إسلام ويب

رسالة إلى مسئولللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المسئولية في الإسلام أمانة، وليست مكاسب، لذلك إذ أخذها المؤمن يأخذها بعد أن يضطر إليها اضطراراً ليحملها وليأجر عليها.

    والأمانة هي كل ما ائتمن الله العبد عليه من قليل أو كثير، فالبيت أمانة، والولاية أمانة، والأولاد أمانة، فمن قصر في أمانته أثم ومن وفى بها أجر.

    وإن الله يردع بالسلطان ما لا يردع بالقرآن، وهو ظل الله في الأرض من أهانه أهانه الله، وطاعته في غير معصية من طاعة الله.

    وينبغي للمؤمن إذا تولى ولاية أن يستعين بالأعوان الصالحين، ويخلص لله عز وجل في عمله، ويرفق بالمسلمين، ويكون حسن الخلق بشوشاً، ويقضي حوائج المسلمين.

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    شكر الله لكم حضوركم، وشكر الله لفضيلة الشيخ تقديمه، وأسأل الواحد الأحد أن يفتح علينا وعليكم من فتوحاته.

    قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193].

    عنوان هذه المحاضرة: رسالة إلى مسئول، المسئول المسلم أبي وأخي، والمسئول المسلم صديقي وحبيبي، فمن واجب النصيحة أن أنصحه، ومن واجب الحق وقبول الحق أن يستمع لي، فإن أصبت فمن الله الواحد الأحد، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله بريء من الخطأ، ورسوله بريء من الزلل.

    لهذه المحاضرة عناصر ثمانية:

    الأمانة: ما تعريفها وما حدها.

    كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

    إثم من قصر في عمله.

    أجر من أتقن عمله.

    طاعة المسئول في طاعة الله الواحد الأحد.

    عدم الحرص على المنصب والوظيفة إلا لمقصد صالح.

    الحرص على الأعوان الصالحين والإخوان الناصحين.

    آداب المسئول المسلم.

    ولكنني أفتتح محاضرتي، بثلاث قصص من قصص السلف من قصص أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، من قصص القوم الذين رباهم الله بالكتاب والسنة:

    هم القوم يروون المكارم عن أب     وجد كريم سيد وابن سيد

    وَهَّزتْهمُ يوم الندى أريحية     كأن شربوا من طعم صهباء صرخد

    ويطربهم وقع الصوارم والقنا     بيوم الوغى لا ما ترى أم معبد

    إذا وعدوا الباغين بالبأس أرعبوا     فإن أحسنوا الحسنى فعن غير موعد

    سلام عليهم، ورضي الله عليهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة:

    أولئك آبائي فجئني بمثلهم     إذا جمعتنا يا جرير المجامع

    قال سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

    أبو بكر الصديق

    أبو بكر المسئول والخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعالوا، لننتقل إليه في عاصمة الإسلام في المدينة؛ لنرى يوماً من أيامه مع الرعية، وكيف عاش الخليفة أبو بكر؟!

    ينطلق من المسجد كل صباح بعد صلاة الفجر مع المسلمين ويذهب إلى خيمة في الصحراء فريدة وحيدة، فيدخلها وعمر الوزير والمستشار المفوض لـأبي بكر، يتابع الخليفة في خطواته ولا يدري أبو بكر أن عمر يتابعه ويريد أن يرى أين يذهب أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولما دخل أبو بكر وخرج من الخيمة؛ دخل عمر بعد أبي بكر، فوجد عجوزاً كبيرة كسيرة عمياء في الخيمة، معها أطفال أبوهم قد مات، لا عائل لهم إلا الواحد الأحد، قال عمر: يا أمة الله! من أنت؟

    قالت: امرأة من المسلمين حسيرة كسيرة، عجوز لي أطفال، مات أبوهم من زمن، قال: فمن هذا الشيخ الذي يأتيكم؟

    قالت: والله ما أدري من هو.

    لكن الواحد الأحد يدري من هو، الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم صدق الصادقين وإنابة المنيبين.

    قال عمر: ماذا يفعل هذا الشيخ الذي يأتيكم، قالت: يأتينا بعد فجر كل يوم، فيكنس بيتنا، الله أكبر أبو بكر يكنس البيت؟!

    نعم. لأنه يريد الجنة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83] وقال تعالى أيضاً: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً [الفرقان:63].

    وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه}.

    قالت المرأة: يكنس البيت، ويصنع لنا طعامنا -يتحول الخليفة إلى طباخ للمساكين، يقدم لهم وجبة الإفطار- ويحلب لنا شياهنا، ثم ينطلق.

    فماذا يرد عمر على هذه القصة؟ جلس عمر يعلق على القصة بالبكاء.

    إذا اشتبكت دموع في خدودٍ     تبين من بكى ممن تباكى

    أحاذر أن يشق على المطايا     فلا تمشي بنا إلا سواكا

    ثم يقول عمر: [[أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر]] أتعبت يا أبا بكر المسئولين، أتعبت يا أبا بكر الموظفين؛ لأنك مشيت في طريق لا يستطيع أحد أن يمشي فيه، ولذلك ابن القيم إذا ذكر أبا بكر الصديق قال له:

    من لي بمثل سيرك المدلل     تمشي رويداً وتجى الأول

    عمر بن الخطاب

    عمر بن الخطاب الخليفة الصادق صاحب الجبة المرقعة، الذي يأكل خبز الشعير في الزيت، والذي يموت خوفاً منه كسرى وقيصر:

    يا من يرى عمراً تكسوه بردته     والزيت أدم له والكوخ مأواه

    يهتز كسرى على كرسيه فرقاً     من خوفه وملوك الروم تخشاه

    يصعد المنبر يوم الجمعة، وعليه جبة عليها أربع عشرة رقعة، ويقول لبطنه وأحشائه عندما تقرقر جوعاً: [[قرقري أو لا تقرقري، والله لا تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين]].

    ذكر ابن كثير في تاريخه بسند جيد عن أسلم مولى عمر قال: قال لي عمر في ظلام الليل...

    وعمر لا ينام، تقول له امرأته: يا أمير المؤمنين لا تنام في النهار ولا تنام في الليل، قال: [[لو نمت الليل لضيعت نفسي، ولو نمت النهار لضاعت رعيتي]] يخرج في الليل والناس نيام يجوب الشوارع، يسأل عن الأمن، يطرق البيوت، يدافع الإجرام، يفضح المجرمين، يسري كالبدر، معه درة في يده، يخرج بها وساوس الشياطين من بعض الرءوس.

    قال أسلم وهو مولى: فقال لي عمر انطلق معي هذه الليلة.

    ليلة من ليالي أهل الجنة، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله}:

    نامت الأعين إلا مقلة      تذرف الدمع وترعى مضجعك

    قال: فانطلقت معه، فأتينا إلى خيمة بها امرأة في الولادة وهي تبكي، فأخذ عمر يشاركها البكاء -لله دره، قلب وعى القرآن وعرف الإيمان- فقال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين تبكي؟

    قال: يا أسلم ما تدري ماذا تجد من ألم الولادة وألم النفاس، ثم انطلق إلى بيت المال، وأتى بجراب من شحم ومن دقيق ومن تمر وحمله على كتفه.

    فقال أسلم: أنا أحمل عنك هذا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لا تحمل خطاياي يوم القيامة، وذهب فدخل البيت، واستأذن على المرأة، فتحجبت وقام يشعل النار، والدخان يتخلل لحيته الكثة التي نصرت لا إله إلا الله في الأرض، فصنع الطعام وقدمه للمرأة فقالت: والله إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ولحمه ودمه، وإرادته وصدقه وعزيمته.

    سعيد بن عامر

    أختار عمر من الصحابة رجلاً فقيراً زاهداً مصلياً عابداً ليكون والياً على حمص.

    وحمص بلد للمشاغبين، كل يوم ترتفع منها شكاية لـعمر يشكون فيها العامل، يثلمون في العامل ولو كان ملكاً من الملائكة، أمة تحب الشكايات طبعاً، فأراد عمر أن يسكتهم في رجل لا مطعن فيه، فقال: يا سعيد بن عامر اذهب فقد وليتك على حمص.

    قال: لن أتولى حمص لك، إني أخاف من الله.

    قال عمر: هيه! تضعونها في عنقي وتتركونني! والله لتتولين حمص.

    يعني: تجعلون الخلافة في عنقي مسئولية وأمانة وغرماً وكلفاً ثم تركونني، فهي ليست سعادة، إنها لمن لم يحسنها خيبة وندامة يوم القيامة.

    فذهب، أتدرون ما هو متاعه، قالوا: صحفة وعصا وشملة، صحفة يغتسل ويتوضأ ويأكل طعامه فيها، وشملة ينام فيها ويجلس عليها، ويضيف ضيوفه على هذا الفراش، وعصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى.

    ذهب إلى حمص، فاستقبله أهل حمص -يظنون أنه يبشر بالأمير، فأتى هذا ومعه صحفة وعصا وشملة وزوجته وراءه- قالوا: هل رأيت الأمير؟

    قال: أنا الأمير.

    قالوا: لا تستهزئ بنا! الأمير الذي أرسله عمر هل رأيته في الطريق؟

    قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو.

    قالوا: وثيابك ثياب أمير!

    قال: إني خرجت مأموراً من عمر ما أردت إمارة وما طلبتها.

    وأتى إلى زوجته وقال: هل لك أن نتاجر في مالك وفي مالي؟ لأنها كانت تاجرة، قالت: وهل تعلم شريكاً يربحنا في التجارة؟

    قال: نعم، وجدت بعض الشركاء يعطوننا في الدرهم عشرة أضعاف إلى سبعمائة درهم.

    قالت: خذ مالي إلى مالك، ولا يفوتك هذا، فإنه مكسب عظيم، فأخذ ماله ومالها، فتصدق به في سبيل الله، وتولى الإمارة ومكث فيهم راضياً زاهداً صادقاً، فأتى عمر يبحث عن الأمراء -كان عمر له جولة استطلاع لاكتشاف المواهب، واكتشاف الدسائس، ويحاكم الأمير والوالي أمام الناس في مجلس شورى مفتوح- فيقول: ما رأيكم فيه، وما رأيه فيكم.

    فلما وصل دور سعيد بن عامر وهو جالس، قال: يا أهل حمص ما رأيكم في أميري عليكم سعيد بن عامر، قام الناطق الرسمي بلسانهم، قال: فيه كل خير إلا أربع خلال فيه.

    قال عمر: الله المستعان! اللهم لا تخيب ظني فيه، ما هي الأربع؟ قال: أولها: لا يخرج إلينا يوماً في الأسبوع ولا نراه، قال: هذه واحدة، والثانية؟ قالوا: من بعد صلاة العشاء مهما طرقنا عليه لا يخرج إلينا، قال: هذه ثانية، والثالثة؟ قالوا: لا يخرج علينا حتى يرتفع النهار ضحى، قال: هذه ثالثة -يعني يتأخر في الدوام- والرابعة، قالوا: إذا جلس في الحكم وفي دار الإمارة يغمى عليه، قال: هذه الرابعة، قال عمر: أجب يا سعيد.

    فقال سعيد: ما أردت أن أظهر شيئاً من عملي بعد أن كتمه الله، ولكن ما دام أنك قد سألتني يا أمير المؤمنين فاسمع.

    قال: الأولى: أما أني لا أخرج لهم يوماً في الأسبوع، فإن امرأتي مريضة، وليس لي خادم، فأنا أغسل ثيابي وثيابها يوماً من الأسبوع، فدمعت عينا عمر وشكره.

    وأما أني لا أخرج عليهم حتى يتعالى النهار، فامرأتي كما قلت مريضة ولا خادم لي، فأنا أصنع الطعام وأفطر أنا وزوجتي، ثم أتوضأ وأخرج إليهم.

    وأما أني لا أخرج لهم من بعد العشاء ولا أفتح الباب، فقد جعلت النهار لهم والليل لربي.

    وأما قولهم إنه يغمى علي في المجلس، فإني حضرت قتل خبيب بن عدي في مكة وكنت مشركاً، وكان خبيب مسلماً، فاجتمع المشركون حوله ليقتلوه، فرأيته يرفع على الخشبة وهو يقول: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً]].

    ثم قال:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

    وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

    فكلما ذكرت ذاك الموقف وأني ما نصرته أغمي علي، وغشي علي، فبكى عمر وبكى الناس، وقال: الحمد لله الذي لم يخيب ظني فيك، فقام سعيد بن عامر وقال: خذ إمارتك يا أمير المؤمنين، والله لا أتولى بعدها لك ولاية.

    وجاء عمر يحاسبه بعد هذا الكلام والمحاضرة قال عمر: نحاسبك على ما أعطيناك من عطاء وعلى ما عندك، أدخلني بيتك، فدخل بيته فوجد شملة وصحفة وعصا، قال: أسألك بالله ما عندك من الدنيا إلا هذا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أملك من الدنيا إلا هذا، فجلس في ركن البيت يبكي، وجلس عمر في ركنه الآخر يبكي، يقول عمر: غرتنا الدنيا إلا أنت يا سعيد.

    سلام الله عليهم، ورضي الله عنهم، أمة أخرجها الله للناس.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088928818

    عدد مرات الحفظ

    779945518