وفي خطبته الثانية، تكلم عن التوبة، وحث عليها، ثم ختم كلامه بالدعاء.
والحمد لله القائل: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].
والصلاة والسلام على رسول الله القائل: (إن الظلم ظلمات يوم القيامة).
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، أمَّا بَعْد:
وهذا حديث شريف، وهو أشرف حديث لأهل الشام وأهل سوريا، وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام وأصل من أصول الدين، وكان التابعون إذا حدثوا به جلسوا على ركبهم من عِظَمِه.
وأكبر قضية في هذا الحديث أن الله عز وجل حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً، فقال عز من قائل: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:108] وقال تبارك وتعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
فالظلم حرمه سبحانه على نفسه، فلا يظلم ولا يهضم، والظلم أن يزيد في سيئات من لم يسئ، والهضم أن ينقص من حسنات من أحسن، قال عز من قائل: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112] والظلم من شيم العبد.
والله عز وجل حذر العباد من الظلم، فأظلم الظالمين هو العبد الذي يشرك بالله، قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] قال الصحابة: {يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، فأينا لم يظلم نفسه؟! قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]} وعلم الله عز وجل لقمان أن يقول لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] ووصف الله العبد بأنه ظالم، فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] فالعبد ظالم مع الله وظالم مع نفسه وظالم مع الناس.
أما مع الله فصح من الحديث القدسي أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قال: {عجباً لك يا بن آدم ما أنصفتني! -أي ما عدلت بيني وبينك- خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، خيري إليك نازل وشرك إليَّ صاعد} وصح في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله تبارك وتعالى: يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فيدعي أن لي صاحبة وولدا وما اتخذت صاحبة ولا ولداً، وأما شتمه إياي فإنه يشتم الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
وحذر صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من الظلم بين الناس فقال صلى الله عليه وسلم: {من اغتصب مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، قالوا: ولو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: ولو كان قضيباً من أراك} أي ولو كان سواكاً وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه يوم القيامة من سبع أرضين}.
قال أحد التابعين: إذا مررت بأرض قد خربت، وبأهلها قد تفرقوا، وبأنس قد تشعب، وببهاء قد ذهب، وبمال قد فني، وبصحة قد سقمت، فاعلم أنها نتيجة الظلم، ولذلك روى ابن كثير في تاريخه أن البرامكة الأسرة الشهيرة الخطيرة التي كانت تتولى الوزارة لـهارون الرشيد في بغداد، بلغوا من الترف والرقي أن أحدهم كان يصبغ قصره من الداخل والخارج بماء الذهب والفضة، فكانت تلمع قصورهم مع الشمس، فلعبوا بالأموال وسفكوا الدماء وبغوا وطغوا؛ فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والرسول صلى الله عليه وسلم كما صح عنه يقول:{ إن الله يمهل للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]}.
فسلط الله على هذه الأسرة أحب الأحباب إليهم، وأقرب الأقارب إلى قلوبهم، وأصدق الأصدقاء، وهو هارون الرشيد الخليفة، فأخذهم في ليلة واحدة، فجلد كل واحد منهم ألف سوط ثم قطع بعض أياديهم وأرجلهم وقتلهم شر قتلة، واستولى على أموالهم، وهدم قصورهم، وسجن نساءهم، فدخلوا على شيخ منهم من البرامكة وهو يعذب، ويبكي تحت السياط، فقال له بعض العلماء: ما هذه المصيبة التي حلت بكم؟ قال: دعوة مظلوم سرت في الليل نمنا عنها والله ليس عنها بنائم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: {دعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} ويقول عليه الصلاة والسلام -وهو يوصي معاذاً لما أرسله إلى اليمن {اتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} ولذلك لما أهين الإمام أحمد إمام أهل السنة رضي الله عنه، كان الذي سعى في سجنه وظلمه وجلده أحمد بن أبي دؤاد أحد الوزراء المقربين من الخليفة المعتصم؛ فرفع الإمام أحمد يديه إلى الحي القيوم ثم قال: اللهم إنه ظلمني فاحبسه في جسمه، وعذبه وشرده أيما مشرد، قال العلماء: فوالله ما مات حتى أصابه الله بالفالج في نصفه، فنصف مصاب بالفالج قد مات ويبس نصف جسمه، وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وهو يخور كما يخور الثور، فقالوا: مالك؟ قال: دعوة الإمام أحمد أصابتني، أما نصفي الأيمن فوالله لو وقع عليه ذباب لكأن جبال الدنيا سقطت عليه، وأما النصف الآخر -فوالله- لو قرضتُ بالمقاريض ما أحسست ألماً.
وهذه سنة الله في الأرض، فإن الله دمر الديار، وأهلك الأمم، وأفنى الشعوب لما ظلموا، وهذه سنة محكمة منه تبارك وتعالى.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: دخل أحد المشايخ الصالحين الأولياء العباد على أحد الطغاة المتكبرين فنازعه في بعض الكلام، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقام إليه هذا الطاغية فضربه على وجهه، فقال: لطمتني، أسأل الله أن يقطع يدك، قال: اعف عني، قال: لا والله حتى نحتكم عند الله، قال الذهبي: فأثر أنه ما مر عليه أسبوع إلا وقد استولي على ما عنده، وأخذ من قصره، وقطعت يده، وعلقت أمام الناس.
إن الظلم ظلمات يا عباد الله! إن الظلم مسخطة ومغضبة ولعنة، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لعن الله من غير منار الأرض} ومنار الأرض حدودها التي تقتسم في المزارع والأراضي والأملاك، فمن غيره بغيبة شريكه وعدم رضاه فهو ملعون عند الله عز وجل.
فالله الله! يا عباد الله! فما جف القطر، وما نزعت البركة، وما تباغضت القلوب، وما فسد الأولاد؛ إلا من الظلم.
إن الظلم ظلمات في القلب، وفي القبر والحياة والآخرة.
إن الظلم لعنة ومسخطة.
فالله الله أوصي نفسي وإياكم باتقاء الظلم، في المعاملات والأقوال والأخلاق، فإنكم سوف توقفون عند ربكم في العرض الأكبر: ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:94].
والظلم يدخل في البيع والشراء، ويجمع الله المتماكسين الغششة ليوم لا ريب فيه؛ فينصف الناس منهم، والظلم يدخل فيه ظلم الولد لوالديه وهو العقوق، وقد حرم الله العقوق، ولا يدخل الجنة قاطع رحم، وقال الله عز وجل: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].
والظلم يدخل على القضاة والمسئولين؛ فيأتي كل قاض ومسئول -كما صح الحديث في ذلك- مغلولة يده اليمنى خلف ظهره، فإن عدل أطلق الله يده، ونور وجهه، وبشره بالنعيم المقيم، وإن ظلم وفجر كبه الله على وجهه مغلولاً في النار، فنعوذ بالله من الظلم.
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية فأرسل له من السجن رسالة يقول فيها:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلوم |
إلى ديان يوم الحشر نمضـي وعند الله تجتمع الخصوم |
فبكى هارون الرشيد حتى فحص برجله، وأمر باسترضائه وأطلقه، ولذلك يقول:
أيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني |
سأمنع قلبي أن يحن إليهمُ وأحجب عنهم ناظري وعيوني |
ولكن الأسلم لمن ظلم أن يستغفر الله، فما أصابه الظلم إلا بذنوبه، وأن يرجو الثواب والجزاء والأجر عند الله، وأن يتصدق بعرضه على الناس، قال عليه الصلاة والسلام للصحابة: {من منكم مثل
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
أمَّا بَعْد:
فالله الله في العودة إلى الله دائماً وأبداً؛ فإننا كلنا أهل ذنب وخطيئة، وأهل فحش وفجور، كما قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون} وقال عليه الصلاة والسلام: {والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم} فما حلنا من ورطة الذنب والخطايا، إلا بالتوبة النصوح والاستغفار صباح مساء، وأن ندرأ بالحسنة السيئة فإن الله مدح قوماً فقال: وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ [الرعد:22] وقال: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين فإنكم في الذنب والخطيئة صباح مساء]] وصدق رضي الله عنه فإن عيوننا تذنب وقلوبنا تذنب، وأبصارنا وآذاننا وأرجلنا وأيدينا ولا يغسلها إلا التوبة والاستغفار، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31] واستغفروا الله يغفر لكم وقدموا من الحسنات ما يكفر عنكم السيئات، ومن فعل منكم في سابق العمر ذنباً مهما بلغ من الكبائر، ولو كانت كالجبال، فليعلم أن الله يغفرها بعد التوبة، وأن الله لا يتعاظمه شيء، وأن الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته في الصحراء، ثم وجدها عليها طعامه وشرابه.
فيا فرحة التائبين، ويا قرة عيون المنيبين، ويا سرور المستغفرين لله تبارك وتعالى!
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا}
اللهم صلِّ على حبيبك ونبيك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، يا رب العالمين، وارض اللهم عن أصحابه الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين، اللهم وحد صفوفهم، اللهم خذ بأيديهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر كل من جاهد لإعلاء كلمتك، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفلسطين وفي كل بلد من أرضك يا رب العالمين.
اللهم ارفع رايتهم وثبت أقدامهم، وأنزل النصر والسكينة عليهم، اللهم وحد صفوفهم واجمع شملهم، واجعل سهامهم في نحور أعدائهم، يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلّم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر