إسلام ويب

الخطوط الحمراءللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات...) الحديث.

    وفي هذا الحديث ذكر لمحظورات كثيرة منتشرة بين الناس، تعمل على تمزيق المجتمع كما أنها حالقة لدين المرء، وفي هذا الدرس شرح لهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه من فوائد.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أيها الأحباب البررة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    عنوان هذا الدرس (الخطوط الحمراء).

    وقبل أن أبدأ أحمد الله عز وجل أن شرفني بالجلوس أمامكم، وعلى أن شرفكم بحضور مجالس الرحمة والتوبة والإنابة والقرب من الله، هذه الليلة مساء السبت (21) من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ).

    هذه الخطوط الحمراء وضعها رسولنا عليه الصلاة والسلام، وليس للعبد أن يتجاوزها، فإنه هو المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي يحلل ويحرم بإذن الله، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].

    إذا علم هذا فالخطوط الحمراء في كلامه عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال).

    من يستطيع من البشر أن ينسج مثل هذه الكلمات؟ من يعبر بمثل هذا التعبير؟ من الذي يستطيع بعقله وبتفكيره وبقلمه وبمواهبه أن ينظم كلاماً في سطرين يكون قاعدة كبرى للأمة، فيحلل ويحرم، ثم يكون في أجمل أسلوب وفي أجل عبارة.

    إنه رسولنا عليه الصلاة والسلام.

    وفي هذا الحديث قضايا:

    أولاً: من هو راوي الحديث؟

    هذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولكن راويه من الصحابة المغيرة بن شعبة، وهو ثقفي من الطائف أسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلمه صلى الله عليه وسلم من أحاديثه وسننه الشيء الكثير، تميز من بين الصحابة بالذكاء الرهيب إلى درجة الدهاء والعبقرية، فهو مع معاوية بن أبي سفيان وزياد بن أبيه وعمرو بن العاص فهم دهاة العرب الأربعة.

    هذا هو المغيرة بن شعبة.

    تولى العراق في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، وله الحديث الطيب العطر عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

    ويكفيه أنه روى هذا الحديث: (إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وقائل هذا اللفظ كان أمياً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله علمه؛ قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [النساء:113].

    القضية الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم) والمحرم حقيقة والمحلل هو الله، ولا يحق للإنسان أن يحرم أو يحلل من عند نفسه، قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] فليس للإنسان أن يـبتدع من عنده تحريم محلل أو تحليل محرم على الأمة، فإن الله سوف يحاسبه ويعاقبه.

    ولذلك أحذر نفسي وإخواني ممن يتكلم أو يوجه أو يربي الناس أن يقحم نفسه في تحريم حلال أو تحليل حرام؛ فإن هذا ليس لأحد إلا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ثم لرسوله عليه الصلاة والسلام.

    نبذة حول الحرمة والكراهة في الشرع

    أما الفرق بين التحريم والكراهة:

    فالحرام في الاصطلاح: ما يثاب تاركه ويعاقب فاعله.

    وأما المكروه: فهو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، هكذا عُرِّف.

    والرسول عليه الصلاة والسلام ملك زمام البلاغة بيده، فانظر كيف نوع عليه الصلاة والسلام! فإنه قال: {إن الله حرم} ثم قال: { وكره لكم} فلو قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم، ثم قال: إن الله حرَّم، كان في الأسلوب تكرار ينبو عنه السمع، ولذلك تجده صلى الله عليه وسلم يقول مثلاً: {إن الله كتب عليكم خمس صلوات، وفرض عليكم زكاة} فلم يقل: كتب صلاة وكتب زكاة، فهذا مكرر تمجه الأسماع، فعدل عليه الصلاة والسلام عن التحريم في الثانيه فقال: {وكره لكم...}

    أمر آخر: إن المكروهات الثلاث في قوله: {وكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} أقل خطورة من الثلاث الأولى التي ذكرها رسولنا عليه الصلاة والسلام.

    ثم قال: {عليكم} والمخاطب به الأمة الإسلامية، أمة الاستجابة التي اتبعته عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين هم المخاطبون بفروع الشريعة، والكافر لا يخاطب بفروع الشريعة في قول لأهل العلم، ولو أنه ينكل ويعذب على تركه فروع الشريعة، ولكن المقصود بـ: { عليكم} أي: على الأمة، والمقصود بهم الذين حضروا هذا الخطاب منه عليه الصلاة والسلام والذين لم يحضروا بحيث كانوا أحياءً وكانوا غيباً عن مجلسه، أو كانوا في أصلاب أمهاتهم، كمثلي ومثلك الآن، فإنا أتينا بعد أربعة عشر قرناً نتبعه ونحبه ونقتدي به عليه الصلاة والسلام، فهو يخبرنا بالخبر، وما زالت ألفاظه وأوامره ونواهيه فينا حية.

    ثم قوله: { إن الله حرم عليكم: عقوق الأمهات} لم يقل الآباء والأمهات لأمرين:

    الأمر الأول: عظم حق الأمهات، فإن حقهن عظيم، ولذلك قال بعض العلماء استنباطاً كالحافظ وغيره: للأم ثلاثة حقوق، وللأب حق واحد من الآداب والوقار والعطاء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما سأله الرجل: {من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك} فجعل لها ثلاثة حقوق وجعل للأب حقاً واحداً، فهي بالنسبة للأب ثلاثة أرباع الحقوق، فأتى صلى الله عليه وسلم بحق الأمهات؛ لأنهن أعظم حقاً وأعظم منـزلة.

    الأمر الثاني: اتساق العبارة في السجع الجميل غير المتكلف، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقف على التاء، فقال: { عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات} فوقف على التاء، ولو أتى بالآباء -عليه الصلاة والسلام- ما وقف على سجعة، وهذا محله علم البلاغة.

    تعريف العقوق والأدلة على تحريمه

    قال: { عقوق الأمهات}.. أما العقوق -أعاذنا الله وإياكم- فإنه القطع يقال: عق الشجرة أي: قطعها، وعق الحبل أي: قطعه، فالعقوق القطع، قال سبحانه: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] وقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

    وقد ورد تحريم العقوق والأمر بالصلة في آيات كثيرة كقول المولى جلت قدرته: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً [الإسراء:23] وكقوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [البقرة:83] وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ [الأحقاف:15].

    وحرَّم عليه الصلاة والسلام العقوق في أحاديث كثيرة، ولكن لا يتسع المجال لذكرها؛ لأن المقام مقام تحذير من العقوق، وليس المقام مقام ذكر للبر والصلة، ولو أني سوف أستطرد قليلاً في بعض ما نقل عن السلف في بر الوالدين، وفي تحريم عقوق الوالدين، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على عظم حق الأب كثيراً حتى قال كما في الصحيح: {لا يدخل الجنة قاطع} والمعنى: قاطع الرحم، وأولى من يوصل الأب والأم، فهما الوالدان، وهما باب الجنة، وكما يروى: {الجنة تحت أقدام الأمهات}.

    من أشعار العرب في حب الأمهات

    وبالمناسبة فقد توفيت جدة المتنبي، وكانت من أسرة طيبة المنبت، فامتدحها وأثنى عليها ورثاها، وهو شاعر العربية الذي لا يشق غباره، وإن شاء الله سيكون هناك درس بعد فترة بعنوان: (مالئ الدنيا وشاغل الناس)؛ نعيش فيه ليلة مع المتنبي.

    قبل وقاة جدته أرسل لها رسالة في منبج يدعوها لزيارته في العراق، فوصلت الرسالة فقبلت رسالته وبكت، ثم أصابتها حمى فماتت، ولم تزره، فاسمع العربية والقوة والإبداع بمناسبة بر الوالدة، وهذه جدة، قال:

    ألا لا أرى الأحداث مدحاً ولا ذما     فما بطشها جهلاً ولا كفها حلما

    إلى مثل ما كان الفتى مرجع الفتى      يعود كما أبدي ويكري كما أرم

    لك الله من مفجوعة بحبيبها      قتيلة شوق غير ملحقها وصما

    إلى أن يقول:

    أحن إلى الكأس التي شربت بها      وأهوى لمثواها التراب وما ضما

    بكيت عليها خيفة في حياتها      وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما

    ولو قتل الهجر المحبين كلهم      مضى بلد باق أجدت له صرما

    عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا      فلما دهتني لم تزدني بها علما

    يقول: أنا أعرف الليالي أنها تفعل كذا، فلما دهتني بجدتي ما زادتني بها خبرة، هي فقط أثبتت أنها تأخذ الأحباب.

    منافعها ما ضر في نفع غيرها      تغذي وتروي أن تجوع وأن تظما

    ثم قال في جدته:

    أتاها كتابي بعد يأس وترحة      فماتت سروراً بي فمت بها غما

    حرام على قلبي السرور فإنني      أعد الذي ماتت به بعدها سما

    تعجب من لفظي وخطي كأنما      ترى بحروف السطر أغربة عصما

    يقول: تعجبت من سطوري يوم كتبت لها فماتت.

    وتلثمه حتى أصار مداده      محاجر عينيها وأنيابها سحما

    رقا دمعها الجاري وجفت جفونها     وفارق حبي قلبها بعدما أدما

    ولم يسلها إلا المنايا وإنما      أشد من السقم الذي أذهب السقما

    طلبت لها حظاً ففاتت وفاتني      وقد رضيت بي لو رضيت بها قسما

    فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها      وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما

    ثم يقول:

    ولو لم تكوني بنت أكرم والد      لكان أباك الضخم كونك لي أما

    وهذا من أبياته القوية مثل بيته الأول الذي يقول:

    قفي واغرمي الأولى من اللحظ مهجتي      بثانية والمتلف الشيء غارمه

    ومعنى البيت أيها الأحبة: لو لم يكن أبوك ماجداً أنتج مثلك للناس لكان يكفي أنك جدة لي، فهو يفتخر بها، ثم يقول: الفخر أنك جدة لي، فالفخر لك ليس لي في أبيات طويلة أنا أتركها إلى أن يقول:

    فلا عبرت بي ساعة لا تعزني      ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما

    فهذه بعض الأبيات في رثاء الجدة.

    وقد رثى بعض الأحبة -وهو شاعر منطيق قوي- أمه في أبيات، أذكر بعضها يقول:

    ماذا أقول وفيما أشتكي زمني      صبراً جميلاً على ما كان من زمن

    أقول والعمر جاث حول مرقدها:     أماه! والخوف يدنيني ويرسلني

    فيما تعانين من هم ومن ولهٍ     أحس تحت إهابي ما يمزقني

    هل تذكرين عظامي... اسمع الصورة:

    هل تذكرين عظامي وهي عالقة      على يديك وريقات على فنن

    أو تذكرين جفوني وهي مبحرة      تحت اللفائف بين الضعف واللدن

    أو تذكريها وقد ذابت موسدة      ضلعين من صدرك الثرثار باللبن

    أم الوحيد أجيبيني قد اقتربت      نفسي ولكنها في الغيب لم تحن

    فأطرقت ثم أومت لي مؤشرة      إلى جبيني ومالت كي تطمئنني

    قالت محضتك مكنوني فكن رجلاً      في العمق من جرحي كالخنجر اليمني

    إلى آخر ما قال.

    وأعود إلى شرح الحديث.

    ممن بر والدته ابن سيرين عالم التابعين يقول: ما صعدت بيتاً منذ أن وجدت أمي خوفاً من أن أعلو أمي وهي تحتي، في المنزل! وكان إذا دنا معها في المائدة لا يرسل يده حتى ترسل يدها، يقول: أخاف أن آخذ لقمة تشتهيها فأكون عاقاً.

    ووصل رجل من أهل اليمن يطوف بأمه وهي عجوز، ويحملها على منكبه في حرارة مكة، ويطوف بالبيت، وعرقه يتصبب، فرأى ابن عمر فقال: يا بن عمر أوفيتها حقها؟ أبررتها؟ قال ابن عمر: لا والله ولا بزفرة واحدة.

    وتعلمون في الصحيحين قصة من انطبقت عليهم الصخرة: أولهم الرجل الذي فرجت له الصخرة بسبب أنه حلب نياقه ثم أتى إلى أبويه الشيخين، فوجدهما نائمين، فبقي واقفاً باللبن وأطفاله يتضاغون عند قدميه حتى طلع الفجر، وأطفاله يطلبون اللبن، فاستيقظ والداه فشربا اللبن، فلم يوقظهما لئلا يزعجهما، ففرجت له الصخرة بمقدار بره بوالديه.

    وتعلمون أن الأم مقدمة في الحق على الأب؛ فإن لها الاحترام الكثير، والخضوع الكبير، ولها ثلاثة أرباع الرقة والعطف والحنان، فإنها مرت بأمور وبأزمات وبوقفات لا يعلمها إلا الله، والوالد لم يمر إلا بربع ما مرت به من هذه المشاكل، ومن التربية والحنان على الولد.

    شرح قوله صلى الله عليه وسلم: {ووأد البنات}

    قوله عليه الصلاة والسلام: { ووأد البنات}:

    الوأد هو: دفن البنت حية، وكان الجاهليون يفعلون ذلك هروباً من عار البنت؛ فإنهم يقولون: البنت إذا ربت كانت عاراً على أهلها، وهذا منطق سخيف حرمه الإسلام، وقد جعله الله عز وجل من أعظم الذنوب، فإن رزق البنت على الله، وربما كانت البنت مباركة أعظم من بركة الولد، وقد منح صلى الله عليه وسلم من البنات أكثر من الأولاد، فحرم الله ذلك، وقال سبحانه: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] قرأ أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلْتْ [التكوير:8-9].. هكذا قرأ أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه بسكون اللام وكسر التاء الثانية في كلمة: (قُتِلْتِ).

    ويروى عن عمر والقصة ضعيفة ضعفها أهل السير، أنه كان يبكي في حياته حتى أخذ البكاء في خديه خطين أسودين، فقيل له في ذلك قال: أبكاني قصة ابنتي، وكانت في الجاهلية، ذهبت بها لأدفنها حية، فلما حفرت القبر وقع الغبار على لحيتي؛ فأخذت وهي صغيرة تنفض الغبار عن لحيتي قال: فدفنتها حية وهي تبكي.

    وورد عن قيس بن عاصم المنقري أنه أخذ ابنته وقد ربت ونشأت وترعرعت، فقال لأمها: حلي فلانة، فحلتها وطيبتها وغسلتها، فأخذها بيدها، فلما ذهب بها إلى بئر مطوية في بادية من بوادي بني تميم، فأشرفت على البئر، فنكسها على رأسها فماتت.

    وكان قيس عاقلاً لكن الجاهلية أذهبت عقل العاقل، وإلا فإنه الذي يقال له:

    عليك سلام الله قيس بن عاصم      ورحمته ما شاء أن يترحما

    تحية من ألبسته منك نعمةً     إذا زار عن شحط بلادك سلما

    وما كان قيس موته موت واحد     ولكنه بنيان قوم تهدما

    وقال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151] وقال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31] والمعنى من فقر؛ فإن الرزاق هو الله عز وجل، فليس الأب الذي يرزق أولاده، ولذلك فتحديد النسل نظرية خاطئة؛ لأنها خوف من الرزق، لا يوافقها الإسلام ولا الكتاب ولا السنة، لأن الله هو الذي يرزق؛ قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] وما ولد مولود إلا وقد تكفل الله برزقه وبأجله، وبسعيد أو شقي، وبعض الناس يكون فقيراً وليس له ولد، فإذا ولد له أولاد وبنات رزقه الله رزقاً عظيماً، ولا تدري لعل رزقك هذا الذي يمنحك الله إياه بسبب بنت لك واحدة، فإن الرزاق حقيقة هو الله وليس العباد.

    وأول من أحيا الموءودة في الجاهلية، ومنع أن توءد هو جَدُّ الفرزدق صعصعة بن ناجية، فإنه منع الموءودة أن توءد حتى يقول الفرزدق:

    وجدي الذي منع الوائدات      وأحيا الوئيد فلم توءد

    وكان جده فارهاً في العرب يقول: أحيا بإذن الله عز وجل في الجاهلية مائة فتاة ومنعهن من القتل، فكان يأتي الفتاة التي يريد أبوها ذبحها، فيأخذها ويربيها عنده حتى يزوجها: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].

    وهذه -والحمد لله- ليست موجودة في عالم الإسلام، وما يقدم عليها أحد إلا من أضل الله سعيه وما سمعنا بذلك، لكن منع النسل وحجزه وحظره وإلغاؤه هو الذي أفتى فيه أهل العلم، أما تحديده فإن في المسألة تفصيلاً، وقد تكلم فيه بعض كبار العلماء، وكتبوا فيها رسائل، فقالوا: إذا كانت المرأة مريضة، ولا تستطيع مواصلة الحمل ويضرها؛ فإن لها أن تؤجل سنوات حتى تشفى، أو كان هناك ظروف خاصة لا يعلم بها، فإن لهم أن يحددوا فترة من الزمن، أما قطع النسل فهذا هو الممنوع الذي لا يجوز.

    وبعض الآباء يقول: أكتفي بطفلين أو بثلاثة، وهذا ليس في الإسلام؛ لك أن تحدد النسل، ولكن ليس لك أن تقطع النسل.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088933662

    عدد مرات الحفظ

    779993432