الحمد لله رب العالمين الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
والصلاة والسلام على أشرف هادي، خيرة الحواضر والبوادي، وأفصح من تكلم في النوادي، وأكرم من الغوادي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد..
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، جئت الليلة فقيراً أتكلم إلى فقراء، ومسكيناً أتكلم إلى مساكين، فإن كنا قبلنا بعد هذا الدعاء فهنيئاً لنا ومريئاً لنا وبشرى، وإن كنا طردنا من عند الأبواب فإننا نقف نادمين خاشعين باكين، يقول عمر بن عبد العزيز للناس: [[والله إني لآمركم بتقوى الله، ولا أعلم أحداً أكثر ذنوباً مني]] , ويقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[والله الذي لا إله إلا هو، لو علمتم بما عندي من الذنوب لحثوتم على رأسي التراب]]. ويقول عمر رضي الله عنه: [[يا ليتني كنت شجرة فأعضد، يا ليتني ما توليت الخلافة، يا ليتني ما عرفت الحياة]].
إنها والله حياة مضنية وشاقة ومكلفة إلا لمن عمل صالحاً قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:101-103] , وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31].
قال لـابن عباس وهو في مقتبل العمر، شاب لا يدري ما هي طريق الحياة، في أول الطريق لا يعلم ما الله صانع به، فاختلسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة سانحة نادرة وقال لـابن عباس: (يا غلام.. -فالتفت الغلام واستمع وأنصت- إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء, لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) ما أحسن الحديث، وما أعظم الوصية، وما أجل الخطاب!!
تعالوا معنا -أيها الناس- إلى دعوته صلى الله عليه وسلم وكيف علم أصحابه أن يعرفوا الله في الرخاء ليعرفهم في الشدة، وهذه سنة الله في الخلق: أن من تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة، ولذلك كانت أمنية الصالحين قديماً وحديثاً أنبياء وغير أنبياء أن يحفظهم الله في الشدة.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا |
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافكا |
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
الحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا |
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] لا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما تكسب النفس غداً إلا الله، ولا يعلم بأي أرض تموت النفس إلا الله.
فقال الكذاب الدجال: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تفعل؟ فأخرج محبوسين، وأعتق واحداً قال: هذا أحييته، وقتل واحداً قال: هذا أمته. فسلم له جدلاً وقال: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا |
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان |
رفعوه في المنجنيق، قال بعض أهل العلم: أتى جبريل عليه السلام إلى إبراهيم قال: ألك إلي حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم. فقال وهو يهوي: حسبنا الله ونعم الوكيل. قال ابن عباس في صحيح البخاري: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم لما ألقي في النار فنجاه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل قالها محمد صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174]]]
فهل قال شبابنا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالوا لما أتتهم الهموم والغموم: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالوا لما رأوا المعاصي والفتن ومجريات الحياة والحوادث التي وجدت: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل رأوا الفقر والمرض فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ هل قالولها لما وقف الشيطان لهم بالمرصاد, ورأوا الفتن من أغنية ماجنة، ومجلة خليعة، وفيديو مهدم، ومسلسل مخرب، وجلساء سوء؟ هل قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ وهل قالت فتياتنا ذلك؟ وهل امتثلن هذا الخطاب العظيم وهذه الكلمة العظيمة؟ هل قالت المسلمات المؤمنات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله وهن يرين الفساد ويرين بأم أعينهن ما يتعرض له الإسلام والمسلمون والمسلمات: حسبنا الله ونعم الوكيل؟ يرين الذين يدعون إلى السفور وإلى التبرج وإلى هدم الفضيلة وإلى الفاحشة وإلى الزنا فهل قلن: حسبنا الله ونعم الوكيل لينقلب الجميع بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء؟!!
وقع إبراهيم في النار فكانت برداً وسلاماً، تعرف على الله في الرخاء فعرفه في الشدة.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا |
إن كان عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
جلست تبكي وكان قلبها فارغاً وكادت أن تبدي به فربط الله على قلبها فاستأنست، وأين يذهب موسى الطفل الصغير الذي لا يعرف كيف يأكل أو يشرب أو يتكلم أو يدافع عن نفسه؟ ذهب إلى بستان فرعون من بين سائر البساتين، نهر النيل يدخل في معظم البساتين فترك موسى تلكم البساتين وذهب إلى بستان الطاغية. يقول أحد العلماء من المعاصرين: سبحان الله! مغامرة مكشوفة أمام العين، بل هي حرب مكشوفة! فيدخل في بستانه وتأخذه الجواري، ويضعونه بين يدي الطاغية المجرم صاحب السيف الذي دائماً يسفك الدماء، وأتى ليقتله ويذبحه ذبح الشاة، قالت امرأته آسية عليها السلام المؤمنة الصادقة التي تعرفت على الله في الرخاء فعرفها في الشدة.
يقول أهل العلم: لما عذبها فرعون، حين أن طلبها أن تشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو كفرت به وقالت: لا إله إلا الله، سمر أياديها في الأرض فما وجدت ألماً، ووضعها في الشمس فأتت الملائكة تظللها بأجنحتها!
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني |
وعدا الظلوم علي كي يجتاحني فمنعتني |
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني |
فلما رأت موسى أحبته قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه:39] قال أهل العلم: ما رآك أحد إلا أحبك. فأراد أن يذبحه فقالت: قرة عين لي ولك, اترك الطفل عله أن يكون ولداً لنا؛ لأنهما عقيمان، فقال فرعون: قرة عين لكِ أنتِ أما أنا فلا. قال أهل العلم: لو قال فرعون: قرة عين لي لأقر الله عينه بموسى.
وعاش موسى والله يحفظه؛ لأنه كان من المخلصين، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ودارت الأيام وقتل رجلاً وفر حافياً لا يملك شيئاً، جائعاً، مريضاً، غريباً؛ ولذلك أورد أهل السير: أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وسقى للجاريتين عاد إلى الظل فرفع يديه وبكى وقال: يا رب! أنا مريض، يا رب! أنا غريب، يا رب! أنا جائع، يا رب! أنا فقير، فأوحى الله إليه: يا موسى! المريض من لم أكن أنا طبيبه، والجائع من لم أكن أنا مشبعه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه، والفقير من لم أكن أنا مغنيه رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] فعاد وتزوج ابنة الرجل الصالح، وعاد في قصة طويلة.
هل علم شبابنا بهذا المبدأ؟ هل علم هذا الذين أطلقوا نظرهم إلى الحرام، ونظروا إلى الأجنبيات، وانتهكوا الحرمات، وأغضبوا رب الأرض والسماوات، وأكثروا من الخطيئات؟ هل حاسب شبابنا أنفسهم وهم يتسترون بالمعاصي وراء الجدران ويرتكبون الخطيئات بين الجدران ونسوا الواحد الديان.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
وعاد موسى ووصل وتزوج على كلمة الله حلالاً، حلالاً لا حراماً؛ لأنه حفظ الله وتعرف على الله في الرخاء فعرفه في الشدة.
وأتى إلى الصحراء يهش بعصاه على الغنم، يتوكأ على عصاه في الصحراء، وإذا بالله يناديه إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:14-15] رأى ناراً عليه السلام، فأتى إلى النار ليقتبس منها أو يجد على النار هدى أي: يهديه الطريق، فوجد هداية لجنة عرضها السماوات والأرض، ووجد هداية لحياة أبدية سرمدية، ووجد هداية مع الأنبياء والرسل، ووجد هداية لا إله إلا الله، الدين لله، والمنهج لله، والسماء لله والأرض لله.
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل |
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل |
فذهب وفي الطريق علمه الله أدب الدعوة يقول: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] , ولو أنه سفاك ومجرم ووثني، وزنديق، وملحد، ولو أنه داس التاريخ تحت قدميه لكن لا تنسيا أن الدعوة لها أسلوب، وأن الدعوة لها أصول ولها قواعد ولها نتائج، وهذا درس لدعاة الإسلام أن يستخدموا اللين فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:45].
وقف رجل من الأعراب أمام هارون الرشيد الخليفة العباسي وقال: اسمع مني فإن عندي كلاماً شديداً سوف أقوله لك. قال هارون الرشيد: والله لا أسمع، والله لا أسمع، والله لا أسمع. قال: ولمَ؟ قال: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:46].
ووصل موسى وتذكر الخوف، وتذكر السياط الحامية عند المجرم، تذكر السيوف التي تقطف الرءوس وحمامات الدم، وتذكر الزنزانات والسجون، وتذكر الحديد والنار والإرهاب؛ فالتفت بطرفه إلى السماء وقال: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] سبحان الله! قال عز من قائل: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
تعرف على الله في الرحاء يعرفك في الشدة، وانتصر في الحوار، ونزل إلى الميدان وحيداً فريداً معه العصا.
فلما ألقوا العصي وتحركت الميادين أوجس في نفسه خيفة موسى، فأتى الخطاب من الله لمن عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة قال: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69] فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67].
كيف يخاف من الله معه؟! وكيف يخاف من الله ركنه؟! وكيف يخاف من الله ينصره ويعاونه؟!
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
فيأتي الرجل الذي عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة ليقول: قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] كلا. أنا أعرف الله في الرخاء يعرفني في الشدة، كلا. لن أهزم اليوم؛ لأني حفظت الله في الرخاء، حفظت سمعي وبصري، وحفظت قلبي وبطني، حفظت يدي وفرجي، وحفظت إرادتي، وحفظت رجلي:
لعمرك ما مديت كفي لريبة وما حملتني نحو فاحشة رجلي |
ولا دلني فكري ولا نظري لها ولا قادني فكري إليها ولا عقلي |
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي |
فتضايق بين الجيش وبين البحر، فأوحى الله إليه أن اضرب البحر، عصاً قصيرة وقلة بصيرة ولكن الله هو المدبر، فضرب البحر فانفلق اثنتي عشرة طريقاً، فسلك الطريق، ونجاه الله، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
وأتى الذي ضيع الله في الرخاء فرعون المجرم السكير العربيد الدجال الذي ضيع الله في الرخاء أتى ليجرب في الشدة، مثل ما يفعل كثير من الشباب، ومثل ما يفعل كثير من الناس، وقت الرخاء لعب وغناء ومجلة خليعة وتخلف عن الصلوات الخمس، وجلسات تغضب المولى، جلسات حمراء، وساعات أليمة مظلمة، تخلف عن الصلاة، هجر للمسجد، إدبار عن تدبر القرآن، قسوة قلوب، كذب، عقوق، وقطيعة رحم، ثم يأتون ليجربوا حظوظهم في الشدة، إذا أصيب أحدهم بحادث انقلاب أو صدام أو مرض عضال، وجيء به فوق السرير الأبيض قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].
فأتى الدجال فرعون فلما امتلأ بطنه طيناً وأصبح يغرغر كالضفدع في الماء قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90].
فيقول الله له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] تؤمن الآن؟ أما تعرف أن من يعرف الله في الرخاء يعرفه في الشدة؟ ما هذه التوبة؟ إذا بلغت الروح الحلقوم قلنا: تبنا! إذا تكسرت ظهورنا وأصبحنا على الأسرة البيضاء في المستشفيات قلنا: تبنا! إذا كسرت رءوسنا تحت عجلات السيارات قلنا: تبنا! إذا أصابنا داء عضال وأصبحنا نستنشق الماء قلنا: تبنا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] لا.
خرج عليه السلام مغاضباً، وركب في السفينة، ولما أصبح في البحر استهموا فوقع السهم عليه فدحرجوه من السفينة، في ظلمة الليل وفي ظلمة البحر وفي ظلمة الحوت، ظلمات ثلاث: ظلمة ليل لا يلوح فيه إلا نجم غائر، وظلمة بحر أمواجه كالجبال، وظلمة حوت ابتلعه حتى أصبح في بطن الحوت، ولك أن تتصور المشهد! فمن يدعو؟ وإلى من يشكو حاله؟ ومن يسأل؟ وإلى من يبدي فقره وحاجته؟ لا صديق، ولا صاحب، ولا أهل، ولا زوجة، ولا ناصر إلا الله؛ فقال في ظلمة الليل وظلمات البحر وظلمات الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. قال أهل التفسير: سمعت الملائكة هذه الكلمة فبكت وقالت: يا رب! صوت معروف من عبد معروف. فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] متى؟ في وقت الرخاء، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:144].
زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، سبحان الله! وغلقت الأبواب إنها مَلِكة! وهو لا يخاف أن يؤتى من جانبها؛ لأنها تأمر وتنهى، والأمر الثاني: جميلة وهي لذلك أدعى وأشهى، والأمر الثالث: أنه في قصرها وليس في بيته، والأمر الرابع: أنه شاب، والأمر الخامس: أنه أعزب، ولم يكن متزوجاً ليعود إلى حلال، والأمر السادس: أنه ليس من أهل مصر ولو كان من أهل مصر لاستحى من سمعته ومن شهرته ومن صيته، لكنه غريب، والغريب لا يوجل ولا يتحرج كما يتحرج القريب، والأمر السابع: أنها هي التي دعت، والأمر الثامن: أنها غلقت الأبواب، والأمر التاسع: أنه ليس معها أحد من الناس ولكن نسيت رب الناس، وقال بعضهم: إن الأمر العاشر أنه جميل، فإنه أوتي شطر الجمال، جمال الناس.
قالت: هيت لك. قال: معاذ الله!
سلام عليك يا يوسف وهنيئاً لك وبشرى لعينيك! هل قال شبابنا وشاباتنا وفتياننا وفتياتنا لما رأوا الحرام قالوا: معاذ الله؟ يا من نظر إلى الفتاة الجميلة وغض بصره وقال: معاذ الله! هنيئاً لك، يا من رأى المجلة الخليعة فقاطعها وقال: معاذ الله! يا من سمع نغمة ماجنة فتاب وقال: معاذ الله! يا من دعاه جلساء السوء لهجر المساجد وللإدبار عن القرآن فقال: معاذ الله! هنيئاً لك.
وأنت -أيتها الفتاة- هنيئاً لك يوم قلت في حياتك: معاذ الله، معاذ الله من أخدان السوء وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [النساء:25] معاذ الله من معاكسات الهاتف، ومن التجرم والتفسخ في الهاتف، معاذ الله من خلع الحجاب، معاذ الله من السفور، معاذ الله من الرفقة السيئة، معاذ الله من الخلوة المحرمة، فهنيئاً لك وسلام عليك يوم تلقين الله.
فأنجاه الله؛ لماذا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأصبح من نجاح إلى نجاح، ومن اتصال إلى اتصال، ومن قرب إلى قرب، حتى ملكه الله مصر وقال في آخر المطاف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].
أنا أذكر بعض الأمثلة من تاريخنا القريب:
فغضب عليهم هارون الرشيد غضبة؛ لأنهم ما عرفوا الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة، فأخذ أكبرهم الذي علمهم المعصية يحيى بن خالد البرمكي , فأنزله في السجن سبع سنوات حتى طالت لحيته وأظفاره وشعره وحاجباه وطال شاربه، وطال كل شيء فيه حتى أصبح يقول: لا أنا في الدنيا ولا أنا في الآخرة.!! ما رأى الشمس سبع سنوات، قال له بعض الناس لما دخلوا يزورونه: ما لك؟ قال: ما عرفت الله في الرخاء فلم يعرفني في الشدة، وقال في رواية عنه: أتدرون لماذا أصابني الله بهذه المصيبة؟ قالوا: ما ندري؟ قال: دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها.
فيا من تمهل في الرخاء، ويا من قاطع المساجد والصلوات الخمس: اعلم أن معنى حفظ الله في الرخاء معناه الحفظ في الشدة.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البجلي: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من طلبه أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار} كيف يحفظ الله؟ كيف يَرعى حدود الله؟ كيف يتعرف على الله في الرخاء من لم يصل الصلوات الخمس أو من أخرها عن أوقاتها أو من أسرف في تضييعها أو من تلاعب بها قدمها مرة وأخرها مرة أخرى؟
البرامكة قتل منهم هارون الرشيد مقتلة عظيمة، وأهانهم إهانة ما سمع في التاريخ بمثلها، وأنزلهم منازل الإذلال والقهر والبكاء والندم والحسرة وجعلهم يسبحون في دمائهم؛ لماذا؟ لأنهم ما تعرفوا على الله في الرخاء فلم يعرفهم في الشدة.
لقد أنست محاسن كل حسن محاسن أحمد بن أبي دؤاد |
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي |
حرش على الإمام أحمد، وأغرى على الخليفة المعتصم بجلد الإمام أحمد؛ فدعا عليه الإمام أحمد، الإمام أحمد عرف الله في الرخاء فعرفه في الشدة، وأحمد بن أبي دؤاد ضيع الله في الرخاء فضيعه الله في الشدة، فقال الإمام أحمد: اللهم احبسه في جلده، اللهم عذبه قبل موته؛ فاستجاب الله للإمام أحمد فتعذب أحمد بن أبي دؤاد قيل: أصيب بالفالج كما قال الذهبي، وزاره بعض الناس من تلاميذ أحمد وقالوا: والله ما زرناك لنعودك ولكن زرناك شامتين، الحمد لله الذي عذبك في جسمك، الحمد لله الذي حبسك في أعضائك، فكيف تجد حالك؟ قال: أما نصفي فوالله لو وقع عليه الذباب فكأن القيامة قامت، وأما النصف الآخر فوالله لو قرض بالمقاريض ما أحسست به.
مات أحمد بن أبي دؤاد قال ابن كثير والذهبي وابن الأثير: شيع جنازة أحمد بن أبي دؤاد ثلاثة، ثلاثة بعد الدنيا، بعد الوزارة، بعد أن كان يسمى قاضي القضاة، بعد الذهب والفضة؛ لأنه ما تعرف على الله في الرخاء فلم يعرفه في الشدة.
وأما الإمام أحمد كلكم يدري كم شيع جنازته، مع أنه فقير، مسكين، لكنه مع العلم، والقرآن، ومع صلاة الليل، والذكر، والعبادة، قيل: يحفظ ألف ألف حديث. قال الذهبي: بالمرسلات والمقطوعات والموقوفات وفتاوى الصحابة، يحمل الحطب في السوق، فيأتي وزراء بني العباس وقالوا: نحمل عنك الحطب؟ قال: لا. نحن قوم مساكين لولا ستر الله افتضحنا!
يقول ابنه عبد الله فيما صح عنه: كان أبي يصلي غير الفرائض ثلاثمائة ركعة. ذكرها صاحب تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء والبداية والنهاية وكل من ترجم عن الإمام أحمد، ثلاثمائة ركعة غير الفرائض!! لماذا؟ لأنه تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
أين قوتنا يا شباب الإسلام؟! أين عضلاتنا؟! أين شبابنا وصحتنا لماذا لم تستخدم في الطاعة؟! جاءه رجل فقال الإمام أحمد: أتحفظ شيئاً من الشعر؟ قال: نعم, قال: ماذا تحفظ؟ قال: قول الشاعر
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
فقام يبكي الإمام أحمد حتى سمع نحيبه.
قال المؤرخون: شيعه ثمانمائة ألف، خرجت بغداد العاصمة دار السلام عن بكرة أبيها، خرج جنود المتوكل، الجيش، الكتائب، الناس، الباعة، طلبة العلم، الحائكون، الخياطون، الصباغون، خرجت المدينة حتى قال بعضهم: وخرج بعض اليهود والنصارى!! بكت المدينة
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر |
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر |
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ودفن الإمام أحمد وما زال ذكره في الذاكرين، وما زال اسمه في الخالدين، وما زال رسمه مع طلبة العلم والمتعلمين، يقرأ في الكتب، ويناقش في المجالس، وتدوي بصوته المنابر وتسمع به الإذاعات والصحف، إمام أهل السنة والجماعة سلام عليه في الخالدين. تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
وأبناء سليمان بن عبد الملك لما حضرته الوفاة أعطاهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة فأصبحوا بعد طول العهد شحاذين يسألون الناس في المساجد؛ لماذا؟ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
ومن هذا المنطلق -يا عباد الله- ينبغي لنا أن نقف طويلاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: {تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} تعرف عليه في وقت الصحة أن تصرفها في مرضاة المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتعرف عليه وقت الفراغ، الفراغ القاتل، الفراغ الضائع الذي ضيع كثيراً من الشباب، لا قرآن، ولا تلاوة، ولا طلب علم، ولا استغفار، ولا جلوس مع الصالحين ولا الدعاة، وإنما ضياء في ضياع أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] ولذلك علم أن من تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة.
قال أهل التاريخ: خرج عبد الله بن المبارك بتجارة من خراسان وخرج بقافلة من الحجاج يريد مكة ليحج، وكل أهل خراسان على نفقته، فقد كان تاجراً ينفق أمواله في سبيل الله، فلما أصبح في الطريق عند الكوفة خرجت امرأة فوجدت غراباً ميتاً في مزبلة, فأخذت الغراب ودخلت بيتها فقال لمولاه: اذهب فاسأل المرأة ما لها أخذت الغراب؟ فسألها فقالت: والله مالنا طعام منذ ثلاثة أيام إلا ما يلقى في هذه المزبلة. فدمعت عيناه وقال: نأكل الفالوذج وهم يأكلون الغربان الميتة، اصرفوا القافلة جميعاً في أهل هذه المدينة، مدينة الكوفة، وعودوا فلا حج لنا هذه السنة. وعاد إلى خراسان.
وذكروا عنه أنه رأى في المنام رجلاً يقول له: حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور. أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
حضرت الوفاة ابن المبارك وهو في سكرات الموت يتبسم، من يتبسم في سكرات الموت؟ الذي يعرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة، من يسر في سكرات الموت وضيق الموت؟ الذي عرف الله في الرخاء ليعرفه في الشدة، يبتسم ويقول: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] وذهب إلى الله سعيداً؛ لأنه عرف الله في الرخاء فعرفه في الشدة.
يقول أهل العلم: حج ابن هبيرة فلما أصبح في منى وحجه هو والناس على نفقته وعلى ماله, قحط الناس وأجدب الناس وأشرفوا على الهلاك؛ لأنهم ما عندهم ماء، فصلى ركعتين ودعا الله فأتت غمامة بإذن الله فنزلت وهلت وأمطرت حتى شربوا الثلج ذاك اليوم. فيقول وهو يبكي: يا ليتني سألت الله المغفرة.. تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة.
إذاً وصيته عليه الصلاة والسلام بل من أعظم وصاياه: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) والله لقد أدرك أهل المال أن لا لذة لهم ولا سعادة إلا بتقوى الله، والله لقد سكنوا القصور وعمروا الدور واصطحبوا السيارات الفاخرة وتقلدوا المناصب لكن لما ضيعوا الله ضاعوا والله, وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126] ألا إنها وصيته عليه الصلاة والسلام، ألا إنها دعوته عليه الصلاة والسلام: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ويا شباب الإسلام ويا حملة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. نعيش رخاء والله، رخاء يمثل في الأمن والاستقرار وبرد العيش، ويمثل في السكينة، ويمثل فيما كل ما سألنا وما طلبنا من الله أجابنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فنعوذ بالله أن نغير نعمة الله كفراً، وأن نتنكر لمعروف الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم:28] ألم تروا إلى الذين هجروا بيوت الله وهجروا كتاب الله، وهجروا شعائر الله، وأخذوا ما يغضب الله ويسخطه؟ ألم تروا ما فعلوا بأنفسهم؟ ألم تروا كيف يلعبون بالنار؟ وكيف يسعون إلى الدمار؟ وكيف لا يخشون الواحد القهار؟ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم:28] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112] سكنوا وارتاحوا وأكلوا وشربوا لكن انتهكوا المحرمات وأكثروا من السيئات فغضب عليهم رب الأرض والسماوات فأخذهم أخذ عزيز مقتدر وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا |
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا |
أسأل الله لي ولكم حفظاً وهدايةً وسداداً، اللهم اجعلنا من المقبولين الذين رضيت عنهم ورضوا عنك، اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: الحمد لله، هذا الأخ السائل يظهر عليه الخير من سؤاله، أثابه الله وأجزل مثوبته، أما بالنسبة لحالته فهذه تسمى الفترة بعد الشرة، أو تسمى الإقبال والإدبار، ولا يسلم منها أحد، وقد صح عن بعض السلف أنه قال: إن للنفوس إقبالاً ولها إدباراً، فاغتنموها عند إقبالها وذروها عند إدبارها.
وبعض السلف يقول: إذا أقبلت أنفسكم فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض، فوصيتي لأخي أن يلزم نفسه إذا أدبرت وكلت وملت بالفرائض، فلا يخدش باب الفرائض، ولا يسيء بأي إساءة إلى الفرائض، ولتبق الفرائض آخر خط دفاع له، وإذا أقبلت نفسه أن يتزود بالنوافل وأن يكثر من الذكر وتلاوة القرآن.
وللفتور أسباب: منها توالي المعاصي
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها |
فالمعاصي على المعاصي فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].
الأمر الثاني: رفقة السوء؛ وما أدراك ما عصابة السوء! عصابة تجمعت للصد عن سبيل الله، وللوقوف في طرق رسول الله وأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، عصابة وشلة أخرجت الناس من المساجد إلى السجون، وأخرجتهم من الصلوات والذكر والتلاوة إلى المخدرات والسيئات والفواحش والمنكرات، عصابة حببت المجلة الخليعة وجعلتها مكان القرآن، عصابة أتت بشباب الإسلام لتسمعهم الأغنية بدلاً من سماع التلاوة (السماع الشرعي) فوصيتي لأخي أن يتقي الله، وأن يصدق النية وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] وأن يواصل الطاعة بالطاعة، وأن يزور الأخيار ويجتنب الأشرار وأن يتدبر القرآن، وأن يزور المقابر ويذكر الموت، نسأل الله أن يحفظنا وإياه من كل سوء.
الجواب: الإخوان المجاهدون الأفغان قوم رفعوا رأس العالم الإسلامي، قوم أمجاد أعزة، قوم علموا المستعمر والأجنبي الذلة، وعلموه أن النصر لهذا الدين, وأن المستقبل لهذا الدين، قوم نقف معهم مسلِّمين، ونقف معهم معجبين، ونقف معهم داعين لهم بالنصر والثبات.
الجهاد الأفغاني لم ينته بعد، هو في أتون شدته وعنفوان اضطرامه، هم الآن يعيشون في جبهات وعلى ثغور، هم في رباط الله أعلم به؛ ولذلك ينبغي علينا في هذه الليالي أن نكثر من الدعاء لهم؛ لأنهم يضربون من الجو ومن الأرض، وهم يعيشون في معركة من أعتى المعارك، فنسأل الله أن ينصرهم وأن يثبت أقدامهم، وأن ينزل السكينة عليهم، وأن يوفقهم بنصر من عنده إنه على كل شيء قدير.
وإخواننا في بلاد الأفغان لا يزالون يواصلون الزحف المقدس الذي رايته: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وبالمناسبة لابد أن نكون شاكرين لأهل الفضل، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والذي يجحد المعروف لا خير فيه، فنشكر ولاة الأمور في هذه البلاد على أن اعترفوا بحكومتهم وهم أول دولة في العالم اعترفت بحكومة المجاهدين، وهذا أمر يثلج الصدر ويبشر بالخير، فشكر الله لهم اعترافهم، وبارك الله في قرارهم، وزادهم ثباتاً ونصرةً لهذا الدين، ونصرهم الله بالإسلام ونصر الإسلام بهم.
ثم إن الإخوة المجاهدين يحتاجون إلى تبرعات، وإلى مد يد العون، وإمام هذا المسجد يتلقى التبرعات من المحسنين والمخلصين ومن المنفقين في سبيل الله، وفي هذا التبرع الذي يقدم للمجاهدين شيء وقسط منه للفقراء والمساكين، فحيهلاً بالهمم وبالأيادي البيضاء وبالعطايا وبالإنفاق في سبيل الله، وهذا شهر الصدقة، وهذا شهر البذل والعطاء، فأنفقوا ينفق عليكم، وأعطوا يخلف عليكم، وتوكلوا على الله: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
الله أعطاك فابذل من عطيته فالمال عارية والعمر رحال |
المال كالماء إن تحبس سواقيه يأسن وإن يجر يعذب منه سلسال |
ومنها الزكاة تصرف إليهم كما أفتى بذلك علماؤنا.
الجواب: أما الفراغ الذي يعيشه كثير من الشباب في رمضان وغير رمضان فهذه مأساة عامة، مأساة عامة في العالم الإسلامي إلا من رحم ربك، شباب مستقيم ومتجه، نحن لا نتكلم عن الضائع، الضائع المفلوت من الصلاة المفلوت من القرآن المفلوت من السنة هذا لا يتكلم فيه
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار |
لكن نتكلم عن شباب الصحوة، المقبلين على الله والتائبين إلى الله أين تصرف أوقاتهم؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] فوصيتي لإخواني أن يستثمروا أوقاتهم، الدقائق محسوبة، صح في الحديث: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه}:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني |
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني |
يا إخوتي في الله: كم سلبت منا الساعات؟ كم ضاعت منا الأوقات؟! كم أكثرنا من المخالفات والسيئات؟! فهل آن لنا العودة في استثمار الأوقات؟! ظواهر: كثرة الزيارة بين الشباب على غير جدول عمل وعلى غير تلاوة وعلى غير طاعة، أزورك وتزورني، وأحبك وتحبني، وأتعشى عندك وتتعشى عندي، لكن حديثنا في مجريات الحياة وأخبار ونكت ومزاح لا تحصيل، هذه لا تبشر بخير.
الأمر الثاني: نوم طويل؛ بعض الناس جعل نهار رمضان نوماً، فهو يرى أنه يرى في المنام أنه صائم، يرى في المنام أنه يرى سبع بقرات سمان وأخرى عجافاً، ويرى أنه صائم، ثم يستيقظ وقت الغروب لا أحس بالجوع ولا أحس بالظمأ ولا تدبر القرآن ولا ذكر الله، فهل سمعتم بإنسان يصوم وهو نائم؟! وسهر في ظلام الليل، من صلاة التراويح إلى السحر، إما كرة ودائماً كرة كرة، أو رحلة ونزهة لا طائل من ورائها، أو جلسة لا يحمد ما يدار فيها، فوصيتي لإخواني أن يعتبروا كل ثانية تصرف من أوقاتهم، فهي عمرك فافعل به ما شئت.
الجواب: نعم. السهام التي تسري في ظلام الليل هو دعاء السحر، سئل علي بن أبي طالب فيما يروى عنه [[كم بين العرش والأرض؟ قال: دعوة مستجابة]] وصح في الحديث {أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟}
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار |
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار |
دعاء الثلث الأخير من الليل، دعاء السحر، في السجود، في أدبار الصلوات سلاح للمسلم، إذا فاته الدعاء فاته خير كثير وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] فيا إخوتي في الله, الله الله في الدعاء، وورد في الحديث {لن يهلك مع الدعاء أحد} وقال عمر: [[إني لا أحمل هم الإجابة إنما أحمل هم الدعاء]].
وعند الترمذي من حديث سلمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً} اللهم فوفقنا واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات والنور وانصرنا على من ظلمنا وعلى من بغى علينا، ومن أرادنا بسوء ومن أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره في تدميره إنك على كل شيء قدير.
الجواب: سبق في الحديث عن الوقت ما يغني عن الكثير من الإجابة عن هذا السؤال، وأما الرخاء الذي نعيش فيه فنحمد الله تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] جيراننا من الدول والشعوب ينامون على أصوات المدافع، ويستيقظون على هدير الصواريخ، القنابل تقع على بيوتهم، حطمت منازلهم، قتل شيوخهم، أعدم أطفالهم، أجهضت نساؤهم، ذاقوا الجفاف، ذاقوا الفيضانات، ذاقوا الجوع، ونحن في أمن وسكينة تجبى إلينا ثمرات كل شيء، والطيبات تأتينا من كل مكان، فهل من شاكر؟ وهل من مستغفر؟ إن استدامة النعم إنما تكون بتقوى الله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] فهل من شكر؟ وهل من عبادة؟ وهل من استلهام لهذا الرشد؟ فمحافظة على هذا الرخاء والنعيم بالعودة إلى الله واستثمار الوقت.
والملاحظ على كثير من الشباب إشغال أنفسهم بأمور هامشية ومجريات الحياة، أو مشاغل لا تنفعهم عند الله، والإعراض عن طلب العلم أو تدبر القرآن أو النوافل فعودة صادقة إلى الدين، ومن تبصر بنور الكتاب والسنة بصره الله.
الجواب: الأسواق مجامع يجتمع فيها لغير طائل أهل الريبة الذين ليس لهم غرض, أهل الريبة وسوء الأخلاق ومن في قلوبهم شك ونفاق، وأصبحت الأسواق ظاهرة من ظواهر التفسخ والتبرج وقلة المروءة والحياء، والتطاول على تعاليم هذا الدين، وأصبحت كثير من الأسواق فرصةً لدعاة الشيطان ودعاة السوء في أن يمزجوا بين الصنفين الرجال والنساء، وهناك نساء قل الإيمان ووازع الإيمان في قلوبهن وقل أثر القرآن والتربية الإسلامية فجعلت من السوق متفسخاً لها، تفسخ جلبابها وحياءها وستر الله عنها، فنحن نسائلها من هذا المكان أن تتقي الله، وألا تخلو مع أجنبي، فإن الخلوة معه معصية ومحرم.
وأشير إلى ناحية أنه وجد من بعض النساء أنها تذهب مع السائق ولو كانت صالحة وعابدة، ولو كانت تذهب إلى المسجد، ولو كانت تذهب لصلاة التراويح فيستقل بها السائق الأجنبي وتظن لأنه سائق أنه لا يتحرك فيه شيء.
ما دام رجلاً، فعنده ما عند الرجال وهو أجنبي، هل إذا كان سائقاً يحل منه ما يحرم من غيره؟! لا والله، فخلوتها معه في السيارة لا تجوز، وهو محرم عليها، ويمكن أن الإثم الذي حصل لها من خلوتها مع السائق إلى المسجد, أعظم من الأجر الذي قد يحصل لها من صلاة التراويح والتباكي مع الإمام، لا. عليها أن تنتبه لنفسها! وأن تتقي الله في عرضها، وفي دينها وفي رسالتها.
الجواب: في هذا السؤال مسألتان، وأبدأ بالمسألة الأخيرة التي أعتبرها الأولى بالنسبة لي:
المسألة الأولى: وهي أن السائل كأنه يزكي نفسه، يقول: أنه لا يرتكب المعاصي أو أنه ليس عنده شيء من المعاصي فيما يعلم، وهذه تزكية والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] كلنا مخطئون، وأبونا آدم سن لنا الخطيئة فقلدناه، وتاب فينبغي أن نقلده في التوبة، ومن شابه أباه فما ظلم، فعليك أن تعرف أن عندك ذنوب، وأنك ما طهرت ولا طهرنا من الذنوب والخطايا {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} ولو من الصغائر.
الأمر الثاني: نعم ذكرت أن من أسباب النسيان المعاصي لكتاب الله ولغيره من العلم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 13] والحظ الذي ذكروا به قالوا هو العلم، وفي بعض الآثار: [[إن العبد ينسى الباب من العلم بالذنب يصيبه]] ونظر بعض الناس إلى امرأة لا تحل له، قال له أحد الصالحين: تنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبها وعقوبتها ولو بعد حين قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
شكا الشافعي إلى وكيع سوء حفظه، عله أن يجد مأكولاً يقوي حفظه وقد روي عن الزهري أنه قال: جربت المأكولات فما وجدت كالزبيب للحفظ. فأتى الشافعي إلى وكيع بن الجراح الرؤاسي فسأله ما هو دواء سوء الحفظ؟ قال: ترك المعاصي.
لا أكل الزبيب ولا البطاطس ولا البقدونس، إنما تقوى الله واجتناب المعاصي، فيقول في بيتين:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي |
وبعض الناس تجده ولياً عابداً خاشعاً زاهداً تالياً لكتاب الله لا يعرف كثيراً من المعاصي لكن لا يحفظ آية، ربما ينسى اسمه الثلاثي، يتحفظه في الصباح وينساه مع الظهر، فما الحل؟ نقول: هذه جبلة، فإن بعض الناس فيه جبلة عجيبة، ينسى كل شيء، حتى يروى عن بعضهم أنه: طلب العلم ما يقارب عشر سنوات، فأخذ سطرين يكررها من صلاة العشاء إلى قرب الفجر ثم نام، فاستيقظ في الصباح وقال للجارية: أتذكرين السطرين الذين كنت أكرر في البارحة؟ قالت: هي كيت وكيت. قال: ألهمك الله الشهادة ذكرتني العلم.
فبعض الناس، قد لا يحفظ الفاتحة وهو وراء الإمام أربعين سنة؛ والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يقسم الذكاء ويقسم العي، وهذا لا يعني أنه باخس الحظ مع الله, بل قد يكون من الأولياء الكبار.
ابن الراوندي الملحد الذي سماه الذهبي الكلب المعفر, كان من أذكياء الناس، قال: كان ذكياً ولم يكن زكياً؛ كلب معفر، هاجم الإسلام، هاجم السنة، ملحد، زنديق، وقف على نهر دجلة عنده كسرة خبز يأكلها وهو فيلسوف، وكم حسب علينا من فلاسفة! ابن سيناء، والفارابي، وابن الريوندي حسبوا علينا ونحن منهم براء، وهم منا براء.
وقف ابن الراوندي يأكل كسرة خبز، فمر مولى من الموالي معه خيول ومعه تاج ومعه ذهب ومعه أموال، فالتفت إلى السماء وقال: أنا الفيلسوف الذكي تعطيني كسرة وتعطي الخادم هذه الخيول! هذه قسمة ضيزى! ثم رمى الكسرة في النهر. ولذلك سخط الله عز وجل عليه.
ولما مدحه ابن خلكان قال ابن كثير: ترجم له ابن خلكان ومدحه؛ لأنه شاعر وذكي، وكأن الكلب ما أكل له عجيناً!
ومن الأذكياء أيضاً أبو العلاء المعري كان من أذكياء الناس، لكنه زنديق فيما يؤثر عنه إلا أن يكون تاب، وتجد بعض الصالحين لا يحفظون كثيراً من الحديث، إذاً -يا أخي- ليست العبرة بالحفظ، حتى يقول الذهبي في ترجمة ابن الرواندي: فحيا الله البلادة بالتقوى! ولعن الله الذكاء بالزندقة!
الجواب: ما ذكره السائل من هذه المشاهد والظواهر موجود في كثير من المجتمعات، وهناك قبائل كأنهم يعيشون بمعزل عن العالم، كأنهم في أرض والناس في أرض، يأتي شاعرهم فيمدح قبيلته، وكأنها هي التي انتصرت في بدر واليرموك , ورفعت راية لا إله إلا الله في القادسية، وقدمت الشهداء، وإذا رجعت إلى تاريخ هذه القبيلة تجده لا يساوي ريالين أو قرشين، ما عندهم شيء سوى الأكل والشرب وتزوجوا ودخل فلان على فلان فزاره في بيته وأكرمه وذبح له ناقة، ونحن فعلنا وصبحنا القبيلة وذبحناها! مسلمون يذبحون مسلمين! ويتهتكون في أعراض المسلمين، هؤلاء مثلهم كما قال ابن تيمية: كصوفي أعمى يقرأ وهو أعمى القلب والبصر ومن غلاة الصوفية، ويقرأ في سورة النحل: فخر عليهم السقف من تحتهم. قال ابن تيمية: لا عقل ولا قرآن! لأن السقف دائماً يأتي من فوق، هل سمعتم بسقف أسفل؟! لو لم يكن معك قرآن فعلى الأقل معك عقل تعرف أن السقف دائماً فوق فقال ابن تيمية: لا عقل ولا قرآن، فبعض القبائل لا عقل ولا قرآن، لا دين ولا رسالة في الحياة، ولا تواصي بالمعروف.
وواجب الدعاة أن يفهموا هؤلاء وأن يعايشوهم وأن يوصلوا كلمة النور والهداية إليهم.
أما اجتماعهم ففيه محاذير: المحذور الأول: يوجد في بعض القبائل -وأعرف ذلك علم اليقين- اختلاط بين الرجال والنساء، يقف مجموعة -خاصة في البوادي- من النساء ينظرن إلى الرجال، والرجال ينظرون إلى النساء، بل من العجيب أنه وجد في بعض النواحي أن يأتي صف من الرجال وصف من النساء.. هذا لا يوجد إلا في موسكو أو في باريس.
والمحذور الثاني: شعراء ضلالة، يدعون إلى أبواب النار، يمدح هذه القبيلة ويقترف إثماً وزوراً وبهتاناً في عرض قبيلة أخرى، فيصفهم بالبخل وبالجبن وبالخيانة وبالغدر وبالكذب.
والمحذور الثالث: مبالغ تصرف في غير طائل؛ رياءً وسمعةً وبذخاً، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:47] لو صرفت هذه الأموال في تحفيظ القرآن أو في بناء مساجد أو في شراء كتب وأشرطة إسلامية للمسلمين لكانت عند الله شيئاً كثيراً.
فهذه ثلاثة محاذير أنبه عليها وهي محرمة.
الجواب: السنة في تطبيق السنة، أن يكون التطبيق وفق سنة الله، بين الإفراط والتفريط، بين الجفاة والغلاة، وسنة الله وسط كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] والسنن -يا إخوتي في الله- لابد أن تعطى حقها، فإن الناس انقسموا إلى ثلاثة أقسام: قسم أتى إلى مثل هذه السنن مثل اللحى وتقصير الثياب والسواك والأكل باليمين والشرب باليمين وتقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند دخول الخلاء وقالوا: هذه قشور، والإسلام دين لباب. فيذهب بالقشور وبالقشور حتى ما يبقي سنة واحدة في الإسلام. تقول له: قيام الليل، فيقول: المسألة ليست مسألة قيام الليل، تقول له: طلب العلم فيقول: المسألة ليست مسألة طلب العلم، المسألة مسألة دين.
فما هو الدين؟ فيقول: هذه السنن قشور، ونحن ندعو إلى الأصول، وعلينا أن نعرف الناس بهذا. فيقللون من شأنها حتى سمعت من بعض الدعاة أنه سمع داعية يقول: ينبغي على بعض الدعاة أن يحلقوا لحاهم حتى لا يشعروا الناس بالتزمت ولا بالتشدد وليقبلهم المجتمع. سبحان الله! هذا مثل اليهود حرم الله عليهم شحوم الحيوانات فجملوه وباعوه وأذابوه وأكلوا ثمنه، وهذا خطأ فاحش فلا يدعى إلى الله بمعصية.
وقوم تشددوا في هذا الجانب، فرأوا أن الإسلام هو هذا الثوب، وهذه اللحية، حتى سمعت أن بعض الناس مر به خواجة فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، انظر إلى العاصي، عاصي جددته حلق لحيته!
خواجة لا يعرف لا إله إلا الله ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ثم ينكر عليه حلق لحيته!
وتجد بعض الدعاة يتكلم قبل الظهر وبعد الظهر وفي المناسبات وفي المجالس عن تقصير الثياب، وربما الذين يتكلم فيهم زنادقة، أو فيهم نفاق، أو لا يصلون، أو لا يصومون، أو يرتكبون من الفواحش مثل الجبال وتوسط قوم ممن هدى الله فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] فقالوا: هذه السنن أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ننكرها ولا نجحدها ولا نقول: قشور، لكن نعطيها حجمها، فالذي أتى باللحية هو الذي أتى بلا إله إلا الله، والذي أتى بتقصير الثوب هو الذي أتى بالإيمان بالله واليوم الآخر، فعلينا أن نعطيها حجمها، لكن لا نغلو ولا نلغي، لا نغلو فيها ولا نلغيها، وهذا الدين الوسط وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143].
الجواب: هذا السؤال ينبغي أن يتأمل فيه كثيراً وأن يحال على هيئة كبار العلماء ليجيبوا عنه؛ لأن وراءه مجريات وأسباب ونتائج عن الموسيقى وعن حكمها وعما يستدر منها، والذي أعلم أن الموسيقى محرمة، وأنها لم تكن عند السلف الصالح، وأنها من المعازف المحرمة، أما دخله فعليه أن يحيل المسألة على الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لأنه أعرف وأفهم، لأن هذا السؤال ينبغي أن يكون شفهياً ولا يحتاج إلى كتابة.
في نهاية هذه المحاضرة نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما نقول، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر