسه بغلة في طرف دجلة في الناحية الأخرى فهاج الفرس وماج وركب في الجو!
قالوا: فقفز في الجو فوقع في النهر، فكان شبيب مربوطاً في الفرس، يخرج من الغائبة ومن الماء، فكلما خرج قال: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] ثم يغطس ثم يخرج ويقول: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] وفي الثالثة قال: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] ثم مات.
الشاهد أن فرعون دخل فلما دخل وقعت الورطة! دخل الأرنب في المصيدة، فلما خرج بنو إسرائيل من البحر دخل فرعون بآل مصر وبالظلمة الذين معه فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54] فلما اجتمعوا ما خرج الأول ولا بقي الآخر؛ ارتمى عليهم البحر، يقولون: إنه يقول بعد أن أصبح في الطين وهذا ثابت في سورة يونس: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] قال الله: آلْآنَ [يونس:91] بعض الناس لا يؤمن إلا في الشدة!
أحد الناس أهوج أحمق سفيه تجادل هو وأمه، قال: صلي على النبي، قالت: والله ما أصلي عليه -أستغفر الله- فضربها بالمحماس الذي يقلى فيه البن في رأسها، فقالت: صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم!
يقول موسى لفرعون وهو في الصحراء: قل: لا إله إلا الله؛ قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38].
قال: قل لا إله إلا الله، قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي [الزخرف:51].
قال: قل لا إله إلا الله، قال: أنا ربكم الأعلى [النازعات:24].
فأتى به الله فلما دسه في الطين قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] قال الله: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] انظر إلى بني إسرائيل دائماً يلاحقون موسى بالتكذيب، فلما نجا بنو إسرائيل قال موسى عليه السلام: فرعون أهلكه الله. قالوا: والله ما أهلكه الله. قال: أستغفر الله، بل أهلكه الله. قالوا: ما أهلكه الله، اعطنا جثة فرعون. فلفظ البحر جثته فرأوه فقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92] فهو لا زال محنطاً، ويقولون: إنه لا يزال إلى الآن في الأهرامات.
إذا تباهى إلى الأهرام منهزم فنحن أهرامنا سلمان أو عمر |
فهم يفتخرون الآن بالأهرامات التي فيها الفراعنة، ونحن مجدنا ومجد أهل مصر من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، من دخول عمرو بن العاص في ذلك اليوم المشرق الذي أطلت فيه مصر على الهداية، من الأزهر المعمور، من أهل العلم والمعرفة والدعوة لا من الفرعونية والقبطية والثقافة الخاسرة الكافرة المتزندقة التي لا تعرف الله.
يقولون: إنه لا يزال محنطاً، ونقول: سواء كان محنطاً أو غير محنط، فقد لقي عذابه النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].
أخذوا ذهباً فصنعوه بالنار كمثل البقرة ثم ألقوا فيه حفنة من تراب فخار الحسير، فقال السامري وهو أحد الضلال الأخساء الحقراء: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] يقول: هذا إلهكم وإله موسى، لكن موسى نسي هذا الإله وذهب إلى إله آخر!
لا إله إلا الله! بنو إسرائيل هؤلاء عقولهم متحجرة، أذناب للعملاء، غباء وحقد وتمرد على الله، ولذلك لعنهم الله في كل كتاب، فلا يمكن أن يصلحوا أبداً، أتريد ولد الحية أن يكون لبيباً؟! أتريد ولد الذئب أن يكون حبيباً؟! لا.
تلك العصا من هذه العصية لا تلد الحية إلا حية |
فاسمع إلى الآيات.. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] ما معنى نجيناكم؟ نجيناكم مأخوذة من النجاة، وهي الأرض البارزة التي ينجو بها الإنسان، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا ذكر الأنبياء: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود:58] وذكرت العرب النجاة، وهي معنوية وحسية، فالنجاة الحسية أن تنجو من العذاب والسجن والحبس والمرض، والنجاة المعنوية: أن تنجو من الفسق والمعصية أو من الاعتقادات الباطلة.
يقول حسان شاعر الإسلام -رضي الله عنه- في النجاة وهو يهجو الحارث بن هشام وهو من سادات قريش، أخ لـأبي جهل ولكنه أسلم فيما بعد، كان كريماً يقولون: كان يكسو الكعبة سنة وقريش تجتمع فتكسوها سنة، أتى في معركة بدر فلما رأى سيوف الله تفتك بالكفار فر ببغلته، فما استقر ولا قر ولكن فر وجر، فلما وصل إلى مكة قام حسان يهجوه في قصيدة له يقول فيها:
طوبى لمعترك من الآرام قبل الأصيل كعاكف أو رامي |
هو يتغزل في أول القصيدة كعادة الشعراء فيقول:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام |
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا بفضل طمرة ولجام |
يقول: ترك أحبابه وإخوانه وفر ببغلته.
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب |
والمعنى: أن الله نجاني يوم قتل علي بن أبي طالب؛ والسبب في ذلك -لا بأس من الاستطراد قليلاً- أن الخوارج المبتدعة كلاب النار، قالوا: نقتل ثلاثة فنريح الدنيا والناس من هؤلاء الثلاثة.
وكذبوا على الله، لا يرتاح الناس من الثلاثة خصوصاً علي بن أبي طالب؛ فإنه إمام من أخشى الناس في عهده، عالم، زاهد، نحبه ونتولاه، فاجتمعوا، فأتت الربابة -امرأة فاجرة جميلة- فقالت لـعبد الرحمن بن ملجم: إذا قتلت علياً تزوجتك.
الرجل رصد لـعلي بن أبي طالب ونام على بطنه والسيف معه وأتى علي يوقظ الناس لصلاة الفجر فركله برجله وقال: لا تنم هذه النومة فإنها نومة أهل النار، ثم توجه علي فكبر ركعتي الفجر فقام هذا ثم ضربه بالسيف في وجهه فابتلت لحيته الشريفة بجبهته، حتى أنه لما أعطوه لبناً في مرض قبل هذه القتلة قال: [[والله لا أموت حتى تدمى هذه من هذه وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله ما كَذَبت ولا كُذِّبت ]].
وذهب اثنان واحد من الخوارج إلى معاوية في الشام ليقتله، والثالث إلى عمروبن العاص في مصر، أما صاحب معاوية فرصد له فخرج معاوية -رضي الله عنه وأرضاه- فانطلق عليه الخارجي كالسهم فضربه، فما تمكنت الضربة إلا في حقوه فانقطع نسله فكووه وشفي.
وأما عمرو بن العاص فقضاء الله وقدره نام تلك الليلة وأتاه مرض، فقال لـخارجة رئيس الشرطة: صل بالناس الفجر أنت، وكلتك.. ما أحسنها من وكالة!! قال: استعنا بالله، قبلنا الوكالة، فخرج لصلاة الفجر فصمد له الخارجي فقتله، فقال الخارجي: أردت عمراً وأراد الله خارجة. فيقول معاوية بعدما سمع الخبر:
نجوت وقد بل المرادي سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب |
يقول: من الذي منعكم وحماكم من آل فرعون؟ وآل فرعون هم أتباعه لأن أتباع الرجل هم من كان على دينه، إذا قال المصلي: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، فمعناه من اتبع محمداً.
آل النبي هم أتباع ملته على الشريعة من عجم ومن عرب |
لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب |
لو كانت آله قرابته لكان من قرابته المصلى عليهم أبو لهب وأبو طالب، لكن آل الرسول كل تقي، وفي الأثر: [[آل محمد كل تقي]]. فليس الآل القرابة في النسب، لا والله، لكنهم على اتباع دينه وشرعته من العجم والعرب.
بلال من آله صلى الله عليه وسلم، وسلمان من آله، وصهيب من آله، وخباب بن الأرت من آله، ولكنَّ أبا طالب وأبا لهب ليسا من آله.
وقال بعض أهل العلم: إذا ذكر الآل والأمة -كمن قال: اللهم صلَّ على محمد وصحبه وأمته وأتباعه- فالعطف (الواو) يقتضي المغايرة، فالآل هنا هم مؤمنوا آل محمد، منهم آل الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل البيت وسلمان على المجاز أنه من أهل البيت وإلا فهو ليس منهم، ولكنه على القرابة في الدين والحب والولاية والنصرة منهم.
لكن على الصحيح أن آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم هم آل علي وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر، فأما آل العباس فهو العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، أهل الدولة التي شرقت وغربت ووقفت أعلامها في سمرقند وطاشقند، الستة والثلاثون خليفة العباسيون كلهم من نسل ابن عباس، السفاح، أبو جعفر، المهدي، هارون الرشيد، الهادي، الواثق، المعتصم، المتوكل، القادر، المقتدر كل هؤلاء من نسل ابن عباس.
آل علي: علي بن أبي طالب والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وذريته من الصالحين.
وآل عقيل: أولاد عقيل بن أبي طالب.
وآل جعفر: أولاد جعفر بن أبي طالب الذي قتل في مؤتة.
إذاً فهؤلاء هم آله، أما أبو لهب فلا يدخل، وأبو جهل بينه نسب وبين الرسول صلى الله عليه وسلم لكنه ليس قرابة أو صهراً فلا يدخل أبداً؛ لأنه كفر بالله العظيم. وهذا أمر ينبغي أن ينبه عليه.
وعند مسلم عن أبي حميد الساعدي قال: قلنا يا رسول الله! كيف نصلي عليك؟ قال: {قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم -انتبهوا لم يقل: على إبراهيم- وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم -وفي رواية صحيحة- في العالمين إنك حميد مجيد}.
يقول ابن تيمية: لم يرد في الأحاديث الجمع بين محمد وآل محمد وبين إبراهيم وآل إبراهيم، إنما جاء محمد وآل إبراهيم فقط.
رد عليه ابن حجر قال: لا، ثبت في الطبراني بسند صحيح أنه ورد في الحديث {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد} وهذا كلام سديد، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فلك في التحيات أن تقول هذا وتقول هذا.
ولما أتى أهل نجران النصارى يباهلون الرسول صلى الله عليه وسلم فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61] على ماذا الابتهال؟ على أمور: أن عيسى روح الله، وعلى قضايا في التوحيد؛ فأتى صلى الله عليه وسلم لما أمره الله بالمباهلة جمع أهله؛ لأن المباهلة إذا باهلت رجلاً فاجمع أهل بيتك، فجمع علياً وفاطمة والحسن والحسين وأعطاهم الكساء ولفهم وقال: هؤلاء أهلي. وأتى يباهل فرفضوا المباهلة؛ لأنهم عرفوا أنهم سوف يهلكون ويعدمون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق، إذاً فهؤلاء أهله عليه الصلاة والسلام، وآل محمد كل تقي.
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم |
ما لي أب إلا هذا الدين، أنا متعلق بهذا الدين، ولا أعرف إلا هذا الدين، أما أهل التراب فيقولون: أبي كان يذبح الأعداء، ويسرق، ويأكل الربا ويستمع الغناء ومات. أو أبوه كان ما كان لكن هو ليس بشيء.
إذا فخرت بأقوام لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا |
وعند البخاري في الأدب المفرد: {من افتخر بتسعة آباء من الكفار فهو عاشرهم في النار} من افتخر بآبائه الجاهليين حشر معهم، لا تفتخر بإنسان ذهب قال تعال: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] ما معنى هذه العبارة؟ أي: تلقون منهم شدة ومشقة وكلفة، ونقف قبل هذا عند آل فرعون: آل فرعون هم من تبع فرعون على ملته، وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً حتى هذه الساعة، استدل أهل السنة والجماعة على عذاب القبر بهذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] نسأل الله العافية.
هذا يسميه بعض العلماء: فطور وأما الغداء ففي جهنم، لكن هذه مشهيات ومرطبات! النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فدخلوا معه.
قال: يَسُومُونَكُمْ [البقرة:49] السوم: هو أشد العذاب، والسوم من الخسف، والمشقة، وشدة الكلفة على من لك سلطة عليه أو قدرة.
يقول عمرو بن كلثوم في ملعقته الشهيرة:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا |
يمدح قبيلته، وهذه من أفخر القصائد، هو جاهلي لم يدرك الإسلام، لكن ذهب إلى عمرو بن هند أحد الملوك، فذهب بأمه يتحاكم هو وقبيلة ثانية فقال لأمه: ادخلي عند امرأة الملك حتى أشكو عليه أن القبيلة الفلانية تقاتلنا، فأمه امرأة من أسرة قوية، والملك يظن أن من كان من غيره فهم خدم، فأتت المرأة أم الشاعر ودخلت عند زوجة السلطان.
فقالت زوجة الملك: ناوليني هذا الإناء، تريد أن تستخدمها في البيت. فحلفت ألا تناولها؛ فضربتها كفاً على وجهها، فصاحت أمه وهو داخل خيمة الملك، فعلم أنها أهينت.
فقام عمرو بن كلثوم فقتل الملك، ثم فر إلى قبيلته ونظم قصيدته يقول في أولها -وهي من المعلقات-:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا |
إلى أن يقول:
بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا |
إلى أن يقول:
متى كنا لأمك مقتوينا |
أي متى كنا لك عبيداً ولأمك؟!
إلى أن يقول: ألا تعرفنا؟!
بأنا نورد الرايات بيضاً ونصدرهن حمراً قد روينا |
إلى أن يقول:
إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا |
وهكذا قتله وضحى به، فلذلك يقول: الخسف لا نقره.
قال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] كان أهل مصر يستخدمون بني إسرائيل، اليهودي عند المصري خادم، التمييز العنصري مثل جنوب أفريقيا؛ البيض والسود، يقدمون الطعام في المطاعم، والأعمال العادية لا يقوم بها إلا بنو إسرائيل يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] وليته يكفي! قالوا من باب التفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [البقرة:49] وهناك في سورة إبراهيم: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [إبراهيم:6] قالوا: الواو لتعداد النعم، فلما أراد الله أن يعدد عليهم في سورة إبراهيم النعم قال: وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [إبراهيم:6] بالواو، ولما أراد الله أن يفسر العذاب قال: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [البقرة:49] بدون واو.
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] قال الزجاج: ما أحمق فرعون! إن كان كتب الله له أن يقتله بنو إسرائيل فسوف يقتل سواء قتلهم أو لم يقتلهم، وإن لم يكتب الله عز وجل عليه ذلك فما معنى قتل الناس؟!
فأخذوا يقتلون، ولما استمر القتل وكثر أتى الوزراء إلى فرعون قالوا: يا فرعون!
قال: نعم.
قالوا: صبحك الله بالنار.
قال: آمين.
قالوا: قتلت أبناء بني إسرائيل وما أصبح عندنا خدم، ونريد أن تقتل أبناءهم سنة وتستحييهم سنة.
قال: سمعاً وطاعة؛ فأتى في سنة يذبحهم وفي سنة يتركهم، ففي السنة التي منع فيها ذبح بني إسرائيل فيه ولد هارون فسلم ونجا والحمد لله، وفي السنة الثانية ولد موسى، فلما أتت أمه نظرت إليه وعلمت أن المسألة مسألة إعدام، وكان جنود فرعون كل ليلة وكل صباح لا تخرج لتملئ الماء إلا وهم عند الباب..! أتاكم مولود اليوم.. بشروا؟ قالوا: أتانا رجل. قالوا: اعطونا إياه ويذبحونه.
فلما أتاها الولد نظرت إليه فإذا هو جميل بهي عليه من المحبة ما الله به عليم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39] يقولون: لا يراك أحد إلا يحبك، حتى امرأة فرعون يوم رأته أحبته، ولذلك الأنبياء هكذا، أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يرونه فيحبونه.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر |
فأخذته فلفته في قماش ووضعته في تابوت وحزمت الخيط بالتابوت وأنزلته في النهر، وهي كانت تسكن على الشاطئ، فأنزلت التابوت فيأتي الجنود فتخرج التابوت وتنزله في الماء، يذهب الجنود تعيد الخيط وترضعه، تسمع صوتاً عند الباب تنزل الخيط ويبقى في الماء، سحبته لترضعه فانقطع الخيط، لا يوجد تابوت، أشرفت على الماء ما وجدت شيئاً، أين ذهب؟ مزارع مصر ممتدة على طول هذا النهر، ولربما أخذه الجنود أو أي شخص، ولكن الحفظ الإلهي والرعاية السماوية أخذته إلى بيت الطاغية الأكبر ليترعرع في بيته وفي أحضان ملكه، فلما أتى به الخدم إلى زوجة فرعون فرحت به، فوصل الخبر إلى فرعون، فأراد قتله. فقالت له: ما لي ولك ولد -هو عقيم وهي عقيم، أراد الله عز وجل ألا يجعل لها نسلاً منه؛ لأن الكافر أبتر- ونريد أن نربيه وجلست به تترجى وتتمنى وتتوسل قال: نعم، خذيه. قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9] قال: قرة عين لك أم أنا فلا.
قال ابن عباس: [[والله لو قال: قرة عين لي ولك كما قالت لجعل الله موسى قرة عين له]]. قالت في سورة القصص: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9] بدأت بنفسها ثم قالت: ولك.
نشأ هذا الطفل في حبابة وتصون؛ لأن الله يريد له أن يحول العالم، ولما كبر وشب وأصبح طفلاً ترتاح له النفوس تقدم إلى فرعون، وكان على السرير وكان له سلاسل من ذهب وجواهر على صدره فهو ملك، فاقترب منه فأعطاه كفاً مع الصباح..! هذا أول الخير وأول المبشرات.
فقال: إيه.. صدقت الرؤيا، لأقتلنه هذا اليوم.
قالت آسية: أعرض عليك أمراً.. هذا لا يعرف، هذا طفل صغير وهذا لا يدري بمصلحته من مفسدته، نجمع له تمرة وجمرة، فإن أخذ التمرة فمعناه أنه عرف المصلحة فاقتله، وإن أخذ الجمرة فما يدري. قال: أصبت. فعرضت له جمرة وتمرة. يقول أهل التاريخ والسير: أتى يأخذ التمر -الرجل ذكي يعرف والله يعطيه من المواهب والفطن ما الله به عليم، لأن الأنبياء ليسوا عاديين- فحرف جبريل يده إلى الجمرة، فأخذها فأوقعها في لسانه فارتتقت لسانه، فتركه فرعون.
شب وترعرع في قصة طويلة وإنما المقصود: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [البقرة:49] ولكن نجى الله موسى من هذا الذبح في عام الميلاد، وذهب إلى البستان وتربى في القصر، مغامرة مكشوفة، ولذلك يقال:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن |
موسى هو موشى بالعبرية، و(مو) معناها الماء بـاليهودية العبرانية، و(شى) شجر، وإنما سمي موسى ماء، لأنه ولد عند الماء والشجر فيسمونه ابن الشجر أو ابن الشجرة، أو ابن الماء والشجر، ذكر ذلك أبو السعود وغيره من أهل العلم، فترعرع واستقام حاله وانظر كيف تربى في بيت فرعون، وأما موشى ذاك السامري فإنه رباه جبريل على تربية الله أعلم بها، فخرج فاسقاً مارداً وهو الذي أتى بالعجل حتى عبد بنو إسرائيل أو بعضهم العجل، نسأل الله العافية.
بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] قيل: نعمة من الله عظيمة، فتكون الإشارة عائدة على قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ [البقرة:49] نجيناكم بنعمة عظيمة وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وقيل (بَلاءٌ) نقمة وعذاب، فمن الذبح والسوء والقتل والاستخدام: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49] والآن إذا وجدت إسرائيلياً أو يهودياً صهيونياً وقرأت عليه هذه الآيات أقر بما تقول، وهي موجودة في التوراة ولكن لا يفقهون قال تعالى:
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] قوله يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49] يعني أشد العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [البقرة:49].
هذا كيد الطغاة للدعاة، وهذه مجزرة ينصبها الطغاة الكفرة للدعاة المؤمنين مثل زكريا عليه السلام عندما ذبحه بنو إسرائيل. تصوروا: في بعض الروايات أن بني إسرائيل قتلوا أربعمائة نبي، ولذلك قال الله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:112] وفي آية أخرى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61] فقتلوا أربعمائة نبي، ذبحوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، قطعوا رأسه وأتوا إلى زكريا وهو جالس يعظهم ويدلهم على الجنة ويحذرهم من النار، فأخذوا رأس يحيى ثم ألقوه بين يديه!
وطاردوا زكريا عليه السلام حتى فر في غابة يريد أن ينجو بنفسه، فأتت شجرة فانقسمت له فدخل فيها، فأخذ الشيطان ببعض ثوبه، فعرفوه فنشروا الشجرة من أعلاها إلى أسفلها فانقسم قسمين.
وممن حدثت له من هذه المصائب خبيب بن عدي أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول ابن كثير: إن في أمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الصالحين من أتت لهم كرامات مثل معجزات أنبياء بني إسرائيل.
مفهوم الكلام: إن في صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصالحين من أتت له كرامات مثل ما أتت لأنبياء بني إسرائيل.
فتوضأ وصلى ثم نظر إليهم قال: [[والله الذي لا إله إلا هو لولا أن تظنوا بي جزعاً من الموت لطولت الصلاة]] ثم رفع يديه وقال: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً]].
ثم رفعوه على المشنقة، هل بكى؟ لا، الأبطال لا يبكون في ساحات القتل، يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو أوصال ممزع |
موسى بن عقبة
: ففي تلك اللحظة كان صلى الله عليه وسلم يقول فيخبيب
فيخبيب
، وعليك السلام ياخبيب
، وعليك السلام ياخبيب
<أتى المعز الفاطمي وهو من الحكام الفاطميين الملاعين الذين حكموا مصر وهم زنادقة يهود، جدهم ابن قداح يهودي، وأتوا إلى المسلمين وقالوا: جدتنا فاطمة، ونحن من نسل فاطمة، فصدقهم كثير من الناس وكتبوا لهم صكاً بالنسب وقبلوا منهم هذا؛ فعبدهم كثير من الناس.
الحاكم بأمر الله الفاطمي أتدرون ماذا يفعل؟! يخرج إلى السوق فيسجد له الناس في السوق من دون الله، كان يأتي بعبيد له ويفعل الفاحشة في الناس، يمزق المصحف ويدوسه برجليه، وهو من ذرية المعز.
قال النابلسي في حلقة عظيمة من الناس في مدينة من المدن: من كانت عنده عشرة أسهم فليرم النصارى الذين في طبرية وعكا ويافا وفي حدود البحر الأبيض بسهم واحد، وليرم الفاطميين بتسعة.
قال المعز: عليَّ به. قال له المعز: يا عدو الله -والمعز هو عدو الله وذاك ولي الله- تقول: من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة وليرمنا بسهم؟
قال: خطأ، الفتيا ليست هكذا بل هي مقلوبة.
قال: ما هي؟
قال: قلت: من كانت عنده عشرة أسهم فليرمكم بتسعة وليرم النصارى بسهم.
فعلقه اليهودي برجليه، وتصور يهودياً يتولى مسلماً! فأخذ اليهودي سكينة ثم سلها، فلما أتى العالم هذا من وجهه أتدرون ماذا قال هذا اليهودي؟ قالوا: والله ما أنَّ النابلسي أنَّة ولا بكى بدمعة وإنما كان يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فأخذ يسلخ جلده.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
يقول: كفى بك مصيبة إذا تمنيت الموت.
قال الذهبي: فروي أنه لما خرج الدم من قلبه كتب لا إله إلا الله على الجدار، وفي بعض الروايات: أخذ الدم يقطر منه ويكتب: الله الله الله والحساب عند الله يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، وسوف يرى.
سعيد بن جبير يدخل على الحجاج، ما ذنب سعيد بن جبير؟
عالم ينشر العلم، ينشر الدعوة، ينشر لا إله إلا الله، لكن خرج مع من خرج في فتنة ابن الأشعث فأتى به الحجاج فأوقفه أمامه وحاسبه وكلمه كلاماً عنيفاً فما تنازل له سعيد بن جبير بقلامة الظفر..!
يقول له الحجاج: من أنت؟
وهو يعرف أنه سعيد بن جبير.
قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: أمي أعلم إذ سمتني.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
ثم قال له: أتريد المال؟ ثم أتى بمال في أكياس فقال له: يا حجاج إن كنت أخذت المال رياءً وسمعة فسوف يكون عليك عذاباً، وإن كنت أخذته تمتنع به وتحتمي به من عذاب الله، فنعم ما فعلت.
فأتى الحجاج بجارية تضرب العود فبكى سعيد بن جبير.
قال: بكيت من الطرب، أأعجبك الغناء؟
قال: لا والله، لكن جارية سخرت في غير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة سخر في معصية.
فقال له: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال: لو كنت أعلم أن ذاك عندك لجعلتك إلهاً من دون الله.
فقال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس.
قال: يا حجاج اختر لنفسك أي قتلة قتلتني بها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها.
قال: ولُّوه لغير القبلة. فقال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] قال: أنزلوه أرضاً. قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55] فذبحوه.
فقال: اللهم لا تسلط الحجاج على أحد من بعدي، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج.
وما انتهى المجلس إلا وببثرة من هذا الدمل تنشأ في يد الحجاج فيحكه فيتفشى في جسمه ويشتعل جسمه ويصبح كالثور يخور، لا ينام، لا يشرب، لا يرتاح، لا يهدأ، كل ليلة يرى في المنام أنه يسبح في دم.
يقول لوزرائه وهو يبكي: رأيت البارحة أن القيامة قامت وأن الله أوقفني عند الصراط فقتلني بكل رجل قتلته قتلة، إلا سعيد بن جبير قتلني به سبعين مرة..!
ثم ما أمهله الله بعده إلا شهراً: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16] وهذا مثل كثير من المكائد التي يضعها أعداء الله لأولياء الله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51-52].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49] قالوا: للخدمة والمنفعة.
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْر [البقرة:50] نقف مع البحر قليلاً، في البحر أربع قضايا:
القضية الأولى: ماؤه، الثانية: ميتته، الثالثة: ركوبه، الرابعة: عظمة الله تتجلى في خلق البحر.
أما رأيت الشمس إذا أرادت أن تغيب بإذن الله على البحر؟ أما ركبت البحر ورأيت العظمة؟ هذا اليابس الذي نعيش منه لا يشكل إلا ربع هذه الكرة الأرضية بل أقل، أما رأيت البحر كيف يهيج؟ أما رأيته إذا ماج وغضب؟ هذا خلق الله يتجلى في هذا المخلوق، فلذلك ماؤه -للفائدة- سئل عنه صلى الله عليه وسلم قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) حديث صحيح.
الجواب: مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [غافر:28] إضافة نسب لا إضافة ولاء ونصرة، لذلك ذكر الله مثل لوط عليه السلام وصالح وهود فقال: قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ [الشعراء:142] فأخوهم في النسب لا في الولاء والمنهج والمشرب والتشريع، فهو من آل فرعون في النسب وليس في الدين.
الجواب: أولاً: الحديث صحيح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم الإثنين والخميس، فقالوا: يا رسول الله! لمَ تصوم؟ قال: {إن الأعمال تعرض على الله يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم}.
ولكن الأعمال تعرض على الواحد الأحد، لا تعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا، ولا يحاسب العباد، ولا ينعم عليهم ولا يعذبهم، إنما بلغ الرسالة ويشفع في الآخرة.
وأما الحديث الصحيح من حديث أوس بن أوس في السنن وغيرها أن الصلاة والسلام تعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {أكثروا علي من الصلاة والسلام ليلة الجمعة ويوم الجمعة} فعليه الصلاة والسلام ما كور الأقدار، وما أتى الليل وعقبه النهار، وما فاحت الأزهار، وما تدفقت الأنهار، فعليه الصلاة والسلام دائماً وأبداً، قال: {أكثروا من الصلاة والسلام علي ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا: كيف تعرض عليك صلاتنا يا رسول الله! وقد أرمت -أي بليت؟- قال عليه الصلاة والسلام: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} وليس في الحديث الشهداء بل الأنبياء، فالصلاة والسلام تعرض عليه لكن لا تعرض عليه الأعمال، لأن المحاسب والمجازي وكاشف الضر هو الله، ويخطئ من يذهب إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: اكشف مرضي، أو نجح ابني.. هذا شرك وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً [الفرقان:3] فليتنبه إلى هذا.
الجواب: هذا الحديث لا يصح وهو حديث ضعيف، ونبه على ضعفه المنذري في الترغيب والترهيب وهو من أحاديث فضائل الأعمال.
الجواب: بنو إسرائيل هؤلاء من تلك السلالة، شامير ورابين وموشى ديان وأمثالهم وأذنابهم هم من اليهود تماماً، لا تلد الحية إلا حية، الخبيث من ذاك الصنف الخبيث.
أما موسى عليه السلام والمؤمنون -رضي الله عنهم وأرضاهم فهؤلاء نحبهم ونتولاهم وهم في موكب كريم، ومنهم كثير ممن أسلم من اليهود كـعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وأمثالهم.
وبعض الناس يقول: نسالم اليهود، اليهود قوم حلماء. ونحن نقول: بل هم قوم ألداء، لا يمكن أن ينزعوا الغل من صدورهم، وهم أعداؤنا بلا شك يريدون تمزيق العالم الإسلامي، وكل خراب وإجرام وزنا وربا في العالم عامة فهو من اليهود.
الجواب: إن أقر بالأدلة وعلم بها فأنكر فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وإن لم يصله دليل ولم يعلم فيبصر ويعذر بجهله حتى يبصر.
الجواب: إن رأيت هذا فأنا معك ونتصالح أنا وإياك وقد يكون هذا، والأحسن للإنسان ألا يشير في الصفات إلى نفسه، لا يقول: {كنت يده التي يبطش بها، وسمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} ويشير إلى نفسه، وقد تكون مني مع السرعة والشرح فأشرت إلى ذلك، فأنت مشكور على كل حال.
الجواب: ليس في القرآن مجاز على الصحيح، وهو رأي لشيخ الإسلام ابن تيمية ولـابن القيم وللأمين الشنقيطي صاحب التفسير على أن المسألة فيها خلاف حتى عند أهل السنة، لم يجمعوا على أليس في القرآن مجاز بل فيهم من يقول: إن في القرآن مجازاً.
الجواب: أبو العلاء المعري ذهب إلى الله وقد ترجم له الذهبي وابن كثير وأبو العلاء أعمى القلب والبصر، رهين المحبسين، ما تزوج، ولا كان يأكل الحيوانات مثل الدجاج، يأكل النباتات فقط، فيلسوف، يقول: عذاب وحرام أن يعذب الإنسان الدابة، كيف يذبح الشاة ويأكل منها؟!
انظر إلى العميل الخسيس! متخلف! الله يبيحها وهو يقول: لا، حرام، لا يأكل إلا بطاطس وعدس! يصبح على بطاطس ويمسي على فول! حتى أصبح عقله مملوءاً بالكفر والزندقة، وهو شاعر مجيد من الدرجة الأولى، حتى ترجم له الذهبي قال: وله تلك الأبيات المشهورة يقول فيها:
يا راقد البرق أيقظ راقد السمر لعل في القوم أعواناً على السهر |
وإن سقيت بلاداً من بني مطر فاسقِ الأواهل حياً من بني مطر |
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني يمشي أمامي وتثويباً على أثري |
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر |
يقول: يريد المحبوب مع حبيبه أن ظلام الليل يدوم وأنه يعطى من سواد العين؛ ولذلك ابن القيم كلما مشى صفحتين في بعض الكتب قال:
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد السمع والبصر |
فهي له، وليته اكتفى بهذا فهو شاعر، يقول في قصيدته:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي |
وسواء صوت الشدي إذا قيس بصوت النعي في كل نادي |
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد |
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد |
كلام عجيب! لكن ليته سكت لكنه تفوه بالكفر والنفاق والزندقة.
يقول: إذا أخطأ الإنسان وقطع يد آخر فهي بخمس مئتين دينار ذهب، فإذا سرق تقطع في ربع دينار. قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار |
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار |
يا خسيس، تستعيذ بعدما كفرت؟! تناقض الشريعة وتقول: نستعيذ بمولانا من النار؟
فرد عليه علماء أهل السنة مثل القاضي عبد الوهاب المالكي -بيض الله وجهه- يقول في قصيدة يدمغ هذا الفاجر:
قل للمعري عار أيما عار جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري |
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعار |
وذهب إلى الله وقد استهزأ في أبياته، ورئي في منامه كما ذكر بعض أهل العلم أن عليه حية لما دفن، فأخذ رأسها بلسانه وذنبها أخذ بفرجه، وهذا من عذاب القبر وسوف يلقى ما قدم، ولا أدري هل تاب أم لا.
أما الاستهزاء فوالله لقد ملئ ديوانه بالاستهزاء والاستهتار، وقد كان ذكياً لكن لم يكن زكياً، أكل مشمشاً -وقد كان أعمى- فوقعت قطرات على صدره فقال له رجل: أكلتم مشمشاً اليوم؟ قال: قبح الله العمى؛ عرف أنه وقع على صدره شيء.
ذكر الذهبي أنه نام على سرير قال: ارتفعت السماء قدر درهم أو ارتفعت الأرض قدر درهم، فبحث فوجد تحت فراشه درهم، وأظن أن هذه من كذبات الصنع، بعض الكذبات باستطاعتك أن تجبرها لكن بعضها لا تجبر، لكنه على كل حال زنديق إن لم يتب.
أما بشار بن برد فهو شعوبي، فيدرالي، دكتاتوري، يسعى إلى التمييز العنصري، هو ينادي دائماً بـالشعوبية ويبغض العرب، هو شاعر وهو صاحب:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم |
يقولون: سمع هذا البيت رجل في المدينة فبقي طول الليل ينشد هذا البيت قال: ليتني أجد هذا الرجل، والله لأسافرن له، أين هو؟ قالوا: في بغداد؛ فركب دابته وتوجه إليه... فاقترب منه فقال: أين بشار؟ قالوا: في هذا البيت.
فدخل عليه فوجده مفلطخاً على فراشه كالثور، قال: يا عدو الله أنت الذي تقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لا نهدم؟ |
قال: نعم.
قال: كيف تقول هذا؟
قال: أما يقول الله: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:224-226]؟
وهو الذي يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا |
وشعره جميل لكنه شعوبي، واتهم بشيء من النفاق، ومات كما يموت التيس الأعمى في السفينة فذهب إلى الله.
أما عن الجاحظ: فهو يقود فرقة الجاحظية، وهو خطيب المعتزلة وخطيب هذه الفرقة الجاحظية وأهل البدعة، وخطيبنا نحن أهل السنة هو ابن قتيبة.
يقول ابن تيمية: خطيب أهل السنة ابن قتيبة وخطيب المبتدعة الجاحظ، له كتاب الحيوان من أحسن ما يكون، وله كتاب البيان والتبيين، ذكي؛ لكنه استخدمه في بدعة، وبدعته الله أعلم بها، لكن نسأل الله أن يعافي من مات مسلماً.
صورته مشوهة، كان جاحظ العينين، عيناه تكاد أن تخرجان من رأسه، وعنده شعر في حواجبه بكثرة، حتى أتت امرأة إلى صائغ يصنع الخواتم فقالت له: أريد أن ترسم على خاتمي الشيطان. قال: أين الشيطان، ما رأيته؟ قالت: انتظر قليلاً، فذهبت إلى الجاحظ فقالت له: إن بائع الختم يريدك في غرض، فأتت به بيده فقالت له: مثل هذا..! وهو على كل حال أجاد في الكتابة، وقد أثرت مدرسته الأدبية في كثير من الكتاب مثل المازني والرافعي تأثرا به في بعض النواحي، والشيخ علي الطنطاوي متأثر به في بعض الكتابات، فقد كون مدرسة أدبية، لكن العقائد والدين لا تؤخذ منه، وهو أديب هزلي.
الشخصية الرابعة: محمد عبده الإمام؛ الإمام لأنه لو لم يذكر السائل الإمام أخرج مطبلاً آخر، لا نتكلم عنه ولا نتكلم على الناس، علمهم عند ربي ونسأل الله أن يتوب عليهم، لكن نتكلم عن هذا الإمام محمد عبده المصري، هو بارع ذكي وتلميذ جمال الدين الأفغاني، كان يشرح القرآن فيبهر الألباب، جلس في تونس ومصر وفرنسا وباريس وكون جريدة العروة الوثقى وهي جريدة يومية، كان يسلب الألباب بكتابته، وكان إذا تكلم في القرآن يقف الناس مدهوشين منه!
الرجل الله أعلم به، لكن اتهم بأمور أما ظاهره فطيب، ومن يقرأ تفسير المنار لرشيد رضا يعلم أن الرجل فيه الخير وأنه يريد الخير لكن اتهم بالاعتزال، واتهم ببعض الانحرافات، واتهم أنه تورط مع الماسونية العالمية وربما يوجد له أعذار، ولكن بالنسبة لي لا يزال من الأشخاص الذين أتوقف فيهم، ونسأل الله ألا يحاسبنا بذنب أحد من الناس هو وجمال الدين الأفغاني تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
الشخصية الخامسة: عبد الله بن المقفع؛ اتهم بالزندقة وهو أديب كبير، ولكن وجد أنه يريد من الناس أن يعبدوا النار، فعلمه عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
إلى هنا وننتهي وسوف يكون للدرس بقية، أسأل الله لي ولكم قبولاً وهداية وسداداً، وأسأل الله أن يجعل ما تجشمتم به من تعب في سبيله، وما مشيتم فيه من خطوات رافعات للدرجات، درجات الحسنات مكفرات للسيئات، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر