وما هي دعوة إبراهيم، وكيف عذب الله قوم سبأ، وأبدلهم بعد النعمة عذاباً، وبعد الرخاء شدة وشقاءً.
أيها الناس! كانت أول كلمة أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1].
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يقرأ الأمي الذي لم يكتب ولم يقرأ؟ ولم يتعلم ولم يخط بيمينه خطاً، وأصبح في الأربعين من عمره ثم تأتيه كلمة اقرأ؟! فكأن الله يقول له: اقرأ في كتاب الكون المفتوح، وفي آيات الله المعروضة، والشمس الساطعة، والنجوم اللامعة، في الجدول والغدير، وفي الماء النمير، وفي الشجيرات، والحيوانات، اقرأ في كل آية تمر بك في المخلوقات.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد |
فقرأ صلى الله عليه وسلم في آيات الله، فكان يخرج فيتفكر، ويتأمل، ويبكي صلى الله عليه وسلم من آيات الله، والله يقول: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101]
ترون العجائب، ترون أدلة التوحيد القاطعة، ترون كل شيء يتحدث عن عظمة الله، الزهرة تحدثكم عن الله، الطائر بجناحيه في الفضاء يحدثكم عن الله، والشجرة في الغابة تحدثكم عن الله: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) [يونس:101] ويقول تبارك وتعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُ [فصلت:53] يريهم كل آية ليعرفوا أن لا إله إلا الله، ويعرض أمامهم كل مخلوق؛ ليعلموا أن لا إله إلا الله، ويخلق من الآيات البينات على مر السنين؛ ليعلموا أن لا إله إلا الله، يقول جل وعز: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20].
أفلا ينظر أهل الصحراء إلى الإبل وهم يحملون عليها، من خلقها وأبدعها؟ من سواها وزينها؟ من أحياها متحركة على أربع؟
ثم ألا ينظرون إلى السماء، وهم عاشوا مع السماء، وعاشت السماء معهم، والسماء في الصحراء لها طعم ومذاق، فكأنه لا سماء إلا في الصحراء، السماء حين تخلو بها في ليلة من ليالي القمر؛ ترى فيها آيات الله الواضحات، أليس هذا دليلاً على قدرة القدير؟
قيل لأعرابي من البادية: [[أعرفت الله؟ قال: إي والله، قالوا: فبماذا عرفته؟ قال: عجباً لكم! الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، وأرض ذات فجاج، وليل داج، ألا تدلان على السميع البصير]] سُبحَانَهُ وَتَعَالَىَ كل آية تدلل على أنه موجود.
قيل للإمام الشافعي: اعرض لنا من آيات الله - وكان بجانبه صنوبر- فأخذ ورقة منها، وقال: [[هذه الورقة تأكلها النحلة فتخرج عسلاً، وتأكلها دودة القز فتخرج حريراً، وتأكلها الغزال، فتخرج مسكاً، أما تدل على الله الذي بيده كل شيء]].
يقول الأمريكي " كريسي موريسون " في كتابه" الإنسان لا يقوم وحده -والحق ما شهدت به الأعداء- يقول: يا للعجب! النحلة تهاجر تطلب رزقها من وراء آلاف الأميال، فإذا امتصت رحيق الأزهار عادت مهاجرةً مرةً ثانيةً إلى خليتها دون أن تضيع ولا تضل، ربما يكون لها ذبذبات توحي إليها بخبرها، ثم يقول: لست أدري.
فإذا لم يدر هو، فنحن ندري والحمد لله؛ لأن الله يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:68-69] أفلا يكفي دليل النحلة على وجود الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا |
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا |
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً، وقل للشهد: من حلاكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاكا |
كل شيء اقتربت منه أمنته إلا الله، فكلما تعرفت عليه خفته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
يقول إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] بعد إخباته إلى الله، وإنابته إلى الحي القيوم يقول من مقام الخوف: أطمع طمعاً شديداً من الله أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولا يجزم جزماً.
ويقول يوسف عليه السلام، بعد أن ملك مصر، وبعد أن جمع مالها وكنوزها، قال وهو يبكي في آخر عمره: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101] أقصى أمانيه وأعظم ما يرجو أن يلحقه الله إلحاقاً بالصالحين.
واستعرض سليمان عليه السلام قواته وجيوشه من الجن والبشر، ومن الطيور والزواحف، فلما رآها ملأت البر؛ سجد وبكى وقال: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
فالشاهد: أن تفكيراً وتدبراً لا يهديك إلى الخوف من الله، فليس بنافع ولا مفيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم من أخوف الناس لله، يقول أبو ذر رضي الله عنه: {نمت عنده صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي، فقام يقرأ، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم بكى، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم ارتفع صوته، وقال: ويل لمن لم يرحمه الله}.
ويقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء} -والمرجل: القدر إذا استجمع غلياناً- وهو يبكي من معرفته لله تبارك وتعالى، وكان يحدث الناس عن الله -دائماً- وآياته، ويناديهم بالتزود والقدوم على الله، ويخبرهم أنهم مراقبون من الله، فالله معنا دائماً، وهو فوقنا، سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ يسجل حسناتنا وسيئاتنا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
وإذا خلوت بريبة في ظلمة: لا يراك إلا الله، ولا يسجل حركاتك وسكناتك إلا الله.
والنفس داعية إلى الطغيان: تريد الاقتحام على المعصية..
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
فأعظم مقامات التوحيد عند أهل السنة والجماعة هو: التفكر، ثم الخوف من الله الجليل.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكـوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
حضرت الوفاة أبا بكر رضي الله عنه، فدخلت عليه ابنته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت: يا أبتاه! صدق الشاعر:
لعمرك ما يغني النـزاء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر |
فغضب، ونظر إليها، وقال: [[بل كذب الشاعر، وصدق الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:18-21]]].
فهذا أبو بكر الذي قدم للإسلام كل شيء، فالإسلام كأنه أبو بكر، وكأن أبا بكر هو الإسلام، وكما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد: دخل مع الصحابة، ليتنـزهوا في بستان من بساتين المدينة، فرأى طائراً على نخلة، فبكى، فقال الصحابة: مالك يا خليفة رسول الله؟ قال: أبكي لهذا الطائر، يأكل من الشجر، ويرد الماء، ويموت، ولا حساب ولا عذاب، فبكوا رضوان الله عليهم.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي |
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء |
قام هارون الرشيد فحلى قصوره، وزين دوره , وجمع الناس في مهرجان، ثم أدخل عليه الناس أفواجاً أفواجاً، فأتى أبو العتاهية الشاعر الزاهد، فقال له هارون: أمدحت هذا اليوم المشهود؟ قال: نعم. مدحته، قال: وماذا قلت فيه؟ قال: قلت:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور |
قال: ثم ماذا؟ قال:
يجري عليك بما أردت مع العشية والبكور |
قال: ثم ماذا؟ قال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور |
قال: ثم ماذا؟ قال:
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور |
فبكى هارون الرشيد حتى أغمي عليه، وأمر بالزينة أن تخلع.
فيا عباد الله: أعظم المقامات: التفكر في أسماء الله وصفاته، وفي آياته وأيامه، وفي دلائل وحدانيته في الكون، ثم الخوف منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وما ارتفع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا بتدبر آيات الله، والتفكر في دلائل وحدانية الله، والخوف من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
يقول علي رضي الله عنه: [[لا يخافن أحدكم إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه]] وكانوا رضي الله عنهم دائماً يشعرون برقابة الله، ووحدانيته، ويخافونه سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ.
يقول: أسلم مولى عمر:[[خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، بعد أن انتصف الليل، فقال لي: يا أسلم! الحقني فإني أتفقد الناس]] هذا في عام المجاعة -عام الرمادة- يوم أن جاع الناس فجاع عمر معهم، ويوم أن تعب الناس تعب عمر معهم، ويوم أن سهر الناس وسهر عمر معهم.
حسب القوافي وحسبي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها |
فمن يضاهي أبا حفص وسيرته ومن يحاول للفاروق تشبيها |
لما اشتهت زوجه الحلوى فقال لهـا من أين لي ثمن الحلوى، فأشريها؟ |
خرج رضي الله عنه عام الرمادة، يوم أن وقف يوم الجمعة على الناس، فبكى وأبكى، وسمع قرقرة بطنه، فقال: [[قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
أيها المسلمون: عباد الله! انظروا إلى اليهود، وهم أنصار القردة والخنازير، كيف يهاجرون إلى فلسطين! متعاونين متساعدين، متآخين على حرب المسلمين، وانظروا إلى الشيوعيين وأذنابهم، كيف يقومون جبهة واحدة ضد المسلمين، من أفريقيا وآسيا، وروسيا جبهة متآخين لصد زحف الإسلام المقدس، ونحن شيع وأحزاب، أفكار وآراء، الجار يحقد على جاره، والمسلم يغتاب أخاه المسلم، والأعراض تنتهك في المجالس.
فهل هذا دين؟! وهل هذا نصر، أو ظفر؟!
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نسري ونغدو في إخاء تالد |
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد |
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد |
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
أيها الناس: إن من لوازم المحبة في الله، والأخوة فيه سُبحَانَهُ وَتَعَالى:
يقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه: {قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: بايعني يا رسول الله! قال: أبايعك على شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، قال: فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، فوالله ما لقيت مسلماً إلا نصحته}.
[[شرى فرساً بأربعمائة درهم، فلما ذهب الرجل وأخذ الدراهم - البائع- قال جرير: عد، فعاد الرجل، قال: أتريد أن لك بفرسك خمسمائة درهم، قال: نعم، قال: وستمائة، قال: نعم، قال: وسبعمائة، وثمانمائة، قال: نعم، قال: خذ ثمانمائة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم]].
وروى الإمام أحمد بسند جيد في مسنده، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لوجه الله - وفي لفظ: لله- ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط بمن وراءهم}.
يقول ابن تيمية كلاماً ما معناه: يجب الاعتناء بهذا الحديث وفهمه، فهو جزء من عقيدة أهل السنة والجماعة، أن نوالي من والى الله، ونعادي من عادى الله، ونحب من أحب الله، ونبغض من أبغض الله، سواء وافقنا على فرعيات الآراء، أو خالفنا، سواء اجتهد، أو لم يجتهد، وقلَّد أو لم يقلد: فإن هذه أمور لا تمت إلى الولاء والبراء بشيء من الخدش، بل يبقى الولاء والبراء لله ولرسوله وللمؤمنين.
ذكر ابن كثير عن هارون الرشيد: أنه كلف خادماً له أن يصب عليه الماء، فصب عليه ماءً حاراً، ثم أطلق الإناء من يده، فوقع على رأس هارون الرشيد -وهو خليفة- فغضب غضباً شديداً، وقد تغير لونه من الماء الحار، فقال له الخادم: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] قال: قد كظمت، قال: وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ قال: عفوت عنك، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: أعتقتك لوجه الله الحي القيوم.
هذا هو الوقوف مع القرآن وتطبيق أحكامه في الحياة، وهذا هو المطلوب منا تجاه هذا الكتاب العظيم.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، برحمتك يا أرحم الراحمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، ووحد صفوفهم، وآخ بين قلوبهم، وأزل الفرقة عنهم يا رب العالمين، واجمع شتاتهم، واجعل كلمتهم واحدة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم اصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك، واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، ولرفع رايتك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم ثبت قلوبهم، وأيدهم بنصر منك، وأنزل السكينة عليهم، اللهم اهزم وشرد أعداءهم، ومزقهم كل ممزق، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.
أمَّا بَعْد:
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه العظيم: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:15-19].
ينتقل بنا القرآن الكريم إلى مدينةٍ من مدن اليمن، قريبة من صنعاء ليتحدث لنا عن أهلها وما كانوا فيه من نعيم، فقد كانوا في رغدٍ من العيش كما نحن اليوم نكون، وكانوا في بسط وفي أمن وسكينة، وفي راحة وطمأنينة.
وكان لهم سد أرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عليهم الأمطار الغزيرة ليمتلئ بها هذا السد فيختزن كميات هائلةٍ من الأمطار يصرفونها عن طريق الري والصرف في مزارعهم، وأنبت الله لهم من كل زوجٍ بهيج: من الأشجار اليانعة والأعناب والنخيل والحبوب، حتى قال أهل التفسير: كانت المرأة من نسائهم تذهب بالمكتل على رأسها فتمر من تحت تلك الأشجار المثمرة فيمتلئ هذا المكتل من كثرة ما يتساقط فيه من الثمار، وكان عذق النخلة لا يحمله إلا الفَرَسان من عظمته ومن كثرة ما فيه من الثمار، وكانت المياه صافية، وكان الأمن والسكينة الرغد، وكانت بحبوحة العيشِ كما نعيش فيه نحن الآن.
لكن أهل هذه القرية وسكانها أعرضوا عن أمر الله، وكفروا نعمته، فقابلوا الجميل بالقبيح، وفعلوا المعاصي، وفشا فيهم المنكر فما نهوا عنه ولم يأمروا بالمعروف، وسكت الجميع على الفعل القبيح، وتمردوا على رسالة الله، فسلط الله عليهم حشرة من أضعف حشراته سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فأراً واحداً فنقب هذا السد المنيع الهائل المتين، وأتى الماء مع هذا النقب وانهدم هذا السد وفي الأخير بُدِّلوا بعد النعمة نكداً، وبعد الرخاء ضيقاً، وبعد الخصب والمطر والسكينة والأمن فقراً وسخطاً ولعنة، فتفرق أهالي سبأ: وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19] خرج الغساسنة إلى الشام، والمناذرة إلى العراق، والأزد إلى عمان، والأوس والخزرج إلى المدينة، وخزاعة إلى مكة؛ لأنهم لم يشكروا نعمة الله، واسمعوا السياق وعيشوا مع الآيات.
يقول جل ذكره:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ:15] آيةٌ على أن هناك إلهاً، وأن هناك رباً يجب أن يعبد: آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ:15] كان لكل إنسانٍ منهم عند بيته جنة -بستانٌ عظيم عن يمين بيته وعن شماله- يقطف الثمار ويأخذ المحصول في أمنٍ وراحةٍ وسكينةٍ وطمأنينة.
ثم قال لهم الله: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ [سبأ:15] فالنتيجة لهذا الرزق هي الشكر وإظهار النعمة لمسديها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، واستعمالها فيما يقرب العبد من الله تبارك وتعالى، لا أن نقابلها بالكفر والجحود، والمعصية والجريمة والتبجح على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعلى شرعه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
الذين إن مكناهم بالمال والتأييد، وبالصحة والأمن، وبرغد العيش، وبالسكينة والطمأنينة في بلادهم وأوطانهم وأجسامهم وأولادهم وبيوتهم ماذا يفعلون يا ترى؟ هل يرقصون ويغنون ويطبلون؟ هل يعصون ويقترفون المعاصي ويخرجون على حدود الله؟ لا. قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
وانظر إلى التعقيب في آخر الآية بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] إليه يرد العمل فيجازي المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته.
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
بلدةٌ ذات رخاء، مساكن كثيرة وأمطار غزيرة، وأرزاق وفيرة.
بلدةٌ طيبة، تأتي إليها الثمرات من كل مكان، كما تأتي الثمرات إلينا وإلى بلادنا في هذا الزمان من كل دولةٍ من دول الأرض، اشكروا لله ولا تكفروا نعمة الله، ولا ترضوا بالمعصية بينكم، ولا تتعدوا حدود الله، وتنتهكوا حرماته.
ربٌ غفور: يغفر السيئة ويقبل التوبة، ويستر الخطيئة، ويرضى بالقليل، ما أحسن هذا النعيم الذي نعيشه كما عاشه، أهل سبأ! بلدةٌ طيبة: من أرغد شعوب الأرض ومن آمن بلاد الأرض.
وربٌ غفور: يدعونا صباح مساء لأن نستغفر ونتوب، يدعونا كل يومٍ أن نشكر.
وهذا على الإيهام والتهويل والإجمال أعرضوا هكذا، فهم أعرضوا عن شريعة الله، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم! أعرضوا عن رسالة التوحيد، كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
أعرضوا عن كتاب الله كما أعرض كثيرٌ منا اليوم!
فتجد الكثير -إلا من رحم الله- أعرض عن كتاب الله إلى المجلات الخليعة السافرة الداعرة، والكتب المتلوثة بالأفكار السيئة، وأعرض عن بيوت الله إلى مجالس اللغو ومجالس التهتك والجريمة، وأعرض عن منهج الله إلى منهج الشياطين ودعاة الإلحاد، وأعرض عن سماع ذكر الله إلى سماع الأغاني الرخيصة الماجنة.
فَأَعْرَضُوا [سبأ:16] ثم سكت الخطاب فقال: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16] هذا هو التأديب لمن لم يتأدب، وهذا هو الجزاء لمن لم يشكر النعمة، وهذا هو النكال، وينوع تبارك وتعالى في التأديب، يقول عز وجل: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
أرسل الله عليهم السيل فدمر سدهم، وأهلك محصولهم، وعاث ببساتينهم وحدائقهم، فتفرقوا في الأرض.
بكى الأطفال وهم يسافرون ويرون الرحيل من بلادهم الآمنة، وبكت النساء وهنّ ينظرن إلى الخراب والإبادة والتدمير التي حلت بأوطانهم وكأن الخطاب يعنينا نحنُ على لسان القائل:
إياك أعني واسمعي يا جارة.
وما فائدة هذا الخطاب إن لم نتدبر ونتعظ وقد ذهب أهل الخطاب.
انظروا إلى جيراننا الذين أعرضوا عن منهج الله ورسالته، كيف سلط الله عليهم التدمير والإبادة، ينامون على أصوات الصواريخ، ويستيقظون على صيحات المدافع، تتساقط قصورهم على رءوسهم، وتتباكى نساؤهم في شوارعهم، ويموت أطفالهم أمام عيونهم لأنهم تلبسوا بالجريمة، ولأنهم لم يشكروا النعمة، ولأنهم ما عرفوا الله، فلقنهم الله دروساً قاسيةً لا ينسونها مرةً ثانية، يعيشون الخراب والدمار، ويعيشون العذاب والويل، ويعيشون الجوع والتمزق.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16] ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ:17] هم الذين أساءوا وما أسأنا نحنُ، وهم الذين ردوا على الجميل بالقبيح، وهم الذين كفروا النعمة، وهم الذين تسببوا في هذا التدمير والإبادة، فأعرضوا ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17].
ثم عاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليذكرنا بصورٍ من صور النعمة التي عاشوها: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً [سبأ:18] حتى أن أسلوب المواصلات كان ميسراً في عهدهم، يتصلون بمدنهم وقراهم في أيسر وقت وأسهله، في أمانٍ وطمأنينة كما نتصل نحن اليوم بأسباب المواصلات في أمن ورغدٍ من العيش:
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ:18] لا تخافون، دماؤكم محقونة، ومساكنكم مأمونة، وأموالكم محفوظة، كما نعيش اليوم:
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19] كأنهم بأفعالهم دعوا على أنفسهم، وإذا رأيت العاصي والمجرم ينتهك حدود الله فكأنه يقول لله: يا رب! نكل بي، ويا رب! عذبني، ويا رب! أبعدني عن ساحتك! قال تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سبأ:19] ما ظلمهم الله، وما اقترف الله بحقهم نكالاً ولا ظلماً، ولكنهم ظلموا أنفسهم بما كسبت أيديهم: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7] وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ [سبأ:19] هل نرى لهم ركزاً؟ هل نسمع منهم من أحد؟ هل نرى بساتينهم وحدائقهم؟ لا. إنما بقي حديث السمر من أخبارهم، عظةً وذكرى.. وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ في هذا الأسلوب الغريب الرهيب، مزقناهم كل ممزق: ففرقنا بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وبين الأخ وأخيه، جزاء ما فعلوا، ثم قال تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19] هذا هو الشاهد من القصة ووجه الاستشهاد: أن تدبروا، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تدبروا في مصارع الغابرين، وانظروا كيف فعل الله بالمجرمين، لتأخذوا حذركم:
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد |
وإن لم تتنبهوا فسوف تقعون في ما وقعوا فيه، من التمزق والتدمير والإبادة والجوعِ، ومن المقتِ والنقمة والغضب والسخطِ وسوء المنقلب إلى الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم..
أمَّا بَعْد:
فاسمع إلى سياق القرآن وهو يتحدث عن إبراهيم عليه السلام، وهو يدعو لهذه البلاد؛ ولهذه الصحراء، ولأهلها، بعد أن أنزل أهله بـ مكة، في شعابٍ سود لا زروع فيها ولا بساتين، ولا حدائق فيها ولا مزارع، ولا حبوب فيها ولا فواكه، وإنما فيها شوكٌ، وصخورٌ مجدبة، وحرارةٌ متوهجة، يترك أهله هناك ثم يستقبل بوجهه الحي القيوم ويقول: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].
هل رأيت أجدب من هذه الصحراء في بلاد العالم التي نعيش فيها؟
وهل رأيت بعد ذاك الجدب أرغد منها معيشة، وآمن منها وطناً، وأحسن منها متاعاً بفضل تلك الدعوة المباركة من النبي المبارك عليه السَّلام؟
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] بوادٍ أجدبَ لا ماء فيه ولا حياة، لا ري فيه ولا رغد، لا ظل ولا أشجار، ولا حدائق ولا بساتين: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37]
ورَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37] فرض عليهم أن يقيموا الصلاة لوجهك، ويقيموا التوحيد، ويطيعوك ولا يعصوك، ربنا إذا فعلوا ذلك: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ واجعل شعوب العالم تأتي إليهم لتؤانسهم وليحيوا بها حضارةً ويبدعوا بها تجارة، أما رأيت الملايين المملينة وهي تموج بهم في مزدلفة وعرفة ومنى؟
أما رأيت الدعوة كيف تحصنت؟
ولكن هل يا ترى يستمر الشرط مع البركة؟
هل يستمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37] واستجاب الله لإبراهيم فأتت الثمرات من كل شعوب العالم، أتت الفواكه من دول العالم تحملها الطائرات طازجةً إلى هذه الصحراء، من أوروبا وأمريكا، وأستراليا والصين، ومن كل صقعٍ من المعمورة إلى هذه الصحراء، وكأن الله يقول: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15].
هذه هي النعمة التي أسبلها الله وأسدلها علينا تبارك وتعالى، ولكن العار كل العار والشنار كل الشنار أن نخالف ما جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً للطاعة، فنرد على الجميل بالقبيح، ونتجرأ على المعاصي كما يفعل السفهاء منا، الذين يلعبون بالنار، وينتهكون حدود الله، والذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ويريدون أن يطمسوا بركة هذه البلاد ومعالمها، بما يتجرءون عليه من شرب المسكر، وتناول المخدرات، ومن مزاولة الزنا، والتعامل بالربا، سوف يغضب الله ذاك الغضب الذي لا يرده هواك.
عباد الله: تدبروا من حولكم، وتفكروا كيف فعل الله بهم: ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [ابراهيم:5].
وصلوا وسلموا على من شرفه الله بالرسالة وأمركم بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ على نبيك وخليلك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر جندك المجاهدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل صقعٍ من بلاد المسلمين، اللهم ارفع رايتهم على التوحيد، واجمع كلمتهم على ما تحبه وترضاه، وثبت أقدامهم يا رب العالمين، وخذ بأيديهم وأنزل السكينة في قلوبهم.
اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ماكانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر