إسلام ويب

كيف تكون جباناً؟للشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشجاعة وسام لا يأخذه إلا من كانت روحه عنده رخيصة في سبيل غايته، ولايخاف الموت.

    أما الجبن فهو صفة ذم، والرجل الجبان يكون دائماً ذليلاً مهاناً، وقد ضرب لنا التاريخ صوراً رائعة لأناس قدموا أرواحهم ليقيموا مبادئهم.

    والشجاعة غالباً صفة في المؤمنين، وقد تجد في العصاة والكفرة شجعاناً.

    1.   

    ذم الجبن

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    وبعد:

    أصحاب الفضيلة، يا شباب الصحوة، أيها الأخيار الأبرار: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

    اللقاء يتجدد، والحب يزيد، والصلة تنمو، والمقصد الله فهو يعلم ما نريد.

    عنوان هذا الدرس: كيف تكون جباناً؟ وما هي الطرق التي تساعدك على أن تكون جباناً مع التعلم والممارسة ومع التدرب هذا هو ملخص ما أريد أن أقوله.

    سأل الرسول عليه الصلاة والسلام ربه أنه يعيذه من الجبن، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) واستعاذ الصالحون من الجبن، وقد عدته العرب جريمة كبرى وسيئة في الرجل، ومن أعظم مميزاته وأعطياته صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة المحمدية أنه أخرجهم شجعاناً، يقول المتنبي في الشجاعة:

    أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر      وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبر

    وأشجع مني كل يوم سـلامتي      وما ثبتت إلا وفي نفســها أمر

    تمرست بالآفات حتى تركتها      تقـول أمات الموت أم ذعر الذعر

    وأقدمت إقدام الأبي كأن لي      سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر

    إلى آخر ما قال.

    ولكن أقصد في هذه المحاضرة مقاصد تهم المسلم، وهي من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد الذي أتى به رسولنا عليه الصلاة والسلام عدو للجبن والخوف من غير الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والجبناء يموتون في اليوم مرات والشجاع يموت في عمره مرة واحدة، والجبان يتوهم كل شيء ضده، والشجاع يتصور أنه ضد كل شيء إلا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما والاهما.

    ولقد سطر أبو بكر الصديق كلمة رائدة حفظها الناس وتكلم عنها المفكرون حتى الغربيون منهم، وهي قوله للصحابة: [[اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]] فإن من طلب الموت وهب الله له حياة سعيدة هنية، فيعيش منشرح الصدر، وقال ابن القيم في أسباب انشراح الصدر في زاد المعاد: ومنها الشجاعة وسعة صدر الشجاع، فإن الله يشرح صدره بشجاعته وإقدامه.

    وهذا أمر معلوم، فإن الهم والذلة وحقارة الحال والهلع والجزع تأتي مع الجبن، وإن السعادة والانشراح والضحك والبسمة تأتي مع الشجاعة والإقدام، وفرض الرأي، وقول كلمة الحق التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، قال عبادة في الصحيحين: (با يعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن عصابة حوله أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم) وعند ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: [[أخذ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول الحق ولو كان مراً]] والحق مرٌّ قد يذهب بالنفوس ويطير بالرءوس، لكن لأن الحق في الأرض لا يقوم إلا على قطع الرءوس وإذابة النفوس؛ وجب أن يكون هناك شجاعة إيمانية يحملها رواد محمد عليه الصلاة السلام.

    ولما قام مسيلمة الكذاب في اليمامة، وادعى النبوة؛ زج أبو بكر الصديق بشباب من شباب محمد عليه الصلاة والسلام في وجهه وقال: [[والذي نفسي بيده لأقاتلنه بقوم يحبون الموت كما يحب الحياة]] وقالها عمر لأهل فارس، وقالها كثير غيره فرضوان الله عليهم، وقال أبو بكر الصديق على المنبر: [[والذي نفسي بيده لأرسلن لهم خالداً يذهب وساوس الشياطين من رءوسهم]].

    الفرق بين الشجاع والجبان

    قال المتنبي:

    أرى كلنا يبغي الحياة بجهده      حريصاً عليها مستهاماً بها صبا

    فحب الجبان النفس أورده البقا     وحب الشجاع الحق أورده الحربا

    يقول: إن الجبان يحب الحياة وكذلك الشجاع، ولكن الفرق بينهما أن هذا يحيا سعيداً مكيناً مرفوع الرأس، وذاك يحيا خائفاً جباناً فاتراً متخلفاً، ويقول الله عز وجل عن شجاعة أهل الإيمان وإقدامهم، وعن فرضهم لرأيهم الحق، وعن كفاحهم ومدافعتهم عن آرائهم وأقوالهم ومبادئهم: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52] أي: قل يا محمد أنت وأصحابك وجيلك للكفرة والعملاء والزنادقة والمارقين والمرتدين: إنكم تتربصون بنا إحدى الحسنيين؛ إما أن نعيش أعزة نحمل المبادئ ونحن أقوياء، أو أن نموت في سبيل الله شهداء وهذا مكسب عظيم، ويقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].

    فبين سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن الأجل بيده، وأنه لا يتدخل أحد في تقديم ساعة أو تأخيرها ساعة، ولا يملك النفوس إلا الله.

    وتهدد الله اليهود الجبناء بالموت فقال: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجمعة:8] فأخبر أنهم جبناء يحبون الحياة، وقال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] قال أهل العلم: إنما نكَّرها لِتعم فمعناها حياة، لكنها أي حياة، حياة البهائم، وحياة الوحوش والزواحف وحياة القردة والخنازير، أي حياة ولو كانت بلطم الوجوه، ولو كانت بكسف البال. قال الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للصحابة ولمن سار على منوالهم من أمثالكم ممن يتوضأ خمس مرات، ويحمل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] في قلبه: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] يقول: إن تعبتم أو أرهنتم أو خفتم؛ فإن العدو الكافر المنافق يناله مثلما ينالكم. وهذا صحيح، فإنكم تعلمون أن كثيراً من المخطئين الضالين، من البعثيين والماركسيين والعلمانيين والحداثيين، والدجالين الماكرين وشربة الخمور والزناة يحبسون ويجلدون ويقتلون، ومع ذلك تجد الواحد يصامد ويجالد من أجل فاحشته ومنكره ومبدئه الخاطئ.

    ولكن يقول الله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] يقول: اصبروا قليلاً كما صبروا، مع العلم أنه ينالهم الأذى والقرح، وأنتم كذلك ينالكم الأذى والقرح، ولكن النتيجة مختلفة. وهذا كما قال النابغة الجعدي لما وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام واستهل قصيدته يمدح قبيلته:

    تذكرت والذكرى تهيج على الفتى     ومن عادة المحزون أن يتذكرا

    فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن      على البعد في عيدانه أن تكسرا

    سقيناهم كأساً سقونا بمثلها     ولكننا كنا على الموت أصبرا

    يقول: ما أتوا إلينا وهم نساء، أتوا ومعهم سيوف تقطع الرءوس ومعنا سيوف، فسقيناهم الموت وسقونا الموت بها، وصبرنا قليلاً فانتصرنا.

    وننكر يوم الروع ألوان خيلنا      من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا

    إلى أن يقول في نهاية قصيدته:

    بلغنا السما جوداً وجداً وسؤددا     وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

    قال عليه الصلاة والسلام وهو يهتز متبسماً: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة. قال: لا فض فوك، فعاش مائة سنة ما سقط له سن ولا ضرس والشاهد هنا أن المسلم يناله الضر لكن النتيجة مختلفة.

    المؤمن شجاع والكافر جبان

    قال عمر بن الخطاب: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة وجلد المنافق]] فكون الفاجر شجاعاً والمؤمن جباناً؛ هذه مصيبة وداهية لا تتصور، ولذلك انظر إلى أبناء البعث الآن الذين رباهم الخونة والعملاء مثل: ميشيل عفلق وأحمد حسن البكر وصدام حسين " تجد الواحد ينطلق ويتفجر تحت الدبابة، ويقف أمام المدفع، ويطلق العيارات النارية وكأنه يزغرد في أبهة العيد، وتجد الماركسيين يدخلون أفغانستان وتنفجر بهم الدبابات وتشدخ رءوسهم على الجبال، وكأنهم يغنون ويطبلون ويرقصون، وتجد بعض الناس من المؤمنين ممن يصلي الصلوات الخمس إذا هبت الريح من الباب أغمي عليه ورش بالماء، فيقول عمر: [[اللهم إني أعوذ بك من عجز الثقة، وجلد المنافق]] وسوف تأتي أخبار لهؤلاء.

    قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:145] فهل سمعتم أن أحداً مات بغير إذن الله؟ لا. لأن الله غالب على أمره، ولأن الأوامر من عنده؛ ولا يسبق أحد أجله، فإذا أذن الله فالموت، وإذا لم يأذن فلو اجتمع أهل الأرض على أن تموت فلن تموت أبداً. وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [آل عمران:157] يقول: اتقوا الله واعملوا صالحاً، وقولوا الحق، وقدموا الرأي الصائب، فإن قتلتم فإلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإن عشتم فإلى خير، أما الجبان فإنه يموت حقيراً ويعيش حقيراً.

    وقال تعالى عن أوليائه: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب:39] فهم يبلغون الرسالة ويظهرون مبدأهم ويقولون رأيهم، ويقولون لصاحب المنكر: خف الله واتق الله، ويمنعون المنكر في الأرض، ومع ذلك لا يخافون إلا من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ثم مدح الله أوليائه فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

    دخل طلحة وعليه ثياب خضر، وقد رد بيده عن المصطفى في أحد كل سيف ورمح وسهم، فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23] ونظر إلى طلحة فقال: {هذا ممن قضى نحبه} هذا من الجيل الصادق الذين قدموا رءوسهم في المعركة. ومنهم عمير بن الحمام يأكل التمر يوم بدر، قال عليه الصلاة والسلام: {يا أهل بدر إن الله اطلع عليكم فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، يا أهل بدر، والله ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، فألقى عمير التمرات من يده وقال: بخ بخ، إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة} ثم أخذ غمد السيف وكسره على ركبتيه -وهذه ساعة الصفر عند العرب- ثم أخذ السيف وقاتل حتى قتل وهو ينشد:

    فليس على الأعقاب تدمى كلومنا      ولكن على أقدامنا تقطر الدما

    تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد      لنفسي حياة مثل أن أتقدما

    يقول: أحسن الحياة أن أتقدم قبل أن أقتل وأنا مهزوم، فهي خيبة في الدنيا وخيبة في الآخرة.

    يقول السموءل، وهو يهودي كان يسكن خيبر، وقد أقر له الناس بالشجاعة، وقد يوجد في اليهود شجعان، والجبن صفة عامة فيهم، لكن النادر لا حكم له، فقد يخرج منهم اليوم شجاع، وبالأمس شجاع مثل مرحب والسموءل، فهو يقول:

    يقرب حب الموت آجالنا لنا      وتكرهه آجالهم فتطول

    وإنا لقوم لا نرى القتل سبة      إذا ما رأته عامر وسلـول

    وعامر وسلول جارتاه من القبائل، ترى الموت سبة أما نحن فنراه مدحاً.

    مواجهة المؤمنين الموت لأجل مبادئهم

    قُتل مصعب بن الزبير في العراق، فقال أخوه عبد الله في مكة: [[والله الذي لا إله إلا هو لا نموت نحن آل الزبير حبطاً ولا حبجاً كما يموت بنو مروان، إنا نموت تحت ضرب السيوف وقصع الرماح]] وقد صدق؛ فقد قتل الزبير وأبناؤه وعائلته كلهم في سبيل الله، بل عبد الله بن الزبير تطيب وتحنط ولبس أكفانه وأتى إلى أمه أسماء ذات النطاقين الطاهرة الصادقة، فقال: يا أماه! الحجاج قد أغلق علي الحرم ومعه اثنا عشر ألفاً وما عندي إلا خمسمائة، فماذا أفعل هل أسلم نفسي؟

    قالت: لا. اتق الله لا تسلم نفسك، قاتل حتى تقتل. قال: والله ما أخاف القتل ولكن أخشى أن يمثل بي إذا قتلني -يعني يقطع أنفي ويبقر بطني - قالت: لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها - لله درها - فصمد وصمد حتى قتل، فصلبه الحجاج ومرت به وسلمت عليه وهو مصلوب، فقالت: السلام عليك أما آن لهذا المصلوب أن يترجل وللفارس أن ينزل. وفي مثله يقال:

    علو في الحياة وفي الممات      بحق أنت إحدى المعجزات

    لعظمك في النفوس تبيت ترعى      بحراس وحفاظ ثقات

    1.   

    العقيدة منهج حياة

    يقول عليه الصلاة والسلام كما عند أحمد والترمذي بسند صحيح: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) فلماذا لا نربي في نفوسنا عقيدة التوحيد؟ ولماذا لا نأخذ العقيدة التي ندرسها في الطحاوية ومعارج القبول وكتاب التوحيد ونجعلها عملاً وحياةً ورأياً ونصيحة؟ أما أن نحفظها ولا نطبقها فهذا لاينفعنا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    أيضاً: يقول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشي لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) وهذا قضاء من الله.

    وعند أهل السير حديث ذكره ابن كثير في التفسير عنه عليه الصلاة والسلام أن الله عز وجل قال: (وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبد ثم كادت له السماوات والأرض إلا جعلت له من كيدها فرجاً ومخرجاً، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري عبد إلا أسخت الأرض من تحت قدميه).

    وهذا بأن يجعل الله عز وجل أمر العبد إليه وأن يكله إلى نفسه؛ لأنه لم يعتمد على الله، ولم يقل كلمة الحق، ولا شجع نفسه، ولا علم أن الخالق والرازق هوالله، وأن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

    العجوز التي دخلت على الحجاج وقد قتل ابنها في أول النهار، ثم أخذها بعد صلاة الظهر وأدخلها عليه وقال: "أتدرين يا فلانة أنا قتلنا ابنك؟ قالت: لو لم تقتله لمات". فقد قتلته وهذا أجله قضاءً وقدراً من الله.

    وأتت الخنساء النخعية في معركة القادسية ومعها أربعة أبناء كأن وجوههم القمر ليلة أربعة عشر، وقد لبسوا أكفانهم، فأخذت الأربعة وقبلتهم وقالت: "يا أبنائي، والله ما خنت أباكم ولا هجنت خالكم، والله إنكم من نسل رجل واحد، وأنتم والله من أحب الناس إلى قلبي، فإذا أتيتم المعركة فيمموا أبطالها، واقصدوا وطيسها، ثم لا تعودوا، فإني ما ادخرتكم إلا لهذا اليوم، فقتلوا جميعاً، فلما أخبروها ضحكت وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم جميعاً في سبيل الله "، فلله درها ما أجمل تلك العبارات!

    ومرض الجبن في الجبناء يكثر بالوهم، وأكثر مرض الناس وَهْمٌ من أحاديثهم وما تفتعله خواطرهم، وما يترصدونه من الحوادث، وما يشعرون له من نقص إيمان، حتى يقول الله عز وجل عند ذلكم الصنف من المنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4] فإذا تحرك الباب خاف وأغمي عليه، وإذا سمع طقطقة الأحذية أو أن هناك قراراً يكتب قامت قائمته وثائرته وما نام الليل، وإذا سمع أن هناك تدبيراً تقلب على الفراش، والله يقول لأوليائه: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80] فيقول: الإبرام عندنا وفتل الحبال عندنا، وهذه كما يقول أحدهم:

    تقضون والفلك المسير ضاحك     وتقدرون فتضحك الأقدار

    فالحبال تفتل من فوق سبع سماوات، والتقدير من عنده سبحانه فلا ضرر ولا نفع ولا حياة ولا موت إلا من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

    الخوف من الله هو الحق

    الجبناء يخافون من البشر أكثر مما يخافون رب البشر، وأنا أقولها كلمة صادقة لا أكذب فيها بإذن الله: والله العظيم لو أن كثيراً من الناس خافوا من الله كما يخافون من البشر لصلحت أمورهم في الدنيا والآخرة.

    ووالله إنا نعلم من أنفسنا ومن كثير من الناس أننا قد نغتاب أو ننم أو نعصي الله، ولكن عند الناس نراعي ألفاظنا ونراعي كتبنا ومحاضراتنا، كل هذا خشية من لفت النظر، أفلا خشينا من لفت نظر الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، الذي يعلم السر وأخفى، والذي كل الأمور بيده، والذي لا ينفع ولا يضر أحد إلا بإذنه!

    وكيف لو أن هذه التقوى والمراعاة والحرص والتأني كانت في جانب العبادة؟ وكيف لو أن هذا الهدوء والانضباط والتعقل والحكمة كانت في جانب الدين؟ كيف لو أن هذا الرشد والنضوج العقلي كان مع الله عز وجل؟ لصلحت الأمور، وارتاح الناس في دنياهم وأخراهم، وكفل الله لهم النصر ما داموا على قيد الحياة والأجر والمثوبة من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    قال علي بن أبي طالب -وهي كلمة متينة نفيسة عظيمة -: [[الأجل درع حصينة]] يعني: أجلك درع لك، فلن تموت إلا بأجل. خرج يوم صفين فخلع الدرع، قال ابنه: كيف تخلع الدرع يا أبتاه وهو يقيك، قال:

    أي يومي من الموت أفر      يوم لا قدر أم يوم قدر

    يوم لا قدر لا أرهبه      ومن المقدور لا ينجو الحذر

    سبحان الله! يقول: لماذا أخاف من القدر؟

    إن كان كتب الله عليَّ الموت فسوف أموت، ولا تغني الدروع وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] وإن كان الله كتب لي الحياة فلن يصلني موت، وهذه عقيدة علي بن أبي طالب الذي قدم رأسه في كل معركة، ثم قتل في المسجد رضي الله عنه.

    خالد بن الوليد يطلب الموت والشهادة في كل مكان، وكلما حضر معركة سأل الله الشهادة، وقد خاض في الجاهلية والإسلام مائة معركة، كان قائدها ومؤججها وأستاذها.

    تسعون معركة مرت محجـلة      من بعد عشر بنان الفتح يحصيها

    وخالد في سبيل الله مشعلها      وخالد في سبيل الله مذكيها

    ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم     ولا رمى الروم إلا طاش راميها

    وللعلم فإنه مات على الفراش، لأن الله كتب له أنه يموت على الفراش، وقال: [[لقد طلبت الشهادة في أكثر من مائة معركة، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء]] رضي الله عن خالد، أخرجوه في الجنازة من حمص، فقامت أخته فاطمة من داخل البيت وجنازته يمر بها الأبطال على رءوسهم، فتقول:

    أنت خير من ألف ألف من القوم      إذا ما كبت وجوه الرجال

    ومهين النفس العزيزة للذكر      إذا ما التفت صدور العوالي

    أعظم الشجاعة الخوف من الله

    وأعظم الشجاعة خوف الله، والخائفون من الله هم أشجع الناس، وهم الذين يؤدون أوامر الله عز وجل ويجتنبون نواهيه، كما قال الأول:

    ليس الشجاع الذي يحمي فريسته      عند القتال ونار الحرب تشتعل

    لكن من رد طرفاً أو ثنى وطراً      عن الحرام فذاك الفارس البطل

    فأشجع الناس من راعى مابينه وبين الله، ورد نفسه عن الحرام، وكسرها وقت الغضب ووقت الشهوة ووقف عند الحدود، هذا هو الشجاع المحفوظ بحفظ الله عزوجل الذي ينتصر، ولذلك قال بعضهم: لا ينتصر العبد في المعركة حتى ينتصر في نفسه على الشهوات والمعاصي والمخالفات.

    1.   

    الجبناء عند العرب

    أما الآن فأتوقف بكم قليلاً مع الجبناء وأخبارهم؛ لأن المحاضرة بعنوان: كيف تكون جباناً؟

    فما هي الطرق السليمة الموصلة لأن تكون جباناً؟! ضربت العرب أمثله لجبناء، فقالوا عن الجبان: نعامة فتخاء وقالوا عنه: دجاجة.

    وقالوا: الحدأة القتول وقالوا: الظليم. وكلها من أمثلة الجبن وكانت العرب لا تولي سيداً جباناً، بل تشترط فيه شرطين:

    الأول: أن يكون شجاعاً.

    والثاني: أن يكون كريماً.

    ولكن قد يكون الجبن جبلة، والإسلام يرد الجبناء فيعلمهم أن يحملوا شجاعة الرأي والفكر والعلم والقتال، ليصبح الناس مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ومثال شجاعة الرأي شجاعة العلم، يقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:160].

    من أجبن العرب

    من أجبن العرب، أبو حية النميري، كان جباناً يضرب به المثل، أخذ سيفاً من خشب، فكانت قبيلته إذا قاتلت أخذ السيف من الخشب وجلس في آخرهم، فإن انتصروا ضارب معهم وإن هزموا فر، وكان يسمي سيفه (ملاعب الأسنة) وكان يعرض سيفه من الخشب أمامه ويقول: يا سيف، كم من نفس أهدرتها ومن دم أسلته!!

    قال عنه ابن قتيبة في عيون الأخبار وصاحب العقد الفريد: دخل كلب في ظلام الليل بيته، فخرج هو وزوجته وتناول السيف -سيف ملاعب الأسنة- وخرج خارج المنزل وأخذ يقول: الله أكبر وعد الله حق. فاجتمع أهل الحي -وأظنه عاش في الإسلام في القرن الأول، وقالوا: مالك؟ قال: عدو محارب انتهك عرضي ودخل عليَّ في البيت وهو الآن في البيت.

    ثم قال: يا أيها الرجل اخرج إن كنت تريد مبارزة فأنا أبو المبارزة، وإن كنت تريد قتلاً فأنا أم القتل كل القتل، وإن كنت تريد المسالمة فأنا عندك في مسالمة. فبقي يتراود ويضرب الباب بالسيف وينادي، فلما أحس الكلب بجلبة الناس خرج من بينهم، فألقى السيف من الخوف وقال: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً.

    ومنهم أيضاً: قائد مشهور أخذ القيادة بغير كفاية وجدارة وقدرة، يسمونه: ابن عبد ربه، ويسميه المؤرخون: ضرطة الجمل، أخذ أبناء المسلمين وذهب بهم إلى فارس، وكان يمضي في الليل وينام في النهار شهراً، حتى استعد أهل فارس وتترسوا وقووا كتائبهم، ثم بدأ الهجوم فكان هو أول من انهزم، ودخل المدينة على بغلته وترك أبناء المسلمين يقاتلون أهل فارس، يقول الشاعر في قصيدة طويلة:

    تركت أبناءنا تدمى كلومهم      وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل

    يقول: فررت أول المعركة وتركت أبناءنا يذبحون. يقول فيه قتيبة بن مسلم: والله لا أوليه ولو على شاة، أي: لا يقود شاه، فقد جربوه مرة واحدة، والطعن في الميت حرام.

    أبو دُلامَهَ من الجبناء

    قال أبو جعفر المنصور: أين أبو دلامة؟ وهو رجل مزاح فكاهي، ليس من سادات المعارك فللميادين أبطال، وللأقلام أبطال، وللمنابر أبطال، فـأبو دلامة مضحك للخليفة فقط، ويوم بدت الدشرة في مسيرة الأمة كان الخلفاء رقاصين ومروجين ومهرجين ومطبلين ومزمرين، وتأخر العلماء والدعاة، وأهل الفكر ورواد النهضة الإسلامية؛ لأنهم يفسحون المجال للمهرجين والسمار واللاعبين، فـأبو دلامة لما أتت المعركة قال الخليفة: أين أبو دلامة؟ قال: حاضر. قال: اخرج بارز ذاك الفارس. قال: تعلم أني لست للمبارزة. قال: عزمت عليك أن تبارزه. فخرج فلما قرب من الفارس وضع سيفه وقال للفارس: والله إنك تعلم أني أكره الموت على فراشي فكيف تقتلني هنا؟ فضحك أبو جعفر وضحك الناس، وعاد أبو دلامة.

    أمور تعينك على أن تكون جباناً

    أولها: انطماس التوحيد، فإذا انطمس التوحيد الذي في القرآن والسنة، وخاف القلب وأصبح البشر أعظم من الله؛ أصبح الإنسان جباناً، يراعي الإنسان من أجل مصالحه ومن أجل منصبه ووظيفته ومكانته، وتجد أنه يدبج لك الجبن ويلفلفه في لفائف ويقول: مصلحة الدعوة! الحكمة والأناة! فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران:159].

    الثاني: عدم اعتقادك أن الخالق والرازق هو الله، ونعرف أن كثيراً منا يعتقد أن الرازق والخالق غير الله، وقد لا يقولها ولكن هذا هو اعتقاده وتصوره بحسب الممارسات العملية في حياته في يومه وليلته، يترجم عن هذا الأمر.

    الثالث: نسيان تقدير الآجال وأنها بيد الواحد الأحد، فأنت تعيش ستين سنة لا تزيد ولا تنقص، أو تعيش أربعين لا تزيد ولا تنقص.

    أفنقول: إن الذين قتلوا أنس بن النضر عجلوا عليه موته؟ أو الذين قتلوا عبد الله بن رواحة أو زيد بن ثابت أو جعفر الطيار أنهم قصموا أعماراهم؟ لا والله، ما تقدموا دقيقة ولا تأخروا دقيقة، وما تركوا من أرزاقهم لقمة واحدة.

    الرابع: اعتقاد نفع الناس وضرهم بغير مشيئة الله، فإن بعض الناس قد يقول: أخشى أن يضرني فلان لا.

    فعليك أن تتوكل على الله، وعليك بتقوى الله: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمران:111] قال أهل العلم: أذى في أعراضكم، فأما تلطيخ العرض فيلطخون عرضك ويسبونك، أما الضرر فلا يضرونك إلا بإذن الله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].

    1.   

    أخبار الشجـعان

    والآن إلى قائمة الشجاعة في الجاهلية والإسلام والعصر الحاضر.

    عنترة بن شداد

    كان عنترة بن شداد مولى أسود لسيده شداد العبسي، وكان عبسياً، وقد بلغ من الشجاعة مبلغاً عظيماً، وقد قيل له: كيف تغلب الأبطال؟ قال: أبدأ بالجبان فأضربه وأقسمه قسمين، فإذا رأى الشجاع الجبان مقسوماً فر مني. وقيل له: كيف تنتصر على الناس؟ قال: بالصبر.

    عمرو بن معد يكرب الزبيدي

    ومنهم: عمرو بن معدي كرب الزبيدي:

    وهذا حطم الرقم القياسي في كثرة الأكل، كان يأكل خروفاً وفرقاً من الذرة في مقعد واحد بحفظ الله ورعايته، دخل على عمر رضي الله عنه، فقال: أطعمني يا أمير المؤمنين. فأطعمه خبزاً، قال: زدني. فأطعمه ثريداً، قال: زدني، فأطعمه زبيباً، قال: زدني. قال: انتهى ما عندي - ميزانية عمر قليلة - قال: زدني. قال: من الحرة أي: من حجارة الحرة وقال له عمر: أين صمصامتك التي تقاتل بها الناس؟ قال: هذه. فوجد عمر أن السيف ليست قوية، فقال: ما أرى قوة. قال: إنك رأيتها وما رأيت الساعد الذي يضرب بها، فقال عمر: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمراً واعتدي على قبيلته مذحج في ظلام الليل -اعتدت عليها قبيلة كندة أو قبيلة أخرى- فسلبت نساءهم وأخذت أموالهم، فخرجوا في الصباح يقاتلون فانهزمت القبيلة، ولم يكن عمرو معهم؛ فلما حضر أخذ فرسه وأخذ السيف ونازل قبيلة كندة كلها، فأخذ يقاتلهم ويقاتلونه حتى يقول في قصيدته:

    أمن ريحانة الداعي السميع     يؤرقني وأصحابي هجـوع

    إذا لم تستطع شيئاً فدعه     وجاوزه إلى ما تستطيـع

    فأخذ يكيل لهم الضربات إلى صلاة العصر فهزمهم جميعاً، فسمته العرب (أقدم العرب) حتى يقول أبو تمام للمعتصم:

    إقدام عمرو في سماحة حاتم      في حلم أحنف في ذكاء إياس

    وقد أسلم ثم ارتد رضي الله عنه، ثم أسلم وعاد إلى الإسلام، فقاتل في القادسية وانتصر نصراً مؤزراً مع المسلمين، ويضرب به المثل في الشجاعة.

    محمد بن حميد الطوسي

    ومنهم: محمد بن حميد الطوسي، لله دره!

    عمره تقريباً اثنان أو ثلاث وثلاثون سنة، أعطاه المعتصم قيادة الجيوش الموحدة الإسلامية، وكان له إمام حنفي يقوده وقاض، والعلماء معه يقاتلون الروم، فلما حضرت المعركة خرج محمد بن حميد فلبس الأكفان عليه، فلما لبس الأكفان أخذ يقاتل من صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، ومن الظهر حتى صلاة المغرب، ثم قتل قبل الغروب، فلما قتل بدأت النوائح، وهذا أمر مخالف للإسلام، ولكن كانت النائحات في بغداد يبكين عليه؛ لأنه كان رجلاً يفدى بالعيون والقلوب، فقام أبو تمام فألقى قصيدة يعزي فيها المعتصم، وقد انتصر جيش محمد بن حميد والحمد لله، حتى يقول الذهبي: "الحمد لله" ويقول ابن كثير: "ولله المنة، أن الله نصر الموحدين بمثل هذا البطل بعد نصر الله ".

    يقول أبو تمام:

    كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر      فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

    توفيت الآمال بعد محمد      وأصبح في شغل عن السفر السفر

    فتى كلما فاضت عيون قبيلـة      دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر

    تردى ثياب الموت حمـراً فما دجى     لها الليل إلا وهي من سندس خضر

    يقول: لبس أكفانه تقطر بالدم، وفي الليل ألبسه الله سندساً أخضر في الجنة، ثم يقول:

    ثوى طاهر الأدران لم تبق بقعة      غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

    عليك سلام الله وقفاً فإنني      رأيت الكريم الحر ليس له عمر

    فسمع المعتصم القصيدة ودموعه تهراق، فقال: يا ليتني أنا المقتول وقيلت فيّ.

    أبو دجانة والبراء

    ومنهم: أبو دجانة، وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، مد النبي صلى الله عليه وسلم في أحد المعارك السيف فقال: {من يأخذ السيف؟ فمد الصحابة أياديهم، قال: بحقه. فخفضوا وبقيت يد أبي دجانة، قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، وما حقه؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} [رواه مسلم ].

    فأخذ السيف ففلق به هامات المشركين ولما أخذ السيف أخرج عصابة حمراء، ومعناها في مفهومنا خطر ممنوع الاقتراب، يقول الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، فلما رآها الناس ذهلوا، حتى يقول في قصيدته:

    أنا الذي عاهدني خليلي      ونحن بالسفح لدى النخيل

    ألا أقوم الدهر في الكيولي      أضرب بسيف الله والرسول

    ففعل فعلاً يشكر عليه، فلق هام المشركين وقتَّلهم قتلاً، حتى أتى بالسيف مع صلاة العصر وقد انحنى، وهذه هي الشجاعة الإيمانية.

    ومنهم: البراء بن مالك.

    قال صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك} فكان إذا حضر المعركة يقول له المهاجرون والأنصار: يا براء أقسم على الله أن ينصرنا. حضروا معركة تستر وهو معهم، فقال أبو موسى: [[يا براء نسألك بالله أن تقسم على الله أن ينصرنا. فقال: اللهم إني أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وتجعلني أول قتيل]] فانتصروا وكان أول القتلى رضي الله عنه وأرضاه.

    ومنهم حبيب بن زيد الأنصاري.

    قطع مسيلمة الكذاب جسمه قطعة قطعة فصمد حتى آخر قطرة من دمه.

    ومنهم: خبيب بن عدي:

    وقف على المشنقة وجسمه يقطع وهو ينشد ويقول:

    ولست أبالي حين أقتل مسلماً      على أي جنب كان في الله مصرعي

    وذلك في ذات الإله وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

    إن هذه الكلمات لا بد أن تخرج جيلاً يحمل لا إله إلا الله ويقتحم معاقل اليهود، ويدمر أهل الصليب، ويوجد في الأرض قوة إسلامية يقودها أصحاب وأحباب وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

    السورماري وشبيب بن يزيد

    ومن الشجعان: أحمد السورماري المحدث، شيخ البخاري.

    قتل في المبارزة ألف مشرك، وقال أحد الناس للبخاري: سمعنا أنك تقول إن أشجع الناس في الإسلام السُرماري وقد بالغت. قال: ما قلت إن أشجع الناس في الإسلام السُرماري. قالوا: ماذا قلت؟ قال: قلت: أشجع الناس في الجاهلية والإسلام السُرماري. قطعة من حديد وزنها عدة أرطال، وكان لا يبارز بالسيف وإنما يبارز بهذه القطعة، فإذا أتى الفارس ضربه على رأسه، فإذا نخاعه ثراً ودماؤه في الأرض، قتل ألفاً مبارزة من غير من قتل وافترس في المعركة.

    ومنهم: شبيب بن زيد الخارجي.

    وهو من أشجع الناس وهو قائد الخوارج، كان عنده ستون من الخوارج فهزم الحجاج ومعه ثلاثة آلاف، ثم تتبع الحجاج في كل غزوة، وكان من شجاعته أنه كان ينام على البغلة، ترجم له ابن كثير فقال: كان ينعس على البغلة من قوة قلبه. وهو في المعركة، ومن ينام في المعركة؟!

    وقفت وما في الموت شك لواقف      كأنك في جفن الردى وهو نائم

    تمر بك الأبطال كلمى هزيمة      ووجهك وضاح وثغرك باسم

    ونحن في أبها ما نمنا وصواريخ الأسكود تضرب في حفر الباطن، وحفر الباطن في الصحراء، ونحن أغلقنا النوافذ والأبواب وأغلقنا السطوح، وتصورنا صدام في الماء، والأطفال خافوا من صدام، والحيوانات والعجماوات والطيور والزواحف، فإذا سمعنا طلقة الصاروخ أخذ الواحد منا ترعده الحمى.

    وزائرتي كأن بها حياء      فليس تزور إلا في الظلام

    أهؤلاء أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟! أهذا جيل يستطيع أن يقتحم على اليهود؟! سبحان الله أين الشجاعة؟! كيف لو أن المعركة في طرفنا؟ وكيف لو أنك في الصف الأول؟ ومع ذلك كدسوا الأرز والشاي وعلب الليمون وكل شيء في البيوت وأغلقوا عليه وكأنهم لا يموتون: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة:96] سبحان الله! أين المحاضرات الرنانة والدروس؟ لقد ضاعت وقت الصفر.

    وشبيب أمره عجيب أتدرون ماذا فعل؟ قاتل الحجاج وكاد أن ينتصر عليه، لكن فرسه رأى بغلة فاقتحم نهر دجلة من على الجسر فوقع في النهر مع هذا الفارس، وكان مربوطاً في الفرس، فأراد أن يسبح فما استطاع، ففرق به الفرس وارتفع فأخذ يقول: "لله الأمر من قبل ومن بعد" ثم مات، يقول أحد الجبناء: "يا ليتني أظفر بمشركٍ مقتول فأقطعه قطعة قطعة".

    وامرأته لديها شجاعة مثله، اسمها غزالة، حضرت المعركة وقاتلت الحجاج بعده، ودخلت بيت الإمارة فهرب الحجاج من الباب الثاني، فدخلت المنبر وأخذت السيف وخطبت في الناس، قال أحد المسلمين ممن سجنهم الحجاج: يا مجرم يا حجاج! سجنتنا وعذبتنا وفررت من غزالة!

    أسد عليَّ وفي الحروب نعامة      فتخاء تنفر من صفير الصافر

    هلا برزت إلى غزالة في الوغى      أم كان قلبك في جناحي طائر

    1.   

    الشجاعة في إبداء الرأي وقول الحق

    نحن أمة لا نعيش الحوار، فالحوار معدوم عندنا للأسف، والواجب علينا أن ننمي نفس الحوار، فعندنا موت في الحوار، فقد أدرس في الفصل والطلاب لا يعيشون الحوار، قد تأتي إلى الجامعة والمدرسة والنادي والمسجد والمحاضرة وكلهم يخافون منك لأنك تتحدث، لكن إذا طلبت منهم أن يكتبوا ملاحظات أتتك عشرات الملاحظات، أما أمامك فكل شيء على ما يرام، ويقول لك: أحسنت وقدس الله روحك يا شيخ ونور ضريحك. هذا هو منطق الاستسلام، لكن الحوار أن تكون محاوراً بالتي هي أحسن، وتبدي رأيك بشجاعة، ما الذي يمنعك أن تقول رأيك وأن تكتب؟! أو أن تعترض على الأستاذ؟ أو أن تكتب إلى المسئول؟ أو أن تناصح؟ أما أن تسكت وتموت أفكارك في قلبك فهذا ليس من الإسلام في شيء.

    وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وقال عليه الصلاة والسلام: (سيد الشهداء عند الله حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره أو نهاه فقتله) فهؤلاء هم سادة الشهداء.

    لماذا الخوف من النقد؟

    والأمر الذي أريد أن أنبه عليه ألا تخافوا من النقد -أيها الإخوة- كونوا عصيين على النقد، ولا يرهب أحدكم أن ينقد، فإن كان النقد صحيحاً موجهاً فعليه أن يقبله وأن يدرسه ويتأمله، وإن كان النقد لا يصلح فعليه أن يرميه. ودائماً يتلقى أحدنا عشرات الأوراق، يعرف أن بعضها من منافقين أو مغرضين أو حسدة، فجزاؤها أن يأخذها إلى سلة المهملات فيقطعها إرباً إرباً ويرميها ويقول: ترد عليكم هذه السلة. وأما البعض فيعرف أنها من أخ أو من ناصح أو من محب؛ فيقرؤها ويتأملها ويصحح من مساره ويستفيد منها.

    فلماذا نخاف من النقد؟ ولماذا نعتبر أن الإنسان إذا نقد أن هذا النقد هو من العداء وأن الناقد عدو لنا؟ هذا ليس بصحيح، فلابد من النصيحة قال علي رضي الله عنه: [[المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة]].

    أيضاً: أطالب إخواني ونفسي أن نظهر الرأي في قالب الأدب، فعلينا أن نتكلم بأدب في رأينا وحوارنا ومناقشتنا، وأنا لا أعرف أن الدعاة يجرحون، ولو أنها وصلتني رسائل من بعض الناس يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول على رءوس الناس: {ما بال أقوام يفعلون كذا} فالواجب على الدعاة ألا يجرحوا المؤسسات ولا الهيئات والأشخاص، وأنا قلت: ما جرح الدعاة أحداً، ولا جرحوا مؤسسة، إنهم يتكلمون من واقع، ولأنه ما دام قد نشر الفساد فلا بد أن ينشر الحق، ولا بد أن ينبه على الباطل، أما أن تعلن كلمتك بين ألف وتطلب مني أن أعلن كلمتي في سر وأنت تتكلم بجهر، فلا يصح هذا.

    الأمر الثاني: من قال إن الدعاة بهذا المستوى؟! الحقيقة أن صورة الدعاة ملطخة، ليست بصورة صحيحة كما هي عليهم يقولون عنهم: متطرفون ومتزمتون، ويرون الخروج على الحاكم ويرون نقض البيعة. وأنا والله لا أعلم داعية يعتقد هذا، فمثل هذا الكلام لا يصح ولا يحمل، لكن يا أيها الإخوة لا بد أن نعيش الحوار، فلماذا إذا نقدنا مؤسسة غضب أهلها، أهم يريدون مدحاً فقط؟! فلا رأي ولا دراسة ولا ملاحظة ولا نصيحة، وهذا لا يصح، يعتبر الغرب بما فيهم الأمريكان وحتى الاتحاد السوفيتي أن أعظم دولة ديمقراطية تعيش الحوار هي إسرائيل، هكذا اعتبارهم في الإعلام، والله أعلم بهذا، لكنها عندهم أعظم دولة في الشرق تعيش بالحوار وإبداء الرأي والأخذ والرد والمساءلة، ويمكن أن يكون هذا، مع العلم أني أبرأ إلى الله من اليهود، وأسأل الله أن يمكننا منهم وأن يجعلنا شهداء في الحرب معهم.

    1.   

    شجاعة الأنبياء

    وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شجعاناً، فإن إبراهيم عليه السلام لم يحمل التوحيد متكاسلاً متوانياً في بيته، بل قام على الأصنام بالفأس فكسر رءوسها: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93] قال أهل العلم: لإبراهيم عليه السلام روغتان: روغة شجاعة وروغة كرم، راغ إلى الأصنام فكسرها، وراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين. فالذي يريد أن يروغ يروغ كإبراهيم عليه السلام لكن في حدود الأدب، فلا تأخذوا من قصة إبراهيم أن للداعية تغيير المنكر باليد أو بالكسر، فإني أخشى أن تكون العواقب أعظم والفساد أكبر والمنكر أشنع، لكن عليه أن يسلك الطريق الأمثل في إنكار المنكر؛ كأن يقول كلمة الحق أو يهدي نصيحته في قالب من الأدب، وقبل أن نكون مؤدبين ومعزرين للناس، يجب أن نكون محببين إليهم،ثم يرفع إلى أهل الحل والعقد وإلى القضاة والمسئولين بأمر هذا المنكر حتى يتلافى.

    أيضاً موسى عليه السلام بارز في الميدان بقوة الحجة ومعه العصا، يقول لفرعون اللعين والله يأمره: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قال كلمة اللين، قال له: يا أبا مرة، لكن لما أتت المصارحة يقول له فرعون: فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً [الإسراء:101] قال له موسى: يا مجرم. قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [الإسراء:102].

    فالقول بقوة وإبداء الرأي بشجاعة مطلوب من المسلم.

    أيضاً محمد صلى الله عليه وسلم ما علمت أشجع منه على مر التاريخ. ينام في بيت واحد ويطوق بخمسين مقاتل ويخرج عليهم ويحثو عليهم بالتراب: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9].

    ينام في الغار ويقول: (لا تحزن إن الله معنا) ويحضر الحروب بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويدمر الأعداء ويعيش صلى الله عليه وسلم شجاعة، ويبتسم في المعركة وهو أنيس القلب مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

    1.   

    شجاعة الصحابة والصالحين

    في حرب الردة وقف أبو بكر الصديق على المنبر يعلن الحرب على الردة، فيعترض بعض الصحابة عليه فيقول: [[والذي نفسي بيده لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليها]] ثم جند الجنود، وقال في رواية أخرى: [[والذي نفسي بيده لو أتت الكلاب فأخذتني بأعقابي -لأنهم يقولون اترك الصحابة يحرسون المدينة - ما خلفت جيشاً عن الغزوة في سبيل الله]] فهذا هو الرأي؛ أن تقدم رأيك وتثبت عليه بشجاعة وبتفان أيضاً.

    وهذا ابن تيمية في مصاولة الباطل؛ فإنه بلغ مبلغاً عظيماً، كان يخطب وحوله السيوف تلمع والسياط والجنود، وكان يتكلم بشجاعة، فيقول له السلطان: كأنك تريد ملكاً يا ابن تيمية قال: "ما ملكك ولا ملك آبائك عندي يساوي فلساً، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض".

    وكان يتكلم أمام الناس بقوة ويعلن الحق ويبينه لأن الله أخذ الميثاق: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187] جعلوه قراطيس أي: جعلوا هذا القرآن قراطيس في الجيوب يخرج وقت الحاجة ويتلف وقت الحاجة، فلابد أن تعرض فكرتك بأدب ووضوح وأن تطالب بحقك ونصرة الإسلام، ولا بد أن تطالب بالحق أن يكون حقاً والباطل باطلاً، مثل مطالبة أهل الباطل بالباطل.

    أيضاً: الثوري؛ فإنه كان ينصح ويقف للظلمة في وجوههم، وينكر عليهم وقد قال لـأبي جعفر -وهو ظالم-: اتق الله يا أبا جعفر! ودخل طاوس على أبي جعفر، فقال له: ناولني الدواة يا طاوس قال: لا والله إن كنت تكتب باطلاً فلا أعينك على الباطل، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك.

    وأتى الخليفة المهدي فدخل مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقام له الناس، إلا ابن أبي ذئب المحدث، فقال: لماذا لم تقم يا ابن أبي ذئب؟ قال: أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] فتركت القيام لذلك اليوم، فقال له: اجلس، فوالله ما تركت شعرة في رأسي إلا قامت.

    ومنهم أيضاً: الأوزاعي؛ فإنه أنكر على عبد الله بن علي عم أبي جعفر، فيما قتل في دمشق وما فعله بالمسلمين والسيوف تقطر حوله دماً، حتى يقول بعض الوزراء: كنت أجمع ثيابي خوفاً من دم الأوزاعي، وكان الأوزاعي ينصحه ويزجره ويحذره مما فعل بصوت يجلجل كصوت الأسد.

    ومنهم: سيد قطب رحمه الله.

    فإنه بلغ أمام حكومة ضباط التحرير أو التدمير مبلغاً عظيماً، وأعلن التمرد عليهم، وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وأرسل قذيفة معالم في الطريق ذاك الكتاب الذي وزع تصويراً في موسكو بعد سنة من كتابته، حتى حذرت موسكو حكومة الضباط بأن ينتبهوا لهذا المجرم -أي: سيد قطب- فأخذوه وسجنوه عشر سنوات لا يرى النور، يقول: والله إن الشمس كانت تدخل علينا من ثقب من السجن، وكنا نتداول في السجن على الشمس بالدور ما رأى الشمس عشر سنوات.

    ومع ذلك يقوم الليل ويكتب في ظلال القرآن، ويرسله من السجن كتاب كأنه يكتبه بدمه. جاءه الوزراء والضباط وجاءته الحاشية وقالوا له: اكتب لنا ورقة تنازل واعتذار. قال: إن أصبعي التي أعلنت الوحدانية لله في كل يوم خمس مرات، ترفض أن تكتب كلمة استجداء، إن كنت حبست بباطل فأنا أكبر من أن أستجدي الباطل، وإن كنت حبست بحق فأنا أصغر من أن أعترض على الحق. قالوا: إنه سيقتلك. قال: لا إله إلا الله، أنا أبحث منذ أربعين سنة عن هذا. يقول: أنا أبحث عن القتل. فماذا فعل به؟ لقد شنقه أعداء الله.

    وقد حرر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رسالة لـجمال عبد الناصر قال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى الرئيس جمال عبد الناصر: السلام على من اتبع الهدى، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93] ثم أتى الشيخ بالآيات والأحاديث، وقد تلوتها في ترجمة الشيخ، وهي محفوظة في ملف الشيخ وفي ذكرياته التي كتبها طلابه عنه، وهي من أعظم البرقيات.

    ولما أتوا بـ سيد إلى المشنقة تبسم، حتى يقول أحد الشعراء في سيد:

    يا شهيداً رفع الله به     جبهة الحق على طول المدى

    سوف تبقى في الحنايا علماً      قائداً للجيل رمزاً للفدا

    ما بكينا أنت قد علمتنا      بسمة المؤمن في وجه الردى

    رحمه الله وجمعنا به.

    ومنهم الأستاذ العلامة: أبو الأعلى المودودي -رحمه الله وأثابه- سجن تسع سنوات، سجنه خان وما قبل الشفاعات فيه إلا بشرط أن يكتب ورقة اعتذار، قال: ولو كتب لي قدر كفه ورقة اعتذار لقبلت منه، فقال: أنا أكبر من أن أكتب له ورقة اعتذار، فقالوا له: إذا كتبتها تخرج من السجن. فقال: لا أخرج.

    يقول فيه العطار:

    نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت      نفسي لأفديك من أهل ومن صحب

    أما استحى السجن من شيخ ومفرقه      نور لغير طلاب الحق لم يشــب

    ثم مات رحمه الله، ودوى العالم الإسلامي بموته، مع أنه يموت في اليوم عشرات العلماء والمفكرين، والأدباء، لكن الذين يحملون الحق بجدارة قليل، والذين يقدمون التضحيات قليل، والذين يصطفيهم الله عزوجل مثل ابن تيمية وأحمد والعز بن عبد السلام وسيد وأبو الأعلى المودودي هم أيضاً قليل.

    1.   

    شجـاعة العصـاة

    والعصاة فيهم أناس شجعان إلى أبعد ما تتصورون، فأنت قد تتصور أنهم ليسوا بشجعان، لكن عندهم شجاعة متناهية، قال الإمام أحمد وهو في السجن: "ما ربط على قلبي إلا قول رجل كان معي من المحبوسين، حبس على الخمر قال: يا أحمد بن حنبل! اصبر على الحبس واصبر على السوط، فإنك من أجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والله يا أحمد لقد جلدت في الخمر ألفاً وستمائة سوط وما تراجعت. قال الإمام أحمد: فربط على قلبي.

    فهذا يشرب الخمر ويجلد، ويشرب الخمر ويجلد، ومن الناس من يجلد الواحد منهم مرات، على محجر أو على ساقية، ويقول: الحمد لله والشكر له، لا ارتشيت ولا أرشيت، وإنما عن حقي وأملاكي، والله لو سال دمي قطرة قطرة ما أتنازل عن شبر من أرضي. فتعيش الشجاعة، وهذه شجاعة أهل الدنيا.

    شجاعة مرحب اليهـودي

    ومنهم: مرحب اليهودي

    فإنه كان شجاعاً بلا شك، بارز الصحابة وقتل سبعة، حتى خرج له علي رضي الله عنه، وقطع رأسه وكأنه ما خلق له رأس، وكان يقول مرحب:

    قد علمت خيبر أني مرحب      شاكي السلاح بطل مجرب

    إذا الحروب أقبلت تلهـب

    قال علي:

    أنا الذي سمتني أمي حيدرة

    كليث غابات كريه المنظره

    أكيلكم بالسيف كيل السـندرة

    بابك وأبو مسلم الخراساني

    ومنهم: بابك الخرمي.

    فقد قتل من العرب والعجم ومن الكفار والمؤمنين، ألف ألف رجل، وهو أعظم مجرم في التاريخ، حتى إن المعتصم يقول: إنه سهر ليالٍ طويلة ما أتاه النوم، وخاف أن يدخل عليه في بغداد، هذا الهامة الطامة، وقف في الشمال يرسل الكتائب ويقاتل.

    فقال المعتصم: من يأتيني به وله ألف ألف درهم، وأكتب اسمه مع اسمي ويدعى له على المنابر. من هذا البطل الذي يأتي به؟! فأرسل الإفشين بن قطلوبغا، وأصله تركي لكنه قائد مسلم مشهور، فأرسله فبقي يقاتله سنة، صيفاً وشتاءًَ وليلاً ونهاراً، فظفر به ثم قطع رأسه، فصلب المعتصم رأسه في سامراء حتى يقول البحتري: فجعلته علماً بـسامراء.

    ومدحه الخليفة ودعا له عدة جمع ثم أصدر المعتصم مرسوماً بألا يدعى له، فقد أخذ حاجته منه والحمد لله.

    ومنهم: أبو مسلم الخراساني

    وكان من الشجعان الكبار، وكان يقدم نفسه، وهو عاص خطير، حتى استفتي الإمام أحمد: هل نصلي في مسجده؟ قال: لا. مسجد عاص.

    أخذ أموال المساكين وبنى بها مسجداً كبيراً في خراسان، وكان يخطب يوم الجمعة وعليه عمامة سوداء، فقام أحد الناس -وليته ما قام- فقد أجرى دماء المسلمين، وقتل منهم القتلى، وأخذ أموالهم وأراضيهم، وهذا قام يلاحظ عليه ملاحظة، فقال له أبو مسلم: ماذا؟ -وكان فصيحاً- قال له الرجل: أتلبس السواد وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس السواد؟ قال: كذبت، حدثني فلان عن فلان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، والحديث في مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعلى رأسه عمامة سوداء} يا غلام اضرب عنقه. فقام الغلام فضرب عنقه.

    هذا هو أبو مسلم الخراساني، أمره إلى الله، لكن عنده شجاعة متناهية، ما كان ينام الليل كان يتقلب فتقول له أمه: مالك؟ فيقول: همة تنطح الجبال. حتى يقول فيه أحدهم:

    همة تنطح الثريا وعزم      نبوي يزعزع الأجبال

    ولذلك نقل دولة بني أمية إلى بني العباس، كأنه نقلها من جيبه الأيمن إلا جيبه الأيسر، وفي الأخير، ذبحه أبو جعفر المنصور.

    ومن شجاعة أهل الدنيا أن بعضهم يقاتل على أكياس الشعير التي تباع في الشاحنات إلى آخر النهار، ويحبس أسبوعين، ويقاتل على الغنم وعلى بيعه وعلى الفحم، ويقاتل بعضهم على الحبحب وعلى كل شيء، أما على الدين فلا.

    والمؤمنون هم أشجع الناس، ولماذا كان المؤمنون أشجع الناس؟ لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الله يقول: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111] ولأن ما عند الله خير من الدنيا، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104] ولأنهم يحملون مبدأ، أما المنافق فليس عنده مبدأ، فالمنافق يجلس مع المتدين فيصبح متديناً، ويجلس مع شارب الخمر فيصبح شارب خمر، ويجلس مع المغني فيصبح مغنياً، يقول الله في المنافقين: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً [النساء:62] أنا أعرف بعض الناس إذا جلس معك أصبح ولياً، يسألك عن أحاديث رياض الصالحين، ويسألك عن ركعتين بعد صلاة الظهر، وعن صلاة الضحى متى تكون؟ والشارب هل يقص أم يحلق؟ وكيف يقصر الثوب؟ ويسأل مسائل دقيقة، ولكنه يظلم في أراضي المسلمين وفي أجسامهم وأعراضهم، ويظلم ظلماً عظيماً، وهذا لا ينفعه سؤاله ولا ورعه.

    ولن المؤمنين يثقون من حفظ الله ورعايته، فإن الله يقول: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173] ويقول: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52] ولأن العاقبة لهم ولا محالة، فإن الله جعل العاقبة والخاتمة والسمعة الحسنة ودرء الحوادث والأعراض لأوليائه، وجعل لهم النتيجة الطيبة في الدنيا والآخرة.

    هذا ما للمؤمنين عند الله عز وجل إذا احتسبوا أنفسهم وكلامهم في ذات الله، وقام أحدهم يحمل مبدأه، وعلم أنه سوف يلقى الله عز وجل ملوماً إن لم يدع إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر على ما أصابه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].

    إخوة الإيمان: هذا هو درس كيف تكون جباناً؟ ولكني أسأل الله أن نكون كلنا من الشجعان الذين يحملون أرواحهم على أكفهم، والذين لا يخشون إلا الله، ويقولون كلمة الحق، ويتقربون بدمائهم وأموالهم وأعراضهم في خدمة دينه سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767985408