وفي هذه المادة عرضٌ لبعض مشاكل الشباب وحلولها.
والصلاة والسلام على أشرف رسول وأكرم نبي، حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، الذي شرح الله له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تبارك وتعالى أن أجلسني في هذا المجلس بين أساتذتي ومشايخي وبين زملائي، من أراهم أفضل وأعلم وأفهم، ولكن كما قال أحمد شوقي:
قد يضيق العمر إلا ساعةً وتضيق الأرض إلا موضعا |
وللمواضع وللأمكنة وللبلاد سمات في القلوب، وشجىً في الأرواح، وأثر في النفوس، وهذا المكان درجت في رحابه، ونبتُّ في جنابه، فهو معهدي الذي أتشرف بأني درست فيه، وأساتذتي هم أساتذته، ومشايخي هم مشايخه، فمن الحق أن أقضي بعض الدين الذي كلفني الله بقضائه، نصيحةً للمسلمين، وأداءً للواجب.
فهذا الموضوع (أزمات تواجه الشباب المسلم).
الشباب الذين يريدهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لحمل لا إله إلا الله، وليعيشوا للا إله إلا الله، وليموتوا من أجل لا إله إلا الله.
الشباب الذين حداهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا أكثر كتائبه في الإسلام، وكانوا خطباءه على المنابر، وكانوا أدباءه في الحفلات والأسمار، وكانوا رسله عليه الصلاة والسلام.
كلما قتل قتيل إذا فتشتم عنه فإذا هو شاب، وإذا تكلم متكلم ثم بحثتم عنه فإذا هو شاب.
أولئك الشباب كانوا خياراً، وكانوا نوراً، وكانوا فخراً، وما لشبابنا اليوم تتجاذبهم الشهوات والشبهات، اختفى النور الوهاج الذي أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقول شاعر البنجاب محمد إقبال وهو يطوف قبل أربعين سنة بالبيت العتيق، ويبحث أين الشباب الذين رفعوا معلم التاريخ؟
أين الشباب الذين قدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، وقدموا أرواحهم ثمناً لمرضاة الله، أين هم؟
وجد شباباً يطوفون بالبيت لا تبدو عليهم معالم الإسلام، ولا تلوح على محياهم آثار السنة، ولا يتتوجون بتاج لا إله إلا الله.
صحيح أنهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون، ولكن أين الآثار؟ أين الحياة؟ أين الحماس المتوهج؟ فبكى طويلاً وسجل قصيدته التي نثرها من دمه، وهي: تاجك مكة -أي: مكة البلد الكبير- يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا |
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا |
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا |
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا |
إلى أن يقول:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا |
يا رب! أين الشباب الذين امتطوا البحار حتى بلغوا لا إله إلا الله؟ اللوار ونهر الجانج وصحراء سيبيريا، وحدائق الأندلس.
وأين صلاح الدين بعد خالد؟
أين أولئك الشباب؟
أليسوا بشباب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ بلى والله.
يقول أبو حمزة الخارجي: شباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الباطل أعينهم، ثقيلة عن الشر أرجلهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، ينظر الله إليهم في جنح الليل يتململون على جنباتهم خشعاً لله وسجداً. أو كما قال.
وصل إلى مسيلمة وقلبه يتوهج بلا إله إلا الله
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى |
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] لا أحد. فوصل ودخل سرادق مسيلمة، فقال مسيلمة: من أنت؟
قال: أنا رسول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
قال: أتؤمن أنه رسول؟
قال: إي والله.
قال: أتؤمن أني رسول؟
قال: لا أسمع شيئاً، فأعاد عليه الكلام فأعاد عليه حبيب بن زيد الجواب، فأمر أحد جلاديه أن يتقدم إليه بالرمح فضربه بالرمح، فقطع منه قطعة في الأرض، فأعاد عليه الكلام، وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال: إي والله، قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: لا أسمع شيئاً، فلما قال له هذا الكلام أمر جلاديه وجنوده أن يتقدموا من ذاك الشهيد، فتقدموا فهذبوه بالسيوف، فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ما زاده هذا الموقف إلا إيماناً وتسليماً، وثقة برسالة لا إله إلا الله، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله!
اللهم أبلغ رسولك ماذا فعل بي الغداة.
وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقول: {عليك السلام يا
قال: والله الذي لا إله إلا هو ما أريد أني في أهلي ومالي، وأن رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصيبه شوكة، فرفعوه، وقبل أن يرفعوه، قال: ائذنوا لي أن أصلي ركعتين، فتركوه، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم التفت إليهم وقال: والذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تقولوا: أطلت الصلاة جزعاً من الموت لأطلتها، فرفعوه وتقدمت إليه السيوف، وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أبلغ رسولك ماذا لقيت الغداة -يعني أبلغه هذا اليوم ماذا يفعل بي- ثم قال: السلام عليك يا رسول الله.
هذا في سيرة موسى بن عقبة، قال موسى بن عقبة: وصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في تلك اللحظة: {عليك السلام يا
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع |
أي كلام هذا الكلام؟! أسمعت أصدق وأنبل -بعد كتاب الله- من هذا الكلام؟! يغرسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القلوب فيؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
وأما نحن فكانت تربيتنا للشباب أن نسأل أحدهم: ما هي هوايتك؟
فيقول: جمع الطوابع، ومطاردة الحمام، والمراسلة، والسباحة!!
إذاً تنكست منابرنا، وهدمت حصوننا، وخلت مساجدنا، ولذلك يقول الفيلسوف المسلم:
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال |
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال |
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟ |
وجلجلة الأذان بكل حيّ ولكن أين صوت من بلال |
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالِ |
إن الذي يجعل حياته لجمع الطوابع لا يكون عبداً لله؛ بل يكون عبداً لشهوته.
وإن الذي يهتم بمطاردة الحمام والمراسلة والسباحة والتصفيق والتشجيع سوف يكون خاملاً في الحياة.
نسمع أنك تريد ملكنا -يريد وهو في العشرين من عمره- فيضحك ابن تيمية، ويقول: ملكك! والله ما ملكك وملك آبائك وأجدادك يساوي عندي فلساً. وذلك لأنه عرف الله، وعرف لماذا يعيش، وعرف ما هو مصيره، ولذلك يقول وهو يدخل السجن، وهو يلتفت إلى البواب، ويضحك ضحك المؤمن القوي يوم غرس في نفسه لا إله إلا الله، يقول لما أغلقوا عليه الباب: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:12] ثم يقول: ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري أنَّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
فيا سبحان الله! كيف عمّر الله تلك القلوب باليقين والتوحيد، فجعلها نوراً تمشي على الأرض؟!
قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] هذا زرع محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه تربية محمد عليه الصلاة والسلام.
هل يختار الذين بلغوا في السن عتياً، يتلفت فإذا أصحابه شباب، فتقع عينه على معاذ رضي الله عنه وهو في الثامنة عشرة من عمره، فيرسله معلماً إلى اليمن.
يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: لما ودعه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام بكى معاذ بكاء عظيماً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما لك يا
يعرف كل شيء في حياته إلا الدين، يجيد قيادة سيارته وهندستها وإخراجها وإنتاجها، وثوبه ولبسه وطعامه وشرابه ومسكنه ومدخله ومخرجه، ولكنه أصم أغلف عن الدين، والله له حكمة بالغة؛ ولكنه يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يشرح هذا الحديث في المجلد الحادي عشر وما قبله: هذا الحديث يقسم الأمة إلى ثلاثة أقسام: وقد أغفل قسماً ثالثاً وهو: الظالم لنفسه، وذكر: المقتصد والسابق بالخيرات، لذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] فقسمهم الله عز وجل هذا التقسيم.
فالظالم لنفسه يقع مسلماً في هذه الأمة، لا يخرجه من الإسلام إلا الخوارج، يفعل الكبائر ويترك بعض الفرائض غير الصلاة، أو يقترف كثيراً من حدود الله عز وجل، لكنه لا يزال مسلماً.
والمقتصد: يفعل الفرائض ويجتنب الكبائر؛ لكنه يترك المستحبات ويفعل بعض المكروهات.
والسابق بالخيرات -نسأل الله من فضله، وأن يحبب إلينا السابقين وأن نحشر في زمرتهم، وإلا فأين الثرى من الثريا- هو الذي يفعل الفرائض والنوافل والمستحبات، ويترك الكبائر والمحرمات والمكروهات: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
أزمات تواجه الشباب المسلم في هذا العصر وفي كل عصر، لكنها تختلف بالبقاع والأزمنة والأمكنة والهيئات والأشخاص:
أولها: مرض الشبهات.
وثانيها: مرض الشهوات.
وثالثها: أزمة جلساء السوء.
ورابعها: الفراغ وإضاعة الوقت.
وخامسها: البيت وانحرافه يوم ينحرف عن لا إله إلا الله.
وسادسها: الضغينة والبغضاء بين شباب الإسلام.
ولذلك يقول موسى لهذا الخبيث الملحد: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102].
ولذلك يقول هارون الرشيد -كما أورد ابن كثير ذلك في تفسيره في سورة البقرة- يقول وهو عند الإمام مالك: يا أبا عبد الله! ما دليل القدرة؟ -هو لم يشك، لكن من باب ورود الشبهة- قال: ما دليل قدرة الله عز وجل؟
قال الإمام مالك: عجباً لك!! اختلاف الأصوات والنغمات، وتعدد الهيئات دليل على رب الأرض والسماوات.
وأورد ابن كثير أن أبا حنيفة سُئِلَ هذا السؤال، فقال: ذكر لي سفينة تمخر عباب دجلة، وتقف في الشاطئ، ثم تنزل حمولتها ليس لها ربان ولا ركاب ولا حرس، قالوا: هذا جنون!
قال:يا سبحان الله!! أَكَوْنٌ وسماء وأرض ونجوم وقمر وشمس ليس لها مدبر؟! بل هو السميع البصير.
وعرض هذا السؤال أيضاً على الإمام أحمد كما ذكر ذلك ابن كثير، فقال: سبحان الله! هذه البيضة -بيضة الدجاجة، أو بيضة أي طائر آخر- أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب إبريز، تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير، ألا يدل على السميع البصير؟!
ويقول الشافعي كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية: ورقة الإبريسم تأكلها الدودة فتخرج حريراً، وتأكلها الغزال فتخرجها مسكاً، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلاً، ألا يدل ذلك على السميع البصير؟!
مرض الشبهة والتحيل والاضطراب.
إنه مرض يأتي إما من نقص العلم الوارد، أو بالبيئة التي يعيش فيها العبد، أو الخطوات التي تزلزل الإيمان، وهو أقسام:
منهم من يشك في وجود الخالق سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو الإلحاد الذي طم وعم في مجتمعاتنا، وأخذ كثيراً من الشباب -نسأل الله العافية- وهو يركب مراكب، منها: مركب الحداثة في الصحف والمجلات، ويستخدم الرموز، ويقود الناس إلى لينين وماركس وهرتزل وأمثالهم من أعداء الله، وهذا المرض خطير جد خطير.
ومنهم من يشك باليوم الآخر؛ يؤمن بوجود الله، لكن لا يؤمن باليوم الآخر!
ومنهم ابن سيناء فإنه كان يشير إلى الكواكب، كما يقول ابن تيمية.
ويقول: إن اليوم الآخر إنما هو لمحات وإشارات وليس بحقيقة، والله عز وجل ذكر هذا الصنف، فقال في آخر سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] ثم ذكر الله ثلاث قصص، أولها قصة النمرود بن كنعان، وقرر الله الحجة عليه وبهت، والله لا يهدي القوم الظالمين.
والقصة الثانية: قصة الرجل الذي قيل: إنه عُزير، وقيل: غيره من بني إسرائيل.
والقصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام يوم أراد أن يطمئن قلبه.
أولها: النظر والتفكر في الكون؛ يقول الله عز وجل: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس:101] وقال تبارك وتعالى لكفار مكة: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20] ولم يدقق الله عز وجل في دقائق الكون، وإنما نصب لهم العلامات والآيات، ولم يأت بالدقائق؛ لأن عقولهم لا تدرك إلا ما يرون، فخاطبهم الله بهذا.
ويذكر الله عز وجل السماء وما فيها من آيات، والأرض وما فيها من عجائب، يذكر خرير الماء، وخلق الطير، ويذكر الشجر، والزهر،والخلق البهيج، ويذكر الشجر صنوان وغير صنوان، والماء كيف كان أصله؟ ويذكر النطفة كيف تدرجت حتى أصبحت إنساناً، ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأخير: أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].. أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس:3].
إذاً: فالعلاج الأول لمرض الشبهة التي صادفت كثيراً من الشباب، وشكا منها كثير من الشباب حتى ممن صلى وصام وحج واعتمر.
العلاج الأول: النظر في الكون، والنظر في آيات الله عز وجل والتدبر، ولذلك جعل الله عز وجل من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} وإنما قال: خالياً ليكون بعيداً عن الرياء والسمعة.
ذكر آيات الله؛ يقول كثير من العلماء: لا يقتصر على ذكر الله بالتسبيح، والتحميد والتهليل فقط، بل إذا نظر إلى الجبال والوهاد والتلال، ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى المبتلين والمرضى ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى الأطلال والقبور ففاضت عيناه فهو مأجور، وإذا نظر إلى تعدد الهيئات واختلاف الأصوات والنغمات ففاضت عيناه فهو مأجور، فسبحان الله! من يذكر عبده فيذكره، فيثني عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا.
يقول تقي الدين بن سكير: خرجت وراء شيخ الإسلام ابن تيمية بعد صلاة العصر من الجامع الأموي، فلما اختفى في غوطة دمشق رفع بصره إلى السماء، وقال: لا إله إلا الله، ثم فاضت عيناه، ثم بكى وقال:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا |
فهذا ذاكر ذكر الله في خلوة، فالنظر والاستدلال على قدرة الله بالتفكر في الكون أعظم ما يقضي على مرض الشبهة.
ثانياً: الذكر؛ فإن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصف الذكر مع الفكر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].
يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن أحد الملاحدة الذين أرادوا الإيمان، ولكن ما أراد الله لهم ذلك وهو أحد الفلاسفة -قد يكون ابن الراوندي، الذي يقول عنه الذهبي: الكلب المعفر الخبيث؛ الذي ألف كتاب الدامغ على القرآن يدمغ به القرآن، شكا حاله على بعض علماء الإسلام- قال: في قلبي ظلمات بعضها فوق بعض، يريد أن يهتدي لكن على قلبه ظلمات وححب وآصار وأغلال وحديد؛ حجب لا يعلمها إلا الله، يريد أن يصلي ويذكر الله فلا يستطيع، فقال له هذا العالم: عليك بكثرة الذكر بعد الصلاة، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعت؛ قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5]؛ والله يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
و قد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية من العلاجات لهذه الأمراض الذكر، وقال: إن الله يقرن في كتابه بين التوحيد وبين الاستغفار، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] وقال عن يونس بن متى يوم أن يروى قصته: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
وعند أبي يعلى في مسنده {يقول الشيطان: أهلكت بني آدم بالذنوب،وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار} فأعظم ما يمكن أن يقضي على مرض الشبهة والشك والحيرة والاضطراب في الإيمان بالرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم وبالله عز وجل وباليوم الآخر وبالغيبيات بعد التفكر والاستدلال والنظر هو الذكر.
وثالثها: النوافل، وإنما قدمت الذكر لأنه أهم، بل هو أفضل من كل نافلة، فالنوافل هي التي تنهي الاضطرابات، ولذلك وجد في الشباب من تسمعه يشكو أن في قلبه اضطراباً وحيرة من خلود أهل النار في النار، كيف يخلدون؟ ولماذا يخلدون آلافاً؟ ولا أذكر الشبهات، لأنه لإيراد الشبهات لا بد أن يورد الحلول لها، وهذا المجال لا يتسع له... إلى غير ذلك.
فعلاج مرض الشبهة النظر في الكون والتفكر.
ومن ذنوبنا قلة التفكر حتى أصبحت أحاسيسنا باردة من كثرة ما ألفنا، وإلا فو الله الذي لا إله إلا إلا هو إنها لآيات باهرة: الشمس، هذا الفلك، وهذا الجرم الكبير كيف يسير؟ وكيف يذهب باحتساب؟ ويذهب بتؤدة ويذهب بمقدار ثم يأتي وهكذا.
النجوم من جملها؟ الجبال من نصبها؟ الشجر من أبدع خلقه؟ الزهر من نوعه؟
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا |
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا |
والنحل قل للنحل يا طير البوادي من الذي بالشهد قد حلاكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
فالحمد الله العظيم لذاته حمداً وليس لواحد إلاكا |
يقول إبراهيم بن أدهم: جلست تحت شجرة فرأيت أحد الصالحين نام، وإذا بالبعوض على وجهه وشيء من الذباب، قال: فوالله الذي لا إله إلا هو إني لبحية خرجت من جحرها فأخذت زهرة بفمها، ثم أخذت تزيح عنه البعوض والذباب.
ويقول ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى بعض الصالحين في أول هدايته -كان سبباً لهدايته- عصفوراً يأتي بقطع من اللحم ويذهب إلى نخلة، فقال الصالح في نفسه: العصفور لا يعشعش في النخل، فلماذا يذهب؟ فتسلق النخلة، فاطلع فرأى حية عمياء -يأتي هذا العصفور بقطعة اللحم، فإذا اقترب منها فغرت فاها فأوقع فيه اللحم، فشهد أن لا إله إلا الله وتاب.
وهذه آيات باهرات من كرامات الأولياء، يطول شرحها في هذا المقام. وهذا مرض وأزمة خانقة واجهت شباب الإسلام، لكنها حلت بإذن الله، بكثرة علم الكتاب والسنة، وكثرة النوافل عند كثير من الشباب، وكثرة الذكر، وكثرة الموجهين، لأن الأمة تعيش في صحوة؛ نرجو الله أن يسددها ويصلحها ويهديها سواء السبيل.
والأمراض في القرآن ثلاثة: مرض الشك والشبهة وهذا يقع فيه ملاحدة العالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومرض الشهوة وقع فيه بنو إسرائيل.
ومرض الجهل وقلة العلم والفقه وقع فيه النصارى.
ولذلك يذكر الله الضلال مع النصارى، ويذكر سُبحَانَهُ وَتَعَالى الغضب واتباع الهوى مع اليهود.
قال سفيان بن عيينة كما أورد ذلك ابن تيمية في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم قال: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
وصح عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس إلا هم) وفي رواية: (فمن إلا هم).
ولذلك قرر ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم أن كل خطأ سلف سوف تقع الأمة فيه، ولذلك وجد من طلبة العلم والعلماء من لم يعمل بعلمه -نعوذ بالله من ذلك- قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].
فالنظر للحرام شهوة، واستماع الأغنية، والنظر إلى المجلة الخليعة، ومجالسة البطالين، واللغو، والكذب، والنميمة والزور والبهتان شهوات، وقد وقع في هذا قطاع عظيم من الشباب.
أعني أن الذين انحرفوا وقعوا في الشهوات لا في الشبهات، لأن مرض الشبهات يحد ويقلص بأمور، أما الشهوات فإن علاجها خفي وإن كان أسهل من الأول، والذي وقع في الشهوات أسهل من الذي وقع في الشبهات، فالذي في الشهوات قصاراه أن يكون مذنباً أو ظالماً لنفسه، وأما الذي وقع في الشبهات فقصاراه أن يكون ملحداً زنديقاً -نعوذ بالله من ذلك-.
ذكر الله عز وجل في القرآن علاج الشبهات باليقين، وذكر علاج الشهوات بالصبر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] قال أهل العلم: صبروا عن الشهوات، وتيقنوا عند الشبهات، فنصرهم الله وجعلهم أئمة، فمن لم يصبر عند الشهوة فليس بإمام ولن يكون إماماً، وليس بمهتد، ومن لم يتيقن عند الشبهة فليس بإمام ولن يكون مهتدياً.
إذاً: فمرض الشبهة يعالج باليقين، ومرض الشهوة يعالج بالصبر: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127].
قال الإمام أحمد: ما رأيت كالصبر، تدبرت القرآن فوجدت فيه تسعين موضعاً يتحدث عن الصبر.
فالله الله يا شباب الإسلام في الصبر، فهو علاج الشهوات!
علاج الشهوات: أولها الصبر، أن تصبر عن محارم الله، يقول حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله:
وعن محارم الإله فاصبر واستعن بالله وإياه اشكر |
ولتك بالخوف وبالرجا ولا تيئس وللنفس فجاهد عجلا |
وإن فعلت سيئاً فاستغفر وتب إلى الله بداراً يغفر |
وإنما الأعمال بالخواتم لا تحتقر شيئاً من المآثم |
إلى آخر ما قال في علاج الشبهة وعلاج الشهوة، هذا أمر.
واعلموا بارك الله فيكم أنه لا يتأتى العلاج إلا بأمور:
أولاً: كما يقول ابن تيمية: إصلاح الصلوات الخمس ظاهراً وباطناً، فإن من أحسن خضوعها وخشوعها، وأحضر قلبه فيها، واستحضر عظمة الله وهو يصلي، وحافظ على أوقاتها عصمه الله من الشهوات، وما طفح نظر من نظر إلى الحرام وإلى المحرمات إلا لأنه أساء في الصلاة، وما استمع من استمع إلى الغناء إلا لأنه أساء في الصلاة، وما نظر من نظر إلى المجلة الخليعة إلا لأنه أساء في الصلاة، فهذا مرض وقد سلف علاجه.
أتزعم أن ربك يبعثك إذا كنت عظاماً وتراباً؟!
أتظن أنك تدخل الجنة؟!
أتظن أن هناك جنة وناراً؟!
وهذا موجود في كل طائفة، والله عز وجل من سننه القدرية الخلقية أن يجعل جلساء السوء بجانب جلساء الخير؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] هادياً يهدي القلوب، ونصيراً ينصر بالسيف سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً فهذا الجليس استهزأ بذاك، ولكنه ما أطاعه، فأسلم هذا وكفر ذاك، فلما توفيا دخل هذا الجنة ودخل ذاك النار، فيقول المهتدي لإخوانه وزملائه وهم على الأرائك -نسأل الله من فضله-: هل أنتم مطلعون؟
يقول: تريدون أن تطلعوا على النار لتروا زميلي وجليسي السيئ الذي استهزأ بي في الحياة: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:54-55] أي: وسط النار قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:56-57].
يقول: كدت تغويني في الحياة، وأصبحت من الغواية قاب قوسين أو أدنى، وفي بعض الأوقات أكاد أصدقك وأترك طاعة الله، وعبادته، والاتجاه إليه، لكن الله سلم: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:57] ثم ذكر نعيمه واستقراره: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ [الصافات:58].
ويقول الله سبحانه عن الجلساء: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الزخرف:67] قال أحد الوعاظ: إياك والجليس السيئ ولو زعمت أنك تهديه فإنه يضرك؛ لأن الجرباء تعدي الصحيحة، ولا تعدي الصحيحة الجرباء. هل سمعتم أن صحيحة حولت الجرباء إلى صحيحة، لكن الجرباء هي التي حولتها إلى الجرب.
وقال أهل العلم في كلامٍ ما معناه: ليحذر المسلم أن يداخل الناس إلا أن يكون ذا قدم في الصلاح والعلم، لأنه إذا نقص في الصلاح أصابه الفسق، وإذا نقص في العلم أصابته الشبهة.
ولذلك جاء في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: {لما حضرت
فلولا دخول هؤلاء الجلساء لقال: لا إله إلا الله، لكنهم ما زالوا به حتى في سكرات الموت، فأدخلوه النار.
والجليس السيئ يدخل بمداخل، منها:
أن يغريك بالمال وهو فتنة، يقول ابن تيمية في المجلد الأول من الفتاوى: من احتجت إليه فأنت أسيره، ومن احتاج إليك فأنت أميره،ومن استغنيت عنه واستغنى عنك فأنت نظيره، فالناس علىطبقات؛ إما أن تكون: أسيراً، أو أميراً، أو نظيراً.
والجلساء على هذه الطبقات، إما أن يجالسك فيصبح أميراً لك، أو أسيراً لك، أو نظيراً لك، فإن احتجت له في معاملاتك الدنيوية من مال أو واسطة أو كسب أو أسرة أو غرض دنيوي؛ فقد تأمر عليك، وبإمرته عليك باستطاعته أن يوجهك إلى الخير أو إلى الشر.
فاحذر أن يكون للناس عليك منّة، ولذلك يقول شيخ الإسلام: من تصفية العقائد ألا تسأل الناس شيئاً، ولما بايع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وسبعة معه؛ اشترط عليهم ألا يسألوا الناس شيئاً، حتى كان يسقط سوط أحدهم من على الفرس، فينزل ويأخذ السوط، ولا يقول لأحدهم: ناولني سوطي.
ولذلك ماسمع في الحديث ولا في السيرة أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ادع الله لي يا رسول الله، مع أن بعض الأعراب يقول: يا رسول الله! ادع الله لي، لكن أبا بكر لأنه لا يسأل شيئاً لم يقل يوماً: ادع الله لي يا رسول الله، مع أنه في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب منه الدعاء.
وصح في ذلك أحاديث كثيرة؛ ولكن لعظم درجة هذا ما طلب رضي الله عنه وأرضاه، وفي الحديث الصحيح: {الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون} وأما رواية: {لا يرقون} فليست بصحيحة، وهي شاذة؛ لأنهم يرقون غيرهم كما رقى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره، ووجدت في بعض الأحاديث، لكن ابن تيمية قال: هذه الكلمة ليست بصحيحة، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رقى غيره، والصالحون يرقون غيرهم، لكن لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، لكمال توحيدهم.
الشاهد من هذا: أن الجلساء يدخلون من هذه المداخل، وإذا احتاج إليك كنت أسيره فاتق الله فيه، إذا احتاج إليك في خدمة دنيوية فاجعلها وسيلة لأن تهديه إلى الله عز وجل، وتكون سبباً من أسباب الهداية، أما إذا لم يحتج إليك ولم تحتج إليه فهو نظير لك.
والعجيب أنه وجد جلساء سيئون يسهرون الليالي، ويحبكون المؤامرات والمداخل، وينصبون الشباك لشباب الإسلام، فأين دعاة الإسلام؟ وأين طلبة العلم؟ وأين العلماء؟
أتصدق أن ملحداً يسهر الليل ويصنف المذكرات، وينظم الأمسيات والمحاضرات والندوات والتمثيليات، في كثير من المجتمعات ليضل عباد الله؟!
فأين جهود الأخيار الأبرار الذين يريدون الله والدار الآخرة؟!
وجليس إذا خالطته أثر فيك، فاهرب منه، وفر منه فرارك من الأسد، لأن بعض الناس قوي الشخصية ولو كان ضالاً، إذا دخلت معه في المجلس استولى على الحديث وتكلم، وأخذ الوقت في محاضرة؛ فلا تستطيع أن تتكلم معه بكلمة، يقودك وأنت لا تقوده، يوجهك وأنت لا توجهه،ففر منه؛ لأنه لا قدرة لك عليه، والناس منهم -كما يقولون- مائي وهوائي وسمائي، إلى أقسام كثيرة تدخل في علم النفس لا ندخل فيها.
فمن الناس من يكون هوائياً تأخذه الريح يمنة ويسرة، ومائي ينداح في اليد، وسمائي روحه متألقة، وشفافة لا تطغى عليها الأرض، وهذه فطر فطر الله الناس عليها.
وأصل حفظ الوقت من كتاب الله عز وجل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62] أي: جعل الليل والنهار يخلف هذا هذا، ليستخدم ويستغل في طاعة الله عز وجل.
دخل أحد الصحابة وإذا رجل في مسجده صلى الله عليه وسلم، وإذا هو حزين، فقال: مالك مهتم مغتم؟
انظر إلى أسباب الحزن عند السلف الصالح، أسباب حزننا: إما رسوب في امتحان الابن، وإما صدام سيارة وقعت، وإما شجار مع الجيران، وإما غلاء الأسعار، وإما تأخر الأمطار، وأما عمل الآخرة فقليل من يهتم، حتى أمر عادي إذا دخل الإنسان المسجد وخرج الناس من الصلاة ما تجد عليه سفعة الهم ولا الغم.
فيقول: فاتتني صلاة الجماعة في عمري مرة، فما عزاني إلا ثلاثة، ولو مات ابني لعزاني أهل بغداد، والحمد لله أن عزاه ثلاثة، لكن هنا لو تفوته صلاة الجماعة أربعين سنة ما عزاه أحد إلا من رحم ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالأصل في ذلك: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الإسراء:62] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116] والمسلم الشاب وغيره إذا عاش بدون حفظ وقت، وبدون تسيير وقته فقد ضل في حفظ وقته.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي |
إذا ليلة هرمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي |
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي |
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي |
ونسب ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم للحسن البصري، أنه قال: [[ما أصبح صباح إلا ونادى مناد: يا بن آدم! اغتنم هذا اليوم، فوالله لا يعود إليك إلى يوم القيامة]].
قيل لـ كرز بن وبرة وكان من العباد الكبار: اجلس معنا قال: احبسوا الشمس وأنا أجلس معكم؛ من يمسك الشمس وهي تذهب في فناء الأعمار، واختصار الأوقات؛ لأنها لن تعود مرة ثانية.
يقول ابن عقيل الحنبلي -كما نسب ذلك ابن الجوزي له في صيد الخاطر، وذكر ذلك عنه صاحب طبقات الحنابلة وهو يترجم له- قال: إنه لا يحل لي أن أضيع شيئاً من وقتي، إذا ما أغمضت عيني قبل النوم تفكرت ماذا أكتب في الصباح، وإذا أتيت إلى فراشي لا أنام حتى أكتب ورقات، وإذا استيقظت كتبت، فإذا تعبت استلقيت على ظهري وسبحت الله عز وجل -حتى يتندر ويتلطف ابن الجوزي تلميذه وهو يتحدث عن ابن عقيل، قال: كان يأكل الكعك ولا يأكل الخبز! فقلنا له: لماذا؟ قال: حسبت أن بين أكل الكعك وبين أكل الخبز مقدار خمسين آية، قال: وألف كتاب الفنون وهو ثمانمائة مجلد كلها في أوقات الفراغ والأوقات الخاصة، أما أوقات التدريس وأوقات العبادة فشيء آخر، لكن الأوقات الثانوية الخارجية قد ألف فيها كتاب الفنون ثمانمائة مجلد.
يقولابن تيمية: إني لأنزل السوق فلا أزال أذكر الله وأسبح حتى يظفرني ربي بحاجتي، وحاجته من الحاجات الأخروية، أو فتح علم حتى يقول: إنها لتعجم علي مسألة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل فيفتحها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليّ.
ويروي عن جده عبد السلام؛ لأن ابن تيمية هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام.
يقول الذهبي في ترجمته: أحمد هذا شمس، وعبد الحليم نجم، وعبد السلام قمر، فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، أي: أن الشمس أحمد بن تيمية هذا، وكان جده قمر، يقول: كان جدي لا يضيع شيئاً من وقته، كان إذا دخل الخلاء قال لأحد أبنائه: اقرأ في الكتاب وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك، فأي حرص على هذا الوقت كحرص هؤلاء السلف الأخيار.
ولذلك أنتجوا وقدموا المجلدات التي ما استطعنا أن نقرأها، وهي محققة ومنقحة ومقدمة، وفي الرفوف، ونحن في راحة عظيمة، ولكن لا نستطيع أن نقرأ، فنسأل من الله عز وجل أن يحفظ علينا أوقاتنا.
وهذا العنصر يحتاج إلى كلام طويل وجلسة، لكن لا أريد الإطالة؛ لأن الإطالة معناها الإملال والسأم، وما بقي من الوقت فإن كان هناك حوار أو نقاش أو سؤال فله، وأثني بالشكر على الواحد الأحد الذي وفقنا للاجتماع في هذا المجلس المبارك، ثم أثني بالشكر لمدير هذا المعهد، ولأساتذته ولطلبته، ولكم أيها الحضور، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
الجواب: الحمد لله؛ إن مسألة شهوة الجنس من أعظم الشهوات التي ابتليت بها الأمم، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قدرها لحكم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر هذا في أكثر من حديث بعدما ذكره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن، وأكثر ما تخوفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النساء، فإنها فتنة بني إسرائيل وفتنة هذه الأمة. فإذا علم ذلك؛ فشهوة الجنس عارمة، وهي تختلف من شخصٍ لآخر بأسباب ومسببات، وبجوامح وبطموحات، ولكن علاجها بأمور منها:
غض البصر وهو أعظمها، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] فغض البصر أعظم ما يمكن أن يعالج به الإنسان شهوة الجنس، فيرد جماحه، وهيجان قلبه، واندفاعه وطموحاته في هذا الأمر والله معه، ومن غض بصره أبدله الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه، وما غض أحد بصره إلا جعل الله له فراسة، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] والمتوسمون هم الذين عندهم فراسة؛ لأنهم غضوا أبصارهم، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل فقال: {غض بصرك، لك الأولى وليست لك الثانية} هذا علاج.
والعلاج الآخر: الصيام؛ ذكره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشباب بعد أن ذكره الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن؛ يقول عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] ولم يقل: لعلكم تذكرون أو تعقلون، لأن التقوى سببها الصيام، فهو يكسر النفس ويخضعها ويجعلها منقادة لصاحبها، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء}.
فأنا أرشد إخواني أن من لم يتزوج أن يكثر من الصوم، بشرط ألا يعطله الصيام عن أمر أوجب منه كطلب العلم، أو الفرائض، أو بعض الأمور المهمة في الدعوة، لكن يكثر من الصيام.
الأمر الثالث: أن يكثر من الذكر؛ لأن هذه الأمور لا تأتي إلا من الفراغ في القلب، فإذا فرغ القلب فكر في هذا الأمر.
والأمر الرابع: أن يشغل نفسه بالنافع المفيد، لأنه إذا وجد فرصة الفراغ وسوس وخطرت له الخطرات.
أما الصحيح في العادة السرية ذكر ذلك ابن تيمية وغيره من أهل العلم، قال: والواجب اجتنابها، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7] فحرمت وحرمها كثير من أهل العلم لهذا، ولم يصح في إباحتها ولا في حلها حديث، فليتق الشاب الله عز وجل في هذا الأمر، وليكثر من الذكر وتلاوة القرآن والدعاء خاصة إذا سجد: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي الأسحار وفي أدبار الصلوات، فإذا هداه الله وجهه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وعليه بأن يتخلى ثم يتحلى، فالتخلية قبل التحلية، فهذه المجلة الخليعة سبب من أسباب هيجان الجنس.. الأغنية الماجنة.. وجلساء السوء.. المفاتن.. كثرة النزول إلى الشوارع والنظر إلى النساء.. لأن بعض الناس ولو من الشباب المستقيم همه دائماً النزول إلى الشوارع، والطوفان بالبلد، لا لغرض وإنما لأتفه الأغراض، ولو حفظ وجلس في غرفته وقرأ وسبح وهلل لكان أحسن وأقوم سبيلاً، وإذا وجد فراغاً فليذهب إلى المسجد، أو إلى أحد الصالحين، أو أحد الدعاة أو العلماء أو طلبة العلم، هذا ما يحضرني والله أعلم.
الجواب: هذا سؤال خطير، وقد ألف في هذه المسألة أبواب كثيرة، ولا يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الأمرد ذاك، وقد رده ابن تيمية الذي يقول: جعله وراء ظهره.
لكن صح عن السلف أنهم حذروا من النظر والهيجان، والتطلع إلى المحرمات عموماً، ومنها: النظر إلى الأمرد، فالإنسان أعرف بنفسه، والشيطان له مداخل عجيبة على النفوس، فالإنسان مأمور بعموم قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] فغض البصر يشمل المرأة ويشمل الأمرد إذا وجد، إلا إذا كان الإنسان يجد أن نفسه لا تتحرك ولا ريبة ولا شهوة، والأمرد إنما جعل حراماً لما عليه من سيئات أو ما يتحمل من نتائج سيئة، فهو أدرى بنفسه، وليتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا كان لضرورة كأن يعلم درس قرآن أو حديث، أو في جلسة أو مركز فعليه أن يغض بصره، وأن يتقي الله، ولا يخلو به؛ فإن هذا أمر خطير.
وأما ما ذكرت وأنك وجدت هذا في نفسك فاتق الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وابتعد عنه، وعليك أن تقنعه بهذا الأمر، وإذا حضرت عنده أن تغض بصرك، لأنه لا حياء في الدين، فهذه المسألة ألف فيها رسائل، ونوقشت في مجالس لأهل العلم على مستويات كبيرة من الأئمة الكبار، كـ أحمد بن حنبل فقد كتب وأفتى فيها، والإمام النووي له فتوى، وابن تيمية، فلا حياء في الدين، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن ذاك الذنب العظيم الذي وقعت فيه أمة لوط، وسبب التدمير والإبادة التي أوقعها الله تعالى بتلك الأمة، وثنى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وأعاد، فهذا ينتبه إليه، وأنا أقول: على الشباب أن يغضوا أبصارهم، وأن تكون اجتماعاتهم اجتماعات جماعية، ليس فيها خلوة، وأن إذا حضروا في مخيم أو في مكان أن يكونوا على مرأى ومسمع من الناس، ولا يقرب الإنسان من نفسه الشبهة والشك والريبة، فلو سلم منها أحد لسلم منها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الناس قد يتهمون البريء ولو كان من كان.
الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما زارته صفية وخرج يشيعها مر رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال: {على رسلكما، إنها
مع بيان عقوبة الغناء في الدنيا والآخرة وطريقة علاجه وشكراً؟
والمشكلة الثانية: أطلب حكم الدخان؟
الجواب: الغناء محرم؛ حرمه علماء الإسلام لأدلة منها ظنية ومنها ما يقبل القطع من الأحاديث النبوية، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً [لقمان:6] وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء:64] قال كثير من المفسرين: الغناء، وقال ابن مسعود -ومنهم من رفع هذا الحديث، والصحيح أنه موقوف عليه-: [[والذي نفسي بيده، إن الغناء لينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل]] وعند البخاري: عن هشام بن عمار إلى أبي مالك الأشعري: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، فالذي ظهر أنه محرم، وأن له نتائج وسيئات عظيمة.
منها: أنه يحبب الزنا، قال ابن القيم: الغناء بريد الزنا.
ومنها: أنه يخلي القلب من محبة الواحد الأحد، ومن محبة القرآن والمساجد.
ومنها: أنه يجعل الإنسان ضائعاً يتبع هواه.
ومنها: أنه يعدم عليه وقته.
ومنها: أنه يصب في أذنيه الآنك يوم القيامة وهو الرصاص المذاب.
ومنها: أنه يحرمه الله عز وجل لذة الأصوات، حتى يقول ابن القيم في منظومته:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان |
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان |
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان |
فإن من أخذ العود هنا واستمع الغناء حرمه الله سماع لذة الغناء في الجنة، وعند الإمام أحمد في المسند: { في الجنة غوان وجوار، ينشدن ويغنين: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} وهذا جزاء من حرم على أذنيه سماع الغناء، والله يجعل الجزاء من جنس العمل، فمن شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من ردغة الخبال من النار، وحرمه الله خمر الجنة التي لا غول فيها ولا تأثيم، وهذا يقاس عليه.
فاعلم أن الغناء محرم، واعلم أنه يجرك إلى سيئات كبرى، وأنه يوقعك في حبائل الشيطان، وفي الفاحشة والجريمة -نعوذ بالله من ذلك-.
وعلاجه أن تتوب إلى الله وتستغفر، وتستبدل أشرطة القرآن والمحاضرات والندوات والخطب، وأن تتقي الله في نفسك، وتعلم أن حياتك وسمعك وبصرك محسوب عليك.
أما المسألة الثانية: الدخان؛ فالذي ظهر من عمومات الأدلة وهي استنباطية من الأدلة ليست نصية حرفية؛ أنه محرم، وبعض الناس لجهلهم بالسنة، وجهلهم بالاستنباط والعلم نصبوا من أنفسهم مجتهدين، الواحد منهم إذا أراد أن يشرب الدخان جعل من نفسه مجتهداً مطلقاً، وقال: ائتوني بآية في القرآن تحرم الدخان أو حديثاً.
عجباً لك!! أتريد أن يكون القرآن قاموساً يتحدث عن كل شيء وقع في الدنيا، فيتحدث عن التفاح والموز والميرندا والبيبسي والدخان؟!
لا. إن كتاب الله عز وجل كما يقول ابن تيمية والشاطبي وغيرهما: قواعد كلية، وتحت القاعدة تندرج آلاف القضايا، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] فالطيبات عد ولا حرج، كم من طيبة خلقها الله وسوف يخلقها الله تدخل في هذه الكلمة، والخبائث حدها ما ضر في الدين أو المال أو العقل أو العرض والنسب، فهذه الأمور إذا أضرت فهي محرمة، والدخان عرف عند الناس أن فيه ضرراً على المال، وعلى الجسم، وعلى النسل، فهو محرم لهذا الاستدلال فليعلم ذلك.
والمشكلة الأخرى هي عدم استطاعة الشباب القيام لصلاة الفجر؟
الجواب: أما وسوسة الصلاة فهي مشكلة عريقة عظيمة وقديمة من عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعند النسائي من حديث عمار: {إن من الناس من يصلي فلا يخرج من صلاته إلا بعشرها} وبعض أهل العلم يجعل الحديث تنازلياً وبعضهم تصاعدياً، بعضهم يقول في رواية الحديث كما عند النسائي: {يخرج من الصلاة وصلاته كاملة، ومنهم من يخرج بنصفها، ومنهم من يخرج بثلثها، بربعها، حتى وصل إلى عشرها}.
وهذه الوسوسة لها أسباب: إما قلة عظمة الله عز وجل في القلب، أو كثرة الشواغل والدواعي والواردات، فإن بعض الناس ترد عليه واردات قبل الصلاة تشغله في الصلاة، وحل ذلك يكمن في ثلاثة أمور:
أولاً: أن تعرف أن الكبير وملك الملوك الذي دخلت بين يديه أولى بالتعظيم ممن تذكر، ومعنى (الله أكبر) أي: من كل مذكور، أو كل ما خطر ببالك، أو كل ما شغلك في الصلاة.
والأمر الثاني: أن تشغل نفسك بتدبر القرآن، فإن كنت قارئاً فتدبر ما تتلو، وإن كنت مستمعاً فعش مع الإمام وهو يتلو عليك الآيات لتشغل نفسك عن الشواغل.
والأمر الثالث: أن تصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها في الحياة الدنيا، ولا تدري هل تعيش بعدها أو تموت.
والناس يختلفون على في هذا درجات. وشكي إلى أبي حنيفة رحمه الله، فقال له رجل: حفرت لمالي مكاناً وما علمت أين وضعته، قال: قم فصل في الليل؛ فإن الشيطان سوف يذكرك في الصلاة -ما يذكر إلا في الصلاة- فقام الرجل، فلما استفتح بالقراءة بالفاتحة تذكر المال، وقطع الصلاة وفر يبحث عن المال، وليته أكمل الصلاة، لكن خاف أن ينسى بعد الصلاة أين وضع المال.
وأما المشكلة الثانية: مشكلة صلاة الفجر؛ وهذه لها أسباب كسبية من العبد، فالله عز وجل لا ينوم الناس عن الصلاة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل الأشياء بمسبباتها، فقال في المهتدين: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] وقال في الضُلَّال: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] فإن من يسهر السهر الطويل المميت القاتل ثم ينام عن صلاة الفجر، ثم يقول: نام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة الفجر هو وأصحابه، والله المستعان! دائماً يستدل بها، فعلها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرة فيجعلها دائماً ألف مرة.
يقول الغزالي: مثل هؤلاء كمثل أناس سمعوا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الحبشة يلعبون الحراب في المسجد مرة في العمر -في تاريخ الدعوة مرة- فأقره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا كلما صلى الصلاة أخذ حربته ولعب في المسجد، وقال اقتداء بالحبشة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أقرهم..!
فالذين يأخذون نوادر المسائل في السنة ويجعلونها اطرادية؛ هؤلاء ضلوا من طريقين: من طريق قلة الفهم، ومن طريقة التعدي بالكسب السيئ في العبادات.
ولنتحدث في صلاة الفجر: كان السلف الصالح يشكون من عدم قيام الليل، أو تأخر قيام الليل، أما نحن فوصلنا إلى أَلا نقوم الفجر، فحله -بارك الله فيكم- أمور ذكرها الغزالي في الإحياء وغيره.
منها يقول: أن يكون لك قيلولة في النهار، رأى الحسن البصري أناساً في سوق البصرة وقت القيلولة لا يقيلون، قال: إن ليل هؤلاء ليل سيئ، ما دام أنه لا ينام في النهار فمعناه أنه سينام في الليل.
ومنها: أن تنام مبكراً، فإن من سهر فإنه سوف يفوته الفجر إلا من رحم ربك.
ومنها: أن تقلل من عشائك، وهذا فيه نظر، وأنت أبصر بنفسك.
ومنها: أن تقرأ الورد الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لـ علي وفاطمة في الترمذي: {أن تسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتكبر أربعاً وثلاثين، وقال لهما: فهو خير لكما من خادم} فهو قوة بإذن الله لقيامك لليل، وبعض أهل العلم جرب، وقال: إن من قرأ آية الكرسي سبع مرات أيقظه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن توضأ ونم مبكراً واسأل الله عز وجل أن يوقظك.
ثم الوسائل الجديدة، كأن تأخذ لك ساعة موقظة، أو تلزم بعض أهلك بإيقاظك، والله معك.
الجواب: أزمة الاختلاف في البيوت موجودة ومشهورة، وقد يكون السبب أن كثيراً من الشباب حينما يهتدون يتحمسون للدين والالتزام فيبدءون مع أهليهم بحدة وعنف، فيريدون أن يطبقوا الإسلام في ساعة واحدة من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، ربما أصول الإسلام ما استقرت في أذهان أهله كالصلاة،كأمور الحجاب، كأمور التطلع والاختلاط بالأجانب، كأمور كبرى، فيبدأ هو إذا رأى أخاه يشرب باليسار أقام الدنيا وأقعدها في البيت، وصاح وناح، ويبدأ بإخوانه الكبار في إسبال الإزار، وفي اللفتات والوضوء، ويقول: عليكم أن تبدءوا إذا دخلتم البيت بالدعاء، لأنه ثبت في سنن أبي داود وصححه الألباني، وبدأ بالتصحيح والتضعيف، والتعديل والتجريح، فأقام الدنيا وأقعدها في البيت، وهذا ليس بأسلوب.
أولاً: هم ربما كانوا في غربة ووحشة عن الإسلام الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانثاً: أن التدرج سنة من سنن الله في الحياة حتى في الخلق، فإنه سبحانه تدرج في خلقه، والله عز وجل يستطيع أن يقول للشيء: كن فيكون، لكن تدرج سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في خلق هذا الخلق.
ولما بعث الله الأنبياء نبههم إلى هذا، فقال لموسى وهارون أن يقولا لفرعون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] وقال عليه الصلاة والسلام لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: {فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله..} هل يصح إذا كان إخوانك لا يصلون، أو يتركون الصلاة أن تبدأ معهم بالدعوة، فتقول: ارفع الإزار؟ لماذا لا تربي لحيتك؟
يربي لحيته وهو لا يصلي!! أو يرفع إزاره وهو لا يصلي!! والقضايا قضية قضية، فيبدأ في قضية الصلاة، حتى ينتهى منها، ثم القضية الأخرى وهكذا.
يقول سيد قطب في كتابه في ظلال القرآن: إن هذه الدعوة كشجرة الصنوبر، تعيش نبتة نبتة، ثم تبدو من على الأرض، ثم يصلب عودها، وقد ذكر الله هذا فقال: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] فانظر كيف بدأ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بتدرج الدعوة، أو وصف الإيمان في نفوس الصحابة بهذا الأمر؟!
فعليك أن تكون طويل النفس، وأن تكون صابراً.
ومن الناحية الأخرى فإن كثيراً من الشباب يوم كان سيئاً كان حسن الخلق،فلما اهتدى قطب جبهته وجبينه، ودخل مغضباً، وخرج مغضباً، ودائماً يردد: إنا لله وإنا إليه راجعون.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. سلط الله عليكم.. اللهم اجعل تدبيرهم في تدميرهم.. وحط بهم وزلزهم يا رب العالمين، وهذه ربما تقع، أو شبه هذه، وهذا ليس بأسلوب.
يقول الطفيل بن عمرو الدوسي: {يا رسول الله! طغت دوس فادع الله عليهم، فرفع يديه، فقلت: هلكت دوس؟ قال: اللهم اهد دوساً، اللهم اهد دوساً}.
فالواجب أن يدخل العبد ويقول: اللهم اهد أهلي، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، هداك الله يا أخي، أما الكلام النابي المجحف، وتقطيب الجبين، والحرارة الزائدة؛ فإنها تنفر الناس وتبغض، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] وقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
الجواب: أما الاستهزاء؛ فليستهزئ من يستهزئ، فهذا كطنين الذباب لا يأبه به الأخيار، فما تضر أبداً، ولو سلم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً من الاستهزاء لسلم أنبياءه، فقد صح أن موسى عليه السلام لقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في مكالمة بين موسى وبين رب العزة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فقال الله عز وجل: يا موسى! أتريد شيئاً؟ قال: أريد يا رب أن تكف عني ألسنة الناس، فإنهم يتكلمون في عرضي، قال: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأشافيهم وأعافيهم، ويقولون: إن لي ولداً، وإن لي صاحبة وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت ولداً ولا صاحبة}.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة: {قال الله عز وجل: يسبني ابن آدم، ويشتمني ابن آدم، وما كان له أن يسبني ويشتمني؛ أما سبه إياي، فيقول: إن لي ولداً وصاحبة، وأنا الله لا إله إلا أنا ما اتخذت ولداً ولا صاحبة، وأما شتمه إياي: فيشتم الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء}.
فهذا في جانب رب العزة تبارك وتعالى، كيف ما سلم من عباده الذين خلقهم حقراء من التراب الذي يوطأ بالأقدام، يخرج كالحشرة، فإذا أبصر وسمع وأكل وشرب بدأ يتكلم في رب العزة تبارك وتعالى؛ يقترح عليه، ويعترض عليه في حكمه، ولذلك موسى عليه السلام كان إذا خلا بدءوا بألسنتهم يهتكون في عرضه، فإذا حضر سكتوا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] فلا يزيدك هذا إلا رفعة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا عنه: ساحر، وشاعر، وكاهن، وسبوه، وهتكوا عرضه، ولكن رفع الله ذكره،وبرأه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فاستهزاء من يستهزئ دليل على حقارته ومذلته ومهانته، وهو في الحضيض، فهو ينظر إليك وأنت في سمو ورفعة، ولا يزيدك إلا ثباتاً واستقامة فليفعل ما شاء، وما عليك ممن شرق أو غرب إذا كنت على الصراط المستقيم.
وهذا حتى عند الأمم الكافرة، يقولون: افعل ما هو صالح، ثم أدر ظهرك لكل جرح سخيف، أو كما قالوا.
أما جلساء السوء، فإذا استطعت أن تؤثر عليهم، فما عليك من الكلام ولو استهزءوا فادخل معهم، مؤثراً بكتاب أو بمقالة أو بمراسلة أو باتصال، لأن الوسائل جدت عند المسلمين، فاستخدم هذه الوسائل.
بعض الناس يستطيع أن يكلم زملاءه بالتليفون أحسن من أن يتكلم إذا حضر، لأنه إذا حضر عرق وضاع الكلام، ونسي الآيات والأحاديث والقصص.
وبعضهم إذا كتب رسالة كتب وحبرها كأنها من رسائل القاضي الفاضل، تصل إلى القلوب. وبعض الزملاء لا يأتي به إلا الهدايا، فأرسل له شريطاً أو كتاباً، أو اهد له هدية، أو قدم له خدمة، أو ادعه إلى بيتك، هذا إذا أردت أن تؤثر فيهم.
أما إذا جربت نفسك معهم ففر بنفسك وما عليك،والله عز وجل لا يحشرك في زمرتهم، ولا يحشرهم في زمرتك، ولن تحشر في قبورهم، فلكل قبره، ولكل عمله.
الجواب: هذه المسألة تمر كثيراً، وفيها تفصيل، إذا منع الوالد والوالدة العمل أو الإذن وهو من عمل الفرائض فلا يطاعون أبداً، ويعصون: {لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق} وإذا منعوا من النوافل ومستحبات الأعمال كطلب العلم، والمشاركة في هذه المجتمعات الطيبة كالمراكز الصيفية والاجتماعات والمحاضرات، ففيه تفصيل.
من أهل العلم من قال: يعصون في الطاعة،وتقدم الطاعة.
ومنهم من قال وهو الصحيح: أن في نوافل الطاعات يقدم طاعة الوالد والوالدة، ففي مثل هذا إن منعتك -مثلاً- من المعهد العلمي، فهذا فيه تفصيل: فإذا كنت تريد الدراسة بالمعهد ومنعتك فلا تطعها، لأن طلب العلم فريضة وواجب، فتذهب وتقنعها بالتي هي أحسن، وتذهب وتدرس وتتعلم ولا عليك.
وإن كانت منعتك من مراكز، أو مخيمات، أو هذه الندوات فلك أن تطيعها حتى تقنعها، فإن اقتنعت فبها ونعمت، وإلا فتجلس معها، ولذلك تساءل الإمام البخاري في كتاب الصلاة، قال الحسن: إذا منعته أمه عن حضور صلاة العشاء فليحضر صلاة العشاء ولا يطعها، لأنها فريضة، ففهم بمفهوم المخالفة أنه لو كان أقل من صلاة الجماعة كان الأمر أيسر، فطاعة الوالدين أعظم، ولكن أقنعها حتى لا تبقى جاهلة بما ينفعك ويقربك من الله عز وجل، وخذها بالتي هي أحسن، علَّ الله أن يهديها.
الجواب: هذه الأمور التي فطر الناس عليها فيها جوانب تحمد وجوانب تذم، وما جعل الله -عز وجل- خصلة إلا جعل فيها مركباً من مراكب الحق، ومركباً من مراكب الباطل، الكرم وهو كرم من استخدمه في طاعة الله عز وجل كان سبيلاً إلى السعادة وإلى الجنة، وربما كان سبيلاً إلى الرياء والسمعة والتبذير.
الشجاعة تكون نصرة لعباد الله، ونصرة للا إله إلا الله، ولدين الله، وتكون كذلك هجوماً على عباد الله، وتهوراً، وأذية لعباد الله عز وجل، إلى غير ذلك.
يذكر ابن القيم وهو يتكلم عن الأخلاق في مدارج السالكين أن الظهور يمكن أن يوجه إلى الخير، وقد يوجه إلى الشر، غرست في نفسك صفة حب الظهور، وولدت معك فاستخدمها في طاعة الله، واجعل ظهورك يقربك من الله عز وجل، وطلب الشهرة مذموم، وهو من الأمور التي يعاقب عليها العبد إذا كان للشهرة نفسها، أما إذا كان قصدك إعلاء كلمة لا إله إلا الله فأشهر الناس محمد رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
وحب الخمول ليس محموداً دائماً، فإن أخمل الناس هم أهل الرهبانية من النصارى، فهم في الصوامع والكهوف، فما حمدوا على ذلك، إذاً فليس كل شيء من الصفات محموداً على إطلاقه ولا مذموماً على إطلاقه، فإذا بليت بهذا فاستغفر الله، واطلب من الله الإخلاص، وليكن ظهورك من أجل إظهار كلمة لا إله إلا الله، ولإظهار الدعوة، ولتنشر هذا الدين ليجعلك الله عز وجل من الشهداء، فـ ابن تيمية استقل المنابر، وحضر المحافل، ودخل على السلاطين، وقاد الكتائب، وحمل لا إله إلا الله والرايات، وحضر المعارك، وهذا من أظهر الظهور، حتى إن ابن كثير في البداية والنهاية نسي التاريخ، ونسي الناس، وأصبح يترجم لـ ابن تيمية من كثرة ظهوره، لكن أخذ ظهوره في ذات الله عز وجل، ولمرضاة الله والإخلاص.
فأنا أنصحك أن يكون ظهورك لذات الله، لكنك تتعوذ بالله من الشيطان، ودائماً تردد في نفسك: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه}.
الجواب: الحداثة طنطنة وشنشنة ودندنة، وكثر التحدث بها، وكثرت الأسماء والألقاب، والحداثة كلمة إن كانت في اللغة فهو الشيء المستجد الجديد، قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2] أي: جديد ما سبق أن سمعوه.
وأهل الحداثة في مفهوم الأدب: هم أناس يدعون إلى الحداثة، بعضهم يقول: الهجوم أو التدمير لكل ما سلف، ويدخل في ذلك الإسلام والكتاب والسنة، وميراث الصحابة، يقول: لا نؤمن إلا بالجديد، كل قديم نفرغ عليه، وهؤلاء ألحدوا في دين الله عز وجل، وحكمهم السيف الأملح الأحمر الأبتر، وعلم من كثير من العلماء أنهم أفتوا بذلك.
ولكن التعميم عرضة دائماً للخطأ.
أما من زعم أن الحداثة معناها أننا نثور على كل قديم ولا نقبله، فهذا حكمه القتل وهو مرتد، إلا أن يتوب ويسلم، ويدخل في دين الله من جديد، وأما من ظن أن الحداثة معناها تغيير قوالب الشعر؛ وأنسجة الشعر، ولكن بغير مساس بالكتاب والسنة والرسالة الخالدة فما عليه، هذه وجهة نظر، وهذا يقبل وله ذلك، ولا يكفر إذا زاد بحراً في البحور الستة عشر، لأنه إذا خالف الخليل لا يكفر، ولا يخرج من أهل السنة والجماعة.
وإذا قال: أريد أن يكون هذا البحر كذا، والقافية تكون كذا، نقول: هذا رأيك ووجهة نظرك، لكن نقول له: لا تتدخل في الدين؛ فدونه خرط القتاد، والسيف الأملح، لا يرضى الله عز وجل ولا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا المسلمون عامة وخاصة أن تتدخل في هذا، وإن تدخلت فنار تلظى لك في الآخرة، وسيف في الدنيا إذا كان هناك سيف.
ولذلك يقول ابن تيمية وهو يتحدث عن العفيف التلمساني: إن صح عنه ما يقول فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وجزاؤه أن يقتل ردعاً له ولأمثاله، والحداثيون كما سبق لي في بعض المناسبات ثلاثة أقسام.
منهم حداثي ما درى أين يسير؛ فقد سمع الناس يكتبون فكتب، يكتب في البيت، ويرسل لـعكاظ تنشره، يكفي أن تخرج صورته في الصباح واسمه فلان بن فلان من مدينة أبها، وله قصيدة لا تساوي ريالين أو ثلاثة، فهذا يريد الظهور، وأمره إلى الله تبارك وتعالى، إن شاء عذبه أو غفر له، ويحاسبه الله تعالى.
ومنهم حداثي مجرم عميل ضال -نعوذ بالله منه- فهذا وسوس الشيطان له، ولعب به، ومقصوده هدم الدين، وهذا يتولاه الله في من تولى، ويرديه ناراً تلظى.
وأما الثالث: فمسلم مصلِّ صائم، لكن يحب الشعر الذي لا يكون مقفى، لأنه ما استطاع أن ينسج على المقفى، ما استطاع أن يمسك الراء في ثلاثين بيتاً، فقال: لا، ما دام هذا الشعر بلاش ورخيص؛ فأنا أنظم عليه ليكون شاعراً، فهذا بأجره وبوجهة نظره.
فهؤلاء أقسام ثلاثة: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ[البقرة:60].. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ[فاطر:32].. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة:9-10].
الجواب: نحن منذ صلاة المغرب ونحن في هذه الوسائل التي تعين على الاستقامة، وأما التي تعين الإنسان على حفظ القرآن فأمور، أذكرها في نقاط:
أولها: تقوى الله عَزَّ وَجَلّ، قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].
ثانيها: كثرة الاستغفار، فإن الذنوب تجعل الإنسان لا يفهم ولا يحفظ كثيراً، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:48] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء:106] يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: واستغفر الله، قالوا: فمن أسباب الحفظ والفهم كثرة الاستغفار.
ومنها: المراجعة؛ أن تراجع ما حفظت، فإن بعض الناس يتعب فيحفظ ثم يترك المراجعة، ثم ينسى ما حفظ، ثم يبدأ وهكذا، فلا يصلح إلا بمراجعة، ومن أحسن وسائل المراجعة: الشريط، أن تستمعه في سيارتك، وفي بيتك، وأن تسمع قراءة المقرئين في السور وفي الصلاة.
ومنها: أن يكون لك زميل تحفظ معه في أوقات هادئة وطيبة.
ومن أسباب حفظ القرآن: معرفة معاني القرآن (التفسير) فتطلع على المعاني؛ لأنك إذا عشت الأحداث، وعشت تذييل الآيات، وعشت خواتم الآيات حفظته بإذن الله.
بعض الشباب لقلة معرفتهم بالتفسير يأتي إذا أراد أن يختم الآية يقول: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] ولو فهم المعنى ما ختم بهذا، لقال: لعلكم تسمعون، لأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في آيات الليل يذكر السمع، وفي آيات النهار يذكر البصر.
قال الرازي: لأن البصر في النهار هو الآلة، والسمع في الليل هو الآلة، فلو فهم هذا المعنى وتلك النكات واللطائف لأعانته على حفظ هذه المعاني وغيرها، هذا ما يحضرني في هذا الباب.
الجواب: الرسول عليه الصلاة والسلام أكل مع المشركين، وذكر ذلك في أحاديث، ومع المنافقين ومع اليهود، لأنه يدعوهم عليه الصلاة والسلام، فإن كان قصدك الدعوة وقصدك التأثير عليهم فلا بأس بذلك، لأن مقصدك جميل وهذه وسيلة يتنازل بها لما هو أعظم منها.
وأنت إذا أردت أن تدعوهم إلى الله عز وجل فلا يمكن أن تتركهم فلا تأكل معهم، فإذا أتى الأكل تتركهم وتذهب في غرفتك، أو أتى وقت الشرب لا تشرب معهم، وأتى وقت الجلوس لا تجلس معهم، ثم تأتي بعد وقت، وتقول: أدعوكم إلى الإسلام، الإسلام الذي قدمته بأخلاقك لهم، وأنت تجانبهم، وتجافيهم، وتظهر لهم الكره والبغضاء، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فعل هذا، بل ثبت عنه أنه أكل مع المشركين لأنه داعية.
أما إن كنت رجلاً صالحاً ولست داعية، وليس عندك استطاعة للتأثير، وليس في مقدرتك أن تدعوهم؛ فاجتنبهم في أكلهم وشربهم، وأظهر لهم العزة بالإسلام، واجعلهم صاغرين، ولا تصافحهم، واجتنبهم إلا في حد الضرورة، كأن يكون مرءوسك، ويستطيع الإضرار بك، فلك بحد الضرورة أن تدخل عليه وتسلم وتحيي لأنه يقع عليك ضرر أعظم مما تنازلت عنه، هذا ما يحضرني في هذا.
وأنا أقصد دعوة بأي وسيلة؛ كأن يكون هناك ترجمان، أو تظهر من نفسك الخلق لتمهد الباب لأن تعطيه كتباً فانظر هل من مقصودك أن تدعوه وتؤثر فيه فاعمل بما يليق، وإن كان قصدك أن تعيش في هذه الشركة ولا تدعو فاجتنبه ولا تأكل معه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر