فلا بد أن يتقن فن التعامل مع المدعوين، فيجتنب ما ينبغي اجتنابه، ويأتي ما ينبغي الإتيان به.
وفي هذا الدرس عرضٌ لهذه الآداب والأخلاق.
إخوة الإيمان! إخوة الإسلام! إخوة العقيدة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكركم شكراً جزيلاً على حضوركم، وأعلن أمامكم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بهذه المحبة، فإن الله يقول في محكم التنزيل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] اللهم إنا نسألك صدق النية، وصلاح الذرية، والعيشة الرضية، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وحب أوليائك وكره أعدائك، اللهم أصلح منا القلوب، واستر منا العيوب، واغفر لنا الذنوب.
وفي الحقيقة أنني مدين بالشكر لكم، إذ إن هذا الدرس وهو بعنوان (فن الدعوة) هو نتاج أفكاركم، ومن الفتوحات التي فتحها الله عليكم في اقتراحاتكم ورسائلكم، ومشاركاتكم، ومثلي ومثلكم هذه الليلة كما قال الشاعر:
كالبحر يمطره السحاب وما له فضلٌ عليه لأنه من مائه |
الدعوة -يا معاشر أهل الإيمان، ويا حملة لا إله إلا الله- فنٌ يجيده الدعاة الصادقون، كفن البناء للبناة المهرة، وفن الصناعة للصناع الحذاق، وكان لزاماً على الدعاة أن يحملوا هموم الدعوة، ويجيدوا إيصالها للناس؛ لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولابد على الدعاة أن يدرسوا الدعوة، ولوازمها ونتائجها، وأساليبها، وما يجدُّ في الدعوة، وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه من معلم الخير عليه الصلاة والسلام، فإنهم ورثة الأنبياء والرسل، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم، إذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه داعية؛ يؤثر في الأمة، ويكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يرتكب من خطأ، أو ما يحدث من فشل؛ بسبب أنهم هم رواد السفينة التي إذا قادوها إلى بر الأمان نجت بإذن الله.
واعلموا -حفظكم الله- أنه ينبغي على الدعاة ويجب عليهم آداب لابد أن يتحلوا بها حتى يكونوا رسل هداية ومشاعل حقٍ وخيرٍ يؤدون الرسالة كما أرادها الله.
وإن مما ينبغي على الدعاة -أيها الكرام- أولاً: الإخلاص في دعوتهم، وأن يقصدوا ربهم في عملهم، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة، وإلى حطامٍ فانٍ، ولسان الواحد منهم يقول: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الشعراء:127] قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] فلا يطلب الداعية منصباً، ولا مكانةً ولا منزلةً، ولا شهرةً، بل يريد بعمله وجه الواحد الأحد إنك تعلم ما نريد.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
وكذلك يكون مقصود الداعية: إقامة الدين وهيمنة الصلاح، وتقليص الفساد في العالم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] والداعية -أيها الإخوة- كالمجاهد في سبيل الله، فكما أن ذاك على ثغرٍ من الثغور، فهذا أيضاً على ثغرٍ من الثغور، وكما أن المجاهد يقاتل أعداء الله، فهذا يقاتل أعداء الله من الذين يريدون تسيير الشبهات والشهوات، وإغواء الجيل، وانحطاط الأمة، وإيقاعها في حمأة الرذيلة
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27] فوجب على الداعية أن يتحلى بما يتحلى به المجاهد، وأن يصابر الأعداء فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4].
كذلك ينبغي على الداعية أن يكون حريصاً على أوقاته في حله وترحاله، في إقامته وفي سفره، وفي مجالسه، فيناقش المسائل، ويبحث مع طلبة العلم، ويحترم الكبير، ويستفيد من ذي العلم والتجربة والعقل، وإذا فعل ذلك سدد الله سهامه ونفع بكلامه، وأقام حجته ورفع برهانه.
ذهب الله بالكمال وأبقى كل نقصٍ لذلك الإنسان |
فما دام أن الإنسان خلق من نقص؛ فعلى الداعية أن يتعامل مع المجتمع، ومع الشبيبة، ومع النساء، ومع العامة على أنهم من مصدر نقص، قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [النجم:32] فما دام نشأتم من الطين والتراب، فأنتم ناقصون لا محالة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الناس على أنهم ناقصون ومقصرون، يرى المقصر منهم فيعينه ويساعده ويشجعه، ويأخذ به إلى الطريق، والداعية الذي يعيش المثاليات لا يصلح للناس، فإنه يتصور في الخيال أن الناس ملائكة إلا أنهم يأكلون ويشربون، والخلاف بينهم وبين الملائكة الأكل والشرب، وهذا خطأ، خاصةً في مثل القرن الخامس عشر -الهجري- الذي لا يوجد بيننا فيه محمد عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة الأخيار وقلّ أهل العلم، وكثرت الشبهات، وانحدرت علينا البدع من كل مكان، وأغرقنا بالشهوات، وحاربتنا وسائل مدروسة درست في مجالس عالمية، وراءها الصهيونية العالمية وأذنابها، فحق على العالم والداعية أن يتعامل مع هذا الجيل وهو يتصور أنه سوف يخطئ، وأن الإنسان سوف يحيد عن الطريق، فلا يعيش المثاليات، ولا يغضب إذا سمع شاباً طرح عليه مشكلة، أو أنه وقع في معصية.
فقد (أُتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم برجلٍ شرب الخمر -وهو من الصحابة- أكثر من مرة، فلما أتي به أقيم عليه الحد، قال بعض الصحابة: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به في الخمر، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال للرجل: لا تقل ذلك، لا تعين الشيطان عليه، والذي نفسي بيده، ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله) فلا إله إلا الله ما أحسن الحكمة! ولا إله إلا الله ما أعظم التوجيه! خمسون مرة وهو يشرب الخمر وبعدها يحب الله ورسوله.
ولذلك ينبغي ألا نيأس من الناس، مهما بدرت منهم المعاصي والمخالفات والأخطاء، بل لا بد أن نعتبر أنهم رصيد محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أمل هذه الأمة، وأنهم في يومٍ من الأيام سوف تفتح لهم أبواب التوبة، وسوف تراهم صادقين، مخلصين، تائبين، متوضئين.
فما أحسن الطريقة! وما أحسن ألاَّ ييأس الداعية! وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد المعاصي إلى إمام مسجد أو خطيبٍ أو عالمٍ.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط |
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان |
هذا لا يصلح على منهج الكتاب ولا على منهج السنة.
ومما ينبغي على الداعية ألا يقنط الناس من رحمة الله تعالى، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو الرحمن الرحيم، الذي يقول في الحديث القدسي الذي رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) فلا تقنط شارب الخمر من توبته إلى الله، ولا تقنط الزاني ولا القاتل ولا السارق، بل حببهم إلى الهداية، وقل: هناك ربٌ رحيم، يقول في محكم التنزيل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] قال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يورطهم في معصية الله]].
عجبت لدجالٍ دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم |
فشهروا به وشهروا بـالجعد بن درهم وكتبوا أسماءهم في كتب الحديث، وحذروا الناس في المجالس العامة والخاصة منهم، فمثل هؤلاء يشهر بهم، لكن الذين يتكتم على أسمائهم أناسٌ أرادوا الخير فأخطئوا، وأناسٌ زلت بهم أقدامهم، وأناس أساءوا في مرحلة من المراحل، فهؤلاء لا تحاول أن تظهر أسماءهم في القائمة السوداء، فإن ذلك قد يغريهم على أن تأخذهم العزة بالإثم.
قال أهل العلم: أمره أن يستغفر، والمعنى قد تكون مقصراً فيما فعلت فاستغفر ربك، وما تدري فإن المنة لله الواحد الأحد، وهو المعطي سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
فلا يأتي الداعية فيزكي نفسه ويقول: أنا آمركم دائماً وتعصونني، وأنهاكم ولا تمتثلون نهيي، وأنا دائماً ألاحظ عليكم، وأنا دائماً أرى، وأنا دائماً أقول في نفسي، وأنا دائماً أحدث نفسي إلى متى تعصي هذه الأمة ربها، فيخرج نفسه من اللوم والعتاب وكأنه بريء، وهذا خطأ، بل يجعل الذنب واحداً، والتقصير واحداً، ويقول لهم: وقعنا كلنا في هذه المسألة، وأخطأنا كلنا، والواجب علينا.. حتى لا يخرج نفسه من اللوم والعتاب، فما نحن إلا أسرة واحدة، وربما يكون -بل هذا حاصل- في المجموع الجالس من هو أزكى عند الله من الداعية، ومن هو أحق وأقرب إليه، وعلم الله عز وجل أنني لا ألتمس بعد التوحيد الذي أدين الله عز وجل به، مثل حب الصالحين ودعائهم فإنه من أعظم ما يقربنا إلى الله.
قال بعض العلماء: الكفار في الأرض أكثر من المسلمين، وأهل البدعة أكثر من أهل السنة، والمخلصون من أهل السنة أقل من غير المخلصين.
وجعل أهل العلم من لوازم الداعية إذا أتى إلى بلد أن يقرأ هذا البلد، وقد كان بعض العلماء إذا سافر إلى الخارج يأخذ مذكرات عن البلد، عن تاريخه، وجغرافيته، ودراسة علم النفس فيه، وأمزجة أهل البلد، وتربية البلد، حتى يتكلم على بصيرة.
فوضع الندى في موضع السيف بالعلى مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى |
فعلى الداعية: أن لا يهول على الناس، كذلك لا يهول جانب الحسنات كالحديث -وهو ضعيف- الذي يقول: (صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاةٍ بلا سواك) وحديث آخر باطل: (من قال: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، بنى الله له سبعين قصراً في الجنة في كل قصر سبعون حورية على كل حورية سبعون وصيفة) ويبقى في سبعين من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، مع العلم أن الأجر الذي عليه محدد من الشارع الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتهويل ليس بصحيح، بل يكون الإنسان متزناً في عباراته، يعرف أنه يوقع عن رب العالمين، وينقل عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم.
فالأحاديث الموضوعة مبينة، وأنا أحذر إخواني الدعاة ألا يذكروا الناس بحديثٍ موضوع، ولو قال: إن فيه مصلحة ردهم إلى الله، فالمصلحة كل المصلحة فيما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموضوعة كأحاديث علقمة وما واجه مع أمه، وكأحاديث ثعلبة والزكاة، وكأحاديث أخر بواطل، لا يصح الاستشهاد بها؛ لأن ضررها على الأمة عظيم، وأثرها على الأمة سقيم، لكن يجوز للداعية أن يبين للناس في مثل محاضرة أو درس أو خطبة الأحاديث الموضوعة وينبه الناس عليها.
كذلك الأحاديث الضعيفة لها شروطٌ في الاستدلال، فيستدل بالحديث الضعيف عند بعض أهل العلم بثلاثة شروط:
أولاً: ألا يكون شديد الضعف.
ثانيا: أن تكون القواعد الكلية في الشريعة تسانده وتؤيده.
ثالثاً: ألا يكون في الأحكام، بل يكون في فضائل الأعمال.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله وأسقاه من سلسبيل الجنة- عن الإمام أحمد في المجلد الثامن عشر من الفتاوى أنه قال: إذا أتى الحلال والحرام شددنا، وإذا أتت الفضائل تساهلنا. وهذا كلامٌ جيد، ولو أنه غير مجمع عليه.
وفي الأدب المفرد مما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها) وهذا خطأ، فإن من يقول: قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة، مخطئ لأنه لم يصدق في ذلك، والتعميم عرضة للخطأ، فالوصية أن يكون الداعية لبقاً في اختيار العبارة حتى يدخل للقلوب، ولا يثير عليه الشغب؛ لأن الناس يغضبون لقبائلهم ولشعوبهم ولشركاتهم، ويغضبون لمؤسساتهم ولجمعياتهم، فليتنبه لهذا.
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي |
أحد الناس مدح الداعية الكبير ابن تيمية الجهبذ، فغضب ابن تيمية وقال:
أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي |
يقول: أنا مذنب وأبي مذنب، وجدي مذنب إلى آدم عليه السلام.
هذا واجب الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع وأن يلتمس العذر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح، وأن يعلم أن فيهم من هو أعلم منه وأفصح وأصلح، لكن الله رشحه وكلفه، وكان أكثرهم حملاً، قال بعض السلف: الساكت ينتظر الأجر من الله، والمتكلم ينتظر المقت، فإن المتكلم خطير، فنسأل الله أن يسلمنا وإياكم.
فأحياناً: بعض الناس يصغر من مسألة السحر واستخدام السحر ويقول: إنه ذنب، مع العلم أنه عند كثير من أهل العلم مخرجٌ من الملة، وحد الساحر ضربةٌ بالسيف، ومع ذلك تجد بعض الدعاة يصغر من شأن السحر.
وأحياناً: بعض الدعاة أيضاً يصغر من شأن الحداثة أو الهجوم على الإسلام في بعض المقالات والصحف والمجلات والجرائد، ويقول: هذا أمرٌ محتمل، والمسألة سهلة ويسيرة.
أيضاً مثل مسألة: أين أدنى الأرض في قول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم:1-3] قال بعضهم: بحيرة طبرية، وقال بعضهم: غور الأردن، وقال بعضهم: أقرب الأرض من جزيرة العرب، وألف في هذه رسالة، ورد عليه ذاك برسالة! وهذا إشغال للأمة، بمثل هذه المسائل التي مر عليها أهل السنة والجماعة، وقالوا: نمرها كما جاءت من دون تعطيل!
فإذا فعل الإنسان ذلك كان أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويرسل الله موسى وهارون عليهما السلام، إلى أطغى طاغية فيقول لهما وهما في الطريق: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] فالقول اللين سحرٌ حلال، قيل لأحد أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال، وقال أحدهم يصف الدعاة الأخيار من أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
هينون لينون أيسار بني يسرٍ صيدٌ بهاليل حفاظون للجار |
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري |
فأدعو إخواني إلى لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت، ولا الغضب، ولا الفضاضة في الأقوال والأفعال، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة فإنهم حكماء معلمون، أتوا رحمةً للناس، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالرسول صلى الله عليه وسلم رحمة، وأتباعه رحمه، وتلاميذه رحمة، والدعاة إلى منهج الله رحمة.
فأنا أطلب من الداعية أن يشاور المجتمع، ولا بأس أن يكتب لهم بطاقات، وأن يطلب آراءهم، وإذا وجد مجموعة منهم يقول: ما رأيكم يا إخوتي في كذا وكذا؟ فإن رأي الإثنين أحسن من رأي الواحد، ورأي الثلاثة أحسن من رأي الإثنين.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول على المنبر: (غفر الله لـ
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة |
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه |
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تجزع إذا لم تعط طاعة |
يقول: إذا خالفتني، ونصحت الإنسان أمام الناس، فلا تجزع فسوف يجابهك هذا وينتقم لنفسه، وقد تأخذه العزة بالإثم، وكم شكا لي بعض الشباب -حفظهم الله- أن بعض الناس جابههم في مجمع من الناس، وانتقدهم، فأصابهم من ذلك تذمر وانقباض واشمئزاز، وهذا ليس من المصلحة في شيء.
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه |
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه |
وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس وُلدوا في الإسلام ما عرفوا الجاهلية]] فالذي لا يعرف الجاهلية، لا يعرف الإسلام، ولا يتصور دين الله عز وجل، فحقٌ على الدعاة التنبه لهذا الأمر الخطير.
وأنا أطالب الإخوة الفضلاء، من وجد منهم كلاماً، أو وجد مقالاً فيه شبهة، أو فيه نظر أن يعرضه عليَّ أو على إخوانه من الدعاة، أو غيرنا ممن هو أعلم منا حتى نكون على بصيرة، ونخرج بحلٍ إما بتنبيهٍ أو بنصيحة عامة.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل |
وأنه أصبح أمامهم كالمرآة، كلما وقع فيها نقطة صغيرة كبرت وضخمت، فليتق الله في هذه الأمة، ولا يكون سبباً لهلاك كثير من الناس، فإنا رأينا كثيراً من العامة وقعوا في كثير من الخطايا بسبب فتاوى، أو بسبب تصرفات اجتهادية من بعض الفضلاء، ربما أجروا عليها، وأخطئوا خطأً واحداً، ولكن وقع بسببه عالَم، قال بعض الفضلاء: زلت العالِم زلت العالَم، فعليه أن يدرس القرار، أو التصرف أو الفعل أو الخطوة التي يريد أن يخطوها، قبل أن يقدم عليها حتى لا يكون عرضة لتوريط كثير من الناس، وكم جوبه الإنسان بفتاوى من عامة الناس، يستدلون بفعل الفضلاء والأخيار، وهذا خطأٌ عظيم.
ومنها: ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم، فتعايش الشاب وتعايش العاصي، أو تعايش المنحرف وتعلم أنه في يومٍ من الأيام إن شاء الله سوف يكون في رصيد الدعوة، وسوف يكون من أولياء الله، ولا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذه رويداً، وألا تجابهه وألا تقاطعه، بل تحلم عليه.
وكذلك تشارك في حل مشاكلهم، فالداعية مصلح، يذهب في شفاعة حسنة، وما أحسن الداعية مثلاً أن يذهب مصلحاً! وأن يذهب مستشاراً! وأن يذهب حالاً للمشاكل! حينها يكسب ود الناس كما فعل عليه الصلاة والسلام، فإنه قد تأخر كما في صحيح البخاري عن صلاة الظهر مرة؛ لأنه ذهب إلى بني عمرو بن عوف يحل مشاكلهم ويصلح بينهم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن مريض -حتى من الأعراب البدو في أطراف المدينة- ذهب بأصحابه يزوره، وهذه من أعظم ما يمكن أن تحبب الداعية إلى نفوس الناس.
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
إنما تورد ناقةً ناقة، وهاهو الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل معاذاً إلى اليمن فيقول: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) هكذا يعرض الداعية كبار المسائل قبل صغارها، فلا تأتي إلى أناس قد لا يصلون وتطالبهم بتربية اللحى، وماذا ينفعنا في الإسلام أن يربي الناس لحاهم وهم لا يصلون في بيوت الله؟ وماذا ينفعنا أن يربوا لحاهم والواحد منهم لا يسجد لله سجدة؟ فلا تطالبهم بصغار المسائل حتى تخرج أنت وإياهم على مسائل كبرى وتتفقون على قدر مشترك؛ لتعلم هل هم معك أو لا؟
ومنها: أن يجدد الأساليب على الناس، مرةً بالموعظة ومرةً بالخطبة، ومرةً بالرسالة، ومرةً بالندوة ومرةً بالأمسية، حتى يسلك كافة السبل، فإن بعض الناس يتأثر من خطبة الجمعة ما لا يتأثر بالدرس، وبعضهم على العكس من ذلك، فتفنن في أساليب دعوتك للمدعو ونوع فيها فأحياناً يكتب له رسالة، وأحياناً يتصل به بالهاتف، وأحياناً يرسل له بعض الدعاة، فأرى أن تجديد الأسلوب مطلوب وفي عصرٍ جُددت فيه أساليب الباطل، في عصرٍ أخذ الباطل كل الإمكانيات، فالأقمار الصناعية في يد الباطل، والوسائل الهائلة في يد المبطلين، ومعظم الإمكانيات الضخمة، مع العلم أن الدعاة لا يملكون شيئاً من هذه الوسائل، يملكون المنبر، ويملكون الدرس، ويملكون الكتيب، لكن أسأل الواحد الأحد الذي بيده كل شيء أن يتمم الأمور، وأن ينفع بالأسباب، والله يقول عن أهل الباطل ويخبر أنهم أكثر مالاً، وأكثر إنفاقاً، وأكثر وسائل قال: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36] وعليه فلا ييأس الداعية من قلة وسائله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ثقافات العالم حوله في جزيرة العرب هائلة، إمبراطورية كسرى، وإمبراطورية قيصر، تملك الميزانيات الضخمة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم في بيت طين، ولكن بوسائله مع الإخلاص والصدق، بلغه الله ما تمنى، وبلغ الدين مشارق الأرض ومغاربها.
كذلك على الداعية: أن يتقلل من الدنيا تقللاً لا يحرجه، لكن عليه بالوسط، يسكن كما يسكن وسط الناس، ويلبس كما يلبس وسط الناس، مع العلم أن هناك حيثيات أريد أن أذكرها، قد تخفى على كثيرٍ من الناس.
فإن بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء، أو يلبس لباساً من أوضع اللباس، وهذا ليس بصحيح، فإنه على مقصده، والله أحل الطيبات، والرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل (تجملوا كأنكم شامة في عيون الناس) (إن الله جميلٌ يحب الجمال) وقد يكون من الفرضيات المحتومة المطلوبة العظيمة النتائج؛ أن يكون الداعية متجملاً متطيباً، ويكون مجلسه وسيعاً يستقبل فيه الأخيار والبررة، ويكون له مركبٌ طيب، فإن هذا لا يعارض كتاب الله عز وجل، ولا يعارض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل عليه أن يكون له في كل حالة ما يناسبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ففي صلاة الاستسقاء خرج صلى الله عليه وسلم في لباس متبذل -لباس قديم- ليظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله عز وجل، ولكنه في الأعياد لبس بردةً تساوي ألف دينار، وخرج بها أمام الناس، بل أهديت له هدية صلى الله عليه وسلم قيمتها مائة ناقة.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها |
وإن من الإجحاف أن يطالب الدعاة أن يعيشوا في بيوت الطين في هذا العصر، الذي لا تبنى فيه البيوت إلا من الفلل، وفيها من الأشياء التي تعرفونها، أو نطالب الدعاة أن يكونوا على الحصير، مع العلم أن الناس يجلسون على الكنب، أو نطالب الداعية أن يلبس لباساً متمزقاً قديماً ويكتفي بثوبٍ على طول السنة، مع أن الله قد وسع عليه، والله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
لكن مقصودي بكلامي: ألا يتشاغل الداعية بالدنيا تشاغلاً هائلاً يعميه عن طريقته، فإنه من الحسرة أن تجد كثيراً من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم غارقاً في الدنيا إلى أذنه، له من المؤسسات والشركات والدور، ويتشاغل بها عن الدعوة، أنا لا أعارض أن يكون لطلبة العلم تجارة، ولهم عَمَار في الأرض، ولهم دخل، فهذا مطلوب كما فعل عثمان وابن عوف وغيرهم من الصحابة، لكن أن يستغرق طالب العلم والداعية وقته في هذه الأمور، فتجده دائماً في مكاتب العقار، في البيع والشراء، مع الشيكات ويترك الأمة للمهلكات، فهذا ليس بصحيح، وهذا محرج، ومخجل، فإن الله عز وجل استخدمك في أحسن طاعة وفي أجل قربة، ولا بأس أن يكون لك أسهمٌ وأن يكون لك مشاركات وتجارات، لكن وكلها غيرك من الوكلاء، واهتم أنت بالدعوة وبرفع راية التوحيد، وبتثقيف الناس وتعليمهم.
فذوبان الشخصية ليس بجيد للداعية، بل عليك أن تستقل في شخصيتك، وتعلم أن الله خلقك نسيجاً وحدك، وأن الأرض لا تستطيع إلا بإذن الله عز وجل أن تخرج واحداً مثلك، فأنت من بين الملايين التي خلقها الله منذ آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وحدك، صوتك وملامح جسمك واستعدادك وما عندك من مواهب لا يشابهك فيها أحد، فأنت تقدم نفسك وتقدم ما عندك، لكن لا تذوب في الآخرين، ويسمي الغرب هذا ذوباناً وينهون عنه ويقولون: لا تتقمص شخصية غيرك.
قالوا عن الطاووس: أراد أن يقلد الغراب في مشيته، فنسي مشيته وما استطاع أن يقلد الغراب، وهذا يدخل يقع فيه بعض القراء، فإن القارئ منهم يريد أن يقلد قارئاً آخر فيتعب، فلا يحسن صوت ذاك، ولا صوته المعهود الذي منحه الله عز وجل، ويستثنى من ذلك ما إذا كان يستطيع أن ينطق مثل صوت ذاك بدون كلفة، وصوته جميل فلا بأس إن شاء الله.
وقس على ذلك الخطباء، حتى إنه يوجد من الناس من يتنحنح كما يتنحنح ذاك الشيخ، وليس به نحنحة، ومن يسعل كما يسعل ذاك الشيخ وليس به سعال، وهذا ذوبان مفرط، ويسمى انهزاماً نفسياً لا يقره الإسلام، بل الإنسان يبقى على شخصيته.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أصحابه على أن شخصية عمر قوية في الحق، أثنى عليه بقوته وقال: (مثلك يا
أسأل الله التوفيق والهداية، والرشد والسداد، كما أنه لا يفوتني في آخر هذا الدرس قبل أن أجيب على بعض الأسئلة أن أقول لكم: ينبغي أن يحتسب الإخوة في إخبار إخوانهم من الشباب وطلبة العلم والجيران وحثهم على الحضور، وأن يساهموا في ذلك حتى نتعاون على البر والتقوى، ونكون يداً واحدة ويرضى عنا سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى نهى عن التفرق والتخاذل، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105].
نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يرضى عنا وعنكم، وأن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يحفظنا وإياكم من كل مكروه، وأن يسدد منا الأقوال والأفعال، وأن يتولانا فيمن تولى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أسأله تعالى وهو الواحد الأحد أن يثبت هؤلاء، وأن يزيدهم إيماناً وأن يردهم من هذا المكان وقد غفرت ذنوبهم، فإنه في كثير من الآثار أن الله يقول للمجتمعين على طاعته: قوموا مغفوراً لكم، فقد رضيت عنكم.
والشاب الذي حضر هذه الليلة وترك اللهو واللغو، وترك زملاء السوء ورفقة الانحراف أنا أعتبر أنه ولد من جديد، وقد ذكرت لكم أن شيخ الإسلام -سقاه الله من سلسبيل الجنة- كان يقول: لابد للإنسان من ميلادين اثنين: الميلاد الأول: يوم ولدته أمه، والميلاد الثاني: يوم وُلد في هذا الدين.
اليوم ميلادي فرحت لتوه في ليلة الإسراء والمعراج |
فليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لهذا الشخص، معراج العلوم والفنون والحكم والمعارف هي هذه الليلة، فاشكروا الله على فضله، وكونوا أعضاء خيرين في جمعية محمد صلى الله عليه وسلم وعليكم أن تدلّوا الناس على مرضاة الله عز وجل، يعني إذا وجد أحد منكم مجموعة من الناس أن يدعوهم لحضور مجالس الخير، وقد لا يستفيد مني شخصياً، لكن يوم يراكم ويرى حرصكم وجلوسكم والإيمان فيكم، ويوم يرى سمتكم تكون عنده هذه كمائة محاضرة.
أيضاً أظن أن غداً أول أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، إن كان غداً أو بعد غدٍ فعلى كل حال أنتم أعلم، ومن صامها فكأنما صام الدهر كله، وهناك لطيفة عند بعض الفضلاء يقول: لماذا خص الشارع أيام البيض؟ بعض الأطباء العصريين قالوا: ربما كانت دورة الجسم تزداد وضخ الدم يزداد في ليالي البيض، والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم فيزداد نشاطه في الأيام البيض، فيحاصر في الصيام، هكذا قالوا، ودعها سماويةً تجري على قدرٍ.
وأنبه على كثير من النساء أن بعض الحجاب ليس حجاباً شرعياً، فكشف الوجه في الأسواق، وفي المجامع العامة قد أصبحت ظاهرة، كذلك العباءة المفتوحة من الأمام والتي تظهر فيها مفاتن المرأة وتكون مغرية، وفاتنة وجالبة للنظر، فلتتقي الله المرأة في طاعة ربها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تكون عرضة لعيون السيئين أو لتعريض نفسها لعذاب الله ومقته.
الجواب: بالمناسبة، اقترح عليَّ كثير من الفضلاء من طلبة الجامعة درسٌ بعنوان رسالة إلى طالبٍ جامعي وسوف أفعل هذا -إن شاء الله- وعدٌ غير مكذوب، وأحضر له بإذن الله مستعيناً بالله ثم بأفكاركم وما تكتبونه إلينا من مسائلكم، لكن أرى أن صاحب الخطأ يرد عليه تواً في خطئه لكن بأدب، فالأستاذ الذي يعرض الكفر عند السبورة لا نسكت عليه، ونقول: سوق نحاوره فيما بعد ولا نزعجه الآن؟ لا. بل نقوم بأدب ونقول: ما قلته مخالفٌ لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتورد له الخطأ، على أني أعلم وقد بلغني أن بعض من يتكلم في بعض المحاضرات يسيء في فهمه للإسلام، ويسيء لبعض النصوص وبعض الأحاديث النبوية، ويرد بعض القواعد العامة من الإسلام، ويستهزئ ببعض السنن النبوية، وينتهك حرمة بعض العلماء والدعاة، ويتعرض لهم ولأشخاصهم ولأعراضهم، فهذا لا نحاكمه نحن، فنحن أضعف من ذلك، لكن نحيله للواحد الأحد، ونقول كما قال نوح: رب! أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10] لكنا مع ذلك لا نعلن الاستسلام بأفكارنا؛ لأنا منتصرون أصلاً، والحق حقنا، والأرض أرضنا، وأفكارنا هي الثابتة بإذن الله فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17] على ذلك أرى أن يناقش هؤلاء ويحاوروا لكن من أناس يفهمون ويدركون، وإذا لم تستطع مناقشته، فلا أقل من أن تقدم له شريطاً لداعية أجاد في مناقشته، أو تقدم له كتيباً بأدب، أو مقالة أو تدعوه إلى بيتك، وتستضيف أحد الدعاة أو تذهب بأحد الدعاة إليه ليناقشه في مكتبه، أو في إدارته حتى نوقف هذا الطوفان الجارف، حتى لا يؤثر في غيره، لأن الجرباء تعدي غيرها من الصحاح، أما الصحاح فلا تعدي الجرب، فينتبه لهذا الأمر.
الجواب: يقول الشاعر القديم ابن عثيمين رحمه الله في قصيدة يرثي بها الشيخ العجيري أحد المشايخ الكبار من علماء نجد الأبرار يقول:
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب |
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب |
نؤمل آمالاً ونرجوا نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب |
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب |
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب |
وكلنا ذاك الرجل، لكن يا أخي لا نيأس من روح الله، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] أتت هذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16] ثم طمعهم الله في فضله، وفتح لهم أبواب الرجاء وقال اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:17] فسوف يحيا قلبك بإذن الله، وسوف تدمع عينك ولا تيأس وأنت في أول الطريق، والعبرة في كمال النهايات، لا بنقص البدايات، وعليك أن تواظب على الدروس وعلى مجالس الخير والمحاضرات وسوف تجد انشراحاً -بإذن الله- لأن الدعوات التي تلقى هنا ليست بالسهلة، الواحد الأحد يرفعها سبحانه، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] وأنا أجزم جزماً أنه بإذن الله في هذا الجمع الحاشد، ولو واحد ممن تستجاب دعوته، فكم من صالح، وكم من عابد، وكم من قائم لليل، وكم ولي من أولياء الله، الأولياء لم ينقطعوا، الأولياء كثير، وأنتم إن شاء الله من أولياء الله عز وجل على ما فينا من المعاصي جميعاً، فإنه لا زال عندنا ولاية مطلقة، ولاية الإيمان، والتوحيد: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] أما روح الإحباط الذي يذكرها بعض الناس يقول: أنا دعوت فلم يستجب لي، فهذا خطأ، أو كم دعونا فلم يستجب لنا، أو نحضر في جامع كبير وأظن كلنا لا يستجاب لنا، فهذا خطأ -والعياذ بالله- وهذا سوء ظن بالله، فلا يظن بالله السوء، بل الله يستجيب والله تعالى يحمي، ودعاء الصالحين مطلوب ومرغوب ومبذول، والذي أرجوه مني ومنكم أن تكثروا من الدعاء بإلحاح، وأن تسألوا الواحد الأحد في صلاح ونصرة هذا الدين، واستقامة الصالحين، وفي نصرة أولياء الله عز وجل، كما أطلب منكم كذلك الدعاء بعضكم لبعض في ظهر الغيب، والتواصي بالمعروف حتى نكون ممن قال الله فيهم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
أشكركم شكراً، وأسأل الله عز وجل أن يجمعنا بكم مراتٍ عديدة، وأعماراً مديدة، وأن يكون آخر اجتماع بكم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر