ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا ممع الأبرار.
أمَّا بَعْد:
أيها الجمع الكريم! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لا يزال العبد المسلم يجدد إيمانه في مجالس العلم، كلما جلس مجلساً غفر الله له ذنبه، ورفع عنه كربه، ورفع درجته عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وتجديد الإيمان إنما يحصل بمدارسة الكتاب والسنة التي أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الجلسة المباركة -بإذن الله- العطرة بحديث حبيب الله، التي تَتَضَوَّع مسكاً -إن شاء الله- بما قدمه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام للبشرية.
معنا في هذه الجلسة: حديث في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
قال علقمة -وهو تلميذ من تلاميذ ابن مسعود الكبار، ومن أصحابه الأخيار-: قلنا لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (هل كان أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال
ومجمل القصة أن أحد تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهو علقمة قال لـابن مسعود الصحابي الجليل من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام: (هل كان أحدٌ منكم...) أي: من الصحابة، (... مع الرسول عليه الصلاة والسلام ليلة الجن؟ قال: لا).
يثبت هنا ابن مسعود أنه لم يكن أحد من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام معه ليلة الجن، ثم يقول ابن مسعود: (... تخلف عنا عليه الصلاة والسلام، فخفنا أن يكون اسْتُطِيْرَ...) أي: أتاه شيءٌ طار به، (... أو اغْتِيْلَ...): أصـابته غيلة عليه الصلاة والسلام وقتل بخفية، قال: (... فبحثنا عنه، فوجدناه في الصباح أقبل من نحو غار حراء، فلما لقيناه قلنا له: أين كنتَ؟...) فأجابهم عليه أفضـل الصـلاة والسلام: (أنه لقي الجن، وقرأ عليهم القرآن، وأنهم سألوه الزاد...) الحديث.
في هذا الحديث قضايا ومسائل:
المسألة الأولى: هل الجن خلق من الخلق لهم حقيقة؟ لأن من المفسرين من نفى حقيقة الجن، أعني: المُحْدَثين من أهل التفسير.
المسألة الثانية: هل الجني يتلبس بالإنسي حقيقة، ويدخل فيه، ويصرعه؟
المسألة الثالثة: هل من الجن مؤمنون وكافرون؟
المسألة الرابعة: هل أرسل الله من الجن رسلاً، كما أرسَل من الإنس؟
المسالة الخامسة: هل يدخل الجن الجنة؟ أم أن لهم جنة أخرى؟ وكيف يتنعمون؟
المسألة السادسة: كم لقي الرسول صلى الله عليه وسلم الجن، مرة، أم مرتين، أم أكثر من مرة؟
المسألة السابعة: ما هو طعام الجن؟ وما هو طعام دوابهم؟
المسألة الثامنة: هل حضر ابن مسعود ليلة الجن؟ لأن الترمذي روى في سننه: أن ابن مسعود قال: (كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال لي عليه الصلاة والسلام: يا
والإشكال هنا: كيف يروي الترمذي هذا الحديث، وفي صحيح مسلم أن ابن مسعود قال: (ما كان أحدٌ منا معه عليه الصلاة والسلام) هذا سوف يأتي إن شاء الله.
المسألة التاسعة: هل الشيطان من الجن؟
قال تعالى: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50].
المسألة العاشرة: ما هي الحروز العشرة التي من أدركها وقام بها، حفظه الله ظاهراً وباطناً من شياطين الجن والإنس، هذه الحروز العشرة، كل حرز منها كفيل -بإذن الله- أن يحفظك في ليلك ونهارك.
الأمر الأول: العلم: أن يتعلم، وأن يتفقه.
الأمر الثاني: العمل: أن يعمل بما علَّمه الله، ولو كان آيةًَ أو حديثاً.
الأمر الثالث: التبليغ: أن يبلغ ما تعلم من آية أو حديث إلى الناس.
الأمر الرابع: الصبر: أن يصبر على هذا التبليغ، وما يأتيه من أذىً ومشقة من الناس.
فإذا فعل ذلك، فقد أصبح خليفة للرسول عليه الصلاة والسلام.
ما هو حَدُّ العلم؟
وهل العلم في الإسلام أن يكون عندك شهادة؟
أو أن تتخرج من جامعة مرموقة؟
أو أن تحضر رسالة؟ أو ماذا؟
هل العلم أن يكون لك تخصيص في العلوم؟
ولك قدم في البحوث؟ أم ماذا؟
هل العلم أن تتوصل به إلى منصب من مناصب الدنيا؟ أم ماذا؟
العلم هو: أن تتعلم ما تقوم به في حياتك، وتلاقي به ربك من أمور دينك، وتتعلم الأمر والنهي حتى تلقى الله.
فهذا هو العلم عند المسلمين، وهو سهل ميسر على من يسره الله عليه.
وعلم الصحابة من هذا، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
قال مجاهد: [[يسرنا طلب العلم، فهل من طالب علم؟]] فكان أسهل الناس تعليماً وعلماً الصحابة رضوان الله عليهم.
فالعلم سهل ميسر، آية وحديث، وما يدور في هذا المضمار سواء تعلم الإنسان أو حمل شهادة أو لم يحمل؛ لكن يتفقه في الدين.
قال عليه الصلاة والسلام: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فالذي لا يريد الله تبارك وتعالى به خيراً لا يفقهه في الدين.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَـلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] وهي من أعظم الآيات توبيخاً لمن تعلم ثم لم يعمل.
وقال: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
وقال: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل يوم تعلموا ولم يعملوا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5].
فنعوذ بالله من علم لا ينفع؛ فإنه من أعظم ما تقسو به القلوب.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل لَمَّا تعلموا ولم يعملوا: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيهم: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِـقُونَ [الحشر:19] نسوا العمل بالعلم، فأنساهم الله خير الدنيا والآخرة.
وهو دعوة الناس إلى هذا العلم الذي حملتَه، ولو آيةً أو حديثاً.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حكاية عن لقمان وهو يَعِظُ ابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].
فالتبليغ للناس من أعظم ما يمكن، وهذا لا يقتضي من الإنسان شهادة ولا تَبَحُّراً، بل إذا عرفتَ آيةً أو حديثاً فبلغها، فإن الله يرزقك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بها أجراً ومثوبةً وقبولاً عنده.
يقول عليه الصلاة والسلام لـعلي: {ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فوالذي نفسي بيده، لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حُمْر النَّعَم}.
وقال عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية}.
وقال: {ورب مُبَلَّغٍ أوعى من سامع، ورب حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه}.
فهذا معناه: الدعوة؛ لكن الدعوة يشترط فيها ثلاثة شروط:-
أولها: أن تكون خالصة لوجه الواحد الأحد: بأن تقصد بدعوتك الله عز وجل، بلا رياء ولا سمعة.
ثانيها: أن تتعلم العلم الذي تدعو به: فإن الجاهل لا يعلم غيرَه، وأن تتمكن من المسألة التي تريد أن تفهم الناس بها.
ثالثها: أن تحمل أدبها، وحكمتها، وأن تكون صاحب حكمة؛ فلا تكون مؤذياً، ولا جارحاً للشعور، ولا فظاً غليظ القلب، فإن الناس إذا رأوا هذا انفضوا من حولك.
وهو الصبر على التبليغ، والدعوة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه أمور لا بد أن تُقَرَّر، ثم أبدأ في مسائل هذا الحديث.
نزل به شيخه عبد الله بن مسعود مع بعض التلاميذ من الكوفة، فمروا على الأسواق يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فمروا برجل يشوي رءوس غنم، فلما رأى علقمة الرءوس تُشوى على النار، بكى حتى أُغمي عليه، ورُش بالماء، وبقي ليلة.
فلما استفاق، قال له ابن مسعود: [[ما لك؟ قال: تذكرتُ أهل النار، وهم يصطرخون فيها]].
كان علقمة من أجمل الناس صوتاً بالقرآن، حتى أن ابن مسعود يقول له: [[اقرأ القـرآن فداك أبـي وأمـي، وزينه بصوتك، فإنه زين القرآن]] فكان يقرأ ويتأثر ابن مسعود، ومعه أصحابه، ويتباكون وهو يقرأ عليهم.
فيقول: [[سألتُ ابن مسعود...]] القصة والحديث.
قولَه سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] وقولَه: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] وقولَه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] إلى غير تلك من الآيات العظيمة الكثيرة.
ذكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الجن، وذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث لهم.
قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] والعالَمون: يشمل عالم الجن والإنس.
التقى الرسول عليه الصلاة والسلام -فيما حُفِظ- بالجن مرتَين، كانا مؤتمرَين عظيمَين، ولقاءَين ساخنَين حارَّين، تحدث مع الجن مباشرة فيهما.
خرج عليه الصلاة والسلام من مكة، قبل الهجرة؛ لأنه أوذي عليه الصلاة والسلام ودبروا له اغتيالاً في مكة، وأحاط كفار قريش ببيته -كما تعرفون- وسلّوا السيوف عليه يريدون قتله، فأنجاه الله عز وجل، وخرج من بيته وترك علياً في الفراش، وحثا على رءوسهم بالتراب.
وقبل هذه القصة: خرج عليه الصلاة والسلام، يريد أن يدعو أهل الطائف؛ لأن أهل مكة رفضوا أن يستجيبوا؛ إلاَّ أربعة أو خمسة من العبيد، وأبو بكر وعلي، فخرج مريداً أن يهدي الله على يديه أهل الطائف، عَلَّ أهل الطائف أحسن حالاً من أهل مكة؛ لكن:
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا |
خرج عليه الصلاة والسلام وصعد جبال الطائف، في الحاجزة، بين مكة والطائف، لا رفيق له ولا مؤنس ولا صاحب إلا الله، ما عنده زاد من الطعام أو الشراب، زاده يقينه وذكره لله عز وجل، وما عنده مركوب يركبه من الجمال ولا من الخيل، مركوبه: التوكل على الله عز وجل، وما عنده عصا يتكئ عليها، إنما يتكئ ويتوكل على الحول والقوة بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذا الرسول العظيم، الذي لو أراد أن تسير له جبال الدنيا ذهباً وفضة لسُيِّرَت، بقي جائعاً متعباً مكدوداً سهران ظمآن حتى وصل إلى الطائف بعد ليالٍ.
فلما دخل الطائف ما جلس، ولا أكل، ولا شرب، وما استضافه أحد، وما استقبله أحد؛ إنما عمد إلى نادٍ يجتمع فيه أهل الطائف جميعاً، فسلم عليهم فلم يردوا عليه السلام؛ لأنهم وثنيون جاهليون، يحملون الوثنية في رءوسهم، (ولا إله إلا الله) ما اندمغت وما دخلت في أدمغتهم (لا إله إلا الله) فقال: {إني رسول لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فتهكموا، واستهزءوا، وتضاحكوا، وأتوا بكلمات نابية مؤلمة، على الجوع والظمأ والتعب والسهر الذي أصابه.
يقول أحدهم له: أما وجد الله من الناس أحداً إلا أنت حتى أرسلك؟
ويقول الثاني المستهزئ المستهتر: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
ويقول الثالث: إن كنت رسولاً فأنت أكرم من أن أكلمك.
فعاد عليه الصلاة والسلام ولَيْتَهم تركوه يوم رفضوا دعوته وتركوا مبادئه لكن انظر إلى الخبث، وانظر إلى اللؤم، أرسلوا عليه العبيد والأطفال يرجمونه بالحجارة، حتى أسيلت قدماه، وكان بالإمكان وفي قدرة الواحد الأحد أن يحميه بملائكة، كل ملَك يستطيع أن يدمر الدنيا بجناحيه؛ لكن الله حكيم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يريد أن يُؤْذَى هذا الرسول، ويؤجر، ويصبر؛ ليكون قدوة للناس.
وأتى ملَك الجبال، فقال: ائذن لي أن أطبق عليهم الأخشبَين، قال: {لا. إني أرجو أن يُخْرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً}.
وأتى ملَك الريح، فقال: أتريد أن أرسل عليهم الصَّرْصَر؟ قال: {لا. اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فنـزل عليه الصلاة والسلام تلك الليلة إلى وادي نخلة، بين مكة والطائف، وفي الليل الدامس الذي لا يجد له فيه قريباً ولا رحيماً، بل قربُه من الحي الأحد، توضأ وقام يصلي، ورفع صوته بالقرآن يستأنس به في الوحشة، حيث كان أكبر مؤنس للرسول عليه الصلاة والسلام في وحشته وفي سفره القرآن، فقام يقرأ القرآن. وانظروا إلى هذه الأعجوبة:
أرسل الله له جن نصيبين في تلك الليلة، حتى ملئوا الوادي يستمـعون القرآن، فأخـذ صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بكلام الله عز وجل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد:31] أين الجواب؟
ماذا يستفاد من الآية الآن؟
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد:31] فأين يكون الجواب في الآية؟
الجواب هنا مضمر، ومعنى الآية: لو أن هناك قرآناً تُسَيَّر به الجبال، وتُقَطَّع به الأرض، ويُكَلَّم به الموتى، لكان هذا القرآن. سكت الله عن الجواب؛ لأنه مفهوم، قال: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31] بمعنى: أفلم يتيقن. وييئس: ليست بلغة قريش، بل بلغة النخع، [[ سئل
إنما الشاهد: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام يقرأ القرآن، فأتاه جن نصيبين، وقل لي بربك: كم بين نصيبين ومكة؟ إنها تُطْوَى في أشهُر بالأقدام، لماذا؟ لأنهم عفاريت، أتوا يطيرون طيراناً، أسبق من الريح.
فوقفوا بجانبه عليه الصلاة والسلام وجلسوا، وكان من أدبهم أن سيدهم يقال له: (خنزب) أو غير ذلك، يقول لهم: اسكتوا، أنصتوا، فأخذوا ينصتون، ولكنهم كان بعضهم يركب بعضاً حتى يقتربوا من الرسول عليه الصلاة والسلام وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19].
لكن يقول الله عز وجل في أول السورة: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن:1] قل للبشرية: قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجن:1].
يقول سيد قطب رحمه الله: عجباً! حتى الجن يتذوقون القرآن؟! حتى الجن يدركون بلاغة القرآن؟! حتى الجن تسمو أفهامهم إلى معرفة القرآن؟! إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الجن:1-5].
فلما وصلوا إلى هذا قالوا في القرآن الكريم: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً [الجن:9].
من أخبر الجن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة، بين مكة والطائف؟
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن الجن منعوا من الاستماع إلى السماء]]؛ لأنه كان قبل إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الوحي، كان الجني يركب الجني، هكذا على رأسه، ثم يأتي الثالث على رأس الثاني، وهكذا حتى يصبحوا كأنهم مسبحة أو عِقد منظوم إلى السماء، فأعلاهم يسمع الوحي، فيبلغ الذي من تحته؛ حتى يبلغه الأرض، فيأخذ الكهنة والسحرة بعض الكلمات، فيضيفون عليها مائة كذبة.
فلما نزل الوحي أراد الله أن يحمي الوحي؛ ليكون الإرسال صافياً قوياً، لا يدخل معه تشويش آخر، فأرسل الله الشهب على الجن فكانت ترميهم في كل مكان.
فقال سيد الجن: اذهبوا في أنحاء الأرض، في البحار، وفي الديار، فإن في الأرض أمراً حَدَثَ، ما ندري ما هو؟ فذهبوا يبحثون، ما هو الأمر الجديد الذي حدث؟ فتفرقوا، فأما جن نصِيْـبِيْن فهم الذين وُفِّقُوا ووجدوا السر، وجدوا الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن في وادي نخلة، فعرفوا أن هذا هو السر.
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن:9] أي: من السماء فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:9-10] انظر، ما أحسن الأدب! لم يقولوا: وأنا لا ندري أشرٌ أراد الله بأهل الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، لكن استحيوا من الله، فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ [الجن:10] وسكتوا عن ضمير الجلالة وعن لفظ الجلالة، ولما أتى الخير قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10].
وذلك مثل إبراهيم عليه السلام يوم قال في القرآن الكريم: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:79-80] قال: وإذا مرضت أنا، والذي يمرض هو الله؛ لكنه تأدب مع الله تبارك وتعالى.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من قراءة القرآن، وسلم من الصلاة، تفرقوا وضربوا بقاع الأرض، ووصلوا إلى قومهم في اليمن، ودعوهم إلى (لا إله إلا الله) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:29-32] رجعوا دعاة.
انظر كيف أتوا في ليلة واحدة ورجعوا يدعون إلى توحيد الله عز وجل! وعاد صلى الله عليه وسلم ومعنوياته مرتفعة، ونفسه مرفرفة بالتوحيد، يوم أوجد الله لدعوته قبولاً عليه الصلاة والسلام.
هذا اللقاء هو ليلةٌ خرج فيها صلى الله عليه وسلم وسط الليل، قام من بيته من مكة وخرج إلى غار حراء، والتقى بالجن، وسلم عليهم، ودعاهم إلى الإسلام، حتى سُمِع لأصواتهم رجة في الوادي، وقال له أبو ذر: ما هذا يا رسول الله؟ قال: {بينهم خصام فأصلحتُ بينهم} يختصمون كما تختصم القبائل في الدنيا؛ لأن بينهم جواراً، وأرحاماً، وبينهم اختلافات ووجهات نظر، فأتى عليه الصلاة والسلام فأصلح بينهم.
والجن بينهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ومنهم الكريم والبخيل، ومنهم الصادق والكاذب، طبقات مثل الإنس، فالرسول عليه الصلاة والسلام لعظمته ولما أعطاه الله عز وجل أصلح بينهم.
وقرأ عليهم القرآن، فأسلم من شاء الله أن يهديه، وقالوا: {يا رسول الله! نريد الزاد، قال: زادُكم كل عظم ذكر اسم الله عليه} أما إذا لم يذكر اسمُ الله على العظم فحرام عليهم أن يتعشَّوا تلك الليلة، وقالوا: {نريد لدوابنا طعاماً، قال: كل روث} الروث: الذي يخرج من الدواب، ولذلك لما أتى ابن مسعود للرسول صلى الله عليه وسلم بروثة، قال له: {إنها رِكْس} وهناك رواية: {إنها طعام دواب الجن} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
والجن لهم مواقف معه صلى الله عليه وسلم، وسوف تأتي هذه القضايا.
وهذا ورد من حديث أبي الدرداء، وفي لفظ عند مسلم: قال: {فمسكتُه حتى وجدتُ برد لعابه على يدي} أي: مسكه صلى الله عليه وسلم بحلقه، فأخرج الجان لُـعابَه على كف الرسول صلى الله عليه وسلم فوجـد برده، قال: {ولو شئتُ لربطتُه بسارية من سواري المسجد حتى يصبح يلعب به أطفال المدينة}. الحديث.
دعوة سليمان: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] وملكه عليه السلام أن سخر الله له الجن في ملكه، منهم الغواص، ومنهم البناء، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:38-40].
فالمقصود: أن دعوة سليمان في قوله: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] أي: لا تسخر الجن أو الريح لغيري، ولذلك لم يسخر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الريح تسخيراً ملكوتياً إلا لسليمان في مملكته.
وللفائدة نقول: إن سليمان عليه السلام إذا أراد الانتقال إلى الهند -مثلاً- يقول للريح: يا ريح! انقليني إلى الهند، فتأتي فتقترب منه، ثم تلف نفسها كأنها زوبعة أو كأنها بساط، فتحمله هو ووزراءه وحاشيته ومستشاريه، وتنقلهم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12]؛ لكن إذا ارتفعت بهم في الجو كيف تهبط بهم في الأرض؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] رخاء: أي: إذا اقترب من الأرض تخفف السرعة قليلاً قليلاً حتى ينـزل بهدوء.
فآية: رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] هذه -بارك الله فيكم- كأن معناها -والله أعلم-: أنه إذا أراد بلداً أو اقترب من القرية، أرخت الريح نفسها، ولا تهبط به بعنف.
الشاهد: أن للرسول صلى الله عليه وسلم مواقف مع الجن.
أعِدْ ذِكْرَ نعمان لنا إن ذكرَه كما المسك ما كررتَه يتضوَّعُ |
قال أبو هريرة: كلفني صلى الله عليه وسلم أن أحرس الزكاة -وقيل: الصدقة، وأكثر ما تُسْتَخْدَم الزكاة في الكتاب والسنة: الصدقة، أي: بلفظ الصدقة- قال: فذهبتُ في مَرْبد -هذا المربد كالحَوش أو كالجَرِين- فوقف أبو هريرة -إنسان فقير من دَوْس- أتى إلى مكة، لا ولد له، ولا زوجة، ولا أم، ولم تأت زوجته وأمه إلا فيما بعد؛ لكن قبلها أتى فقيراً، حتى إنه من الجوع كان يصرع بين المنبر وبين بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، فيُظَن أنه صرع من الجان، فيأتي أحد الأنصار يبرك على صدره، ويقرأ عليه المعوذات. يقول: [[وما بي جنون، ما بي إلا الجوع]].
فكان صلى الله عليه وسلم يجعله في هذه المهمات ليعطيه شيئاً من الأكل، أو يأكل هو بنفسه؛ لأنه إذا حرس جَرِيْناً ملآن بالتمر، فلا بد أن يتعشى من هذا التمر -بحفظ الله ورعايته- أو بشيء من الحب، أو بشيء من الطعام -قال: {فجعلني صلى الله عليه وسلم حارساً، فأتيت تلك الليلة، فأتاني شيخ كبير -الشيطان تمثل بصورة شيخ- فأتى فقرَّب كيسَه -حتى الشيطان عنده كيس- وأخذ يحثو من الطعام- سواء كان تمراً أو حباً، قال: فقبضتُ وقلت: لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: عندي عيال، وأنا فقير، وأنا مسكين. قال فقال عليه الصلاة والسلام -رغم أنه ما حضر القصة؛ لكن انظر إلى المعجزة- قال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلتُ: يا رسول الله! شكا إليَّ حاجة وعَيْلة، فرحمتُه فتركتُه. قال: كذَبَكَ وسوف يعود. قال: فرَصَدْتُه لعلمي بما قال عليه الصلاة والسلام، فأتى فأخذ يحثو، فقلتُ: والله لأرفعنك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: أنا محتاج، وذو عيال، فاتركني، وأخذ يدعو فتركه. وفي الصباح قال صلى الله عليه وسلم: ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فأخبرتُه، قال: كَذَبَك وسوف يعود. وأتيت في اليوم الثالث -وثالث ضربة دائماً لا بد أن ينتهي عليها الأمر- فقال: عندي عيال، وأنا شيخ كبير، وأنا مسكين، قلتُ: والله لأرفعنك، وأخذتُ بتلابيب ثيابه. قال: اتركني أعلِّمك شيئاً إذا أمسيتَ وقلتَه لا يقربُك شيطان -وكان أبو هريرة أحرص على الخير- قال: قل: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] قلها إذا أمسيتَ وإذا أصبحتَ لا يقربك شيطان، فتركتُه وذهبَ، فلما أتيتُ في الصباح، قال صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك؟ قلتُ: يا رسول الله كَيْتَ وكَيْتَ، وعلمني آية، قال: ماذا علمك؟ قال: علمني: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: صَدَقَك وهو كَذُوب
قد كنتَ أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
[[فقال عمر للجان: أتصارع أنا وإياك]] هكذا ورد في السير، فنـزل الجان، ونزل عمر رضي الله عنه، ما سمعنا أن هناك مشجعين، ما حضر مع عمر من المنتخب أحد، ولا مع الجان أحد، ربما كان عمر وذاك فقط.
[[فأخذه عمر فصرعه على الأرض، فقام العفريت مرة ثانية، فصرعه عمر، فقام ثالثة، فصرعه، قال الجان: لقد علم الجن أني من أقواهم]] ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: {ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك} أي: إذا أتى عمر رضي الله عنه من هذا الشارع، أتى الشيطان من الشارع الآخر، فإذا أتى من هنا حول طريقه من الطريق الآخر.
لماذا؟ لأنه قلب كبير، قلب يتوقد بـ(لا إله إلا الله), قلب عرف الله، كان يتوقع الأحداث وتقع كما يقول، حتى قال علي بن أبي طالب: [[كنا نقول: إن السكينة تنطق على لسان عمر]] يجلس مع الصحابة وعيونه تتوقد، ما بقي على عيونه إلا أن تتكلم، يقول الذهبي في ترجمة ابن تيمية: والله الذي لا إله إلا هو، كأن عينيه لسانان ناطقان.
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحتُه يكاد يخشى عليه من تلهُّبِهِ |
جلس عمر رضي الله عنه فترة من الفترات فنـزل سواد بن قارب من الجبل، قال: هذا رجل ترك وديعة في رأس الجبل، قالوا: من أخبرك يا أمير المؤمنين؟ قال: أقول هكذا، فأتوا إلى الرجل، وقالوا: أتركتَ شيئاً؟ قال: دفنتُ ولدي في رأس الجبل وأتيت.
وجاءه سواد بن قارِب بجمله من الصحراء قال: هذا الرجل كان كاهناً في الجاهلية، قالوا: من أخبرك؟ قال: من مشيته وحركاته، فأتوا إلى سواد بن قارِب فقالوا: أكنتَ كاهناً؟ قال: نعم. كنتُ أتعاطى الكهانة، وهو صاحب القصيدة الرنانة الطنانة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له:
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو قرابةٍ بِمُغْنٍ فتيلاً عن سواد بن قاربِ |
المقصود: أنه هذه من مواقف بعض الصحابة مع بعض الجان.
ذكر من ضمن القصص، يقول معاذ رضي الله عنه وأرضاه: دخلتُ بيتي، وأغلقتُ عليَّ الباب، فلما أغلقت عليَّ الباب، وإذا أنا من ثقب الباب بثعبان دخل كأنه الخيط، دخل خيطاً خيطاً خيطاً؛ لأن الثقب كان قريناً أي: أن الصائر بين الباب قرين، لا يمكن أن يدخل الثعبان دفعة واحدة، فأخذ يدخل خيطاً خيطاً، فلما اكتمل اجتمع، فإذا هو ثعبان، فطوق علي البيت، فقال: قلتُ: باسم الله، فاختفى عني، وكأنه احترق، فأتيتُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقلتُ له، قال: {ذاك جان، فإذا أحسست به فاذكر الله، واقرأ شيئاً من القرآن؛ فإنه سوف يحترق} هذا الحديث أورده البيهقي في دلائل النبوة، لمن أراد أن يراجع هذه القصص وغيرها.
والآن نبدأ في تفصيل المسائل العشر المذكورة في صدر المحاضرة.
نعم، من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن للجن حقيقة، وأنهم نفر، وأنهم أمة، وأنهم خلق من خلق الله، ومن كذَّب بالله بعد أن يعرف الآيات والأحاديث فقد كفر؛ لأن الله ذكر ذلك.
وبعض الناس يقولون: إن الجن ليس لهم حقيقة. فالعلم المادي الغربي الآن لا يؤمن إلا بالمحسوس الملموس، ولذلك يكفرون بالجنة، فإذا أتيتَ بإنسان مصروع، تتكلم على لسانه امرأة، يقول لك: هذا مريض، فإذا قلت له: الصوت مختلف، قال لك: لا، ليس هناك جن، ما يتلبس أحد بأحد، لا نؤمن إلا بالمشهود.
فهؤلاء كفروا بالله عز وجل؛ لأن الله ذكرهم في أكثر من عشرة مواضع في القرآن، وذكرهم نبيه صلى الله عليه وسلم.
مر معنا في مناسبات كثيرة، والصحيح: أنهم يتلبسون بالإنس.
لكن الذي ينفي هذا والذي لا يصدق والذي يجحد هذه المسألة من أن الجن يتلبسون بالإنس، ما حكمه؟ هل يكون كافراً؟ ولماذا؟
فإذا قلنا: إن حكم من يكفر أو يجحد وجود الجن كافر؟ فما هو حكم من يجحد تلبس الجن بالإنس؟
حكم من يجحد تلبس الجن بالإنس مخطئ، اجتهد وأخطأ في هذه المسألة، وليس بكافر، ولكنه أخطأ وغلط غلطاً بيناً.
لماذا قلنا في حكم جحود وجود الجن قلنا: إن الجاحد كافر، وإن جاحد التلبس ليس بكافر؟
لأن الله ذكر الجن في القرآن، ولكن ما ذكر في أدلة صريحة أنهم يتلبسون.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] مَن الذي يتخبطه الشيطان؟ هو المصروع.
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128] قال بعض العلماء: استمتع أناث الإنس برجال الجن، وأناث الجن برجال الإنس، أو كما قيل.
فمن أنكر ذلك فقد أخطأ وخالف الصواب، إلا بعد أن تبلغه الحجة، فهذا أمر آخر.
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً *وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن:15].
فمسلمو الجن ثلاثة أقسام:
1- مقتصدون.
2- ظالمون لأنفسهم
3- سابقون بالخيرات.
مثل الإنس، ومنهم الكفار.
هذه المسألة لا بد من فهمها.
هذه المسألة عند أهل العلم من ترف المسائل، ولن يسألنا الله يوم القيامة: هل أرسلنا من الجن رسلاً؟
وهذه مثل مسألة: هل أرسل الله من النساء رسولات؟
لأن الله أوحى إلى مريم، وأوحى إلى بعض الصالحات، فهل معنى ذلك أن الله أرسلهن؟
وما الدليل على عدم الإرسال أو الإرسال من النساء؟
هل هناك أدلة في القرآن تنفي أو تثبت أن الله أرسل رسلاً من النساء؟
فـابن حزم الظاهري صاحب المحلى يقول: أرسل الله من النساء رسلاً، ومريم أوحى الله إليها، فهي رسولة نبية، فهل نوافق ابن حزم على هذا، أم نخالفه؟ ومن يخالفه فعليه بالدليل.
الدليل على المخالفة: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] قال: رجالاً، ولم يقل نساءً.
والذي عليه جـمهور أهل السنة: أن الله لم يرسـل إلا رجالاً، وأما النساء فلم يرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى منهن رسولات؛ لضعف المرأة؛ ولأنها ليست صاحبة قوامة؛ ولأن تكوينها لا يقوم بأعباء الرسالة؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة}.
فمن هذا الجانب -بارك الله فيكم- لم يرسل الله امرأة، وقد ادعت سجاح أن الله أرسلها، والتقى بها مسيلمة الكذاب، التقى بالكذابة، حتى إن شاعر قبيلة سجاح يقول:
أضحت نبيتُنا أنثى يُطاف بها وأصبحت أنبياءُ الناس ذُكرانا |
يقول: ليتها لمَّا ادعت النبوة كانت ذكراً، لكنها كذابة وأنثى.
وأما من الجن فلم يرسل الله منهم أحداً -كما علمنا- وإنما أرسل من الإنس؛ لأنه قال لما ذكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88] يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] إلى غير تلك من الآيات.
هل هناك دليل في القرآن على أنهم يدخلون الجنة؟ أي: يتنعمون، ويشربون من الأنهار، ويجلسون على الأرائك، ويسكنون القصور، هل هناك أدلة في القرآن تثبت أن الجن يدخلون الجنة؟
سئل ابن تيمية بهذا السؤال؛ لكن قبل إجابة ابن تيمية، نحب أن نسمع إشراقات وإبداعات من بعض الإخوة الحاضرين في هذه المسألة.
من هذه الإشراقات والإبداعات: قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]. وهو نفسه الجواب الصحيح.
فـابن تيمية رحمه الله يقول: لم يذكر في القرآن ولا في السنة أنهم يدخلون أو لا يدخلون؛ ولكن ذكر الله في سورة الرحمن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56].
فعلم من هذا أنهم يدخلون؛ لأنه لا يُنْفى إلا عن شيء موجود، أي: أنهم وجدوا؛ لكن الطمث لم يقع على النساء من الجان، هذه مسألة.
الذي عُلم لدينا -والله أعلم- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقيهم مرتين.
وأما أن يلقى أحدهم: فهذا موجود، وهم يتمثلون بالقطط والكلاب والثعابين، وبعض الأحياء؛ لأن الله أعطاهم القدرة على التَّمَثُّل أو التَّقَمُّص لشخصيات أو غيرها.
الشيطان تمثل يوم بدر في صورة شيخ من أهل نجد، لحيته طويلة، شعره مسرح، وعليه عمامة، وجاء يخطب في كفار قريش، ويقول الله في القرآن الكريم: لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ [الأنفال:48] لما رأى السيوف الحمراء تقطر دماً في أيدي المهاجرين والأنصار فَرَّ إلى حيث ألقَتْ رَحْلها أمُّ قَشْعَمِ.
لقد رحل الحمار بـأمِّ عمروٍ فلا رجعَتْ ولا رجع الحمارُ |
ولذلك يبحثون عنه، وما وجدوه كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] ما أعجب هذا الخوف!! أقبح من وجه صاحبه.
عندنا في الإسلام -بارك الله فيكم- لا يجوز الاستنجاء بالعظم ولا بالروث؛ لأنه طعام الجن ودوابهم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا مسألة ثابتة في حديث أبي قتادة وسلمان في صحيح مسلم , وغيره من الأحاديث.
وعند الدار قطني: {ائتني بغيرها} ففي الحديث: يقول الراوي: أتيتُ بروثة فألقاها صلى الله عليه وسـلم وقال: {إنها رِكْس} أي: نجس، وقال: {ائتني بغيرها} عليه أفضل الصلاة والسلام.
قلنا لكم: إن ابن مسعود قال في سنن الترمذي: أتيتُ بإداوَة، وطلب صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ، فقلتُ: فيها نبيذ، فقال: {ثمرة طيبة، وماء طهور} فتوضأ صلى الله عليه وسلم، وقال في صحيح مسلم:{ما كان أحدٌ منا مع الرسول عليه الصلاة والسلام }.
فكيف نجمع بين الحديثَين؟
نقول: حديث الترمذي حديث ضعيف، ليس بصحيح، في سنده: أبو زيد العِمِّي، وهو رجل مجهول الحال، وقيل: مجهول العين، ولم يصح. وهذا دليل الأحناف، حيث استدل الأحناف بهذا الحديث الضعيف، على جواز التوضؤ بالنبيذ، سواء النبيذ أو ما في حكمه من الطاهرات، فإذا مَرَسْتَ التمر في الماء الحار، وأصبح نبيذاً تشربه فلك أن تتوضأ به، وعندهم يجوز لك أن تتوضأ -بإذن الله- بـ(اللبن) فإذا لم تجد ماءً فإنه يجوز لك أن تأخذ علبة من ألبان مراعي -بحفظ الله ورعايته- وتتوضأ بها، وتأتي أبيض يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه، وإذا لم تجد لبناً، جاز لك أن تأتي إلى الماء الطاهر في (الميراندا) أو (البيبسي) فتتوضأ به أو تغتسل؛ لأنها من الطاهرات، أو تبرد لك (الشاي) ثم بعد أن يبرد تتوضأ به، وتستاك به بعد أن تتمضمض وتستنشق وتستنثر. هذا عندهم. لماذا؟ لاستنادهم على هذا الحديث.
وابن مسعود كوفي، والحديث عندهم وصل؛ ولكن أهل الحديث قالوا: لا. فالحديث ليس بصحيح.
والله عز وجل يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43].
فالماء في اللغة: كل ما أطلق عليه ماءً، بمعنى الماء، أما (اللبن) و(الشاي) و(العطر) فهذه كلها ليست بماء.
فلا نقول: هو طاهر؛ لأنه ما مسته نجاسة؛ لا، بل نقول: ليس بماء، فأنت إذا لم تجد ماءً فتوكل على الله وتيمم؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ما أحالنا إلى غير التيمم، إنما قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43].
أما حديث ابن مسعود، فقد قلتُ لكم: إنه ضعيف؛ لسببين:
الأول: في سنده لـأبي زيد العِمِّي.
الثاني: لأن ابن مسعود يقول في صحيح مسلم، لما سئل: {هل كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ منكم ليلة الجن؟ قال: لا. ما كان معه أحدٌ منا} فلْيُعْلَم ذلك.
واعلموا أن النبيذ لا يُتَوَضَّأ به، ولو أن بعض الأحناف وكثيراً منهم يقولون ذلك، وهذه مسألة مرجوحة.
قال تعالى: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] وقال تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15] وهو خلق الشيطان، فأصل الشيطان من الجن.
وأنتم لا يهمكم أن تعرفوا نسب الشيطان، ولا أسرته، ولا قبيلته، ولا جده، ولا خاله؛ ولكن أهم ما يجب أن نعرف عن الشيطان ثلاثة أمور:
الأمر الأول: لماذا خلقه الله؟
الأمر الثاني: ماذا يفعل بنا؟
الأمر الثالث: كيف نتقي منه؟
وهاكم التفصيل:
1- العقيدة: وهي التوحيد، وهي سلاح يهزم الشيطان.
2- العمل الصالح.
3- الحال الطيب.
4- الكلام الطيب.
هذه كلها تتعاون على حرب الشيطان.
اسمعوا إلى هذه الحروز، وانقلوها إلى أهلكم وأسركم وأطفالكم وجيرانكم، علَّ الله أن ينفعنا وإياكم بها.
فأكبر حرز -وهو سلاح المؤمن- الوضوء، ولن يقترب منك شيطان وأنت متوضئ، ولن تغضب -بإذن الله- بل لا يأتيك الغضب إلا نادراً ما كنت على وضوء.
غضب رجل عند الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {الغضب من الشيطان، والشيطان خلق من النار، وإنما تُطْفأ النار بالماء، فإذا وجد أحدكم غضباً فليتوضأ}.
فمن غضب منكم على أهله أو على جيرانه، فليتوضأ؛ لأن الغضب جِبِلَّة، والإنسان ليس معصوماً وليس ملَكاً، فعليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ حتى يُبَرِّد جسمه، وإذا كان واقفاً أن يجلس، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، علَّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهديه سواء السبيل. فأول حرز: الوضوء.
سئل ابن تيمية عن المخارج للذين أصيبوا بمرض الوَلَه، والعشق، والجن، والوسوسة، قال: منها الوضوء، فالله، الله في هذا العلاج.
في صحيح مسلم عن جابر في حديث ما معناه: {إذا دخل أحدكم بيته، فإذا اقترب من طعامه سمَّى، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم، ولا طعام -حُرموا العشاء تلك الليلة، وأُخْرِجُوا من البيت- وأما إذا دخل فلم يسم قال الشيطان لأصحابه يبشرهم: أدركتم المبيت} أي: حصل المبيت والسكن {وإذا سمى وذكر: قال: ولا عشاء لكم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أما إذا سمى بعد فترة، فإن الشيطان يأكل معه قليلاً قبل التسمية، أمَّا بَعْد التسمية فإنه يذهب.
لكن الحل في هذا: أنك إذا تعشيت أن تقول: باسم الله في أوله وفي آخره، فإذا قلتَ تقيأ ما وجَدَ، ورد الله بركة الطعام. إنها حكمة بالغة من الله عز وجل، فتقول: باسم الله أوله وآخره.
يقال: إن أحد الناس كان من دعائه بعد الطعام قوله: "أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة" فلما استُضِيْفَ قال بعد الغداء وهو يغسل يديه: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل، فقيل له: لماذا؟ قال: حتى نشرب الشاي.
فالمقصود -بارك الله فيكم- أن الشيطان ملابسٌ للإنسان، والشاهد: ملابسته للإنسان في الدخول إلى البيت، والطعام، والمسكن.
والبيت الذي تُقرأ فيه لا يقربه شيطان أبداً، فعلى المسلم أن يعتني بهذه الآية.
وابن تيمية يذكر ويقول: "إذا رأى المسلم شبحاً في الظلام وخاف منه، فليقرأ آية الكرسي، فإنه سوف يَدِين له إن كان إنسياً أو جاناً"؛ لأن الجان يحترق من آية الكرسي، تنـزل عليه قواصف وقنابل فتزيله عن الأرض.
وعن عقبة بن عامر: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصاه أن يقرأ بهما بعد كل صلاة، وهما: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] قال عقبة بن عامر: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما رأيتَ سورتين أنـْزِلَتا عليَّ لم يتعوذ المتعوذون بمثلهما: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] قال: فلما حضرت صلاة المغرب، قام صلى الله عليه وسلم فسمعتُه يقرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]}.
وكان صلى الله عليه وسلم يَرْقِي الحسن والحسين، فلما أنزل الله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ترك هذه الرُّقَى، واكتفى بهاتين السورتين. فهي من أعظم ما يُقرأ على الأطفال، وفي البيت، وعند النوم، وعند القيام من النوم.
وتنفع هاتان السورتان من: الجان، والسحر، والعين ومن كل مرض -بإذن الله- حتى المرض والوجع في الـجسم لك أن تَرْقِي جسمَك، وتَقرأ عليه وتنفث.
فكما في حديث عائشة قالت: {كان صلى الله عليه وسلم إذا مرض نفث على جسمه، وقرأ المعوذات، ومسح ما استطاع من جسمه، فلما اشتد وجعه كنتُ أنفث في يده عليه الصلاة والسلام لبركتها، وأمسح على جسمه، وأقرأ المعوذات، فأخذ يسحب يده عليه الصلاة والسلام ويقول: بل الرفيق الأعلى، -أي: ما أصبح هناك للعلاج استطاعة، ومعناه: أنه لا يريد الحياة- بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، فقالت: خُـيِّرْتَ واخترتَ يا رسول الله}.
راوي الـحديث في هذا اسـمه: حصين بن عبد الرحمن، قال: {سمعتُ الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: من قال:أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاث مرات في ليلة، لم يمسه تلك الليلة سوء} ففي ليلة لدغته عقرب، فقيل له: [[أين الحديث الذي رويتَه لنا وقد لدغَتْك العقرب؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو ما قلتُها هذه الليلة]].
ثم عوضه الله عز وجل أن قرأ: {أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق} على لدغة العقرب، فما وجد فيها ألماً ولا ضراً أبداً.
ولله حِكَم أن يذكر العبد وينسيه؛ لكن لكل مسلم وقت يذكر فيه من الأدعية، مثل: بعد صلاة الفجر، حتى يحفظه الله، ويحفظ أسرته وأولاده، ويحفظ عليه إيمانه؛ لأن الحافظ المسدد هو الله.
والإنسان إذا تُرِك ونفسه ضاع في الدنيا والآخرة وضيع أطفاله، لأن الشؤم يسري في الأطفال وفي الذرية، نعوذ بالله من ذلك.
ففي صحيح البخاري: عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كُتِبَت له مائة حسنة} انظر إلى الأجور!
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ |
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ |
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسرانُ |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ |
مائة (لا إله إلا الله) تأخذ عشر دقائق، وقيل: سبع، وقيل: ست. وأوقاتنا تذهب سدىً في الفكاهات، وفي الطُّرَف، والمزاح، واللعب، والذهاب والإياب، وليتها في هذه وحسب؛ لكن في الغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والوشاية بين الجيران والإخوان والعشائر والقبائل، وفي التناحر، والتكالب على الدنيا، فنسأل الله أن يحسن لنا وإياكم الحال.
فنحن كما قال الأحنف بن قيس عندما قال: [[عرضتُ نفسي على القرآن فوجدتُ الناس ثلاث فئات، وجدتُ أناساً في القرآن: أبراراً: لستُ منهم. أخياراً: يقول الله عنهم: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18] وأنا لستُ منهم. ووجدتُ طبقة أخرى: وهم كفار فجرة، يكذبون بالله واليوم الآخر، فلستُ منهم والحمد لله. ووجدت نفسي عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة:102]
يقول عليه الصلاة والسلام -كما في سنن الترمذي، وسنده حسن- يقـول الله عز وجل في الحديث القدسي: {أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه}.
وأتى عبد الله بن بُسْر -كما عند الترمذي، بسند حسن- فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله}.
اذكر الله دائماً، وأنت في بيتك، وفي مكتبك، وسيارتك، تسجل من الحسنات والدرجات والصالحات ما لا يسجله الصائمون، ولا المتصدقون، ولا المجاهدون. يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: {سيروا هذا جمدان سبق المُفَرِّدُون، قيل: وما المُفَرِّدُون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
هذه المسألة: هي مسألة ما قد يوجد في بعض المجتمعات من بعض التشدد في بعض الأمور، حتى يخرج هذا التشدد بصاحبه عن السنة، ودين الله عز وجل وسط بين الغالي والجافي، والله عز وجل يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143] والرسول عليه الصلاة والسلام كان ينهج النهج الوسط، في عبادته، وتعامله، ومأكله، وملبسه.
والذي يُلاحَظ في شباب الأمة الإسلامية أنهم الآن ثلاثة أقسام:
ثم أتوا ببعض المسائل التي هي من السنة، فأقاموا الدنيا وأقعدوها على هذه الأمور، فالناس يكبرون تكبيرة، ويكبرون هم اثنتين، ويتوضأ الناس ثلاثاً، وهم يتوضئون أربعاً، ويستنشق الناس ثلاثاً ويستنشقون أربعاً، ويضع الناس أيديهم على صدورهم في الضم في الصلاة، ويضعون هم أيديهم في حلوقهم، وإزرة المؤمن إلى نصف الساق، فيجعلونها إلى الركبة.
ثم يظن بعضهم أن معنى الإسلام: أنك تظهر بمظهر التقشف، وتُري الناس كأنك زاهـد في مظـهرك، الثوب -الحمد لله- بخمسين ريالاً.
وبعضهم يأكل من الوجبات أكثر بكثير، ولكنه يُقْتِر على نفسه، وتجد عنده بيتاً طويلاً عريضاً، أو قصراً من القصور؛ ولكن إذا ظهر إلى الناس ظهر بثوب رخيص، ولماذا تظهر للناس كذلك؟ حتى يشيروا بأنك زاهد؟!
نحن أمة جميلة، الله جميل يحب الجمال، الله طيب يحب الطيب، جَمَّل الكون سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، حتى السماء ما جعلها مظلمة، جعل فيها كواكب، جعل فيها نجوماً، أبدع سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى إنك تدخل البستان الواحد وفيه الحدائق الغناء والورود والزهور، وتسمع صرير الطيور وخرير الماء.
فلماذا لا يكون الإنسان جميلاً كما كان صلى الله عليه وسلم جميلاً؟
هل من الأحسن أن يأتي الإنسان منفوش الرأس، غير مُسَوٍّ لغُتْرَتِه، ولا هندامه، ولا عليه ما يستره أمام الناس؟ ثم يأتي يرى أن كَيَّ الغترة وكيَّ الثوب يخرجه من السنة، معنى ذلك: أن يكون في فوضى، أنا لا أقصد فئة من الناس، وربما هم أفضل منا وأحسن وأعلم وأفقه، لكن نحاكمهم إلى السنة، إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس البُرْدَة الحَبِرَة بألف دينار، ويَتَبَدَّى أمام الناس، يَمُر من الشارع إلى الشارع الآخر، فتُشَمُّ رائحة المسك منه صلى الله عليه وسلم، يلبس أحسن ما يجد، وربما يتقشف أحياناً؛ لكن أن نظهر للناس ونقول: نحن زهاد، انظروا إلينا، انظروا إلى ثيابنا، انظروا إلى مساويكنا، انظروا كيف نصلي، فهذا ليس من الحكمة، هذا معناه: أننا نشهر بأنفسنا.
لماذا لا نكون وسطاً في أمورنا؟
وسطاً في عبادتنا؟
وسطاً في تعاملنا؟
وسطاً في أخذنا وعطائنا؟
لِعِلْمِكُم: الخوارج الذين خرجوا من الإسلام كانوا أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي صلاةًَ في الليل، وأكثر قراءة للقرآن، وأكثر صياماً.
يقول عليه الصلاة والسلام: {تحتقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}. لماذا؟ لأنهم ما عاشوا العلم.
فمَفاد العبادة: أنك تتزود من الحسنات فقط، ولكن العلم يُفَتِّح ذهنك، ويظهر لك تجارب الأمم، ويظهر لك المنقولات من الكتاب والسنة، ويظهر لك الخطأ من الصواب، فتكون على بصيرة، ولذلك بُعِث صلى الله عليه وسلم معلماً.
فهذا القسم أو هذا المسار لا يُحمَد، وليس مساراً طيباً، وقد طَوَّل ألْسِنَة المنافقين على أهل الخير والدعاة والأخيار.
حتى يقول هؤلاء المنافقون: انظروا إلى الإسلام، الإسلام تقصير الثوب إلى الركبة، والسواك بِطُوْل شِبْرَين، وعدم كَيِّ الغُتْرة، ووضع اليد في الحلق أثناء الضم في الصلاة، ثم تفريج الرجلين، حتى يكاد يسقط، إلا أن يتغمده الله برحمته، وإذا اقتربتَ منه في الصف في الصلاة شَدَّك حتى تسمع لثوبه قعقعة، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {استوُوا} فكان الناس يَسْتَوُون سواءً فإذا سجد مد نفسه حتى يصل إلى آخر الجدار، فإذا أراد أن يرجع أعانه الله عز وجل على الرجوع للركعة الثانية.
فهذا ليس بشيء، ونتحاكم إلى السنة، وهذه كتب الحديث أمامنا أيها الإخوة.
فذاك الصنف الذي ضيع الإسلام، وعاش على المجلة الماجنة والأغنية الماجنة، ضاع في الدنيا والآخرة.
وهذا الصنف أظهر أن الإسلام يكمن في صورته هو، وأنه مع الإسلام، وأن الإسلام ليس بجميل، وأن معناه: أن تقطب وجهك، وأن تغضب، وإذا سلمت على الناس لا تتبسم؛ لأن التبسم يخالف الزهد والورع والوقار.
كان ابن سيرين يضحك في النهار حتى يتمايل، فإذا أتى الليل بكى حتى يسمع الجيران بكاءه من خشية الله.
وكان أشرف الرسل عليه الصلاة والسلام إذا لقي الناس يتبسم، حتى أن أبا هريرة يقول: {والذي نفسي بيده لوجهه كأنه البدر ليلة أربعة عشر} ويقول أيضاً: {كأن الشمس تجري في وجهه} , ويقول جرير بن عبد الله: {ما رآني إلا تبسم في وجهي}.
وعائشة رأت شباباً يَنْضُون، أي: يَتَماوَتُون، رأتهم وهم ماشُون في الطريق وهم ينكسون رءوسهم، ويمشون بالهدوء، كأنهم نملة على الأرض، يسبحون، ويتنحنحون، فأشرفت عليهم، فقالت: مَن هؤلاء؟ قالوا: عُبَّاد، قالت: عليَّ بهم، فأتوا، وهم شباب بادئون، فلما اقتربوا منها، قالت: مَن أنتم؟ قالوا: عُبَّاد ونُسَّاك، قالت: كذبتم، -والله- لكان عمر أعبد منكم، وأنسك، وأخشى لله، كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع.
فلا تظنوا كلامي -والله أعلم بما في القلوب- أنه يدعو إلى التساهل في الأمور، ويدعو إلى عدم الخشية في الصلاة، وإلى عدم التقشف والزهد، فكلٌّ حسيبه الله عز وجل؛ لكننا نتعامل مع الكتاب والسنة، ونقرأ أحوال السلف، حتى أن ابن الجوزي قال: لا تغتر بمن بعد التابعين من الزهاد.
من يقرأ تراجم (حلية الأولياء) لـأبي نُعيم يظن أن الإسلام معناه: أن تبقى في زاوية تبكي أربعاً وعشرين ساعة، وألا تأكل الطعام.
حتى إن أحد المتصوفة يقول: أين أنتم عني وأنا ما أكلتُ الرُّطَب أربعين سنة؟ والرطب: البلح. ومن ذا قال له: لا يأكل أربعين سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم أكله؟!
ويقول آخر: ما أكلتُ اللحم، ولن آكله. لا يأكله، ومن أجبره حتى يأكله؟ بل ربما في الآخرة لن يأكل لحماً.
فالمقصود -بارك الله فيكم- أن هؤلاء أمْزِجَة، لكن: نتحاكم عند مَن؟ نتحاكم عند الرسول عليه الصلاة والسلام.
أتى رجل عند الإمام أحمد فقال: يا أبا عبد الله! الزواج خير، أو ترك الزواج أحسن؟ فقال: الزواج أفضل، قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَيِّداً وَحَصُوراً [آل عمران:39] أي: يمدحه بأنه لم يتزوج، يا إمام، إبراهيم بن أدهم ما تزوج، قال الإمام أحمد: أُوَّة؟ بمعنى: أنه يُحاكمه إلى إبراهيم بن أدهم، أحد الزهاد؟! رجعنا إلى بنيات الطريق، والرسول عليه الصلاة والسلام أكثر الأمة زوجات، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
فالتحاكم إلى رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وأنا أحببتُ أن أخبر بهذا، وإلا فإنني أعلم أن من الدعاة من يوجهون المسيرة، وقد نبَّه بعض العلماء في مناسبات عن هذه المسائل، حتى نُظْهِرَ الإسلامَ في قوة، ونُظْهِرَه في عَظَمَة.
الإمام مالك يلبس بُرْدَة بخمسمائة دينار، فقالوا له: لماذا؟ فقال: لأُظْهِر عَظَمَة الإسلام.
وذكر صاحب طبقات الحنابلة، وعودوا إليه في المجلد الثالث، في ترجمة أبي إسماعيل الهروي، قال: كان يلبس اللباس العجيب، فقيل له: لماذا؟ قال: أريد أن أظهر عظمة (لا إله إلا الله)؛ لأن النصارى والخواجات إذا رأونا في هذه الملابس قالوا: هذا هو الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم؟
فلذلك أنا أدعو نفسي وإياكم إلى تمعُّن هذا الأمر، وهو ليس بالأمر الذي يخفى على مثلكم؛ لكن وُجِدَ من يسيء فهمه في بعض المجتمعات.
أسأل الله لي ولكم القبول والتوفيق والهداية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر