ذاقها الصالحون والطالحون، العباد والفجار.. لكن شتان بن مشرق ومغرب!!
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن وصف الموت من القرآن والسنة وعلى ألسنة الحاضرين، وأحوال الناس عند الموت، مؤمنهم وفاجرهم، وختم بذكر كيفية الاستعداد له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, أشرف من استظل بالسماء، وأكرم الكرماء، وأنبل من شرب الماء, وأنور من سار في الظلماء, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:-
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..
أشكركم على اجتماعكم, وأشكر أهل الفضل على فضلهم، وعلى رأسهم القائمين على هذا الجامع, والداعين لهذه المحاضرة, وإني لأعرف أن في هذا المكان من أهل العلم والفضل من هو أعلم مني وأفضل, ولكن إنما هي ذكرى وقد درج السلف الصالح على التذاكر, وأخذ الفائدة من المفضول, وما قصة الهدهد منا ببعيد, فإنه أتى إلى سليمان عليه السلام، فقال له: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ [النمل:22] فخضع له، واستفاد منه، واستمع له.
ساعة الاحتضار في حياة السلف, هي ساعاتنا التي سوف نمر بها, ما منا إلا ميت, وما منا إلا محتضر, وما منا إلا قادم على تلك الساعة, والله لنذوقنها, ووالله لنشربنها, فقد ذاقها الملوك والمملوكون, والرؤساء والمرءوسون, والأغنياء والفقراء, ذاقتها الأمم جميعاً, وأحسوا بالموت: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [مريم:98].
وموضوعي هذا يدور على ثلاثة عناصر:
1- القرآن يتحدث عن الموت.
2- ذكر الموت في السنة المطهرة.
3- الموت عند السلف الصالح وعند المعرضين الغافلين.
قال: يا أمير المؤمنين! ما مثل الموت إلا كرجل ضرب بغصن من شوك سدر -أو طلح- فوقعت كل شوكة في عرق، فسحب الغصن فانسحب معها كل عرق في الجسم.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87] إنه مصرع عظيم, والله عز وجل كتب الموت على الأحياء، فقال جلّ من قائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27].
وقال بعضهم: أتى العواد يعودون المرضى، فمات العواد، ومات المعادون.
وفي ترجمة الربيع بن خيثم الزاهد العابد: أنه مرض، قالوا: ألا ندعو لك طبيباً؟
قال: فكرت وأردت أن أدعو طبيباً؛ فإذا الطبيب والمطبوب يموتان.
هيهات تعالج قوم عاد وثمود ثم مات الطبيب والمطبوب، ومات العائد والمعاد.
كيف أشكو إلى طبيب ما بي والذي قد أصابني من طبـيب |
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الانبياء:35] وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] فعلم عليه الصلاة والسلام أنه سيموت، ولكنه متهيئ منذ بعثه الله لتلك الصرعة وذاك المقعد, وتلك الضجعة.
والله لقد غفل كثير من الناس وأصابهم السكار فما استفاقوا إلا في ساعة الموت, وعند الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) وفي رواية: (فما ذكر في قليل إلا كثَّره، ولا في كثير إلا قلله) وهادم اللذات هو الموت, وهو مفكك الجماعات، وآخذ البنين والبنات, الذي أتى بالأجيال فصرعهم في الحفر المظلمات.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر |
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر |
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر |
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور |
قال ابن كثير في البداية والنهاية: مر عمر بن عبد العزيز على المقابر، فقال: يا موت! ماذا فعلت بالأحبة؟ أين الأحباب؟ أين الأصدقاء؟ أين الإخوان؟ أين الأجداد؟ أين السمار؟
يا موت! ماذا فعلت بالأحبة؟ فلم يجبه الموت, قال وهو يبكي: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا.
قال: إنه يقول: أكلت الحدقتين, وأتلفت العينين, وفصلت الكفين عن الساعدين, والساعدين عن العضدين, والعضدين عن الكتفين, ولو نجا من الموت أحد لنجا منه محمد صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
حضرته الوفاة وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما حضرته الوفاء كان يتناول خميصة فيضعها على وجهه وهو في سكرات الموت، وكان عرقه يتصبب -بأبي هو وأمي- فيقول: {اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم هوّن عليّ سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات} ثم يقول: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد} كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها ترقيه بالمعوذتين، فيأخذ يده ويجر كفه، ويقول: {بل الرفيق الأعلى} يقول: أريد الرفيق الأعلى, أريد حياة أبدية ونعيماً خالداً, ملّ من الدنيا وسئم منها, فذاق الموت عليه الصلاة والسلام بعموم قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
لعمرك ما يغني الثوى عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
ومعنى البيت ينطبق على حاتم الطائي كريم العرب, الذي لم ينفعه كرمه, لأنه لم يستعد لساعة الاحتضار في حياته, ولذلك صح عن عدي بن حاتم أنه قال: {يا رسول الله! إن أبي كان يكرم الضيف، ويحمل الكل، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: إن أباك طلب شيئاً فأصابه} قال سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].
فمعنى البيت: يقول: والله لا يغني الغنى ولا المنصب ولا الجاه إذا حشرجت الصدور بالنفوس, أو حضرت سكرات الموت, فالتفت أبو بكر إلى عائشة وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21] ولما مات بحثوا عن ميراثه -خليفة العالم الإسلامي ذهب والدنيا وفضتها تحت يديه- خلف بغلة وثوبين, قال: كفنوني في واحد وأرسلوا البغلة والثوب إلى عمر بن الخطاب الخليفة، وقولوا: [[يا
ولذلك ذكر ابن القيم وغيره من أهل العلم: أن أبا بكر كان يخرج كل صباح مع طلوع الشمس إلى خيمة في ضواحي المدينة , فيدخل على عجوز عمياء حسيرة كسيرة من الرعية, فيكنس بيتها، ويصنع طعامها، ويحلب شياهها, هذا أبو بكر الأول بعد الرسول عليه الصلاة والسلام, المجاهد الكبير خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو رجل الساعة, فإذا انتهى رجع إلى المدينة , فأخذ عمر يتفقد أبا بكر كل صباح أين يذهب؟!
وفي ذات يوم دخل عمر بعد أن خرج أبو بكر , فقال للمرأة: من أنت؟
قالت: أنا امرأة عمياء حسيرة كسيرة مات زوجي منذ زمن, وما لنا من عائل بعد الله إلا هذا الرجل الذي يدخل عليّ, قال: أعرفتيه؟ قالت: والله ما عرفته! قال: ماذا يفعل؟ قالت: يكنس البيت, ويحلب شياهنا, ويصنع لنا طعامنا, فجلس عمر يبكي، وقال: [[هذا خليفة رسول الله هذا أبو بكر]] رضي الله عنه وأرضاه.
سلام على أبي بكر في الخالدين, ورضي الله عنه في الصادقين, وجمعنا به في دار كرامة رب العالمين.
وهذا شاعركم الأول الداهية ابن عثيمين، يقول هذا -الشاعر الإسلامي الذي توفي قبل أربعين سنة تقريباً-:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرجيه أقرب |
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب |
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب |
صح في التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي تحدّى الغمامة والسحب أن تمطر في أرضه, بنى قصراً مشيداً في بغداد، وقال للشعراء: ادخلوا؛ ليمدحوا القصر والخليفة، ويمدحوا الدنيا، والوزارة، والمال, فدخلوا جميعاً، ثم دخل أبو العتاهية الزاهد، فقال لـهارون في قصيدةٍ:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور |
قال هارون وقد ارتاح وانبسط وهش وبش: هيه, أي: زد, قال:
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور |
قال: هيه, قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور |
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور |
فهوى يبكي حتى أغمي عليه.
من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
ما أكثر من يموت من المترفين، يموت حبطاً وتخمة, شهيد الطعام والأكلات، وما أدراك ما الأكلات والمرطبات والمشهيات؟! فعندما يموت يقال فيه: كان رجلاً صالحاً أبلى بلاءً حسناً، فتح الفتوح، كان درة الزمن ووحيد العصر، على ماذا؟!!
إن السيرة سيرة الأخيار: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيِّ وسعد وخالد..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] حجّ عمر ووقف عند الجمرات، ورفع يديه، خليفة, شاب رأسه في العدل, ونحل جسمه في الصلاة, وذاب جماله في طاعة الله, وأثر الدمع في خديه, وصادق في الليل صادق في النهار.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
رفع يديه، وقال: [[اللهم إنها ضاعت رعيتي، ورق عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون, اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]] والله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فعاد وهو صادق, ووصل المدينة يتحرى الشهادة, يقول بعض الصحابة: [[يا أمير المؤمنين! تطلب الشهادة في المدينة , والذي يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور! قال: هكذا سألت وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]]. ووصل وفي أول الليالي, رأى كأن ديكاً ينقره ثلاث نقرات, فسأل علماء تعبير الأحلام, فقالوا: يقتلك رجل من العجم, فاستودع الله نفسه, وصلّى بالناس صلاة الفجر، وطعن في المحراب, ووقع طريحاً شهيداً, في أحسن بقعة وفي أجل فريضة, وحمل على أكتاف الرجال, وهو يقول: [[أصليتُ الفجر؟ -أي: هل أكملت الصلاة؟- قالوا: لا فأغمي عليه، قال: فلما وضعوا خده على مخدة, قال: انزعوا المخدة من تحت رأسي, ضعوا رأسي على التراب لعل الله أن يرحمني]] رحمك الله، وأكرم أشلاءك، ورفع درجتك, فقد كنت صادقاً كما قال ابن مسعود، يقول له علي - وهو يثني عليه في سكرات الموت: [[كان إسلامك نصراً, وهجرتك فتحاً, وولايتك رحمة, قال عمر: إليك عني، يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا عليّ]] فرضي الله عنه وأرضاه.
إنهم أعدوا لساعة الموت من سنوات.
وقد روى البخاري في صحيحه في باب الرقاق، وقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [محمد:36] قال البخاري: وقال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة, وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا, فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
علي بن أبي طالب مدرسة من الرقاق والتوجيه والتربية, وكلماته تنفذ إلى القلوب مباشرة؛ لأنه صادق مخلص فرزق القبول, وقد صح عنه أنه أخذ لحيته بيديه في الليل وهو يبكي، ويقول: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها, زادك حقير, وعمرك قصير, وسفرك طويل, آه من وحشة الزاد، وبعد السفر، ولقاء الموت]] وله مقطوعة نسبت إليه يقول:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها |
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها |
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها |
قال: فحول وجهه إلى الحائط، ثم بكى طويلاً، ثم عاد إلى الناس, فقال: إني عشت في حياتي على طباق ثلاث, كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلو توفيت في تلك الحالة لكنت من جثا جهنم, ثم أسلمت فقدمت على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة , قال: فلما بسط يده ليبايعني قبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أشترط, قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي ربي ذنبي, فتبسم، وقال: (أما تدري يا عمرو أن التوبة تجب ما قبلها وأن الإسلام يهدم ما قبله) قال: فأسلمت, فوالله ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو جعلتموني الآن أصفه ما استطعت أن أصفه لأني ما كنت أملأ عيني منه جلالاً له وهيبة منه, فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة, ثم تخلفت فلعبت بي الدنيا ظهراً لبطن, فوالله ما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أو يؤمر بي إلى النار
]].وفي صحيح مسلم زيادة: فقال: [[لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله]] ثم قبض يده، فكلما أتوا ليبسطوا يده عادت، فغسلوه وهو كذلك، وأدخلوه أكفانه هكذا, وأدخلوه قبره وهو على هيئته.
من الصالحين الكبار معاذ بن جبل وقد أشار صاحب الإحياء إلى هذه القصة، وصاحب كتاب وصايا العلماء، والقرطبي في التذكرة، وغيرهم من أهل العلم، أنه لما حضرته الوفاة كان في السحر، فقال لابنه: اخرج با بني انظر هل طلع الفجر؟! قال: لا! فسكت قليلاً، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: نعم، قال: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، اللهم إنك كنت تعلم أني ما أحببت الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور -لكن لماذا تحب الحياة يا
يا ليت أمي لم تدلني!
يا ليتني ما توليت الخلافة!
يقول سعيد بن المسيب سيد التابعين لما سمع هذا الكلام: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم]].
وقد كانت حياته حياة توصل صاحبها إلى الغرور، لما توّلى عبد الملك الخلافة وانتصر جيشه على مصعب بن الزبير في العراق.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران |
دار أراد الله خرابها كيف تعمرها؟
منصب لا يوصلك إلى النجاة، كيف تريده؟
مال لا ينقذك من غضب الله ولعنته وبطشه كيف تجمعه؟
جاه لا يوصلك إلى رضوان الله ورحمته وجنته كيف ترغب فيه؟
أين هذا من حياة سعد بن أبي وقاص؟ فقد مات في البادية وهو أحد المبشرين بالجنة, أتت ابنته تبكي عند رأسه وهو في سكرات الموت, قال: [[يا بنية! لا تبكي, والله إني من أهل الجنة]] قال المعلق: صدق وهنيئاً له، فقد شهد له صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة, فانظر كم بين الرجلين؟ وكم بين المصرعين؟ وكم بين الواديين؟ ولا نشهد لأحد من المسلمين بجنة أو نار إلا من شهد له صلى الله عليه وسلم, لكنا نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب.
ثم ذهب إلى الله, ولا ندري ماذا حدث؟! لكن -والله- هناك أمور تشيب منها النواصي, يوم تبيض وجوه وتسود وجوه, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] وقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94] وقال: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27] وقال: َيا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:28].
ومن يستقرئ التاريخ يجد مصارع الغابرين من أهل الغفلة, وأنا لا أتحدث عن الكافر, فالكافر ملعون في بدايته، ملعون في نهايته, ملعون في حشره, ليس له نصيب في رحمة الله, لا يرجى له إلا الخلود في النار لأنه أشرك بالله, لكني أتحدث عن أهل الإسلام, ممن استقام على الطريقة وحافظ على أوامر الله, ومن غفل وأدركته المعاصي والشهوات.
والواثق الذي تولى الخلافة بعد المعتصم وقد كان بطاشاً شديداً فيه جبروت, وهو الذي قتل أحمد بن نصر الخزاعي العالم الشهير, من قادات أهل السنة والجماعة ومن وجهاء العلماء وله كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة لما دخل على الواثق فأمره الواثق بالقول بخلق القرآن, فرفض وأنكر وأبى ولم يستسلم, فتقدم إليه الواثق بالحربة، فطعنه حتى ذبحه ذبح الشاة, قال بعض المؤرخين: لما نزل الدم من أحمد بن نصر الخزاعي كتب: الله الله الله.., والله أعلم.
هذا الواثق لما أدركته سكرات الموت يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء: لما أضجعوه ومات وسلّم روحه, أتى فأر فأخذ عينه فأكلها, لماذا؟ ليرى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس الجبابرة في الدنيا, فأر دخل على عين الواثق الذي كان إذا رأى إلى الإنسان شزراً أرعد هذا الإنسان، أخذها الفأر وأكلها.
قال طاوس: ليذل به أنوف الطغاة! فسكت, قال: ناولني الدواة -الدواة يكتب بها أبو جعفر - قال: لا والله، إن كنت تريد أن تكتب بها حقاً فما أنا بخادم لك, وإن كان باطلاً فلا أعينك على الباطل, قال: خذ من أموالنا؟ قال: لا. مالك! حلاله حساب وحرامه عقاب, ثم قام وتركه, وهؤلاء العلماء لهم عجائب مع أولئك الغافلين المعرضين.
قال: والله الذي لا إله إلا هو، أردت أن أقوم لك فتذكرت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم، قال: اجلس والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت, كأنه ما سمع الآية إلا تلك الفترة, لأنه غافل, وكثير من الناس يعيش في غفلة، كيف يصحو من فيه جنون في عقله؟! كيف يصحو من يمسي على الموسيقى ويصبح عليها وما سمع القرآن, وما تلذذ بآيات الله الواحد الديان, وما أتته قوارع الرحمن؟!
كيف يصحو من لا يتعهد الصلوات الخمس؟
كيف يصحو من لا يجلس في مجالس الذكر مع طلبة العلم ومع الدعاة في حلقات الخير؟ كيف يستفيد؟ كيف يعرف طريقه؟ إنه في ظلمة وفي شك وشبهة.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب |
يقول بعض المؤرخين: كان المعتصم من أقوى الناس كان يأخذ السيخ من الحديد ويكتب اسمه من قوته, حتى يقول أحد المحدثين: دخلت على المعتصم فمد ذراعه لي, وقال: أسألك بالله أن تعض يدي, -ذكرها السيوطي - قال: فعضضت يده، قال: والله ما أثرت أسناني في لحمه, لكن هذه القوة صرعها هادم اللذات, ومفرق الجماعات, وآخذ البنين والبنات, اسمعوا المتنبي ماذا يقول في الأقوياء أهل الحفر المظلمة:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق |
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا |
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فلا بقينا ولا بقوا |
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق |
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق |
فالموت آت والنفوس نفائس والمستعز بما لديه الأحمق. |
المعتصم لما حضرته الوفاة, قال: أأموت اليوم؟
قالوا: تموت اليوم - وهو شاب في الأربعين يظن أن الإنسان لا يموت إلا بعد السبعين فقال للعلماء: أأموت اليوم؟ قالوا: ثبت شرعاً أنك تموت اليوم, وهل عندك شيء؟ قال: سبحان الله! فنزل من على سريره وهو يرتعد، وقال: والله لو ظننت أني أموت اليوم ما فعلت الذي فعلت من المعاصي!! سبحان الله!
ما الفرق بين اليوم وغدٍ؟
قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] غداً قريب, وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
ولا يستفيق المغرور بالمعاصي إلا في سكرات الموت, كم يعظ الواعظ؟ وكم يتحدث العلماء؟ وكم يدعو الدعاة؟ ولا يستفيق بعض الناس إلا إذا حشرجت بنفسه صدره.
فلا إله إلا الله ما أغفل هذا الصنف! لكن الأخيار الأبرار علموا أن الطريق إلى الله تأتي بالتهيؤ لسكرات الموت.
لما حضرته الوفاة، قال لامرأته فاطمة: اخرجي من غرفتي، فإني أستقبل نفراً ليسوا بإنس ولا جن, قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101] اللهم اجعلنا منهم, اللهم ثبتنا بالقول الثابت, يوم تضيق بنا نفوسنا، ويشتد علينا كربنا، فلا يكون لنا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك, قال سبحانه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
أدركت كثير من الناس سكرات الموت وهم في معاصٍ كالجبال, إما دم أو زنا أو شرب خمر أو ربا أو غناء, أو تخلف عن الصلوات الخمس, أو تجاهل لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أو تجاهل لطلب العلم, فلا إله إلا الله ما أغفلهم!
قال: أنا سعيد بن جبير -الحجاج السفاك الذي يقول فيه الذهبي: نبغضه ولا نحبه، ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين.
ويقول فيه أيضاً: له حسنات غمرت في بحار سيئاته, وبعض الناس يمدح الحجاج في بعض المواسم والمحاضرات, ويقولون: كان وكان..! لكنه أهان الصحابة، وعذب أبناء المهاجرين والأنصار, وقتل العلماء, فأمره إلى ربه في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى- قال لـسعيد بن جبير -قائم الليل، صائم النهار، المحدث الكبير الذي يقول فيه الإمام أحمد: مات سعيد بن جبير وما أحد في الدنيا إلا وهو محتاج إلى علمه, وهو من رواةالبخاري ومسلم - من أنت؟
قال: سعيد بن جبير , قال: بل أنت شقي بن كسير!! قال: أمي أدرى إذ سمتني -أي: أدرى منك- قال: شقيت أنت وشقيت أمك, ثم قال له: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى -يقول: أدخلك النار وهو لا يستطيع- قال: لو أعلم أنك صادق لاتخذتك إلهاً, قال: عليّ بالمال -ذكر هذه القصة المباركفوري صاحب مقدمة تحفة الأحوذي - فأتوا بالمال من الذهب والفضة أكياس ملئوها ذهباً وفضة, قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن جمعت المال لتتقي به من عذاب شديد فنعمّا صنعت, وإن كنت جمعته رياءً وسمعة، فوالله لا يغني عنك من الله شيئاً, فرفع المال, وقال: فعليّ بالجارية والعود -الآن في ساعة الاحتضار، وذبح العلماء يغني ويطبل ويرقص- فأتت الجارية المسكينة تضرب العود عند سعيد بن جبير: -هل رأى الحب سكارى مثلنا...؟!! فلما ضربت العود بكى سعيد بن جبير , قال الحجاج: أهو الطرب؟
قال: لا والله. لكن جارية سخرت لغير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة يستخدم في معصية الله -انظر إلى بعد النظرة، عالم يرى أن الناس لا بد أن يكونوا عباداً لله, والشجر لا بد أن تسخر في طاعة الله, عود وموسيقى تستغل في المعاصي ليس بصحيح, مطبل ومغني يتصدر الأمة ليضلها عن سبيل الله ليس بصحيح, لأن أرذل الناس وأفشلهم وأسفلهم هم المغنون والمغنيات, والراقصون والراقصات الأحياء منهم والأموات, وهذا عيب بلا شك، ولو لم يكن محرماً في الكتاب والسنة لكان عيباً، والمصيبة أن هذا المغني وهذه المغنية يتصدرون الأجيال، ويطبلون للأمم، ويضلون الشعوب, ويقودونهم إلى الهاوية- قال لـسعيد بن جبير: خذوه إلى غير القبلة, قال سعيد بن جبير: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115].
قال: أنزلوه أرضاً, قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55] قال: والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس, قال: يا حجاج! والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها، فاختر لنفسك أي قتلة شئت! فأتوا يذبحونه؛ فقال في النفس الأخير: اللهم يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج , اللهم لا تسلطه على أحد بعدي وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ إبراهيم:42-43].
فذبحه, وأتى الحجاج يخور بعدها كما يخور الثور!
أتت له -في بعض الروايات- بثرة في جسمه كالدرهم، فحكها فافتشى في جسمه, يقول الحجاج وقد مكث شهراً بعد مقتل سعيد بن جبير ثم مات, يقول: ما نمت بعد مقتل سعيد بن جبير إلا رأيت وكأني أسبح في حمام من دم, وما تلذذت بطعام ولا شراب, وأخذ يخور كما يخور الثور, وحين مات ذكر أهل التاريخ والسير: أنهم مروا على قبره، فسمعوا صياحاً في قبره وكان أخوه محمد مع المارين، فقالوا: ما هذا الصوت؟ قال: رحمك الله يا أبا محمد! ما تترك قراءة القرآن حتى في القبر! يصيح من العذاب، ويقول أخوه ويزكيه: إنه حتى وهو في القبر لم يترك قراءة القرآن!! فهو يريد أن يعتذر له، وهذا أخوه محمد غاشم وظالم مثله، وقد كان حاكماً ظالماً في اليمن.
وهناك قصة ذكرها أهل العلم: أن رجلاً مسكيناً من أهل اليمن كان يطوف بالبيت, قال طاوس: فصليت ركعتين عند المقام، فلما انتهيت من الركعتين التفت فإذا بجلبة السلاح والحراب والسيوف والرماح، فالتفت! فإذا به الحجاج بن يوسف الثقفي , قال: فجلست وسكت, وإذا بهذا الأعرابي مشى من عند الحجاج -لا يدري أنه الحجاج - فنشبت حربة أو رمح في رداء هذا الأعرابي، فوقعت على الحجاج , فأمسكه الحجاج، وقال: من أين أنت؟
قال: أنا من أهل اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
قال: من أخوك؟
قال: محمد بن يوسف , قال: تركته سميناً بطيناً -يقول: لا تخاف عليه أما الأكل والشرب فإنه ممتلئ لكن لا قرآن ولا قيام ليل- قال: لست أسألك عن صحته بل أسألك عن عدله, قال: تركته غشوماً ظلوماً، قال: أما تدري أني أخوه؟
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله, قال طاوس: ووالله لقد تأثرت منها وما زلت ألحظ إلى ذاك وهو يطوف أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
ولذلك لا يندم النادم إلا في سكرات الموت وفي ساعة الاحتضار.
خرج النعمان بن المنذر، ملك العراق قبل الإسلام في نزهة، فقال لـعدي بن زيد شاعر الجاهليين وكان حكيماً: ماذا تقول هذه الشجرة يا عدي بن زيد؟
قال: تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا يخلطون الخمر بالماء الزلال |
ثم ساروا لعب الدهر بهم وكذاك الدهر حالاً بعد حال |
فرفع الخمر وأخذ يبكي، فأول الأمور: تذكر الموت، ويأتي بأمور:
- أن يكون في ذهنك كالصداع, فقد ذكروا عن ميمون بن مهران الزاهد العابد العالم أنه حفر قبراً في داره، فكان ينزل كل ليلة في القبر ثم يبكي ويقرأ القرآن ثم يخرج، ويقول: يا ميمون! ها قد عدت إلى الدنيا فاعمل صالحا!!
وجعل بعض الناس كفناً في بيته ينظر إليه دائماً, فينظر إلى مصرعه, ومنهم من كتب كتابةً يتذكر بها الموت، يقول: اذكر الموت وهادم اللذات, فتذكر الموت يأتي بهذه الدواعي.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة |
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة |
فإذا علم ذلك، فهذا مما يرقق ويدعو إلى الاستعداد لسكرات الموت.
يقول أحد الصالحين: قرأت الرقائق والمواعظ فما وجدت كتدبر القرآن, والقرآن إذا صادف قلوباً واعية فإن القلب ينشرح، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} ويقول عليه الصلاة والسلام: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
ووجد -على سبيل المثال- أن الحاكم بأمر الله الفاطمي عليه لعنة الله، وهو ملحد زنديق عدو للإسلام والمسلمين, فعل هذا الفاجر من الأفعال ما أظن أن فرعون لم يفعلها , من يقرأ سيرته وترجمته يجد فيها عبرة، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران:13].
هذا المجرم السفاك الزنديق الملحد عليه لعنة الله الذي فعل الفعائل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينزل إلى السوق فيسجد له الناس, والذي لا يسجد له قطع رأسه, أخذ القرآن ومزقه وداسه بأقدامه, ونجس محراب المسجد, فعل أفعالاً لا يفعلها إلا من بلغ درجته, فأتى عالم من علماء أهل الحديث والسنة, فأفتى فتيا.
يقول هذا العالم: من كانت عنده عشرة أسهم فليطلق واحداً من سهامه يرمي الروم أو الصليبين والنصارى ويرمي الفاطميين بتسعة أسهم -أي: يذم الحكام العبيديين الفاطميين الملاعين إلا من رحم ربك- فسمع هذا الحاكم فاستدعى العالم, قال: سمعت أنك تقول: أن من عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة ويرمينا بسهم؟
قال: لا. الفتيا ليست هكذا, قال: ما هي؟ قال: قلت: يرميكم بتسعة ويرمي النصارى بسهم واحد, فاستدعى يهودياً من اليهود معه سكين وقال: اسلخ جلده عن لحمه وعظمه ولا تقتله, فقال العالم: حسبنا الله ونعم الوكيل, فرفع ودحرج على وجهه, وأخذ اليهودي يسلخ جلده عن لحمه وعظمه, حتى سالت قطرات الدم.
وبعضهم قال: رؤي عليه كالظلة من السحاب أو الملائكة والله أعلم, وقد كان من الصالحين الكبار, كان مدلّى والدم يقطر من أنفه وفمه، وهو يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر, حتى وصل اليهودي وهو يسلخه إلى قلبه, فرحمه اليهودي.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
فرحمه اليهودي؛ فأخذ السكين وضربه في قلبه ليموت, فلما وصلت السكين قلبه، قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وكانت عقوبة هذا المجرم أن أخذه الله في ذلة, فسلط عليه أعداءه، فأخذوه في مكان بـالمقطم في مصر وأحاطوا به، فقطعوا يده اليمنى أولاً, ثم يده اليسرى, ثم رجله اليمنى, ثم رجله اليسرى وهو حي, ثم قطعوا لسانه وهو حي, ثم قطعوا أنفه, ثم فقئوا عينه اليمني, ثم عينه اليسرى, ثم قطعوا أذنيه حتى مات كمداً وغيظاً: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16] ذاك عرف ساعة الاحتضار، فكان يسبح ويهلل ويكبر ويحمد الله, وهذا نسي القدوم على الله فذهب إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم!!
ومن قال: أعرف أني أموت وأتذكر الموت ولم يداوم على الصلوات الخمس جماعة فهو كاذب, ومن أعرض عن القرآن وتذكر الموت فهو في تذكره كاذب, فعلينا بالتوبة النصوح، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8] وقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
الموت أيها الإخوة!! هو مدرسة للأحياء, ولا يستفيد من تذكره وساعة الاحتضار إلا من أعد توبة, وعملاً صالحاً.
الأعمش سليمان بن مهران رواي الكتب الستة سماه الذهبي: شيخ الإسلام, حضرته الوفاة فبكى أبناؤه، وقال: لا تبكوا فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام ستين سنة, فـالأعمش , ستون سنة ما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام, وهو في المحراب والروضة, هذا هو الدين والإسلام, أما إذا كان الدين كلاماً منفوشاً ولا يطبق, وكلمات رنانة ولا أثر لها في الواقع فليس بعمل وليس بخشية.
سعيد بن المسيب وهو في سكرات الموت، وهو يقول: الحمد لله! ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلّى رفع يديه، وقال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة, قال له أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟
قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد, فصلّى المغرب وهو في السجود الأخير، فقبض الله روحه, فهذه هي الميتة الحسنة, سأل الله فأعطاه الله ما سأله.
وأبو ريحان -بعضهم يدعي له صحبه- كان يسأل الله أن يميته وهو ساجد, فمات وهو ساجد, ولكن وجد من الناس من بات وهو يستمع الأغنية، ويردد معها في حادث انقلاب, مسجلة تشتغل على آخر صوت, وهو يردد مع المغنية وقلبه موله بالمغنية التي هدمت القيم، وتعاليم الدين، وحاربت المسلمين بأغنيتها وسموها.. كوكب الظلام، وهي كوكب التخلف والانحراف، تقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا...؟!! ويقول وهو في سكرات الموت وساعة الاحتضار: هل رأى الحب سكارى مثلنا..؟!!!
يقول ابن القيم في الجواب الكافي: أتوا بمحتضر! فقالوا له: قل: لا إله إلا الله؟
قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟
قالوا: قل: لا إله إلا الله؟
قال: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فمات عليها, لأنه شب وشاب عليها، ومات عليها, ويحشر عليها.
ويروي ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين عن تاجر أنهم قالوا له: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ قال: خمسة في ستة كم تصير؟ فكرروا عليه، فقال: خمسة في ستة كم تصير؟!!
تصير إلى الهاوية! خمسة في ستة ما أنقذتك من غضب الله، خمسة في ستة ما علمتك الطريق إلى الله، خمسة في ستة ما بيضت وجهك أمام الله! فأي مال وأي فائدة؟!
بعض الناس يتولّه في شيء يجعله عبادة, تجد أحد التجار حتى في الصلاة يتولّه في التجارة ويعد ويحسب, لا يدري هل صلّى مع الإمام في المسجد أم لا؟ خرج وقلبه مع التجارة وعبادتها ولا يدرك ذلك ثم يستيقظ في ساعة الاحتضار.
وبعضهم يتولّه مثل باغاندي رحمه الله، من تولهه بالحديث -يذكرون عنه كـالذهبي وغيره- أنه قام ليصلي؛ فقال: الله أكبر -كان محدثاً، حدثنا فلان عن فلان.. حدثنا فلان عن فلان.. أصبحت قضيته الكبرى إلى درجة الغلو في الحديث- فلما كبّر انتظر الناس أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال: حدثنا الربيع بن سليمان , فهذا وصل إلى درجة من التوله, ولذلك فإن من تعلق بالله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله, قال الله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ابراهيم:28].
فالنتيجة التوبة, والعمل الصالح في مثل تلك الساعة فلنعد, ولاننتظر.
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صبي قد دفنتا |
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا |
وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا |
وهذه قصة نختتم بها الموضوع, شاب صالح من الجزائر كان يحافظ على الصلوات الخمس, وقد حدثنا بقصته أحد الإخوة من الدعاة في الجزائر معه مصحفه دائماً، أتته سكرات الموت في حادث فبقي مغمى عليه أربعة أيام يردد الفاتحة, قال: والله ما فتر لسانه من الفاتحة, كلما أنهاها أعادها من أولها, لأنه عاش على الفاتحة, ويموت ويحشر عليها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ابراهيم:27].
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت, وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا, وأن يتولانا في الدارين, وألا يجعلنا ممن صرعتهم غفلتهم, وأتاهم موتهم مضيعين, فاستحسروا وندموا ولات ساعة مندم, نعوذ بالله من الخذلان، ونعوذ بالله من الحرمان, ونعوذ بالله من الإعراض عن شرع الواحد الديان, ونعوذ بالله من الإدبار عن القرآن, وهجر الإيمان, وعدم تذكر الرحمن.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يا عائض الزهد في جنبيك قد جمعا والمجد والحق في كفيك قد وضعا |
هذي حروفي بلفظ الحب أنثرها على بساطك أنت النجم مرتفعا |
إني أحبك بالرحمن مرتجياً لقاك في جنة الفردوس مجتمعا |
يقول: وللأبيات بقية أرجو أن ألقاك حتى ألقيها على سمعك والله يحفظك؟!
الجواب: أقول لصاحب هذه الأبيات: هنا مسألتان:
الأولى: أني أشكره على أنه أجاد في الأبيات, لأن غالب الشباب الذين يكتبون يكسرون الأبيات، تأتي مكسرة الأضلاع, وهذا بحره وقافيته مستقيمة.
الثاني: ألومه وأعاتبه, لأنني -والله- لا أستحق ذلك, وأنا أعرف بنفسي وكما قال أبو العتاهية:
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني |
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني |
وإذا جاء رددت عليه بقصيدة, والشعر بالشعر ليس رباً, إذا كان يداً بيد!!
الجواب: في محاضرة سابقة تعرضت لهذه الأمور، ومنها: الفراغ الذي بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر, والمسألة محددة في السؤال أنه يقول: نهرب من الغيبة إلى الورقة, فكأن هذا الرجل ليس عنده صلاح وانتهاء عن المعصية، وليس عنده فرار من هذا الذنب إلا بذنب آخر أهون منه, ما هذا الفكر؟!
أنا ذكرت كلام ابن تيمية لما مرّ بصوفي مغفل، لا قرآن عنده ولا علم؛ أعمى القلب والبصر، يقرأ في القرآن في سورة النحل قال: فخر عليهم السقف من تحتهم قال ابن تيمية: لا قرآن ولا عقل! لأن السقف دائماً من فوق.
فهذا صاحب الورقة، يقول: إما أغتاب الناس أو الورقة، أليس هناك حل ثالث؟ أما هناك قرآن؟ أما هناك سنة؟ أما هناك طلب علم، أو استغفار، أو نوافل، أو سماع شريط، أو قراءة كتاب إسلامي, أما أن تترك الغيبة إلى الورقة فهذا ليس بصحيح, وهؤلاء الذين يقولون هذه الأحاجي مردودة عليهم، وحجتهم داحضة عند ربهم, ولا يقبل قولهم, وعليهم أن يتوبوا ويتذكروا أنهم محاسبون على أوقاتهم، وعندنا -والله- الأمور الشرعية المشرحة للصدر المنورة للفؤاد ما يشغل بها المسلم وقته, وبعض العلماء كانوا ينامون أربع ساعات, ونُقل عن عالم أنه كان ينام ساعتين في أربع وعشرين ساعة, قالوا: ما لك؟ قال: الحاجات أكثر من الأوقات, قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].
الجواب: أولاً: هذا الحديث نبه عليه ابن القيم في مسألة خطيرة، يقول: جهلها كثير من الناس, وهي أن بعض الناس يقول: إذا كان الحديث يقول: {وإن منكم لمن يعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة} إلى آخر الحديث، قال: إذا كنت أتعب وأصلي وأصوم وأستغفر ثم يسبق عليّ الكتاب قال: هذا الأمر فيه شيء! قال: فقد أساءوا الظن بالله, عليهم دائرة السوء, كيف يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
ليس بصحيح؛ بل الحديث يفسره الرواية الصحيحة: {إن من الناس من يعمل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس, حتى إذا لم يكن بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار -أي: منافق- ومنهم من يعمل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس يظنون أنه مسيء وعنده أعمال صالحه وتوبة وعودة إلى الله فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة} وهذا من المعاني.
فالأخ لا يغتر بهذا وأمثاله, والعمل الصالح له دور عظيم في حسن الخاتمة, والعمل السيئ له دور عظيم في سوء الخاتمة, وشواهد ذلك من القرآن كثيرة منها: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وقوله: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ [محمد:21] إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الانبياء:101-102] وقوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ابراهيم:27].
الجواب: مسألة الإقبال والإدبار قال عنها بعض السلف فيما صح عنهم: إن للنفوس إقبالاً وإدباراً، أولاً: نعترف جميعاً أن نفوسنا ليست على وتيرة واحدة في القوة والنشاط، في العبادة والكسل, فمرة تصفو نفسك, وينشرح صدرك, وتقبل على الطاعة, وتكثر من النوافل, ومرة تكل وتسأم وتمل, فإذا سئمت ومللت وكللت فألزم نفسك الفرائض, وإذا أقبلت نفسك فعليك بالنوافل.
لكن هناك أسباب للفتور, منها:
1- الجلوس مع البطالين, قال أبو معاذ الرازي -أحد الصالحين-: لا تشتغل بالجلوس مع الفجار عن الجلوس مع الأخيار, ولا تشتغل بالجلوس مع الأخيار عن الجلوس مع الواحد الغفار.
2- كثرة رؤية المعاصي كالنظر إلى الحرام، وسماع الغناء, وأكل للربا, وتخلف عن الصلوات جماعة, وإعراض عن القرآن.
3- كثرة المباحات, مثل: كثرة النوم والضحك، والهزل والنشيد الذي لا ينفع, لأن بعض الناس يدمن حتى في بعض المباحات, فالنشيد على سبيل المثال تجد بعض الشباب عنده خمسون شريطاً في الأناشيد وليس عنده محاضرة أو درس إلا شريط واحد, وبعضهم مع الأناشيد على الحافلة وداخل الحافلة وتحت الحافلة , في الصباح والمساء كالصلوات الخمس, وهذا ليس بصحيح, فالمباحات يجب أن تكون بقدر, وكثرتها تقسي القلب، وتورث الفتور.
ومما يقوي الإقبال:
تدبر القرآن، كثرة النوافل، كثرة الذكر، زيارة الصالحين، حضور مجالس الخير.
الجواب: إذا كان الميت من الكفار فاذكره, كما ذكر الله مخازي فرعون في القرآن, وذكر مخازي هامان وقارون , وأمثالهم وأضرابهم فهو كافر لا حرمة له أبداً, إذا اعتقدت أنه مات كافراً ملحداً زنديقاً فاذكره ليتعظ غيره , لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
وأما من مات مسلماً فلا, وقد ورد في الحديث: {لا تذكروا الأموات إلا بخير} لكن في هذا اللفظ كلام, وكذلك في الحديث وهو حديث حسن: {لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا} فأما من مات مسلماً فلا نتعرض له, وعلمهم عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، قال تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].
الجواب: المريض وعيادته على قسمين: إذا أتيت والمريض يرجى برؤه، وهو في عافية وخير، فأفرحه بالعافية, ولو أن تلبس عليه بعض الكلمات (ما شاء الله أنت في أحسن حال) لتكسبه استيقاظاً معنوياً في نفسه, ما ظننت أنك على هذه الحالة.. ما شاء الله أنت طيب.. وفيك خير..
مثلاً: مريض بالزكام، تقول: ما شاء الله تبارك الله، مع العلم أنه لا يزار من الزكام ولا الرمد, لكن أما أن تقلب عليه الدعوة, ماذا مرضك؟ قال: كذا وكذا.. قال: ما سمعنا بأحد أصيب بهذا المرض إلا نقل إلى المقبرة تماماً..!! والله يظهر الموت من عينيك: ميت (100%) لن تخرج -إن شاء الله- إلا على الجنازة!! فهذا من الحمق نسأل الله العافية, ولا يفعل هذا إلا من قل وعيه.
وأما محتضر أتيت إليه وقد مد لسانه، وأصبح في ساعة الاحتضار، وفي سكرات الموت، وفي عالم الآخرة فلا تدجل ولا تكذب عليه! تقول: ما شاء الله! تصارع الحيطان، وتهد الجدران وما رأيت أصح منك، ما شاء الله تبارك الله!!! فلا، بل هذا تذهب ترجيه بحسن الثواب وتحسن ظنه بالله, واستحب السلف ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من حديث جابر: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه} فتذكره برحمة الله وعفوه وأنه سوف يقدم على رب غفور, لا تقل: إن الله شديد العقاب، وإني أخاف عليك مزلقاً وورطة لا تخرج منها! وهذا ليس من كلام أهل الصلاح.
وأما إهداء الزهور؛ فليست بواردة للمريض، وليست من هدي السلف وما سمعت بذلك لا في أثر من كتاب أو سنة, وماذا تغني الزهور لمن نقل من الدور والقصور إلى القبور, وأتته قاصمة الظهور؟
الجواب: النسيان والتذكر موجود عند كثير من الناس, وقد شكا الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام, كـحنظلة بن ربيع الأسدي في صحيح مسلم: أنه {شكا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو و
الجواب: هذه ظاهرة عند بعض الناس ولو كانوا من المستقيمين، وهي عدم أداء حقوق الوالدين، والقسوة والفضاضة مع الوالدين, وقد تجده باراً بزملائه وأصدقائه لكن مع والديه ليس محموداً، وهذا أمر مخالف لكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وآراء أهل العقول, قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الاسراء:23] فالله الله بالوالدين.. والأم لها ثلاثة أرباع الحق والوالد الربع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {أمك ثم أمك ثم أمك، ثم قال: أبوك} فإذا عُلم هذا؛ فإني أدعو إخواني لبر الوالدين، واللين معهم في الخطاب, وهو يحتاج إلى كلام طويل، لكن هذا شيء مجمل.
وأما ما ذكره السائل من زيارة الأقارب، فالأقربون أولى بالمعروف، وأدناك أدناك, أو كما قال عليه الصلاة والسلام في قوله: {أدناك أدناك} وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
فهؤلاء يزارون ويوالون في طاعة الله وفي محبته, لكن إذا رأيت منهم إعراضاً ومعصية وقد دعوتهم وما استجابوا لك، فلا بأس أن تهجرهم من باب هجران أهل المعاصي علهم أن يتعظوا ويرتدعوا.
الجواب: هذا ورد في بعض الآثار، وفي حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن المؤمن يموت بعرق الجبين} وقد أورده ابن حجر وغيره وسكت عنه, وعرق الجبين قالوا: إنه يتحدر عرقاً من شدة كربه لتكون كفارة, فشدة الموت عليه كفارة, وقد جعلها ابن تيمية من المكفرات العشر التي يكفر بها الذنوب والخطايا, فيشدد عليه سكرات الموت حتى تكفر خطاياه, وبعضهم يقول: إن المؤمن يموت بعرق الجبين، أي: أنه يذهب ويتعب في العبادة والسهر في طاعة الله والصيام, وكأنه عامل يجد بعرق جبينه، وأما ما ذكر الأخ فصحيح, فأما المؤمن فإنه يشدد عليه لتكون كفارة, وكأن آخر سيئاته تكفر تلك اللحظة، وأما الكافر فيشدد عليه خزياً، خزي في سكرات الموت وخزي بعدها ثم خزي في النار والعياذ بالله.
الجواب: هذا الحديث صحيح, فالقبر قد ضم سيد الأوس أبو عمرو سعد بن معاذ الشهيد الأوسي الكبير, رضي الله عنه وأرضاه، الأنصاري أبو عمرو الذي اهتز عرش الرحمن لموته, مات شهيداً وقد أصابه سهم في عزوة الخندق، فقال: [[اللهم إن كنت أبقيت بين الرسول واليهود حرباً فأبقني لها, وإن كنت أنهيت الحرب بين اليهود وبين رسولك صلى الله عليه وسلم فاقبض نفسي إليك]] فثار دمه فمات شهيداً, ولذلك بكى عليه الصلاة والسلام عليه, وذكر الذهبي: أن أبا بكر كان يقول: [[واكسر ظهراه عليك يا سعد]].
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير |
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته بشر كثير |
فلما مات اهتز عرش الرحمن له والحديث حسن, ويقبل الصحة في الشواهد, حتى يقول حسان:
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـسعد أبي عمرو |
ويروى أنه شيعه سبعون ألف ملك، وأنه لما وصل إلى المقبرة ضمه القبر، فقال عليه الصلاة والسلام: {لو نجا أحد من ضمة القبر لنجا منها
قيل: ضمة شوقاً, وقد قال بهذا بعض علماء السنة والله أعلم.
وقيل: ضمه يكون كفارة، ما من أحد إلا وله ذنب, فمن المكفرات ما يجده المؤمن في القبر, وقد ذكر ابن تيمية هذه من المكفرات, فيكون من المكفرات وهو لا ينجو منها أحد، فنسأل الله أن يعيننا, لكن تخفف على المؤمن وقد لا يجد لها ألماً، ونسأل الله أن يعيننا على ضمة القبر وما بعد القبر.
الجواب: تمني الموت من حيث الأصل لا ينبغي ولا يرد, وليس بوارد من حيث الأصل، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسنٌ فلعله أن يزداد إحساناً، وإما مسيء فلعله يستعتب} أي: يتوب, وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {واعلموا أنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً} وصح عنه أنه قال: {خيركم من طال عمره، وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فمن حيث الأصل لا ينبغي للمؤمن أن يتمنى الموت, يقول خباب بن الأرت: {والله لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتمنى الموت لتمنيت الموت} لكن تحدث أمور وطوارئ ومواقف للمؤمن يتمنى فيها الموت, وقد ذكر صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {أنه يأتي المؤمن فيجلس على القبر ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر} كأن تأتي فتنة عظيمة أو يخاف على نفسه من القتل فلا يصبر, أو يخاف من الابتلاء، أو يخاف من بعض الفواحش التي قد تخرجه من الدين أو من المنكرات أو الظلم فيتمنى الموت, وعلى ذلك يحمل كلام عمر لما تمنى الموت: [[اللهم اقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون]] وبعض كلام السلف الصالح.
الجواب: أولاً: على الإنسان أن يصدق مع الله, فإن الله يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] من صدق مع الله صدقه الله.
أتى أعرابي وقال: {يا رسول الله! بايعني، أسلم الأعرابي فأعطاه صلى الله عليه وسلم شيئاً من المال, قال: لا أريد المال, قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن يأتيني سهم طائش يقع هنا ويخرج من هنا, قال: إن تصدق الله يصدقك فأتاه سهم فقتل فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت الله فصدقك الله، صدقت الله فصدقك الله} من يحافظ على الصلوات الخمس فلن يخذله الله, من يتدبر القرآن, ويهجر المعاصي, ويجدد توبته, ويتصدق بالأفعال الصالحة كما قال أبو بكر: [[صنائع المعروف تقي مصارع السوء]] فما أظن -إن شاء الله- أن يساء إلى عبد وقد أحسن إلى الله؛ بل يجازيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالإحسان إحساناً ويثبته.
الجواب: نعم. قد وجد كثرة المزاح عند بعض الشباب، خاصة الذين في سن قبل الزواج، إن كانوا عزاباً واجتمعوا في مكان فيا سبحان الله! يكسرون الأخشاب والأبواب والنوافذ بحجة الحب وقضية أننا نمزح مزحاً مباحاً, وقضية ساعة وساعة, وقضية إن لعينك عليك حقاً, وليدك ورجلك حقاً ومن هذا القبيل..!! وهذا ليس بل بصحيح, المؤمن منضبط في أموره, قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63] فالمؤمن يمزح بوقار ويضحك, ولا بأس من الضحك, أما قول بعضهم: لا تضحك فإن الأمة المجاهدة لا تعرف الضحك, فإن هذا ليس بصحيح, فقد ضحك سيد الخلق صلى الله عليه وسلم, والله يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43].
فالضحك وارد, وقد تبسم عليه الصلاة والسلام وتبسم الصحابة, لكن ليس الضحك الذي يقسي القلب، فقد ورد في حديث: {لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب} وهو حديث حسن من حديث أبي هريرة , حتى إن بعضهم تسمعه -وبينك وبينه أمداً بعيداً- وهو يضحك من كثرة ضحكه, وبعض الناس لا يستطيع أن يتحكم, لكن وصيتي أن يخفف من الضحك ولا يقطع، ولا بأس بالمزح أحياناً بجذب القلوب.
أما الإفراط فيه فإنه يؤدي إلى سلب الوقار، وقسوة القلب، ونسيان العلم، والقرآن، والاشتغال عن المهمات بالتوافه.
نشكركم على استجابتكم وتلبيتكم، ونسأل الله جل وعلا أن ينفعنا جميعاً بما سمعنا، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه, وأن يجمعنا في دار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر