أهو محمد؟!
أم الشيب؟
أم الموت؟!
لكي تعرف الإجابة تصفح هذه المادة، وأيضاً ستجد لطائف من سيرة السلف الصالح.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذا الدرس: الدقائق الغالية.
الدقائق الغالية هي حياة المسلم، فكل دقيقة تمر من حياة المسلم وعمره فسوف تحسب عليه عند الله عز وجل، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].
وذكر عن بعض السلف أنه قال: "من بلغه الله ثماني عشرة سنة فقد أعذر إليه وأنذر"، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من بلغه الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فإذا تفكر المسلم أنه قد جاءته من الله نذارة وإعذار وجب عليه أن يستغل هذه الدقائق في مرضاة الله الواحد الأحد:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني |
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني |
أما معنى قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر:37] فالمعنى: أولم نمهلكم؟
ألم نمد لكم في الأجل؟!
أما تركناكم تعيشون حتى جاءتكم النذارة؟!
أما تركنا لكم مهلة بإمكانكم أن تتذكروا فيها القدوم علينا فهل تذكرتم؟ وهذا بإيجاز.
ولذلك قال بعض أهل العلم: الشيب هو النذير، فمن شابت لحيته ورأسه فقد أتاه من الله النذير.
قال سفيان بن سعيد الثوري: " من شابت لحيته أو رأسه فليعد للقبر عدته وليشتر كفناً ".
ولقد بكى العلماء والصالحون الشيب، وعلموا أنه داعي القبر، وأنه بريد الموت، وأنه سائق إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال الإمام أحمد: " والله ما مثلت الشباب -يعني: أول العمر- إلا بشيء كان في يدي ثم سقط من يدي " وقال أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب |
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب |
يقول: يا ليت الشباب -أول العمر- يعود إليَّ فأخبره ماذا فعل بي المشيب؟ غيَّر لوني، وغير بهجتي، وحطم قوتي، وأذاب سخونة شِعْري، ودنف ظهري، وأسهرني، وأبكاني.
ولذلك نام شباب مع شيخ كبير في بيت، وكان هذا الشيخ قد بلغ الثمانين من عمره، ومن المعروف أن الشباب ينامون من أول ما يضع أحدهم رأسه، وهكذا غالب الشباب، أما هذا الشيخ فما نام طول الليل؛ دائماً في أنين.. في شهيق وزفير حتى صلاة الفجر، فقال له الشباب لما صلوا الفجر: لم تتركنا ننام البارحة، فقال قصيدة يقول فيها:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا |
قالوا: أنينك طول الليل يزعجنا؛ سهرنا.. سئمنا.. لم يتركنا ننام.. فما الذي تشتكي؟ أظلمك ظالم؟ هل اعتدى عليك معتد؟ هل سلب حقك سالب؟:
قالوا أنينك طول الليل يزعجنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا |
أشتكي إليكم سن الثمانين.
أي: اصبر وسوف تجد مثلها، ولذلك قال الصالحون: "من حفظ الله في الشباب حفظه في الهرم".
وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
قال ابن كثير وهو يترجم للمحب الطبري؛ -وهو إمام شافعي كبير، من أجل الأئمة الشافعية، كان مزاحاً دعوباً، وكان متقياً لله عز وجل- يقول: ركب معه شباب في سفينة، فلما اقترب من الشاطئ قفز من السفينة إلى الشاطئ، وحاول الشباب أن يقفزوا فما استطاعوا، فقالوا: كيف استطعت أن تقفز وأنت في الثمانين، ونحن شباب لم نستطع؟
قال: هذه أعضاءٌ حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
ومعنى الكلام: هذه أعضاءٌ حفظناها من المعاصي فحفظها الله علينا لما كبرنا، فما أصابها وهن، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك}.
أبو الطيب الطبري أعطى حذاءه للخراز وأخذ حذاء، فأخذها الخراز وكان مشغولاً -عنده أحذية- فأخذ الطابور عنده، فمر به في اليوم الثاني، قال: أعطني حذائي، قال: إن شاء الله غداً، فمر به غداً. فقال: إن شاء الله غداً، فمر به بعد غد. فكلما رآه الخراز وضع حذاءه في الماء ليظهر أنه سوف يصلحها، قال أبو الطيب الطبري: يا عم! أنا أعطيتك الحذاء لتصلحها، لا لتعلمها السباحة.
فهذا هو الرجل الذي يقول: هذه أعضاءٌ حفظناها في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر.
وذكر أهل العلم في كتب الحديث وغيرها أبواب الشيب وعدوه من الإنذارات للمؤمن قبل أن يأتيه نذير الموت.
ولذلك قال أهل السير: قام عابد من بني إسرائيل عمره ثمانون سنة، فوقف أمام المرآة فرأى شيبة -وكان هذا الرجل قد أطاع الله أربعين سنة، ثم عصاه أربعين سنة، نعوذ بالله من الخذلان! بعض الناس يصيبه الخذلان بعد أن يستمر في طريق الهداية، ولا يثبِّت ولا يهدي إلا الله تبارك وتعالى- قال: فنظر إلى المرآة، فقال: يا رب! أطعتك أربعين سنة وعصيتك أربعين سنة فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ فسمع هاتفاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، فإذا عدت إلينا قبلناك.
وقد يلحق الإنسان الخذلان في آخر عمره -نعوذ بالله من الخذلان- لأسباب سوف أذكرها.
ولذلك لما أتته سكرات الموت بكى طويلاً ونزل من على سرير الملك، ونزل إلى الأرض، فمرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني ما توليت الخلافة! فسمع وهو في سكرات الموت؛ غسالاً يغسل الملابس، لا يحمل هم الأمة، ولا أي هم، ولا خاف من الظلم ولا الإجحاف، فكان يغني؛ لأن أسعد الناس أهل المهن الحرفية، تجد أحدهم كأنه يملك الدنيا بين يديه، فأنت إذا رأيت الخباز وهو على الفرن يترنم كأنه المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم |
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
فهو يتغنى لأنه ليس على ظهره هموم، مشغلته في يده، فسمع الغسال يترنم، فقال عبد الملك: يا ليتني ما عرفت الحياة! يا ليتني كنت غسالاً! قال سعيد بن المسيب -أحد علماء التابعين- لما سمع هذا الكلام: [[الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الممات، ولا نفر إليهم]].
وإنما يتذكر قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] لمن عقل وفهم عن الله عز وجل، أما الذي غلبه هواه فهذا لا يسمع الآيات، ولا يستفيد من المواعظ، ولو أسمعته خطب ومواعظ ومحاضرات الدنيا لا يستفيق أبداً.
وبالمناسبة للاستطراد وللطرفة، النساء أغضب ما يغضبهن الشيب، فالمرأة تصاحبك حتى ترى الشيب، فكأنها رأت ثعباناً عليك، يقول حسان:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر |
فالشيب عدو النساء، ولذلك أخذ بعض الناس السواد وصبغوا به لحاهم، وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم أنه محرم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {وجنبوه السواد} والسر في ذلك -كما قال بعض الفقهاء-: أنه يوهم وأن فيه تدليساً، حيث يأتي الرجل عمره ثمانون سنة -شيبة عجوز- ما بقي بينه وبين القبر إلا شبرين أو ثلاثة، فيخطب شابة فتية فتتزوجه فيموت بعد شهرين، قالوا: فيه تدليس، ولأن التدليس أمر محرم فلا يجوز التدليس بالشيب، ويجوز بالورس وبالحناء وبالكتم، وهذا على سبيل الاستطراد.
وذكر الذهبي في ترجمة يحيى بن أكثم؛ وهو أحد العلماء القضاة، وقد تولى القضاء للمأمون، لكن سياسته في القضاء كانت غير محمودة، إنما كان محدثاً صالحاً فيه خير، فلما توفي رؤي في المنام: قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: والذي نفسي بيده! لقد أوقفني بين يديه تبارك وتعالى، ثم قال: وعزتي وجلالي لولا شيبتك لعذبتك بالنار، ثم أدخلني الجنة.
وهذا لا يعني أن الشيخ الكبير له أن يفعل ما يشاء؛ لأن الله يستحي من شيبته، بل معناه: أن الله يستحي منه إذا استحى من الله، وإلا ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم -وفي لفظ: ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم- منهم: أشيمطٌ زانٍ) شيخ كبير في السن زانٍ، هذا ليس له عند الله قبول، ولا يكلمه الله يوم العرض الأكبر، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، فشيخ أخذ في عمره ما أخذ، ثم أتى إلى الله فختم صحيفته بالزنا، لا قبول له عند الله: (وملك كذاب) ملك ويكذب لأنه لا داعي له، لأن إنما الإنسان إنما يكذب؛ خوفاً أو رغبة أو رهبة، والملك ليس عنده لا رغبة ولا رهبة، والثالث: (عائل مستكبر) رجل يلصق بطنه بالثرى، وينام على الرصيف، وليس عنده درهم ولا دينار ويتكبر على عباد الله.
يقول شيخ الإسلام في كلام ما معناه: ملوم الغني إذا تكبر، وغير الملك إذا كذب، والشاب إذا زنى؛ لكن هؤلاء لقلة دواعي هذه الأمور فيهم كان عذابهم أشد وأنكى عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
نظر إبراهيم عليه السلام في المرآة فرأى شيبة بيضاء، وكان أول مرة يرى إبراهيم الشيب، فقال: يا رب! ما هذا البياض؟ قال: هذا وقار يا إبراهيم! قال: "اللهم زدني وقاراً".
قالوا عن الإمام أحمد: كان الإمام أحمد لا يقوم لأحد، لا لملك أو وزير أو سلطان ولا لغني أو وجيه، إلا إذا رأى شيخاً كبيراً شابت لحيته، فإن الإمام أحمد يقوم ويقبله ويعانقه ويجلسه بجانبه.
وإن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وثلاثة يوقرون: السلطان المقسط -أي العادل- وحامل القرآن -أي: طالب العلم العامل بعلمه- والشيخ الكبير، فهؤلاء يوقرون لما أعطاهم الله عزوجل.
ومقصودي من هذا أيها الأحبة: أن نصل إلى مسألة، وهي مسألة حفظ العمر مع الله عزوجل، فإن كثيراً من الناس ذهبت لياليهم من بين أيديهم سدى، وما استغلوها في طاعة؛ فبكوا وندموا غير ساعة مندم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن المفرطين: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم: يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31] قال أهل العلم في هذه الآية: يقولون: يا ويلتنا على ما ضيعنا في حياتنا من الأوقات الثمينة.
أي: قيام الليل، أما نحن فالكثير منا تفوته صلاة الفجر ولكن قلبه بارد لا يجد حزناً فيه ولا قلقاً ولا هماً ولا خوفاً، كما قال المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام |
أي: من يصبح بالهوان بمنـزلة يسهل أن تهون عليه الأمور، كالميت إذا أتيت تنحره وتقطعه بالسكين لا يتأثر، ما لجرح بميت إيلام.
قال هذا الرجل: نمت عن ورد البارحة من قيام الليل فحزنت، قال عمر: سبحان الله! قم فصل، أما سمعت الله يقول: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] يعني: جعل الليل خلفة عن النهار، والنهار خلفة عن الليل، فمن فاته ورده في النهار، وقراءة القرآن، والذكر في النهار، فليعوضه في الليل، ومن فاته في الليل فليعوضه بالنهار، فهي منة من الله عزوجل.
هذا أحد الصالحين اسمه: الجنيد بن محمد كان يسبح في اليوم ثلاثين ألف تسبيحه، ذكر هذا أهل العلم في ترجمته، فلما حضرته الوفاة أخذ يقرأ القرآن وهو في سكرات الموت، فقال له أبناؤه: تقرأ القرآن وأنت مشغول بالموت! قال: وهل هناك في الدنيا أحوج مني إلى العمل الصالح؟ فقد أصبح في ورطة الآن.
فيا أخوتي في الله! إن الدقائق الغالية في حياة المسلم لا تُقدَّر بثمن، والساعة الواحدة يأخذها فلان فيستقل بها إلى رضوان الله الواحد الأحد.. من قرآن، أو تسبيح، أو مطالعة، أو ذكر، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ويأخذها هذا فيصل بها إلى غضب الله ولعنته وسخطه، من ترك صلاة، أو زنا، أو فعل فاحشة، أو جريمة، أو غيبة، أو نميمة، أو معصية تغضب المولى تبارك وتعالى.
يقول النووي -والعهدة على النووي - في التبيان في آداب حملة القرآن؛ وهي رسالة طيبة وجيزة، يقول فيها: كان كرز بن وبرة يختم القرآن في الليل أربع مرات، وفي النهار أربع مرات.
لكن ليس هذا هو السنة، فلا يفقه القرآن في أقل من ثلاثة أيام، لكن أذكره من باب الجد والمثابرة، وكان أصحاب كرز بن وبرة يقولون له: اجلس معنا نتحدث معك، قال: احبسوا لي الشمس وأتحدث معكم، معنى ذلك: أن الشمس تذهب في أعمارنا وتقرضها، فمن يضمن لي يوماً كهذا اليوم.
قال الحسن البصري: [[والذي نفسي بيده! ما أصبح صباح إلا نادى اليوم في صباحه: يا بن آدم! اغتنمني فوالله إني لا أعود لك إلى يوم القيامة]] قال الجاحظ في كتابه الحيوان؛ وأحسن ما أنشد العرب في حفظ الوقت أبيات الصلتان السعدي، يقول فيها:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومر العشي |
إذا ليلة حرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي |
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي |
هذا من أحسن ما قيل! وأنا أذكر -وهذا يجوز بالإجماع- بعض الأبيات النبطية لأحد الشعراء، يذكرها في العمر وفي الشيب، ابتدأها بحمد الله، يقول:
لك الحمد يا من صور الشمس والقمر وسوى السما سبعاً وقوى عقودها |
وصلى على المختار من صفوة البشر مع أنصار دينه يوم كانوا جنودها |
أبى أوصيك يا مسلم دليل من افتكر ودرب السعادة عزكم من يرودها؟ |
إذا ما ذكرت القبر يا عبرة العبر مع الحفرة الظلما دهتنا بدودها |
لحى الله دنيا تتعب القلب والبصر إذا قلت طابت تخدش العين عودها |
صحبنا بها الإخوان في الحضر والسفر فلما تصافينا بكتنا عهودها |
بنينا بها بيتاً من الطين والحجر فدكت مبانيها وهزت سنودها |
تعبنا بها والله من كثرة الخطر كرهنا مغانيها وعفنا بنودها |
ويصدِّق هذا الكلام قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض -أي: أنعم أهل الأرض من الفجرة الذي ما عاش إلا في الحرير والقصور وفي الورود الرائجة، والحدائق الناعمة، وفي الحلي والحلل، والدنيا والزلل... وفي كل شيء- فيغمسه الله في النار غمسة، ثم يقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي نعيمٌ قط، فذهبت الفلل، والقصور، وذهب النعيم، وبقيت المعصية تلاحقه حتى أدخلته النار- ويؤتى بأتعس أهل الدنيا -هذا الرجل الطائع الذي ينام في الخيمة، ولا يجد إلا كسرة الخبز، ولا يجد إلا جرعة الماء، دائماً جائع، مطرود بالأبواب، كسيف البال، مغير الخلقة، عليه ثياب بالية، عليه وضر الضر والفاقة والفقر- فيغمسه الله غمسة في الجنة، ثم يقول الله له: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا -والله- يا رب! ما مر بي بؤس قط} وهذه هي الحياة.
ولذلك سل من تنعم، وهو في الحياة الآن، كم مر في النعيم، هل تتذكر النعيم؟ يقول: لا. الذي تغدى اليوم لا يذكر الغداء لأنه جاع الآن، والذي جاع في الأمس لا يذكر الجوع؛ لأنه شبع اليوم، ولا تبقى إلا طاعة الله الواحد الأحد.
ولذلك تواصى بها الصالحون قديماً وحديثاً.
وقال عون بن عبد الله لزملائه وهو يودعهم: أوصيكم بوصية: عليكم بتقوى الله فإن المتقي لا وحشة عليه.
ولذلك فإن القليل من العمل الصالح يعادل جبالاً من جبال ونعيم الدنيا لو كانت في ميزان الحسنات.
ونذكر هنا قصة سليمان عليه السلام مع الفلاح: كان سليمان عليه السلام كان عنده مُلْك الدنيا.. خيولها، ووحوشها، وطيورها فسخرها الله له، عمل مهرجاناً ذات يوم فاستعرض الدنيا، وخيولها، ووحوشها، وطيورها، ثم مرت به الخيل فأشغلته عن صلاة العصر، قال بعض العلماء: فأخذ السيف فقتل الخيل جميعاً، وتصدق بلحومها؛ لأن لحوم الخيل يجوز أكلها. وقالوا: بل مسح مسحاً -مر بيده- على أكتافها وأذنابها وأعتقها أو تصدق بها في سبيل الله، فعوضه الله عزوجل -لما علم حرصه على صلاة العصر- بالريح بدل الخيل، فسخرها له، فكان إذا أراد أن ينتقل من مكان إلى مكان قال للريح: يا ريح! أريد تلك الأرض فانقليني إليها، ومهما بلغت الصناعات أو التقدم العلمي فإنه لا يصل إلى هذا المستوى، فكان يقول للريح: تعالي. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ [سبأ:12] أي: أن مسيرها في الصباح تقطع مسافة شهر، وإذا عادت فإنها تعود مسيرة شهر.
ومرة من المرات أراد بلاد الهند وكان مقيماً في فلسطين، فقال للريح: أريد الهند، فأتت: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] معنى رخاءً حيث أصاب، أي: أنه إذا أراد أرضاً فلا تنزله بسرعة فتحطمه، بل تقلل من سرعتها (رخاء) رويداً رويداً (حيث أصاب) حيث أراد.
وقال أهل العلم في قوله: (حيث أصاب) حيث أراد، فهو إذا أراد هذه البقعة فلا تنزله في البقعة الأخرى، فإذا أراد الطائف فلا تنزله في جدة، وإذا أراد الرياض فلا تنزله في الدمام.
(حيث أصاب) أي: حيث أراد بنيته، فهي ريح بكماء صماء، لكن الله سخرها له.
فقال: أريد الهند، فنقلته ومعه حاشيته وأمراؤه ووزراؤه، فلما أصبح بين الأرض والسماء، قالوا: لاح له ثوبه، وكان عليه ثوبٌ جميل فالتفت إليه، فأرادت نفسه أن تعجبه، فأوحى الله إليه: يا سليمان! وعزتي وجلالي لو أعجبتك نفسك لأمرت الريح أن تحطمك في الأرض. والأنبياء معصومون لكن هذا إنذار من الله عزوجل.
فلما مر حجب الشمس عن فلاح، وهو فلاح في الأرض معه مسحاة يزرع بها، ولا يعلم عن هذا الملك العظيم ولا عن الريح، فهو فلاح في الأرض لكنه موصول القلب بالله عزوجل، ويعرف الله عزوجل.
وتقدم الحياة والقلب هو بمعرفتك بالله الواحد الأحد، وانطماس وظلمة القلب هو ألَّا تعرف الله ولو كنت في ناطحات السحاب: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الكفار الذين ملكوا الدنيا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن قوة الكافر، وجماله ودنياه: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35] مر سليمان عليه السلام فحجب الشمس عن الفلاح، فنظر الفلاح فرأى سليمان على بساط الريح، وكانت الريح تعمل بنفسها بساطاً، فقال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فذهبت الكلمة؛ لأن هذه الكلمة -سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر- لا تنزل في الأرض بل تصعد في السماء، والدليل على أنها تصعد هو قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
الكلمات الطيبة تتجه إلى الله الواحد الأحد، أما الكلمات الخبيثة: اللعن.. الشتم.. البذاء.. الغيبة.. النميمة.. الزور، فإلى سجين وهي محسوبة على العبد، أما الكلمات الطيبة، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {إن لتسبيح العبد المسلم دويٌ كدوي النحل حول العرش} وهذا الحديث في سنده نظر، وورد في حديث آخر يورده أهل العلم في فضل القرآن: {أن القرآن في آخر الزمان يعود من قلوب الناس فيكون له دويٌ كدوي النحل، فيقول الله: عد إلى صدور الناس، قال: يا رب! كيف أعود إلى أناس هجروني بالنهار بالعمل، وهجروني في الليل، وتوسدوني عند رءوسهم، فيقبضه الله من قلوب العباد} وهو من علامات الساعة، وهذا الحديث ولو أن سنده لا يقوم، لكن دلائل وقواعد الإسلام تؤيده فهو من علامات الساعة.
قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمع سليمان الكلمة فقال للفلاح -وقد هبط عند الفلاح-: ماذا قلت؟ قال: مررت بي فرأيت ملكك فأعجبني ملكك، فقلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً.
فقال سليمان: والذي نفسي بيده! لقولك: سبحان الله خير مما أوتي آل داود.
ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس}.
فلذلك رفع الله إدريس عليه السلام مكاناً علياً.
وقد كان إدريس عليه السلام خياطاً يخيط بالإبرة ويبيع على الناس وهو نبي مرسل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وداود عليه السلام كان حداداً، فلما علم الله تواضعهم رفعهم سبحانه، أما إدريس فقال الله عز وجل: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57] يقولون: كان عندما يدخل الإبرة ويخرجها يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يخرج الإبرة، فأوحى الله إليه: يا إدريس! وعزتي وجلالي لأرفعنك مكاناً علياً، قال: يا رب! بماذا وأنا مذنب؟! -أي: معترف بالتقصير- قال: إنه يُرفع عملك مع عمل أهل الدنيا، فيعادل عملك نصف عمل أهل الدنيا بالتسبيح والتهليل.
وهذا تسديد من الله أن تجد العبد دائماً يسبح ويهلل.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "كان خالد بن معدان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة". وهذا توفيق من الله عز وجل.
حتى إن أحد الصالحين وقد كان يسبح كثيراً، قال عنه أحد الشباب: عمنا موسوس، فقال في قصيدة:
ومن هيامي بكم قالوا: به مرض فقلت: لا زال عني ذلك المرض |
يقول: من ذكري لك -يا رب- يقول الناس: إن بي مرضاً، فقلت: لا زال هذا المرض.
وقال ابن القيم في بيت جميل:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس |
ولذلك تجد الصالحين دائماً يتمتمون، وقد مرَّ معنا في أحد الدروس: أن أحد المسلمين ذهب إلى المدينة النبوية فرأى أناساً من نيجيريا معهم مسابح طويلة يسبحون لكنه لا يدري ماذا يقولون، إنما يسمعهم يتمتمون بالتسبيح -وهذه المسابح فيها كلام سوف يأتي إن شاء الله فالبعض معه مسبحة لا يحملها الحمار، وكل حبة مثل التفاحة!! وهؤلاء هم غلاة الصوفية - فوجدهم يسبحون ويتمتمون لكنه لا يسمعهم وهو لا يعرف المسابح إلا ذاك اليوم، فاشترى مسبحة ورجع إلى قريته فكان يجلس في المجلس فيتمتم ويشتغل في المسبحة، فيقول له الناس: ماذا تقول يا فلان؟ قال: أقول: الحقي أخواتك الحقي أخواتك، فهو لا يعرف التسبيح فتمتم بباطل أو بمباح من القول.
وهذا ضياع للعمر فالسنة أن تعلق قلبك بذكر الله عز وجل سواء لامك الناس أو لم يلوموك.
قال النووي في كتاب الأذكار في مسألة: هل يترك الإنسان التسبيح والتحميد من أجل الناس؛ لأن بعضهم إذا جلس في المجلس يقول: لو هللت، قالوا: ماذا في هذا الإنسان؟ وهذا صحيح أنه ملفت للنظر، وينبغي للإنسان ألا يلفت الأنظار إليه لكن هل يترك الذكر فلا يسبح؟ لأنه يقول: لو سبحت لقالوا: ماذا حدث لي.. هل أنا موسوس أو مراء، قال النووي: "ومن راقب الناس في هذه الأمور فاته أجر كثير".
وهذا صحيح؛ فمن راقب الناس: قالوا.. وفعلوا.. ولاحظوا.. راقبوا، فاته أجر كثير، كما قال الفضيل بن عياض فيما صح عنه: "العمل من أجل الناس رياء، وترك العمل من أجلهم شرك، والسلامة أن يعافيك الله منهما، وأخلص العمل من أخلص العمل لله عز وجل".
فهذه مسألة حفظ الوقت مع الله عز وجل، وكيف يستغل هذه الدقائق الغالية.
والله ولي التوفيق والقادر عليه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: أما قولهم: فلان غني عن التعريف فالعبارة خطأ، يعني: يأتي محاضر أو شيخ أو عالم أو داعية أو مسئول فيقدمون له، ويقولون: فلان غني عن التعريف. قال بعض العلماء: الغني عن التعريف هو الله، والعبد لا بد أن يُعرَّف به وليس بغني عن التعريف.
وفي سنن الترمذي بسند ضعيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إذا لقي أحدكم أخاه فليسأله عن اسمه ونسبه فإنه واصل المودة}.
وعند مسلم في الصحيح من حديث وفد عبد القيس الذي رواه ابن عباس: {إن الوفد قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: من الوفد؟ -أو من القوم؟- فقالوا: من مضر، قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى} فسألهم عن أسمائهم عليه الصلاة والسلام وهو من باب التعريف.
ودليلهم من القرآن قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
فلا تقل: فلان غني عن التعريف، ولا تسل عن قبيلته وعن نسبه، فالغني عن التعريف هو الله، ولذلك صاحب أعظم كتاب من كتب النحو سيبويه، وقد كان ذكياً من أذكياء الدنيا مات وعمره (32) سنة، فلما مات رئي في المنام -وأهل الحديث يقولون: سيبوْيَه، وأهل النحو يقولون: راهوَيْه، وأهل الحديث يقولون: راهوْيَه، وسيبويه أعجمي وهو لا يستطيع أن يتكلم، فإذا قام يتكلم في الخطب تلكأ، لكن إذا كتب تجده حافظ الدنيا.
قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: لأني عندما أتيت إلى لفظ الجلالة قلت: الله لفظ الجلالة أعرف المعارف غني عن التعريف فما عرفته.
فالغني عن التعريف هو الله عز وجل؛ لأنه تعرف إلينا بآياته في كل مكان؛ فلا تلمح ولا تنظر ولا تتأمل إلا ويدلك ما تنظر إليه إلى قدرة الله، نظري إليكم ونظركم إلي، ونظركم في أجسامكم ونظركم في السماء، ونظركم في الأرض والشجر والمدر والحجر والماء والضياء والسماء تدل على رب الأرض والسماء:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد |
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد |
فكلمة غني عن التعريف هي لله عز وجل، والإنسان يُعرَّف، ولو كان معروفاً عند الناس فإنه يقال: فلان بن فلان، يشتغل في كذا، من قبيلة كذا، وهذا ليس من باب العنصرية؛ لأن القبائل التي جعلها الله عز وجل ليس لفضل قبيلة على قبيلة؛ بل المقصود التعارف: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13].
- العبارة الثانية: العصمة لله ورسوله: صحيح أن العصمة للرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز أن نقول: العصمة لله؛ لأن المعصوم لا بد له من عاصم، والله لا عاصم له، وجلَّ الله أن يكون له عاصم.
فالله هو الذي يعصم غيره ولا يعصمه غيره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فتجد بعض الناس يقولون: نحن أخطأنا، العصمة لله ورسوله، فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى زكى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:1-6]. فالله عز وجل غني قادر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحتاج إليه غيره ولا يحتاج إلى غيره أبداً.
فالذي يقول: العصمة لله فكأن الله معصوم من غيره، وهذا ليس بصحيح.
- العبارة الثالثة: المرحوم فلان بن فلان، والذي انتشر في الصحف والجرائد والمجلات -الآن- أنه إذا توفي رجل قالوا: المرحوم فلان بن فلان، وهذه تعتبر شهادة ولا يعلم الغيب إلا الله، بل يقال له من باب الإنشاء: رحمه الله وغفر الله له، وأسكنه فسيح جناته، ولا يقال له: المرحوم من باب الخبر، ولا يقال: المغفور له، ولا المرحوم، ولا الشهيد، فإن هذا من باب الخبر.
والخبر فيه تقوُّل على الله؛ لأن الخبر لا يأتي إلا عن طريق الكتاب أو من المعصوم عليه الصلاة والسلام، ونحن ليس عندنا خبر، لكن يجوز من باب الإنشاء أن تقول: غفر الله له.. رحمه الله.
وفي صحيح البخاري: {أن امرأةً لما توفي
فالعلم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي أحد قاتل قزمان وكان من أشجع الناس، وقد سمع بالمعركة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، فأخذ سيفه وقاتل قتالاً شديداً، فأصابته ضربة سيف في رأسه حتى أثخنـته الجراح، فحمل إلى دار بني ظفر، ثم لم يصبر على قضاء الله، فسلَّ السيف واتكأ عليه حتى خرج من ظهره وكان إذا ذكر عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إنه من أهل النار}.
فلا يشهد لأحد أنه من أهل الجنة إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأحد من أهل النار خصوصاً من المسلمين إلا من شهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: يشهد للشهداء على الأجناس ولا يشهد لهم على الأشخاص، مثلاً: من يقتل في أفغانستان فنقول على الأجناس: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، أما أن نقول: فلان بن فلان المولود عند دار فلان شهيد، فهذا تقوُّل على الله، فنحن لا ندري، لكن نتمنى أن يكون شهيداً، ونسأل الله عز وجل له الشهادة، فالله عز وجل يقول عن أجناس الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] فقوله: قتلوا أي -أجناس القتلى- لكن الأشخاص علمهم عند الله عز وجل.
- العبارة الرابعة: انتقل إلى مثواه الأخير، وهذه العبارة اشتهرت -أيضاً- في الصحف وفي بعض الأندية وفي المجامع العامة والمجالس، قال كثير من أهل العلم: إن كلمة (مثواه الأخير) توهم معنىً إلحادياً، فإن أهل الإلحاد -عليهم لعنة الله- يقولون: إن القبر هو المثوى الأخير، أي: لا جنة بعده ولا نار، ولا حساب ولا صراط، ولا ميزان، ولذلك فإن عمر الخيام صاحب الرباعيات الذي يقول:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر |
يقول: أعطني الخمر اليوم لأنني إذا وصلت القبر لم يعد هناك لذائذ، وليس في القبر حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، يقول: أعطني اللذائذ اليوم، وقدم لي المعاصي:
فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر |
لبست ثوب العمر لم أستشر وتهت فيه بين شتى الفكر |
يقول: أنا لم أستشر عند خلقي، ولو استُشرت لقلت: لا أريد أن أخلق، سبحان الله! مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91].. كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف:5]. فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فهو عبد مخلوق، ويقول:
لبست ثوب العمر لم أستشر وتهت فيه بين شتى الفكر |
ثم أتى يقول لصاحبه: اعمل فإن مثواك الأخير القبر.
وهذا رأي للملاحدة، ولا نريد من أهل الإسلام أن يشابهوهم فيه، فليس المثوى الأخير هو القبر، وليست النهاية الأخيرة هي القبر، بل بعد القبر جنة أو نار، وحساب، وموقف، وصراط وميزان، وتطاير الصحف:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إن قيل: نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور |
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور |
لا بد من الوقوف، والله! لنبعثن ولنقفن عند الواحد الأحد.
فلا يقال: إلى مثواه الأخير، بل يقال: إلى القبر، أو مات، أو انتقل. هذا هو الصحيح، لأن هذه الكلمة يستغلها الملاحدة كثيراً.
ولذلك يقول إيليا أبو ماضي وهو أعمى القلب، وهو شاعر لبناني عليه غضب الله:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت |
يقول: لا أدري لماذا أتيت؟ ولماذا خلقت؟ ولماذا أكلت؟ ولماذا شربت؟ فهو دابة بهيمة: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!! |
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!! |
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!! |
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!! |
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!! |
لكنه سوف يدري: إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10]. وقال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
فهذه الأسماء اللامعة -يا شباب الإسلام- موجودة كتبهم ودواوينهم في الساحة، مثل: بشارة الخوري هذا المجرم النصراني الخبيث، والشاعر اللبناني الكافر، الذي كفر بالله، ويوم نزل في دمشق حملوه على الأكتاف حتى أوصلوه من المطار إلى الفندق. يقول هذا المجرم:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم |
يقول: أعطوني أي دين يؤلف العرب. ثم يقول:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم |
يقول: قدم بلادك ووطنك وتراب أرضك على كل دين، ثم يقول:
فيا حبذا كفراً يؤلف بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم |
نسأل الله أن يصليه بعدله جهنم.
و نزار قباني المجرم الآخر عابد الجنس والمرأة؛ استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم أعظم وأصلح من خلق الله وأشرف من رفع الله، هذا المجرم له أبيات من الإلحاد، وأشرِّف هذا المكان أن أذكرها على لساني ولكن يجازيه ربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما نبين هذا من باب البيان: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
- أما العبارة الخامسة فقولهم: الله ورسوله أعلم.
أما في حياته صلى الله عليه وسلم فتطلق، فهو يعلم بعلم الله له في حياته، أمَّا بَعْد موته فلا يصح أن نقول: الله ورسوله أعلم، وإنما نقول: الله أعلم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مات وهو في قبره لا يعلم ولا يشافي ولا يعافي ولا يرزق، وهذا على خلاف معتقد غلاة الصوفية الذي يقول شاعرهم القبوري المشرك البرعي شاعر اليمن لما أتى إلى قبره عليه الصلاة والسلام وأخذ الحديد وبكى وهو يقول: شافي مريضي، لأن عنده بنت مريضة في اليمن، ويقول: أنا مذنب يا رسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم في قبره! يقول في قصيدته:
يا رسول الله يا ذا الفضل يا بهجة المحشر جاهاً ومقاما |
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاماً |
وهذه كلمة شركية تخرجه من الملة.
و البوصيري صوفي غالٍ من أصحاب المسابح الذين لا يعرفون من الإسلام شيئاً، وليس عندهم من نور الإسلام ولا من الهداية إلا الخرافة والخزعبلات، فهؤلاء مشركون، وقف البوصيري فقال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم |
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم |
ولذلك ألَّف ابن تيمية مجلدات في الرد عليهم، من قرأها فهي الدواء والعلاج والشفاء، وهي نور على نور.
فبعد وفاته صلى الله عليه وسلم، يقال: الله أعلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يعلم.
الجواب: اشتهر هذا ولكنه ليس بصحيح، ولا يوجد في الكتاب ولا في السنة ولا نُقِلَ عن سلف الأمة أن اسمه عزرائيل، بل سماه الله: ملك الموت، ولم يسمه عزرائيل، وقد صح من أسماء الملائكة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أما عزرائيل فليس بصحيح.
ابن جميل
، وكان من الفقراء، فقال: {البخاري
، فرزقه الله مالاً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلمعمر بن الخطاب
لجمع الزكاة، فمر بـابن جميل
فقال: أعطني الزكاة؟ فقالابن جميل
: الحقوق كثيرة وهذه أشبه بالجباية، وليس لكم حق في مالي وأنا سأدفع الأمانة، ومر علىخالد بن الوليد
فلم يدفع الزكاة، ومرَّ علىالعباس
عم الرسول صلى الله عليه وسلم فامتنع أيضاً. فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {العباس
، وخالد بن الوليد
، وابن جميل
-فقام صلى الله عليه وسلم يفصل لـعمر
- فقال: أماالعباس
فهو عمي، لقد قدَّم زكاة عامين إليَّ، هي له عليَّ ومثلهاالعباس
قدم زكاته لسنتين، فاستحياالعباس
أن يقول لـعمر
: إنه قد أعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أعطيكم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يعلم أنها عنده، وقد قدمها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج في غزوةٍ من الغزوات إلى الزكاة، فقالللعباس
: قدِّم لي زكاة سنتين فقدمها له، فلما أتىعمر
لم يخبره صلى الله عليه وسلم أنه أخذ زكاةالعباس
، فقالالعباس
: لا. فقال: هي علي ومثلها، أي: زكاةالعباس
. {خالد
فإنكم تظلمونخالداً
، لقد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل اللهخالد
عنده مائة فرس أوقفها كلها في سبيل الله، والمخرج في سبيل الله ليس فيه الزكاة.معن
لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلهمعن بن زائدة
من أغنى الناس ولم تجب عليه الزكاة؛ لأنه كلما حال الحول على ماله، أنفقه في سبيل الله، فما وجدوا عليه زكاة ولا سنة، فلامه بعض الناس: أين زكاتك يامعن
؟! فقاممروان بن حفصة
أحد الشعراء يعتذر له، ويقول:معن
لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذلهابن جميل
: {ابن جميل
إلا أن كان فقيراً فأغناه اللهابن جميل
حتى ينكث عهده مع الله، فقد كان فقيراً ثم أغناه الله فمنع الزكاة. فهذا سبب نزول هذه الآية.الجواب: هذه القصيدة قد مرت وأظنها كثرت ومُلَّت، وهي مختصرة قليلاً، وهي لشاعر مجيد في الشعر النبطي مثل امرؤ القيس، يقول: إنه حضر في مجمع ومحفل فرأى بعضهم يحلقون اللحى ويخالفون السنة، فقال هذه الأبيات:
يا ربعنا ياللي حلقتم لحاكم وايش علمكم ترمونها في القمامه |
هي سنة ما سنها مصطفاكم علامة يا شينها من علامه |
شابهتم الشيطان شغلة عداكم من شابه الشيطان يلقى الملامه |
ثم يقول:
ما احد جبركم فعلكم من رضاكم من شابه الشيطان يلقى الندامه |
ترى اللحى يوصي بها يصيبها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع مقامه |
عفوا لعل الله يغفر خطاكم وتفوزوا يوم اللقا في القيامه |
هذه وصية إن كان ربي هداكم أقولها يا الربع مع السلامة |
الجواب: هذا الحديث موضوع، وهو من كلام عمر بن الخطاب، وقد ذكره الأثرم وغيره من الأئمة، ولا يصح رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد أوردوا قصة له فقالوا: {إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يُصلي وهو يتحرك ويعبث بلحيته، فقال: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه} فهذا لا يصح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام عمر بن الخطاب، ويصح إلى عمر، أما إلى غيره فلا يصح، وقد أورده سعيد بن منصور في سننه إلى عمر بن الخطاب.
الجواب: نعم له صلى الله عليه وسلم خصائص، وأحسن من ألف في ذلك الشيخ ملا خاطر في كتاب: خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام وذكر له ما يقارب عشر ومائة خصيصة.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يتثاءب؛ لأن التثاؤب من الشيطان؛ وما تثاءب في حياته صلى الله عليه وسلم أبداً؛ لأن الشيطان لا يتلاعب به، وفي صحيح مسلم: {ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان قرين، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، ولكن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير} وهذا بعد أن أسلم، وبعضهم يضبط كلمة (أسلم) أي: فأسلمَ من الإسلام، وبعضهم يقول: أسلم يعني أسلمُ من شره، ولكن الصحيح أنه من الإسلام، أي: أسلم وهداه الله ودخل في الدين.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحتلم في المنام، فالاحتلام الذي يأتي الإنسان لا يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاحتلام تلاعب من الشيطان.
أحد الأعراب تلاعب به الشيطان، فاحتلم في المنام، وكانت الليلة باردة، فقام يغتسل بالماء وكان الماء بارداً مثل الثلج، فأخذ الماء يرميه وراء ظهره، ولا يصله إليه شيئاً فقالوا: مالك؟ فقال: ما دواء الكذاب إلا الكذاب، فالاحتلام كذب عنده.
فهذا الاحتلام من الكذب، ولكن الغسل منه واجب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحتلم في حياته ولا مرة؛ لأنه معصوم، والشيطان لا يتلاعب به عليه الصلاة والسلام.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: أنه تزوج بأكثر من أربع من النساء، فقد جمع بين تسع وتزوج إحدى عشرة صلى الله عليه وسلم، لكنه جمع تسعاً، وليس لأحد من الناس أن يجمع أكثر من أربع.
وبعض النساء يرين التعدد بأكثر من واحدة محرم وقد خالفن الإجماع، ولذلك سمعت -ولا بأس بنقل هذه القصة لأنها قد ذكرت في أكثر من مناسبة-: أن رجلاً من أهل شقرة المدينة الفاضلة، قال لزوجته: أريد أن أتزوج بثانية؟ قالت: لا يجوز، قال: بل يجوز، يقول سبحانه: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. قالت: هذه الآية نزلت في أهل بريدة أما أهل شقرة فما نزلت فيهم هذه الآية.
فهذه الآية نزلت في المسلمين جميعاً، فعلى النساء أن يعرفن أن التعدد مباح.
الشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم أوتي قوة ثلاثين في الجماع، وكان صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه التسع.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُواصل الليل بالنهار في الصيام إلى ثلاثة أيام إلى أربعة، فقد كان من أقوى الناس، حتى يقول بعض المفكرين مثل سيد قطب: أنه كان مهيأ لقيادة العالم -يعني: في جسمه- فكان قوي الإحساس.. قوي الجسم، تصوروا أنه كان إذا ضرب بالسيف تكسر السيف ويسمع له شظايا على رءوس الناس، وإذا خطب سمعه من في السوق، وإذا تحرك كان عرقه يتحدر كالدر والجوهر ويوجد منه رائحة المسك، فهو قوي مهيأ لقيادة العالم، فأعطاه الله قوة في جسمه وفي هيكله.
حتى يقول أحد الأنصار: دهدهنا صخرة في الخندق فما استطعنا لها، واجتمع لها نفر من الصحابة من المهاجرين والأنصار، كـخالد وسعد وعمر.. وأمثالهم، فأرادوا الصخرة فما استطاعوا، فأتى صلى الله عليه وسلم فرآهم فتبسم، قال: فكأني به يوم شمر عن ساعديه صلى الله عليه وسلم ثم أخذها، قال الأنصاري: والله لقد حملها من على الأرض، ثم وضعها خارج الخندق.
أتاه ركانة -والحديث في السير- وكان مصارعاً لا يغلبه أحد وهو بطل المصارعة، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول الله، قال: من أرسلك؟ قال: الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: لا. حتى تريني آية، قال: ما هي الآية؟ قال: تصارعني فإن صرعتني أسلمت وإلا فلا أسلم، قال صلى الله عليه وسلم: قم، وكان الصحابة جلوساً، فأخذه صلى الله عليه وسلم فحمله كالريشة من على الأرض ثم لطمه في الأرض.
الجواب: أي: الصلاة بخشوع وخضوع تمنع صاحبها من الفحشاء والمنكر، أما حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً}. فلا يصح وهو حديث باطل، قال ابن تيمية: الذي يأتي الفاحشة ويصلي أجدر أن يقترب من الله فيقترب ويقترب حتى يتوب. فلا تزيده الصلاة بعداً بل تزيده قرباً.
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. ما معنى أكبر؟
قال بعض المفسرين: أكبر من كل شيء، وهذا صحيح، لكن المعنى الصحيح: يقول ابن تيمية في الصلاة فائدتان:
الفائدة الأولى: أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والفائدة الثانية: أن الصلاة يقام فيها ذكر الله، وإقامة ذكر الله في الصلاة أكثر إفادة لك من نهي الصلاة لك عن الفحشاء والمنكر.
ولا فض فوك يا أبا العباس! لا يأتي إلا بالجواهر، ولذلك أنصح من يريد الله والدار الآخرة أن يتبحر في كتب ابن تيمية، فإنها تربي طالب العلم وتنمي ثقافته وإيمانه وصدقه وإخلاصه وتقوده إلى الله، وهي تكفي أن تكون مكتبة، فتكوِّن لنفسك مكتبة فيها المصحف، وكتب السنة، وكتب ابن تيمية، وهذا الرجل من قبل سبعمائة عام أو أكثر ما طرق العالم مثله، يقول ابن دقيق العيد لما رأى ابن تيمية: والله! ما كنت أظن أن الله يخلق مثلك. (لكن الله قدير) تصور هذا الإمام عمره ثلاث وستون سنة، حفظ علوم الدنيا، وكان كالبحر يقول: أقرأ المجلد الواحد فينتقش في ذهني، قام مجاهداً ومفتياً وخطيباً ومقاتلاً وزاهداً ومعلماً حتى أمضى دقائقه وأوقاته في خدمة هذا الدين، فرحمه الله رحمة واسعة.
الجواب: إسبال الثوب أو ما يلحقه، من بشت أو سروال أو مئزر.. أو غير ذلك إلى أسفل من الكعب محرم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز سواء كان ذلك للبطر والكبر أو لغير ذلك من المقاصد.
قال بعض العلماء في تفصيل المسألة:
- من جره بغير كبر فما أسفل الكعبين ففي النار.
- ومن جره بكبر استحق جزاءين:
الأول: أنه في النار، أي: ما تحت الكعبين.
الثاني: لا ينظر الله إليه.
فإن في الحديث الصحيح -حديث أبي ذر في مسلم -: { لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} قال أهل العلم: هذا فيمن جره خيلاء.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما تحت الكعبين في النار} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال أهل العلم: هذا سواء جره خيلاء أو بغير خيلاء.
إذاً: فلا يجوز للمسلم أن يسبل ثوبه تحت الكعبين أبداً، وليس فيه رخصة.
وأما حديث أبي بكر لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: { يا رسول الله! إن إزاري يرتخي لو لا أن أتعاهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء} قال أهل العلم: لا بد أن يفهم بمفهومين:
الأول: أنه قال: (يرتخي لو لا أن أتعاهده) فالإزار يرتخي عليه بدون قصد وليس بعمد.
والثاني يقال: (أتعاهده) أي: أرده، فهذا ليس فيه إسبال، ولم يداوم عليه رضي الله عنه.
وأما قول السائل: إنه يريد الجمال أو المنظر؟
فما أظن أن في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم منظراً جميلاً، ويكفي مخالفة السنة قبحاً، بل ما أتى به صلى الله عليه وسلم فهو الجميل والطيب والمبارك، وما عارض سنته فهو الخبيث، المحقر، المشوه، ومن رضي بالرسول صلى الله عليه وسلم أرضى الله قلبه، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
الجواب: نوصيك -أولاً- أن تجاهد شيطانك، فهذا الذي يطردك من مجالس الخير والمحاضرات والندوات هو شيطان، والرحمن يدعوك إلى دار السلام، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:208-209] وذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الشيطان فقال: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
فوصيتي لك المجاهدة، ولذلك ذكر بعض العلماء أن الشيطان يأتي في أوقات العبادة؛ كأن تقوم تصلي فيأتيك الشيطان وفي الحديث الصحيح: {حتى يخطر بينك وبين نفسك يقول لك: اذكر كذا، اذكر كذا، اذكر كذا} لشيء ما كنت تذكره، ويأتيك وقت الذكر، ووقت العبادة.
فوصيتي لك أن تجاهد الشيطان وسينصرك الله عزوجل إذا جاهدت. وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].. وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
الجواب: من خرج منه مني باحتلام أو جماع أو غير ذلك فعليه الاغتسال، والاحتلام إذا وجد منه بلل فإنه يوجب الاغتسال والمني طاهر، بخلاف المذي.
فالمني طاهر أما المذي فنجس؛ لحديث علي في المذي عن المقداد عند البخاري ومسلم: { أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المذي؟ قال: فيه الوضوء}.
أما المني فهو طاهر لكن يغتسل منه.
أما سؤالك: لماذا أغتسل وهو طاهر؟ فهذا أمر الله الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم وما كنا نفقه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
الجواب: قال الزهري: نزلت هذه الآية في الصلاة، وقد ذكرها ابن تيمية في كتابه، لما تكلم عن قراءة الفاتحة في مجموع الفتاوى قال: إنها نزلت في الصلاة؛ فيجب في الصلاة الإنصات، أما في غيرها فهو مندوب وهو الأحسن والأولى.
الجواب: الذكر على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: ما توافق فيه اللسان والقلب، فهذا مأجور أجراً كاملاً.
المرتبة الثانية: ما انفرد فيه القلب فهذه المرتبة الثانية ويؤجر عليها.
المرتبة الثالثة: ما انفرد فيه اللسان بلا قلب، فهو مأجور لكن ليس كالقلب واللسان، ولا كالقلب وحده؛ لأنه ثبت عند الترمذي من حديث سلمان بسند حسن، قال صلى الله عليه وسلم: {قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} فدل الحديث على أنه إذا تحركت الشفتان ففيه أجر ومثوبة من الله عزوجل، وعند الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن بسر قال: {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} فدل على أن ترطيب اللسان بذكر الله ولو كان القلب شارداً فيه أجر كثير.
ووالله! لا يجعل الله المغني والمزمر والمغتاب وشاهد الزور كالذاكر المتمتم بذكر الله ولو شرد قلبه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36].
الجواب: هذه العبارة صحيحة، فلو قال: الكمال لله فهذا صحيح، والكمال المطلق إنما هو لله، ويوجد بعض الناس فيه كمال نسبي مقيد على مستوى البشر، أما الكمال المطلق فهو لله تبارك وتعالى.
الجواب: أنت بالنسبة للموجودين من أحسن ما يكون؛ لأنك أدخلت الذهب والتكاليف فكفت أربعين ألفاً، لأن بعضهم يقول: لا آخذ إلا أربعين ألفاً لكن يعطي عمتها عشرة، وجدتها عشرة، وخالتها عشرة، وبنت جدتها عشرة، وبنت خالتها عشرة!! فيدخلون فيأخذون عشرة عشرة حتى يصل المهر إلى مائتين، وهذا أساء وظلم وتعدى، فبعضهم فقط بالصورة الظاهرة أخذ عشرة أو أربعين، لكنه يزيد في التكاليف وفي هذه الإسرافات حتى يكلف ويبهظ صهره، ويخالف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لكن بالنسبة للسلف فأنت مغالٍ، لأن سعيد بن المسيب زوج ابنته بدرهمين، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتزوج بأربعمائة درهم، قال بعض أهل العلم: هي تعادل اليوم (170) ريال، وكان يزوج بناته بذلك، وقالوا: بارك الله في أيسرهن مهراً، لكنك أحسنت، فأنت بالنسبة لغيرك لا بأس بالمهر ولو خففت لكان أحسن.
ونحن وإياكم ندعو إلى التخفيف، ومن رحم وشفق بالأمة رحمه الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه}.
الجواب: الله المستعان: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].
رد الله عليك فقيدك، وجبر الله قلبك، وأخلف الله عليك في حذائك.
أما ما ذكرت من هذه المصيبة فإنها تحدث، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي كتبها، وهو من باب القضاء والقدر، فقد كتب الله عليك أن تسرق حذاؤك قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة في كتاب عنده.
فعليك أولاً: أن تصبر وتحتسب، وأن تكتم شكواك ولا تخبر أحدأً.
ثانياً: دعوت على من سرقها، وما أظنه إلا إنساناً وهم، وما أظن أن أهل الخير هؤلاء وصفوة الناس، وصفوة الرأي العام والمجتمع يسرقون، لكن قد يهم بعضهم، أو ينسى أو احتاج إليها، فهذا من هذه الأعذار.
وأما أنك دعوت عليه فقد انتصفت؛ لأن المظلوم إذا دعا على ظالمه فقد انتصف، ولو تركته لأنصفك الله من حسناته يوم القيامة ووضعها لك، وأخذ من سيئاتك ووضعها عليه، فما دام أنك دعوت عليه فقد انتصفت، ثم ليس لك حسنات منه ولا يوضع عليه سيئات منك.
وأريد ألَّا تُشهر بهذا الأمر، وأن تحتسب.
فأحد الناس في قرية وكان يبيع على الناس فطائر في مقهى، فسرقت عليه طاوة لا تساوي ثلاثة ريال، فكان يصلي الصبح ويقرأ سورة يس ويبكي ويدعو على من سرق الطاوة، فقال له أحد الدعاة: لو صرفت هذا الدعاء وقراءة سورة يس في شيء آخر لنفعك الله به، أما أن تدعو على هذا الإنسان صباح مساء كأنه اقترف أكبر الجرائم، وهي طاوة لا تساوي ثلاثة ريالات.
فهذا الحذاء أمره سهل، واحتسبه عند الله عزوجل، ونسأل الله لك ولنا الهداية.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر