ولا تظن أن هؤلاء لم يكونوا إلا في عصر السلف ثم انقضى زمنهم، فهاهم أولاء أمام عينيك من السابقين ومن تبعهم بإحسان من أهل زماننا وعصرنا.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم باليمن والمسرات، وجعلنا وإياكم من التائبين إلى الله، المنيبين إليه، الذين قال فيهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16].
محاضرة هذه الليلة بعنوان: (شباب عادوا إلى الله) شباب تمردوا عن الله وابتعدوا عن الله عز وجل، وتركوا المساجد وهجروا القرآن، وعقوا الوالدين، وقطعوا الرحم، وأعرضوا عن الذكر، وتناولوا المخدرات، وفعلوا المعاصي في الظلمات، وأغضبوا رب الأرض والسماوات، ثم أدركتهم عناية رب البريات، فعادوا إلى الله.. قصص والقصص محبب وهو منهج رباني، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3] والقصص كما قال مجاهد: جند من جنود الله يرسله على من يشاء.
من هذه القصص ما هي مثبتة في كتب أهل العلم بأسانيد صحيحة، ومنها ما سمعتها وأمليتها وكتبتها من إخوة طلبة علم ثقات حدثوني بها، وسوف يصدر كتاب عن قريب بعنوان: شباب عادوا إلى الله، يذكر قصصاً عجيبة وأخباراً غريبة لمعاصرين من شبابنا عادوا إلى الواحد الأحد.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ [الأحقاف:15] وهنا يتحدث سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن شاب من الشباب عصى وتجبر وتمرد؛ فلما بلغ أربعين تذكر رقابة الله والعرض بين يدي الله وحساب الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * ِإلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] فعاد إلى الله.
ذكر أهل العلم بأسانيد مقبولة، وممن صحح هذا السند الأرنؤوط في كتاب التوابين: أن رجلاً من الصالحين اسمه ذو الكفل غير النبي عليه السلام، شاب عصى الله حتى بلغ من عصيانه أن خلا بامرأة بالفاحشة الكبرى، امرأة أجنبية والإنسان قد ينحط ويصل إلى درجة البهيمية، ينحط عن رقابة الله عز وجل وينسى الله ورقابة الله، حتى إن بعضهم يقدر الناس ومرأى الناس ونظر الناس أعظم من نظر رب الناس، فأتى هذا الرجل فخلا بالمرأة وكانت فقيرة محتاجة أعطاها ألف دينار، فلما قرب منها وجدها تبكي، قال: مالك؟ قالت: أبكي لأنني ما فعلت هذه الفعلة إلا لحاجتي لهذا المال فاتق الله؛ فدمعت عيناه، وقال: أتوب إلى الله، فجاء في النهار التالي وإذا على بابه مكتوب: لقد تاب الله على ذي الكفل، وهو من بني إسرائيل، وكانت توبة بني إسرائيل تكتب عليهم، وكانت ذنوبهم تكتب على جباههم، إذا أذنب الرجل ذنباً خرج في النهار الثاني وإذا على جبهته أذنبت، شربت الخمر، تناولت مخدرات، زنيت يا فلان، هذا من ذنوب بني إسرائيل ومن أخبارهم وأعمالهم، أما نحن فالحمد لله قد سترنا الله، يذنب الواحد منا تحت ستار الليل وفي جنح الظلام وبين الحيطان ووراء الجدران، وقد اطلع عليه الواحد الديان، وكشف ذنبه الرحمن، فيستره! فإذا ستر نفسه وتاب يقرره الله يوم العرض الأكبر، يقول له: يا فلان! أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يارب، قال: أما فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. إلا المجاهرين، والمجاهرون هؤلاء الذين يمسون في ذنوب وخطايا ويصبحون وقد سترهم الله، فيأتي الرجل إلى أخيه وجاره وصاحبه فيحدثه كما يفعل كثير من الشباب، وقد سمعنا بآذاننا مثل هذا الفعل، الإنسان إذا تكبر وتجبر يبلغ به عدم الإحساس والبرود إلى درجة الحمار، حتى يقول: في زمن كذا وكذا فعلت بفتاة اسمها كذا.
وشاعر موجود له قصائد مشهورة يقول: أنا كانت لي صديقة في أمريكا الجنوبية، وقلت فيها هذه القصيدة، ما معنى صديقة؟! معناه: أنك اتخذت مسافحة وأنك سافحت، ومعناه: أنك تعديت حدود الله وارتكبت فاحشةً كبرى، وأشهدت الألوف المؤلفة عليك، فكل من يسمع هذه المحاضرة والشريط سيشهدون عليك يوم القيامة: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
فتجد بعض الناس يخبر بمعاصيه فهذا لا يغفر الله له، المجاهر الذي يخبر الناس لا يغفر الله له، أي: أنه بلغ به الحال أنه ليس لله رقابة عنده ولا حساب ولا خوف ولا خشية ولا مراقبة، فجزاؤه النكال ألا يقبل الله له توبةً ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم.
والآن أذكر بعض النماذج من سير الصحابة الأخيار.
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
ثم فاضت روحه.
وقد سمعت قصةً من رجل تاب الله عليه لكن تحدث بأخبار الجاهلية، قال: كنت أسرق البقر -وهو شايب كبير أظنه في المائة- قال: فنزلنا في تهامة، فأتت امرأة ودعت على بقرتها وقالت: الله يسلط عليك فلاناً، وهو صاحب القصة، قال: فلما حلبت البقرة أخذت البقرة برباطها وطلعت الحجاز، أي: وقعت الدعوة مكانها، فيشتهر -والعياذ بالله- بعض الناس حتى يصبح يضرب به المثل، فالمرأة كانت تقول للولد: اسكت وإلا أخذك الفضيل.
أتى الفضيل بن عياض فطلع سلماً على جدار يريد أن يسرق صاحب البيت، فأطل ونظر إلى صاحب البيت فإذا هو شيخ كبير، وعنده مصحف، ففتحه واستقبل القبلة على سراج صغير عنده ويقرأ في القرآن ويبكي -انظر الفرق بين الحياتين: هذا يقطع السبل، لا صلاة ولا صيام ولا عبادة ولا ذكر ولا إقبال، وهذا يتلو آيات الله أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19] وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] جلس الفضيل ووضع يده على السقف وظل ينظر إلى ذلك الرجل العجوز الذي يقرأ القرآن ويبكي، وعنده بنت تصلح له العشاء، وأراد أن يسرقه وهو بإمكانه؛ لأن ذلك الرجل قوي، وهذا الشيخ لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فمر الشيخ بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] فنظر الفضيل إلى السماء وقال: يا رب! أني أتوب إليك من هذه الليلة، ثم نزل فاغتسل ولبس ثيابه وذهب إلى المسجد يبكي حتى الصباح، فتاب الله عليه، فجعله إمام الحرمين في العبادة، هذا السارق أولاً أصبح إمام الحرمين الحرم المكي، والحرم المدني، حتى يقول له عبد الله بن المبارك في قصيدته:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
قصة تسبق قصة -ولا بأس في الاستطرادات- يقول أحد تلاميذ عبد الله بن المبارك: قلت في نفسي: ما أدري ما الذي رفع ابن المبارك علينا؟ يصلي كما نصلي، ويصوم كما نصوم، ويقوم الليل كما نقوم الليل، فما أدري ما السبب؟ قال: حتى سافرنا ونزلنا في حجرة في غرفة في الطريق؛ فانطفأ علينا السراج، فذهبنا فالتمسنا سراجاً، فأتينا بالسراج فأشعلناه فإذا دموع عبد الله بن المبارك تقطر من شعر لحيته، فقلت: بهذا رفع، لعله تذكر القبر وظلمته.
هذا الرجل كان مع الفضيل، وكانوا أصدقاء وأصحاباً في الحرم، فلما سمع ابن المبارك داعي الجهاد والقتال في سبيل الله في الجبهات أخذ بغلته وسيفه وترك الحرم، كان يدرس ألوف الطلاب، فأخذ تلاميذه يمسكون بالبغلة ويقولون: يا أبا عبد الرحمن! تتركنا وتذهب؟ قال:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا |
وذهب إلى الجبهة يقاتل في سبيل الله.
يقول أحد أصحابه: لما خرجنا إلى الجبهة خرج علينا فارس وهو ملثم من صف المسلمين لا يرى إلا عيناه - عبد الله بن المبارك كان شجاعاً وقوي الجسم، وأمه تركية كان يهد الجدار، ومع ذلك دموعه تتخذ في خديه خطين أسودين من كثرة خشية الله، زاهد، عابد، تاجر، علاَّمة، محدث، أمير المؤمنين في الحديث- قال: فتلثم فخرج في الصباح وقتل سبعة، فذهبنا وراءه وأتينا إلى الخيمة فوجدناه عبد الله بن المبارك، فلما أتى في الليل نظر إلى فرشنا وظن أنا نمنا وبعضنا ما نام، فقام فتوضأ في ليلة شاتية باردة وأخذ يقرأ سورة التكاثر ويبكي حتى صلاة الفجر، وفي أثناء المعركة كتب له الفضيل بن عياض رسالة يقول له فيها: تركت الحرم الذي الصلاة فيه تعادل مائة ألف صلاة فيما سواه! تركت التلاميذ! تركت الدروس! فرد عليه بقصيدة يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب |
فلما قرأها الفضيل بلها بالدموع.. هذا الفضيل تاب وأصبح من العباد الكبار وأصبح عابد الحرمين، زاره الخليفة العباسيهارون الرشيد، وكان رجلاً صالحاً رحمه الله، زار الحرم حاجاً، فقال لأحد وزرائه الفضل بن سهل أو الربيع بن سهل، قال: يا فلان! ابحث لي عن عالم يعظني هذه الليلة، فذهب إلى سفيان بن عيينة فطرق على سفيان وقال له: أمير المؤمنين هارون الرشيد في الباب يريدك. قال: ليت أمير المؤمنين جلس وكنا أتينا إليه، فأتى فحدثه فأعطاه مالاً، فقال هارون لوزيره: ما شفيتني ابحث لي عن آخر، فذهب إلى الفضيل: فطرق عليه الباب، وإذا الفضيل يبكي في الليل ويناجي الواحد الأحد، فقال الفضيل: من طرق علينا هذه الليلة؟ قال: أمير المؤمنين هارون الرشيد يريدك، قال: مالنا ولـهارون الرشيد أمير المؤمنين، أما يكفيه ذنوب الأمة، ذنوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسألونه يوم القيامة حتى يدخلنا معه في هذا الذنب، قال: يريدك وطاعته عليك واجبة، قال: ماذا يريد مني؟ يقطعني عن صلاتي وعن عبادتي، قال: يريدك، قال: إن كان يريدني فليأت، فذهب إلى هارون الرشيد وقال: إن كنت تريده فتعال. قال: فقمنا، فطرقنا الباب، ففتح لنا وهو يبكي من آثار صلاة الليل، قال: ولما دخلنا وإذا بسراجه في طرف البيت فقام الفضيل إلى السراج فأطفأه فأصبحنا في الظلام، قال هارون الرشيد: مالك أطفأت السراج؟ قال: هذا أهون من ظلمة القبر يا هارون الرشيد. قال: عظني وانصحني، قال: يا هارون! إنك جميل الوجه وصبيح المنظر، فالله الله فلا تخيب وجهك ولا تسيئه بنار جهنم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: زدني-كان هارون الرشيد رجلاً صالحاً من بني العباس- قال: زدني، قال: يا هارون! يوم القيامة يسأل كل واحد عن نفسه، وأنت تجمع أمة محمد من في عصرك في صعيد واحد فيسألك الله عنهم؛ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، قال: يا فضيل! تريد منا شيئاً، قال: والله ما أريد منك شيئاً، أريد أن تنقذ نفسك من النار، فخرج الخليفة ثم أخذ يمسح دموعه، وأخذ يقول لوزيره: إذا دللتنا على رجل فدلنا على مثل هذا.
هذا هو الفضيل، وقد رزقه الله بابن اسمه علي، تكلم عنه ابن تيمية في الفتاوى وترجم له، يقول ابن تيمية: ثبت أن بعض الناس مات من القرآن سمع القرآن فمات مثل علي بن الفضيل بن عياض، كان فيه خشية الله أعلم بها حتى كان أبوه يصلي بالناس فينظر هل ابنه وراءه في الصف، فإذا كان وراءه يقرأ من الآيات التي فيها رجاء وفيها قصص وما يقرأ من آيات الخوف، وفي يوم من الأيام قام الفضيل لصلاة الفجر وظن أن ابنه ليس معهم، فقرأ من الصافات، حتى بلغ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات:24-26] قال: فأغمي على ابنه وسقط فحملوه فإذا هو ميت، وقد أوردها الذهبي وابن تيمية وأسانيدها صحيحة، وهو ممن صعق بالقرآن، فلما أخبر الفضيل بموت ابنه بالقرآن ضحك، وقال: الحمد لله، وسئل ابن تيمية: كيف يضحك الفضيل والرسول صلى الله عليه وسلم بكى على موت إبراهيم وقال: {إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا
فقال ابن تيمية: الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل حالاً؛ لأنه جمع بين الرضا والرحمة في آن واحد، والفضيل ما استطاع أن يجمع بينهما فأخذ الرضا وما أتى بالرحمة، وصدق ابن تيمية رحمه الله، وهذا هو العلم والذكاء المطلوب، فقال: حال الرسول أكمل.
فهذا أحد الناس الذين توجهوا إلى الله عز وجل، وعرفوا طريقه فأنقذهم الواحد الأحد.
والذي يُطْلَب منا أن نصدق مع الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
من أين يأتي النور إلا من عند الواحد الأحد، فأتى هذا الرجل فنزل إلى السوق -وهو أمير معه حاشية وجند، ولكن بعض الأمور وبعض الأعمال ترفع صاحبها عند الله- فوجد في السوق ورقة مكتوب فيها (الله) يدوسها الناس بالأقدام لا يدرون عنها، فقال: سبحان الله! اسم الحبيب يداس بالأقدام، والله لأرفعنه! فأخذ هذه الورقة وغسلها وطيبها بالطيب ورفعها في بيته، ولما أمسى في الليل سمع قائلاً يقول: يا من رفع اسم الله! والله ليرفعن الله اسمك، وأتى في اليوم الثاني وإذا قلبه متغير، رأى حياة الجهالة والضلالة، فأصبح عابد أهل بغداد، فرفعه الله، فلا تجد ترجمة في أي كتاب من كتب السلف وتراجمهم إلا تجد بشر الحافي رحمه الله رحمة واسعة، وهذا من الطراز العظيم، رفعه الله بصدقه وعودته إليه فتبارك الله أحسن الخالقين، وتبارك الله الذي يقبل التائبين، وتبارك الله الذي بتوب على المنيبين، فنسأله أن يتوب علينا وعليكم، وأن يجعلنا من المقبولين، فإن المحروم صراحة من حرم الثواب والعودة إلى الله.
يقول أبو الفتح البستي:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران |
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت جسمك فيما فيه خسران |
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان |
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا |
من استعاذ بغير الله في حدثٍ فإنما ناصره عجز وخذلان |
في قصيدة طويلة يقول في آخرها:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران |
دار أخربها الله تعمرها أنت! ودار أبغضها الله تحبها! ولو صرف الواحد منا عُشْر ما يصرف لدنياه لدينه لصلحت أمورنا، تجد بعض الناس مهدماً من كل جهة.. الصلاة مهدومة، قراءة القرآن والصدق والوفاء والأمانة والأكل الحلال والاستقامة والإخلاص، كل شيء مهدم، لكن دنياه معمورة، لو انكسرت حنفية لأقام الدنيا وأقعدها، سيارته عامرة، بيته عامر، ولكن يقول:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران |
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان |
يقول حافظ إبراهيم في عمر:
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها |
للملوك تنحوا عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها |
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها |
يقول ابن كثير في البداية: قال أنس: [[رأيت
أول عودة له أخذ السيف يريد أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول بعض المفكرين والأدباء العصريين.. يريد أن يقترف أعظم جريمة في تاريخ الإنسان، فلما ذهب رضي الله عنه وأرضاه لقيه رجل فقال: إلى أين؟ قال: أريد أن أذهب إلى محمد أقتله، قال: هون عليك، أختك أسلمت وهي تقرأ القرآن عند صهرك. فعاد مغضباً يكاد يهشم الجدران والسيف معه، وأنصت عند البيت وأخته ترفع صوتها مع زوجها؛ فأدخله هذا الموقف الإيمان، وهي تقرأ قوله: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:1-5].
كلمات ما أظن أن الإنسان يقف إن كان في قلبه ذرة من الإيمان ويسمعها إلا ويهتدي ويزداد هدىً ونوراً، إلا إنسان أغلق الله قلبه وأغفل عليه.
فدخل ولكنه ما سمع الآيات كما ينبغي؛ فلطم أخته وضرب زوجها، وهم لا يقفون له أبداً حتى أدماهم ثم جلس، وقال: أريد أن أقرأ الصحف، قالت أخته: أنت نجس وهذا القرآن طاهر، قالت: اذهب واغتسل، فاغتسل وأخذ الصحف يقرؤها، فقرأ سورة طه وهو عربي يعرف من أنزل هذا القرآن، قال تعالى: قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:28] وقال: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21] قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] فقرأ ولما وصل إلى قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] انهد باكياً، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده وأعلن إسلامه، وشهد أن لا إله إلا الله، وأعلن النصر معه إلى آخر قطرة من دمه، وبالفعل كان تاريخاً حافلاً، وأنا أوصي إخوتي في الله أن يقرؤا سيرة عمر بكثافة، وأن يقرءوا عجائبه وزهده وعبادته، فإن قراءة قصص هؤلاء العظماء في الإسلام تزيد الإنسان بصيرة في الدين، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].
يقول سيد قطب: القرآن يأتي على القلب حتى يطوقه من جميع النوافذ فما يستطيع القلب أن يفر.
ويروي سيد قطب قصة في أول هدايته، وسيد قطب درس في كلورادو في مدينة دنفر، وكان معجباً بالغربيين، وقرأ ثقافاتهم، ووصل إلى مصر بعدما كان مثقفاً متطوراً غربياً، وهذه القصة ذكرها في تفسير سورة النجم في المجلد السادس، قال: كنا أنا ورفقة لي في القاهرة بعد صلاة العشاء وعندنا راديو، ففتحنا الراديو نستمع إلى الأخبار -أول الهداية من الله عز وجل قد تكون بمقالة، بمحاضرة، بنظرة، ببكاء، بجنازة، بصوت من راديو، بمشهد تقرؤه أو تطالعه- قال: فاستمعنا إلى صوت الراديو ومعي الزملاء، فارتفع صوت راديو الجيران، فإذا مقرئ حسن الصوت يقرأ سورة النجم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:1-5] قال: فأما أنا فسافرت بقلبي في رحلة مع الرسول عليه الصلاة والسلام -الرجل أديب يكتب بقلمه ما لا يستطيع الإنسان أن يرسمه بيده، قلمه سحر حلال- قال: فسافرت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء والمعراج، وتركت جثماني مع زملائي- بعض المقرئين يهزك حتى يذكرك بقيام الساعة- قال: حتى وصل إلى قوله تعالى: أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [النجم:57-59] قال: فانهديت باكياً حتى يقول في الظلال: -ولكم العودة إليه- قال: والله ما استطعت أن أتحكم في عضلاتي، أصبح يهتز كله، قال: وعلمت أن هذا القرآن يؤثر في القلوب مالا يؤثر فيها شيء آخر أبداً، ثم أعلن هدايته وتوبته وعاد إلى الله، فأصبح قلماً من أقلام الحق، وأصبح شهيداً من شهداء الإسلام إن شاء الله، وهنا قصيدة قيلت فيه، وسبب هذه القصيدة أنه لما أتى يشنق في المشنقة ضحك، فقال له الجلادون: لماذا تضحك؟ قال: أضحك من حلم الله على هؤلاء ومن تجرئهم على الله، فيقول أحد شعراء مصر:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى |
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا |
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى |
يقال له في آخر الأيام: اكتب اعتذاراً إلى أحد الطغاة أنك تنازلت عن مبادئك لعله يعفو عنك، قال: والله لا تكتب يدي حرفاً له، إن كنت قتلت بالباطل فأنا أكبر من أن استرحم الباطل، وإن كنت أقتل بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق، فقتل.. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:169-170].
الطفيل أعلن إسلامه، وعاد إلى دوس فدعاهم إلى الله فأعرضوا، فأتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: ادع على دوس... سبحان الله! لو كان الواحد منا أتى ببعض الجزئيات التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم لدعا على الناس جميعاً، تصور أن رجلاً يحدث جماعة في مسجد ويختصم معهم فيدعو عليهم، أو يمنعونه من الكلمة، أو يحرمونه من شيء فيجعلهم أعداءً ألداء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب ويرمى ويخرج من دياره، وتضرب بناته، ويؤخذ ماله ويباع عقاره، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} حتى يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى له من فوق سبع سماوات: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ما هذا التحمل والصبر والحكمة والحلم والأناة؟! يقول سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ويقول له عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
دعاهم الطفيل وهو من تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعرضوا عنه فقال:{يا رسول الله! ادع على دوس، فشا فيهم الزنا وأكلوا الربا، فرفع يديه واستقبل القبلة، فقال الطفيل: هلكت دوس فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أهد دوساً وأت بهم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اذهب إليهم، قال: اجعل لي علامة -أي: بينة وكرامة من الكرامات يصدقونه- قال: اللهم اجعل له علامة -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- فأتى نور في جبينه يضيء في الليل مسافات، قال: يا رسول الله! أخشى أن يقولوا: هذه مُثْلَة، فدعا صلى الله عليه وسلم أن تتحول، فتحولت إلى العصا } فكان يقول بالسوط هكذا على جبال زهران فتضيء كلها بنور الواحد الأحد، دخل عليهم فأسلموا جميعاً ودخلوا في دين الله أفواجاً.
فهم المصلحون ببركات ذاك الذي في مكة:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
صلى الله عليه وسلم.
فذهب هذا الرجل فكان يفعل الأفاعيل: زنا وخمر وشرود عن منهج الله، أما الصلاة فتركها من زمان وهو في بلاده هنا، وفي الأخير كانت أمه امرأة صالحة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، كانت تدعو له وحاولت وصبرت، وفي الأخير كانت تدعو أن يقبض الله روحه؛ لأنها ملت من هذه الحياة، ذهب وعاد كأنه رجل من الخواجات، لا يتكلم إلا في أوروبا، ولا يرى شيئاً من هذه التقاليد، ويرى أننا في تخلف، وأن ديننا رجعية -والعياذ بالله- ويحدث عن أمورهم وعن عجائبهم، وفي لحظة من اللحظات أراد أهله أن يزوجوه، فوافق وتزوج امرأة لكنها صالحة، تقوم الليل وتصوم النهار، وتحفظ كثيراً من القرآن، فتاة قدوة في السلوك والأخلاق رضية الأفعال، وكانت مؤمنة، فأحبها لجمالها، وللأمور أسباب ومداخل، فلما رأته ما صلى تلك الليلة قالت: يا فلان! والله ما جمعني بك دنيا ولا مال ولا جاه، إنما أردت أن يهديك الله على يدي، فإن كنت تريدني امرأة عندك فاعلم أنك لن تنال هذا إلا بالدين والخشية من الله والصلاة، قال: ليس غير هذا الكلام؟ قالت: سمعت هذا الكلام، فصلى أول الليل مجاملة، وقام وصلى الفجر، وفي اليوم الثاني أعطته حقنة من الدعوة إلى الله، وكانت تدعوه على الطعام وبعد الطعام وعلى الشاي وبعد الشاي وتقود قلبه إلى الله، وتحدثه بالقصص عن الصالحين التي سمعت، وفي الأخير اهتدى وحافظ على الصلوات الخمس في المسجد، وقاطع الخمر ثم ترقى به الحال إلى أن أخذ السنن، ثم ترقى به الحال حتى أصبح من الدعاة المؤثرين في غيرهم، فانظر إلى هذه الفتاة المؤمنة التي نسأل الله أن يرفع منزلتها في الآخرة، وأن يجعلها من العابدات الصالحات، وأن يثبتنا وإياه يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} يقول تعالى: ذلك فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
الجيوش العربية حين أن دخلوا فلسطين قيل لأحد القادات وهم يقاتلون إسرائيل: نصلي؟ قال: إذا رجعنا بلادنا صلينا، فنزلت عليهم إسرائيل نزول من لا يخاف ولا يرحم، فترك جزمته في إسرائيل وهرب إلى بلاده، هذا هو الجزاء، قال تعالى: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:16].
فأتى هذا اللواء الركن يقول: كنت جالساً في ثكنة عسكرية في العراق، وكنا في الليل مع قادات -هو لواء ركن- قال: فمر بنا داعية من الدعاة المسلمين -أراد الله أن يفتح قلبه- قال: فأتى ونحن في ليلةٍ حمراء، مع كل قائد كأس خمر، ويلعبون من البلوت واللعبات التي لا يلعبها إلا الغافلون دائماً، فقال لهم هذا الداعية كلمة واحدة، ما ألقى محاضرة ولا خطبة، قال: أما تخشون الرقيب؟!
فقال اللواء خطاب: وأين الرقيب؛ وما عندنا إلا الكواكب، ما هنا إلا النجوم؟ قال: وأين مكوكب الكواكب؟ قال: ثم تركنا وذهب، لكن دخلت كلمته إلى قرار قلبي، أحسست بحرارتها تلك اللحظة؛ لأن الإنسان مفطور على الخير وعلى الإيمان: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] كل حيوان وكل مخلوق وكل كائن يعرف أن هناك إلهاً.
مر عيسى عليه السلام -والقصة صحيحة إلى عيسى ثبتت عنه- مر عيسى عليه السلام ببقرة قد اعترض ولدها في بطنها في ساعة الولادة، وإذا البقرة تنظر إلى السماء وتدمع عيناها؛ لأنها تعلم أن الحي القيوم مفرج الكربات في السماء أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] ثم تكلمت وأنطقها الله الذي أنطق كل شيء فقالت: يا روح الله! أسألك بالله أن تدعو لي، فبكى عليه السلام وقال: اللهم سهل لها، فأنزل ولدها في تلك الفترة.. نعم. كل شيء يعلم أن هناك إلهاً مدبراً، سبحان الخالق الأحد!
قال: فذهبنا تلك الليلة وبقيت أقول كلما قمت من نومي: أين مكوكب الكواكب؟
آتي أنام فما أستطيع أن أنام وأقول: أين مكوكب الكواكب؟
أخرج في الليل وأنظر إلى الكواكب وأقول: أين مكوكب الكواكب؟
وفي الأخير أعلن توبته وانصدع باكياً في ليلة من الليالي، فأتى وتاب من حياة الجهل والخرافة والظلام، وجدد إيمانه وطريقه وأصبح من دعاة الإسلام، وهو الذي سد مساحة العسكرية الإسلامية في كتبه، نسأل الله أن يجزيه عن الإسلام خير الجزاء.. يقول تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16] وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24-27] فنسأل الله لنا ولكم الثبات والاستقامة حتى نلقاه.
وفي ليلة من اليالي أراد الله أن يهديه -ولله عز وجل حكم ولطائف- قال: نمت تلك الليلة وأتاني اختناق حتى أشرفت على الموت، وأحسست باليوم الآخر، انتهى الأمر وأنا في يقظة، استيقظت وإذا بمن يخنقني، وإذا بالخنق في رقبتي وفي عنقي، وأنا قد شعرت بالموت تماماً واستيقنت أني لقيت الله، وفي تلك الأثناء أتذكر قدومي على الله، ما عندي صلاة ولا ذكر ولا قرآن ولا توبة ولا صلاح، بماذا ألقى الله؟ وتذكر القبر وتذكر هذه الأمور؛ فعاهد الله وهو يختنق، كأن إنساناً يخنقه وهو لا يرى شيئاً لكن لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أسباب، قال: أعاهدك يا رب إن نجيتني أن أتوب إليك وأكون عبداً صالحاً، واستمر يعاهد الله حتى أخذ الله منه الميثاق ثم أفلته فاستيقظ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أتوب إلى الله، وقام فاغتسل وغير ملابسه وبدأ يصلي من تلك اللحظة قبل صلاة الفجر بساعات، وأخذ يصلي ويبكي حتى أتت صلاة الفجر، وسمع الأذان (الله أكبر) لكن ليس كالأذان كل يوم، اليوم له طعم، دخل الأذان إلى قلبه، فقام يجيب داعي الله ويذهب إلى المسجد، ورحب به المسجد في أول لقاء وبدأ يصلي، قال: أول صلاة صليتها كانت صلاة الفجر.
وأحد المفكرين له مفكرات كنت أطالعها فإذا فيها يقول: كنت في بيروت فركبت في سفينة فيها فتيات راكبات -أعوذ بالله-، قال: فانغمست بنا السفينة فكدنا نغرق، فأشرفت على الهلاك وأصبحت في غيبوبة، وكان في حالة اختناق، فرفع إصبعه وقال: أشهدك -يا رب- إذا أخرجتني أن أتوب، فأخرجه الله تعالى ليرى هل يتوب؟ فتاب الله عليه فأصبح مفكراً وداعيةً من دعاة الإسلام.
يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} ويقول عليه الصلاة والسلام: {يقول الله عز وجل: يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وهذه الثلاثة الأحاديث عند مسلم في الصحيح، وعند الترمذي بسند صحيح، يقول عز وجل: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} مع العمل الصالح، مع الإنابة والاستغفار والتوبة إلى الله الواحد الأحد.
الشاب الثاني: اهتدى، وهذا الأخ أصبح الآن يعمل أستاذاً في مدرسة وهو داعية.. لكنه قبل ذلك أعرض عن الله طويلاً، وترك أمور الإسلام حتى بلغ درجة الكفر، أصبح كافراً لأنه من ترك الصلاة فقد كفر، كافر لكنه موجود في مدن المسلمين، ويأكل مع أهله ويروح ويأتي في السيارة لكنه كافر مثل الكلب، قال: واستمر بي الحال وأتاني بعض الدعاة لكن ما نفع شيئاً؛ لأن هداية الله تأتي في أوقات، والله هو الذي يفتح القلوب، قال: وأتاني رجل حبيب ما أنسى جميله، فأخذ الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـابن القيم -جزى الله ابن القيم خيراً، وجزى الله هذه الداعية خيراً، وجزى الله هذا التائب خيراً- قال: فأتى بـالجواب الكافي، وقال: تفضل يا أخي هذا الكتاب، ببسمة، وبعض البسمات تشتري القلوب، يقول جرير بن عبد الله البجلي: ما رآني الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي، يشتري صلى الله عليه وسلم القلوب بالبسمات، السحر الحلال، قيل لأحد العلماء: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال.
يقول سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63] قال: فتبسم وأعطاني هذا الكتاب، فكان لهذه الهدية أعظم أثر في قلبي.
يا أيها الناس: الهدايا هي هذه الهدايا، الكتاب الإسلامي، الشريط الإسلامي، الموعظة، النصيحة، الخطب، التوجيه، الزيارة في الله، التأثير في الناس، أما هدايا الدنيا فقد امتلأت بيوتنا منها وما نفعتنا لا في الدنيا ولا في الآخرة، هدايا الأنعام والأقمشة والأحذية والأشربة والمشهيات: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] إذا لم تكن لوجه الله فما تنفع.. قال: فأعطاني الكتاب فأخذته معي وذهبت وبدأت أقرؤه وبدأ الإيمان ينصب، كأن ابن القيم يحدد هذا الرجل المعرض، وبدأ يتأثر وما مر عليه إلا يوم وأعلن توبته، وأعلن أنه كان مخطئاً واعترف بالذنب أمام الله، وأشهد الله على الاستمرار في الطريق.. ومن الذي أقبل على الله فلم يقبله الله؟! هل رأيت إنساناً أقبل على الله فرده الله؟ هل رأيتم إنساناً فعل الأفاعيل ثم أقبل على الله وتاب فلم يقبله، سبحان الله! الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي: تبلغ نفسه حنجرته، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـذي الطبسين فالتفت ورائيا |
يقول: أتاني الضلال وجنون الشباب والغرور وزملاء السوء ورفقة الضلالة والمجرمون -عصابات الإجرام- دعوني فأخذوني من بيت أهلي وذهبت إلى الطبسين وتركت أهلي في العراق لأفسق، قال: فوصلت إلى هناك..
دعاني الهوى من أهل أود وصحبتي بـذي الطبسين فالتفت ورائي |
فما راعني إلا سوابق عبرة تضعضعت منها أن ألوم ردائيا |
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا |
رحمك الله ورحم الله ابن عفان وأباه..
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا |
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا |
ما أحسن هذه الخاتمة الحسنة؛ يوم تركت أبنائي وأطفالي وزوجتي وأمي وأخواتي ومت في سبيل الله! لأن المقصد أن نلتقي في الجنة، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21].
يقول عبد الله بن أنيس: {أين ألقاك يا رسول الله غداً؟ قال: في الجنة إن شاء الله، قال: أعطني علامة، قال: خذ هذه العصا فتوكأ بها في الجنة} والمتوكئون بالعصي قليل فأخذها ودفنت معه.
أتى إعرابي وقال: {يا رسول الله! أين ألقاك يوم الزحام؟ -يقول: المسألة صعبة ما أدري كيف أهتدي لك؟ من أسأل عنك يوم الحشر يوم يجمع الله الأولين والآخرين؟- فدمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: تلقاني عند ثلاثة مواقف: إما عند الحوض- يوم يسقي الناس عليه الصلاة والسلام. وإما عند تطاير الصحف فآخذ باليمين وآخذ باليسار. وإما عند الصراط وهو يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم
واستشفع الناس بأهل العزم في راحة العباد منذ الموقف |
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها |
فيقول:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا |
يقول: كل الدنيا تهون يوم ذقت الهداية، وذقت النور لا تساوي الدنيا شيئاً، قال:
ودع خليلي اللذين كلاهما علي شفيق ناصح لو نهانيا |
يقول: وسلام على أبي وأمي وهما شيخان كبيران، فيقول: الحمد لله! أخبروهم أنني مت على هداية ونور، فلا يبكون علي، وإنما البكاء على من مات معرضاً، ثم قال لإخوانه:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا |
يقول: وسعا في القبر قليل، لا تحرماني من الأرض فقد أصبحت منزلي:
ولا تحرماني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا |
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا |
يقول: الآن أصبحت ليناً ما عندي منعة ولا قوة -كما قال الوليد بن عبد الملك عندما كان خليفة، كان جباراً قوياً حتى يقول الذهبي: كان غشوماً ظلوماً، فلما أتته سكرات الموت أصبح كالحبل انقطع، فقال: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29].
قال:
خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كان قبل اليوم صعب قياديا |
قال: كنت شجاعاً لكن:
إذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع |
ثم يقول:
وأشقر خنذيذ يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا |
يقول: فرسي -والحقيقة هذا تصوير عجيب- يقول: حتى الفرس بعد قليل سوف يذهب إلى الماء وهو بلجامه ما ترك له الموت ساقيا..
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا |
العرب إذا دفنوا حبيبهم يقولون: لا أبعدك الله! يدفنونه في التراب ويقولون: لا أبعدك الله! فيرد عليهم بقوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا |
أحد الشعراء وهو التهامي دفن ابنه، ومن حبه لابنه بكى عليه في أعظم قصيدة في تاريخ الرثاء، أي: في رثاء الأبناء، وهذا في رثاء النفس، فقال من حبه له: والله لا أدفنه في المقابر إنما أدفنه هنا في بيتي، فحفر له عند منامه، فدفنه وقال: لا أبعدك عني، والله إن بعد ما بيني وبينك بعد ما بين المشرقين، والحي الذي في الأندلس أقرب منك، حتى يقول في قصيدته:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتاري |
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري |
يقول ابن القيم في ترجمة التهامي: رئي التهامي في المنام بعدما مات فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة. قالوا: بماذا؟ قال:ببيتي الذي قلت فيه:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري |
يقول: تركتني في الحياة للحساد وللأعداء وللظلمة وللمنغصين وجاورت أنت الله، شتان بين جواري وجوارك..
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والعز للإنسان كالإعسار |
أو كما قال.. فالمقصود أنه يقول:
لعمري لئن غالت خراسان هامتي لقد كنت عن باب خراسان نائيا |
إلى أن يقول:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا |
وبالرمل لو يعلمن علمي نسوة بكين وفدين الطبيب المداويا |
عجوزي وأختاي اللتان أصيبتا وباكية أخرى تهيج البواكيا |
ذكر الأسرة والأحداث التي سوف تمر، ثم عد نفسه أنه مات -إن شاء الله- في سبيل الله، وقال: لا لوعة ولا فراق ولا خوف وأنا مقبل على الله، فلله الأمر من قبل ومن بعد، فالمخذول من خذل عن طريق الاستقامة، والمحروم من حرم هذا النور الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، والمقطوع حبله من لم يعرف طريق الجنة: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104] فنعوذ بالله من الخذلان.
وهذه -أيها الإخوة- دروس على طريق التوبة يشاهدها الإنسان صباح مساء، يشاهدها حين يذنب وحين يخطئ، ثم يتفكر أنه لا بد له من واحد أحد إله رحيم يتلجئ إليه.
وما نعلم أحداً من الناس إلا وهو مذنب؛ متكلم وسامع وصالح وعالم وداعية، يقول ابن عباس: [[تحترقون تحترقون ثم تصلون فيكشف ما بكم]] أي: من الذنوب والخطايا، وقال في أثر آخر: [[إنكم لا بد لكم من الذنوب، فأصبحوا تائبين وامسوا تائبين]].
أيها الإخوة في الله: علينا أن نجدد المسيرة والإقبال إلى الله، وعلينا أن نكون رسل خير وهداية، وأن نؤثر في الناس عل الله أن يهدي على أيدينا عباده الصالحين، فإن من اهتدى وعرف الطريق وأصاب ليس كالذي ظل وركب رأسه، نعوذ بالله من الخذلان! وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] يقول عز وجل عن هؤلاء: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
بعض الناس شكوا إلي -وبعض الإخوة من الدعاة وطلبة العلم- أن أبناءهم تركوا الصلاة، وما صاموا رمضان، المجلة الخليعة عند رأسه، أشرطة الجنس والغناء والمسرحيات والمسلسلات عند رأسه فماذا أعمل؟ قلنا له: أدعه باللين، وابتهل إلى الواحد الأحد، فالمفاتيح عنده سبحانه إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] فأنت تيأس، والله سوف يهدي ابنك، ولعل الله أن ينفح عليه من النفحات رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ [آل عمران:193].
هذه المحاضرة بعنوان: شباب عادوا إلى الله، نسأل الله أن نكون من العائدين إليه.
الجواب: يا أخي أما حبك لله ورسوله فهذه من أعظم أعمالك عند الله، ونسأل الله أن ينظر إليك بنظرة الرحمة وأن ينقذك من المعاصي والذنوب، وأما ماذكرت من العادة السرية فهي محرمة في القول الصحيح من أقوال أهل العلم، وأما قولك: إنك عازم على الزواج فإني أأيد هذه الفكرة، وبالمناسبة أقول هذا الكلام وقد قاله غيري من هو أعلم وأفضل وأفقه، وقد نادوا عبر وسائل الإعلام ومن المحاضرات والندوات والخطب، نادوا البيوت الإسلامية والمسلمين في مسألة تعجيل الزواج للفتيان وللشابات، وعدم مسك الفتيات في البيوت وعدم تأخير زواجهن أو زواج أبنائهم؛ فإن في ذلك الفساد العظيم والشناعة التي لم يأت بها كتاب ولا سنة وإنما أخذت من الأمم الكافرة، وأكثر ما وقع من الإجرام والفواحش التي تقع في بعض الأماكن بسبب كثرة العنوسة وتأخير الزواج، فالحسيب هو الله عز وجل.
أحد الدعاة الثقات يحدثنا قبل أيام، بل ألقى هذا الكلمة في مسجد في ثلاثة صفوف أو أربعة صفوف، قال: حصلت عندنا قصة في الحارة، بنت شابة حرمها أبوها من الزواج حتى بلغت الأربعين من عمرها، حتى توسطت من بعض قرابتها أن يزوجها لكنه رفض، الرجل رأسمالي إقطاعي مجرم أحرمها الزواج؛ فأصابها مرض عضال نقلت إلى المستشفى التخصصي، فأتى أبوها وهي في سكرات الموت، وكانت عاقلة مؤمنة دينة صائمة قائمة، قالت: يا أبي! حضر الحق واليقين، وحضرت ساعة الفراق، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: قل آمين، قال: آمين، قالت: أسأل الله ألا يغفر لك ذنبك، وأن يحرمك الجنة كما حرمتني الزواج. قال: ولم؟ قالت: حرمتني حياتي والله لقد كانت تمر بي الليالي الطوال وأنا أصارع أموراً لا يعلمها إلا الله حتى وصلت إلى هذا المرض!
وإننا نعلم من بعض الناس أخروا بناتهم تأخيراً لا عذر لهم عند الله ثم عند خلقه أبداً، إنما هناك أناس يقولون: تتوظف؛ وقد كذبوا، فتربيتها أن يبلغوا إلى هذا المستوى من الرذيلة والفاحشة الكبرى، زوجها ثم تتوظف أولا تتوظف أو تموت أو تحيا أو تشل أو تجن، إنما استرها لأن الله يقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
والبعض يقول: تكمل دراستها.. المرأة إذا بلغت لا يسترها إلا زوجها، قالت العرب: لا يستر المرأة إلا زوجها أو قبرها، وأنا أعرف في المجتمعات آلاف الفتيات والله، ومن يتصدى للدعوة يجد رسائل من الفتيات يشكين آباءهن، ويشكين بعض الأمور التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، ثم يتصدى بعض الناس الذين لا يعرفون الكتاب ولا السنة ولا الفقه في الدين ويقف في البيت كالصنم حجر عثرة يأتيه الشخص فيقول له: ما عملك؟ ماذا تعمل؟ يقول له: في كلية الشريعة، قال: كم راتبك؟ قال: ثلاثمائة، قال: الله يفتح عليك، بنتنا صغيرة ما تصلح للزواج، وعمرها اثنتان وخمسون سنة!! ويأتي الآخر فيسأل عن السيارة وعن المرتب.. تبيع بنتك! هل هي سيارة؟ هل هي أرض؟! هذا عرضك وشرفك، يقول أحد العرب: والله لو كان المهر يدفع من الأب لدفعت مهري على بنتي، وكان الصالحون يجد أحدهم الرجل الصالح فيقول: تعال يا فلان فأزوجك بنتي الصائمة القائمة.
الوليد بن عبد الملك خطب بنت سعيد بن المسيب فرفض، وهو ولي عهد المسلمين، وأتى ابن أبي وداعة رجل فقير عنده درهمان وقال: أريد أن أتزوج ولكن من يزوجني؟ قال: تعال وخذ الصائمة القائمة التي تحفظ القرآن والحديث، وهي فقيهة كأبيها فتزوجها، لكن الآن أصبح الزواج بيعاً وشراءً نعوذ بالله! كأنه يعرضها في السوق.
يقول: بنتي مالها وصف، أنت ما تعرفها، سل عنها الجيران.. أصبحت في سوق الدعاية! ملكة جمال العالم! تعرض على الصحف لا تنطح ولا ترمح بقرة مسلمة!
ثم بعض الشباب يشترط شروطاً ما أنزل الله بها من سلطان، المرأة تكون دينة عاقلة فيها جمال يرد النفس، أما أنه يشترط في أظفارها وفي شعرها وطولها بالسنتيمتر؛ فهذا لم يأت وهذا وسوسة وتبجح، فدعوتي من هذا المكان ألا يتأخر الشباب ولا الفتيات، وأن يعلن في المجتمع إنفاق هذه الفتيات من البيوت.. إلى متى ينتظر الإنسان يمسك سرباً من البنات؟ هل هو واقف عند رءوسهن دائماً؟ نحن في عصر مظلم عصر الفتنة، الهاتف فتنة، والمسلسل والمجلة والأغنية كلها فتن، وكثير من الجيران فتنة، والنزول إلى السوق فتنة، آلاف مؤلفة والعياذ بالله، يعرف ذلك من عنده وثائق ويعرف الدعوة، ويتصل ويشاهد أحوال الأمة التي تموج كالبحر في الفتنة وبعض الناس يقول: إذا تزوجت افتقرت، هذا خطأ، يقول عمر لأحد الناس هل تريد أن تغتني يا فلان؟ قال: نعم، قال: تزوج يغنك الله من فضله. فتزوج فكان من أغنى الناس، وما سمعنا أن أحداً مات وزوجته جائعة، بل أعرف من الشباب من ليس عنده ما يكفيه من الإيجارات، ولما تزوج أغناهم الله من فضله وعندما كانوا عزاباً كان الفقر في رءوسهم، ما يجد الواحد منهم ثمن الثوب فلما تزوجوا أغناهم الله.
ومن الأمور التي رصدت المهر، وقد حدد من ولاة الأمور وأرشد إليه، لكن بعض الناس له طرق ملتوية حتى يعطل الزواج والله المستعان، وعسى الله أن يهدي هذه القلوب وأن يبصرها بالحق.
الجواب: نقول: في العربية يصح من باب المبالغة، تقول: رجل داهية إذا بلغ الحد الأعلى من الدهاء، وتقول: داعية إذا تمكن في الدعوة، وتقول: علامة إذا بلغ العلم مستواه، وفهامة إذا بلغ في الفهم منتهاه، ويطلق على المرأة كذلك داعية، وهذا ليس فيه إلباس، فهي صحيحة لغوياً فيعلم ذلك، ويسمى داعياً كذلك.
الجواب: لقد أقبل الناس علينا في هذا الصيف من كل المناطق، ومن كل أنحاء الخليج، وهم ينتظرون منكم يا أهل أبها أن تقدموا صورة المسلم الذي يستقبل ضيفه بالإيمان؛ لأنهم يسمعون عنكم أنكم في مجتمع محافظ، وسمعنا من أهل الكويت وقطر أن أهل أبها تفوقوا في عالم الإيمان والخلق الجم، فأريد أن نري أولئك أننا من أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حملة الرسالة، ولا نقدم لهم صوراً مزرية -والعياذ بالله- من المعاصي، ولا نطاوعهم على المعاصي وعلى تلطيخ سمعتنا وجاهنا وجمالنا أمام الناس، فدعوتي للجميع أن يحملوا الدعوة في الخلق، الدعوة بالتعامل وبالكلمة وبإهداء الشريط الإسلامي وبالكتيب وبالتأثير فيهم، فإنهم سوف يدخلون البيوت يستأجرون وينزلون المنتزهات كأنهم في منى، وسوف يغلون علينا الأشجار والأسعار، هذه فائدتنا منهم، فغفر الله لنا ولهم، وحياهم الله على كل حال.
أما برنامج الصيف فسوف يعلن وسيكون هناك برنامج من مركز الدعوة، وبرنامج آخر من التوجيه أو ما يسمى المصطافين ومن النادي الأدبي، وسوف يكون هناك أمور منسقة وستعلن، وأما الدروس هذه فهي ثابتة إن شاء الله، وسوف تزاد في الصيف؛ لأننا نتوقع عدداً هائلاً من الناس سوف يفدون.
الجواب: لست بسيئ الفهم، بل أنت جيد الفهم، ومادمت أنك تصلي وتحضر المحاضرات فأنت ذكي، والذكاء ليس حفظ جدول الضرب كله ثم لا يصلي الفجر، هذه بلادة، يقول الذهبي عن ابن الراوندي: كان ذكياً ولم يكن تقياً. فلعن الله الذكاء بلا تقوى وحيا الله البلادة بالتقوى، تعيش وما تعرف من جدول الضرب شيئاً لكنك تصلي الصلوات الخمس أنت من الأولياء، لكن إنسان يحفظ الجبر والهندسة والرياضيات وهندسة التربة وهو مجرم فهو كلب والعياذ بالله، هذا معروف، ولذلك أنت جيد الفهم.
أحد المجانين دخل على عالم سوري في حلب عنده مكتبة، فالعالم هذا ذهب إلى مزرعته في البستان، فأتى المجنون فأخذ كبريتاً فأحرق المكتبة كلها فاشتعلت، فجاء العالم ومسكوا المجنون وقالوا: مالك يا فلان؟ قال: أريد أن أريحك من هذه المكتبة فقد أتعبتك، قال: ولم؟ قال: أتعبت بصرك وأتعبتك، دائماً في المكتبة، ورأيتك خرجت ترتاح في البستان فقلت: أريحك منها، قال: كيف تريحني من كتبي؟ قال: أنا أفهم كل ما في المكتبة، قال: ماذا في المكتبة؟ قال: المكتبة كلها تقول لك: كن جيداً،كن جيداً، فأخذه الناس مثلاً، وهذا الكلام صحيح، كل الكتب والمحاضرات والندوات كلها تقول لك: كن مسلماً مستقيماً جيداً، هذا هو المطلوب، وأنت جيد الفهم لأنك حضرت واستفدت.
الجواب: النصيحة أن تتقي الله عز وجل، وأن تثابر على عملك الصالح: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17] وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: {وما تقرب إلي عبدي بأحب أليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به}.
الجواب: هذا الحديث صحيح، لكن ليس معنى الحديث: أنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يكرم الكلاب والقطط، فإن بعض الناس يكرم الكلاب والقطط في المزارع، وهذا ليس وارداً في الكتاب ولا في السنة، ووصيتنا لإخواننا الاقتصاد، وأظن أن هذا بدأ يحد منه؛ لأنه مرت بالناس طفرة، كان أحدهم إذا أتى عنده ثلاثة ضيوف ذبح لكل رجل منهم شاة واعتذر، وإذا زاد الضيوف ذبح لهم مجموعة وقال: الرأس منكم يستاهل الرأس ولكن المعذرة، بل الله المستعان على هذه المعذرة، كلها رياء وسمعة: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47].
هؤلاء الذين يكثرون الذبائح إذا طلبتهم في مشروع خير تجدهم من أبخل الناس، يخرج ريالاً ويفركه عند باب المسجد حتى لا يلصق ريال آخر ويقول: تفضل، وإذا خرج من المسجد قال: اللهم أدخلني به الجنة وارفع منزلتي عندك واجعلني من العشرة!!
الجواب: ورد عند أبي داود -لكن سنده ضعيف- {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى رجلين إلى غدير الظلمات اختضبوا بالحناء} الحناء الذي تستخدمه النساء لا يجوز للرجال؛ لأنه من باب تشبه الرجل بالمرأة، إلا إذا كان من باب الدواء والعلاج، إذا كان لتبريد حرارة في جسمه أو لعلاج فلا بأس، أما أن يلطخ جسمه بالحناء فهذا من التشبه المنهي عنه ولا يجوز له، تجد رجلاً كفاه ورجلاه مخضبة من أوله إلى آخره هذا لا يصلح، فهو خاص للنساء وليس للرجال، إلا إذا كان لضرورة علاج فليعلم ذلك.
وصلى الله على محمد وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر