ومثله الظلمة فهي أقسام، وتزيد بالمعاصي وتنقص بنقصانها.
وللنور والظلمة صفات تتعلق بهما، ولكل منهما أهل معلومون قديماً وحديثاً.
صلى الله على من أخرجنا من الظلمات إلى النور بإذن ربه.
صلى الله وسلم على من علمنا من الجهالة، وبصرنا من العمى، وأنار عيوننا وقلوبنا بعد الظلمة، وأسمع آذاننا بعد الصمم: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
أيها المسلمون: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257] ما أدراك ما النور؟ وما هو النور الذي يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى؟ وكيف نصل إلى هذا النور؟ وكيف نحصل على هذا النور الذي امتن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى علينا به.
النور في القرآن يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في مواضع عديدة، وفي سور كثيرة، وفي آيات متنوعة، والنور خلق من خلق الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] فالنور خلقه الله عز وجل، وهو محسوس وملموس، وهو نور معنوي، ونور يتعدد بتعدد ما ينسب إليه، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في أول سورة البقرة: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17].
والنور هنا هو القرآن، وهؤلاء هم المنافقون الذين يتكلم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنهم، يوم يضيء لهم الوحي والقرآن والسنة، ثم لا يهتدون بها، مثلهم كمثل قوم مشوا في ظلمة الليل، فأضاءت لهم نار، فلما وقفوا ذهب الله بنورهم ولم يقل بنارهم؛ لأن النور أصل وجود الضياء فذهب من أصله.
وهذا مثل المنافق يوم يهجر الإيمان، والقرآن، والسنة، والمسجد، وأهل الخير -والدعوة- والصلاح، يذهب الله بنوره ويتركه في ظلمة، وسوف نعود ونقرر إن شاء الله أصولاً في باب النور.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في النور: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور [البقرة:257] سمى الظلمات جمعاً، وذكر النور مفرداً؛ لأن ظلمات الباطل متعددة، وطرق الباطل متنوعة، والحق واحد، فهو نور واحد.
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يقول: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] سبحانه! قيل: أشرقت بنور وجهه السماوات والأرض، وقيل: قامت بنور وجهه السماوات والأرض، وعلى ذلك دلت السنة.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك |
فقام عليه الصلاة والسلام، فأتى إلى فراشه، فقرأ، ودعا، وهلل، وكبر وذكر الله، ثم نام، وعند البخاري: حتى سمعت خطيطه، وهو صوت يحدثه النائم من كثرة نومه أو استغراقه في النوم، لكن تنام عيناه ولا ينام قلبه، عليه الصلاة والسلام، فاستفاق من الليل يعرك النوم من عينيه، ويقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].
ثم قام عليه الصلاة والسلام فذهب لحاجته، فأتى ابن عباس فوضع له ماءً عند الباب، وهذا من الفقه في الدين، يدري أنه إذا انتهى يحتاج ماءً، فوصل عليه الصلاة والسلام، وقال يسأل نفسه: من وضع لي هذا الماء؟ ثم قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}.. فكانت من أعظم الليالي في حياة ابن عباس، بل ميلاده وتاريخه بدأ من تلك الليلة.
فقام يتوضأ ووقف عن ميسرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم يده إلى أذن ابن عباس ففركها في الصلاة؛ لأنه وقف خطأً، وموقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، فأعاده عن يمينه، وكان ابن عباس يحفظ الحركات والسكنات والكلمات تلك الليلة.
كانت من كلماته عليه الصلاة والسلام، وهو شاهدنا هذه الليلة: {اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن {اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد -وفي لفظ: أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن- ولك الحمد أنت الحق، ووعدك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
ثم خرج إلى الصلاة صلى الله عليه وسلم في الفجر، فكان يقول: {اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً} وعند البخاري: {واجعل في شعري نوراً، وفي عظمي نوراً، وفي مخي نوراً، وفي عصبي نوراً، وأعظم لي نوراً}.. إنه نور الله الذي ينـزله في قلب من يشاء من عباده.
نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] أي: نور الفطرة على نور الحق الذي هديت به، وهو القرآن والإيمان، فطر الله الناس على الإيمان، خلقك الله مؤمناً، يوم أسقطتك أمك من بطنها ولدت مؤمناً موحداً، تعترف بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً عليه الصلاة والسلام
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا |
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا |
يوم سقطت على الأرض سقطت مؤمناً، ويوم وقعت على الأرض وقعت موحداً، ويوم نزلت إلى الأرض نزلت مسلماً، فهذا نور الفطرة، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35] المسلم مولود مفطور على النور، على الهداية، لا يعرف إلا الله ربه، فلما عاش في بيت ضال انحرف، ما كان للابن أن يفجر لولا فجور أبيه -في الغالب- وأمه، بعد قضاء الله وقدره، يولد كما تولد البهيمة جمعاء، ثم تجدع البهيمة.
(نُورٌ عَلَى نُورٍ) نور الفطرة، ونور المولد، ونور يوم وقع على الأرض وهو مسلم لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما وقع مسلماً آتاه الله عز وجل الوحي، والكتاب، والإيمان، والإسلام: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر النور، فقال عز من قائل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع |
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] فهو سيد القراء إلى يوم القيامة، وهو رجلٌ من الأنصار دخل الإيمان قلبه، وغرس محمدٌ عليه الصلاة والسلام الإيمان في قلبه، فآتى أكله كل حين بإذن ربه.
تعال يا من نفسه في وبال ونفسه محبوسة في عقال |
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال |
روض النـبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال |
سوف يموت الإنسان ويبقى ميتاً حتى يصله النور، لكن نقف مع أبي، كان يقول عنه أهل العلم: كان أبيض اللحية، أبيض الجسم، أبيض الرأس، أبيض الثياب: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ[النور:35].
ورد في السير للذهبي أنه دعا على نفسه بالحمى، فأصابته الحمى سنوات، وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما من مسلم يصيبه هم، ولا نصب، ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه} فقال أبي: اللهم إني أسألك حمى.
كلكم يسمع بالحمى، وهي تفرفر الأضلاع فرفرة، ولا تترك عضواً حتى تدخله، ويقولون: تكفر ثلاثمائة وستين سيئة؛ لأنها تدخل كل عضو.
والحمى من صفاتها أنها لا تأتيك إلا في الليل، أما في النهار فلا تزور، حتى يقول المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام |
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي |
قال أبي: [[اللهم إني أسألك حمى لا تعطلني عن فريضة ولا حج ولا جهاد ولا عمرة، لتكفر خطاياي]].
فأصابته الحمى فشاب شعر لحيته ورأسه، وكان يلبس الثوب الأبيض؛ لأنه قارئ من القراء، وفي الموطأ للإمام مالك في كتاب الأدب، قال عمر: [[يعجبني أن يلبس القارئ اللون الأبيض؛ لأنه نور]].
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب، باب لبس البياض، من أين يستدل البخاري، قال: " ورأى سعد ملكين نزلا يوم أحد عليهما الثياب البيض ".
فـأبيٌ هذا كان لباسه أبيض، وقلبه أبيض، وكلامه أبيض، وحديثه أبيض (نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ).
نقف مع أبي صاحب النور قليلاً، يقول له صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {يا
وفي الصحيحين أن الله عز وجل لما أنزل سورة: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة:1] أمر رسوله أن يقرأ هذه السورة على أبي بن كعب، فقام عليه الصلاة والسلام وزار أبياً في بيته، وجلس أمامه، وقال: {إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: وسماني في الملأ الأعلى؟! قال: وسماك، فأخذ يبكي}.
وهناك فرق بين بين النور والضياء، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس:5] ولذلك سمى الله عز وجل القرآن نوراً، والتوراة نوراً، وسمى التوراة ضياءً.
والله عز وجل يقول: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ [الحديد:12] نورهم، قيل: ثوابهم وأجرهم، والصحيح أنه نورٌ يمنحه الله عز وجل للمؤمنين، أما المنافقين فكما خادعوا الله في الدنيا خدعهم في الآخرة: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
ثم انطفا نور المنافقينا فوقفوا إذ ذاك حائرينا |
لأنهم بالوحي ما استضاءوا فكذبوا فذا لهم جزاء |
فيظهر الله للمنافق نوراً يوم القيامة، فإذا أصبح على الصراط قطع الله عنه النور، وتركه في الظلمة، فتردى على وجهه في النار، وورد في الحديث: {إن من الناس من يأتي نوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم كالكوكب الدري، ومنهم كالمصباح، ومنهم من يكون نوره في رأس ظفره} نسأل الله أن يؤتينا من نوره.
والنور على ثلاثة أقسام:
نور الفطرة: ولا يكفي إلا بالإيمان.
نور الإيمان.
ونور الصالحات بعد الإيمان.
ولذلك ذكر الله الإيمان، فزاد عليه من أعمال الصالحات ما زاد سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
وعند الترمذي أن الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقف على جنازة فدعا لصاحبها: {اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم عافه، اللهم اعف عنه، اللهم افسح له في قبره ونور له فيه، قال
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الفرقان: "وقد رئى قبر الأحنف بن قيس، وهو أحد الصالحين وقد وسع له مد البصر لما دفنه الناس" رأوه بأعينهم وهم أحياء بعدما دفنوه، فوسعه الله عز وجل له، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أن قال: {إن هذه القبور مملوءة ظلمة، وإن الله ينورها بدعائي لهم} فالدعاء نور.
وعند صاحب الحلية من حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير، أنه كان يمر بالمقبرة من الكوفة إلى البصرة ليصلي الجمعة، فكان يمر على المقابر فيدعو لهم، ويقول: لا إله إلا الله، فمر ليلة من الليالي فما وقف؛ لأن الجو كان بارداً عليه، فذهب فرأى في المنام قائلاً من أهل المقابر يقول -والمنامات لا يعقد عليها عقائد ولا عبادات ولا حلال ولا حرام، ولكنها مبشرات-: يا بن الشخير حرمتنا الليلة من دعائك، والله الذي لا إله إلا هو إن الله ينور علينا قبورنا بدعائك أسبوعاً كاملاً، وقال له: أكثر من قول لا إله إلا الله فقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] فهم يشتهون أن يقولوا لا إله إلا الله، ويقولوا: سبحانه الله فما يستطيعون.
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر |
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر |
فالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينور القبور بالدعاء، والدعاء نور، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما عند أبي داود والترمذي وأحمد وابن ماجة: {بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة}.
طوبى لك يا من مشيت إلى بيت من بيوت الله في ظلمة الليل بنور يسعى بين يديك يوم العرض الأكبر!
طوبى لك يا من سريت إلى علم أو فهم أو دعوة بنورٍ تام!
طوبى لك يا من وصلت رحمك بنور تام.
طوبى لك يا من بررت والديك بنور تام.
طوبى لك يا من وصلت أرحامك بنور تام!
{بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة}:يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12] ما أحوجنا إلى النور، وما أفقرنا إلى النور: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] نعوذ بالله أن ينطفئ نورنا، وأن يطمس نورنا، ويذهب.
والرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن النور إذا دخل القلب انفسح وانشرح بإذن الله، وعلى ذكر المرور في الظلمات، قال أبي بن كعب كما في السنن: {كان رجل من الأنصار لا أعلم رجلاً أبعد منه من المسجد، فقال له الناس: لو اتخذت حماراً تركبه في الرمضاء والظلماء، قال: لا والله! إني أسأل الله أن يجعل لي نوراً، وأن يكتب ممشاي ورجوعي من بيتي إلى المسجد، ومن المسجد إلى بيتي، فأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بشروه أن الله كتب له ذلك كله}.
فبعض الناس قلبه أعمى، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19] فهل الأعمى هنا أعمى البصر؟ لا والله! بل أعمى القلب.
ابن عباس -كلكم يعرفه - عمي في آخر عمره، لكن قلبه ما عمي، فقلبه سراج، قلبه شمس وقمر بالعلم والفقه بالدين وقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، دخل على شبيبة، فاستهزأ به بعضهم، وقالوا: لا أساءك الله في بصرك يا بن عباس، فقال يخبرهم أن النور ليس في العين، وإنما في القلب:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور |
قلبي ذكي وعقلي غير ذو عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور |
يقول: إذا عميت عيناي فما عمي قلبي، وإذا انطفأ نور العينين فما انطفأ نور القلب، بل قلبي مبصر، وحي عارفٌ بالطريق إلى الله عز وجل.
أتدرون من هو الأعمى؟
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الحجر:19] فالأعمى الذي لا يعلم أن هذا حق، وأن الإسلام خير، وأن المسجد فيه صلاح وبر: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الحجر:19].
من هو الأعمى؟
الأعمى قسمان:
رجل فقد النور من عينيه، فهذا لا يضره، بل هو كفارة له إذا كان من المسلمين، ففي صحيح البخاري عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا ابتليته بحبيبتيه فصبر إلا الجنة} والحبيبتان هما العينان.
وقد قيل لـيزيد بن هارون الواسطي المحدث الكبير وقد عمي، قال له تلاميذه: أين العينان الجميلتان؟ قال: " أذهبهما والله بكاء الأسحار "، رواه الذهبي في السير، فهذا العمى في العين للمسلم كفارة.
عبد الله بن أم مكتوم أعمى، يخبر الله عنه في القرآن فيقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [عبس:1-2] لكن قلبه ليس بأعمى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10] هل تدري أن هذا الأعمى أفضل من ألوف من الذي تبصر عيونهم؟!
قال ابن كثير في البداية وهو يروي قصة عبد الله بن أم مكتوم، حين ذهب إلى القادسية؛ فأخذ الراية، فقال له الصحابة: إنك أعمى والله قد عذرك، قال: والله لأنفرن إلى المعركة؛ لأن الله يقول: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فسوف أنفر، فلما ذهب، أخذ الراية وهو أعمى ثم قتل في المعركة رضي الله عنه وأرضاه.
والله سمى القرآن نوراً، فقال: ومَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] فالقرآن نور، وفي صحيح مسلم في كتاب التفسير، قال عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل: {قال جبريل: أبشر بنورين أوتيتهما، لا تقرأ بحرف إلا أوتيته، بسورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة}.
والنور -أيها الكرام الأبرار- يذكره سُبحَانَهُ وَتَعَالى في معرض الامتنان، فيقول عز من قائل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
يقول ابن تيمية: " للإنسان ميلادان: الميلاد الأول يوم أتت به أمه، والميلاد الثاني يوم تحلى بالإيمان "، فالله يقول في الميلاد الثاني: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] أومن كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان وجعلنا له نوراً من العلم والحكمة يمشي به في الناس.
عمر بن الخطاب كان ميتاً قبل الإسلام، كان يأكل ويشرب لكنه ميت، لأنه ما وصل القرآن والإيمان إلى قلبه، وروحه، وكل من لم يصل الإيمان إلى قلبه فهو ميت: (قلب لا تشرق عليه شمس الإيمان قلب ملعون، وأرض لم تشرق عليها شمس الرسالة أرض مغضوب عليها، وقلب يعتقد أنه سوف يهتدي بغير هدى الله الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام فعلى هذا القلب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
كان عمر ميتاً: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].
خرج عمر من صلب أب كافر، فلما خرج عاش شطر عمره لا يعرف شيئاً، يأكل ويشرب، لكنه ما اهتدى إلى الإيمان والحب والطموح، فلما أتى عليه الصلاة والسلام ووضع يمينه في يمين عمر انسلخت الوثنية والشرك والتخلف من كل ذرة من ذرات جسمه، وأصبح إنساناً آخر؛ قرآناً يمشي على الأرض: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
عمر كان قلبه قاسياً جلفاً شديداً، فلما أسلم لان قلبه بالإيمان، يصعد المنبر يوم الجمعة كما يقول أهل السير فيقرقر بطنه عام الرمادة من الجوع، فيقول لبطنه: [[قرقر أولا تقرقر، والله! لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
عمر رضي الله عنه وأرضاه يمر بـأبي وهو يقرأ في سورة الصفات: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ [الصافات:24-25] قال: فألقى عصاه وبكى حتى أغمي عليه، وبقي شهراً كاملاً يعاد من المرض.
عمر يقول فيما يؤثر عنه: [[والله لو عثرت دابة على شاطئ دجلة -في العراق - لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة]] يقول في المسجد يوم الجمعة: [[يا أيها الناس! ما رأيكم لو ملت عن الطريق هكذا، فقام أعرابي فسل سيفه، وقال: يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا لقلنا بالسيوف هكذا، فتبسم، وقال: الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من لو قال عن الطريق هكذا، قالوا بسيوفهم هكذا]].
سافر إلى دمشق في طريقه إلى بيت المقدس، فقال: أين أخي؟ قالوا: من أخوك؟ قال: أبو عبيدة، فأتاه وعانقه، وقال: [[مل بنا عن الطريق نبكي أنا وإياك حياتنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام]].
قالوا لـعاتكة بنت زيد زوجته: صفي لنا عمر، قالت: ليله أو نهاره؟ -أي: أصف الليل أم أصف النهار- قالوا: الليل، أما النهار فنعرفه، قالت: كان إذا دنا منه الليل وأتى إلى الفراش، وضع قدحاً رحراحاً فيه ماء بارد، فإذا أقبل عليه النوم أخذ من الماء فغسل وجهه فاستفاق، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قالت: فيبقى يتململ حتى ينتصف الليل، ثم يقوم يصلي ويبكي حتى الفجر، فتقول له: يا أمير المؤمنين! لو أرحت نفسك، قال: [[لو أرحتها بالنهار لضاعت رعيتي، ولو أرحتها بالليل لضاعت نفسي]] أي إنسان هذا؟! إنسان ولد مع النور، كان ميتاً فأحياه الله.
يرسل كسرى رسولاً، فيصل إلى المدينة، ويسأل عن بيت عمر، فقالوا: بيته هنا، فيذهبون معه، ويشيرون على بيت من طين، قال: أهذا بيت الخليفة؟! قالوا: نعم. فطرقوا عليه الباب فلم يجدوه، قال: أين هو؟ قال أهله: التمسوه في المسجد، فذهبوا في المسجد فلم يجدوه، فقال: أين هو؟ فبحثوا عنه فوجدوه تحت شجرة في ضاحية من ضواحي المدنية قد نام، فقال هذا الفارسي: حكمت فعدلت فأمنت فنمت.
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها |
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها |
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها |
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها |
أتته سكرات الموت، فسأل الله الشهادة قبل أن يموت، فأعطاه الله الشهادة في المحراب، صباح يوم السبت في صلاة الفجر: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور:35].
ووصل إلى بيته وعزاه الناس في حياته، فقال ابن عباس كلمة من الكلمات النيرة التي حفظت له: [[طوبى لك يا أمير المؤمنين! أسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، وتوليت الخلافة فكانت ولايتك رحمة، فهنيئاً لك]].
قال وهو يبكي: [[يا ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]] يمر به شاب وهو في سكرات الموت وهو مطعون والدم يسري من جسمه، فيقول للشاب: تعال يا بن أخي. يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وروحه تقعقع: [[يا بن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] وذلك لأنه يحمل الإيمان والحب والطموح.
ومن الذين أخرجهم الله من الظلمة إلى النور عبد الله بن عمرو، رجل من الأنصار والد جابر، عاش ما يقارب الأربعين سنة في الجهالة والظلمة: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2] أمة لا تستحق المجد، ظالمة، ضائعة، ضالة، فأتى هذا الرجل فسمع بـمصعب فأسلم ودخل في الإسلام، فأعطاه الله نوراً: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35] وأتى في معركة أحد فباع نفسه في قصة مشهورة، فكلمه الله كفاحاً بلا ترجمان.
وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لـسعد أبي عمرو |
أورد الذهبي أنه شيع جنازة سعد سبعون ألف ملك، لماذا؟ لأنه اهتدى إلى النور: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
والذي يبقى في الظلمة ميت، مثل فرعون، عاش وأكل وشرب، ولكنه ميت: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد:19].
وممن عاش في الظلمة ومات في الظلمة فهو ميت، أبو جهل؛ كفر بالله، وبالرسالة، وبالرسول عليه الصلاة والسلام، فمات متردياً، وكـالوليد بن المغيرة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً [المدثر:13-14].
النور على أقسام:
أول نور لك في الحياة الصلاة، ففي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء...) الحديث، فأعظم نور لك في الحياة الدنيا الصلاة، فمن لم يتنور بالصلاة فلا نور الله عليه، ومن حُبس عن الصلاة فقد حبس عن النور، وإذا رأيت الإنسان يتهاون بالصلاة فاعلم أنه ليس عنده نور، ولا هداية، ولا إيمان، وأنه في ظلمة: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه يقول: (صلوا في بيوتكم، فإن الله جاعل لكم في بيوتكم من صلاتكم خيراً أو نوراً) فالصلاة في البيت نور، بشرط أن تكون النافلة، لا الفريضة إلا لعذر، فمن صلى الفريضة في البيت فقد أثم وأذنب إذا صلاها بلا عذر.
ومن النور القرآن؛ قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] وقال: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة:15] فالقرآن نور، قال أهل العلم: ولا يكون القرآن نوراً للإنسان إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، فمن شك في القرآن، أو في شيء من القرآن لم يجعل الله له نوراً أبداً.
الشرط الثاني: أن ينـزع الشهوات من قلبه، فلا يقرأ القرآن بظلمة وشهوة وفجور، فإنه لا يستفيد منه شيئاً أبداً.
الشرط الثالث: أن يلقي سمعه، وهو شهيد القلب؛ قال تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37] فإذا اكتمل هذا أثر القرآن في قلبه تأثيراً بيناً.
والذكر في حياتك نور، فإذا رأيت الإنسان يذكر الله كثيراً فاعلم أن عنده نوراً، ومن لم يذكر الله فليس له نور، والله وصف المنافقين الذين ذهب الله بنورهم بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، كلما ذكر الله النفاق -هذه قاعدة- ذكر الذكر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] وفي آخر السورة يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المنافقون:9] ويقول سبحانه تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142] وفي الصحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى تميل ثم ينقر أربع ركعات لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
فالمنافق يصلي ويحج، ويعتمر، لكنه مصاب بداء خطير، وهو على قسمين:
نفاق اعتقادي مخرج من الملة.
ونفاق عملي، وهذا فيه نظر، وهو أقل من ذاك خطورة.
فالنفاق المخرج من الملة هو نفاق من يعتقد كذب القرآن، أو كذب الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو منافق ملعون في الدرك الأسفل من النار، ولو صلى وصام وزعم أنه مسلم.
ومن النفاق الاعتقادي من استهزأ بشيء من كتاب الله، أو من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من عباد الله من أجل صلتهم بدين الله، فهو كافر؛ قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
أما النفاق العملي فهو على أضرب: (إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) فهذا منافق نفاقاً عملياً وهو من المذنبين، ومن المتلبسين بصفات أهل النفاق، لكن لا يخرج من الملة.
فالذكر -يا أيها الأبرار- نور، فعن عبد الله بن بسر -كما في الترمذي بسند حسن- أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب [الرعد:28].. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191].
والصدقة نور، وقد سماها صلى الله عليه وسلم ووصفها بقوله: (تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ويستظل بها العبد يوم القيامة: (كلٌ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس) كما صح في الحديث، وفي حديث ابن مسعود في البخاري: (وإذا تصدق أحدكم فإن الله يأخذ صدقته بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون كـجبل أحد) وفي رواية: (ولا يقبل الله إلا طيباً).
ظلمة الكفر: وهذه أعظم ظلمة نجانا الله وإياكم منها، وهي ظلمة ما بعدها ظلمة، وهي ظلمة شديدة متلفة مهلكة لصاحبها.
والظلمة الثانية: ظلمة الكبائر، فإن الكبيرة إذا أصيب بها العبد أظلم قلبه وقسا، وبعدت روحه، وشردت نفسه، ولا يكفرها إلا واحد من المكفرات العشر، التي ذكرت في بعض الدروس.
والظلمة الثالثة: ظلمة الصغائر من الذنوب، فمن نجا من الظلمات فقد نجاه الله، ومن وقع في الظلمات، فهو في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ومن هم الذين ماتوا في الظلمة ولم يروا النور:
الجد بن قيس أحد المنافقين، قال له صلى الله عليه وسلم: (تعال اخرج معنا في غزوة تبوك قال: يا رسول الله! أنا رجلٌ أحب النساء، وإذا رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر) وبنو الأصفر هم الروم، انظر إلى الكذاب الدجال، فقال الله عنه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49]. ضاع جمله في الحديبية، قالوا: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله! لأن أجد الجمل خير لي من أن يستغفر لي محمد، نعوذ بالله من الخذلان في الدين والحرمان في الدنيا.
أتدرون ما هو الخذلان؟
الخذلان أن يكتب الإنسان، أو أن يعتقد كفراً، أو يخدم أو أن يتكلم، أو يكون تحت مظلة الكفر؛ صحفياً، أو شاعراً، أو خطيباً، أو قصصياً، أو مسرحياً.
والكفر هو أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، قالوا: تعال يستغفر لك، فلوى رأسه، فلماذا فعل ذلك ولم يقل: لا؟ ولماذا لم يتكلم؟ لأنه خاف أن يكشفه الوحي بكلامه، فينقل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فنقل الله الصورة والحركة لرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ [المنافقون:5] الآية.
يقولون: حتى الحمار يلوي رأسه.
ومما يذكر أن التبغ قدم لحمار -التبغ شجر الدخان- ليأكله، فلوى الحمار رأسه، كأنه يقول: لا أريد، وهذه كالزهرة تشم ولا تعك.
ويوصف بها المنافقون: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:5-6] وقال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5].
وحينما يذكر الله عدم الهداية يعللها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بأنهم فسقوا في أول الطريق: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
ومن المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول -نعوذ بالله من الكفر والخذلان- كان يصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقوم ويقول يوم الجمعة للصحابة: اسمعوا لمحمد، استمعوا واستفيدوا، ولكن ما استفاد هو، خرج في غزوة فتشاجر مهاجري وأنصاري، وعبد الله بن أبي من الأنصار، لكن ما ناصر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال يوم رأى المهاجري يتشاجر مع الأنصاري، قال: صدق الأول! جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك، ثم قال كما حكى الله عنه: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [ المنافقون:8] فسمع ابنه الكلام، وكان ابنه عبد الله مؤمناً؛ لأن الله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم:19].
من هو عكرمة؟ إنه ابن أبي جهل، أبوه ميت، وقطعة من كلب، ميت لأنه ما آمن بالله عز وجل، فخرج منه عكرمة الذي لبس أكفانه يوم اليرموك، واستقبل القبلة، وقال: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] وقتل في المعركة، وأتي به إلى خالد بن الوليد قائد المعركة، فقال خالد: ماذا تريد؟ فأشار إلى الماء يريد أن يشرب، لأنه لا يستطيع الكلام، فأتى خالد له بكوب ماء بارد وهو يحتضر، فلما أعطاه الماء البارد ليشرب نظر إلى عمه الحارث بن هشام، فأشار أعطه، يؤثرون حتى في ساعة الصفر كما قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] فقدموا الماء للحارث، فرأى الحارث رجلاً آخر فأشار إليه، فأبى أن يشرب قبل عكرمة، فردوا الماء لـعكرمة فإذا هو قد مات، ثم إلى الحارث فإذا هو قد مات، ثم إلى الثالث فإذا هو قد مات، فرمى خالد بالكوب من يده، وقال: [[اسقهم من جنتك]] فهذا خرج من صلب أبي جهل.
فأتى عبد الله بن عبد الله بن أبي، وقال: يا رسول الله! ائذن لي في قتل أبي، فإني لا ترضى نفسي أن أرى رجلاً يقتل أبي ويمشي على الأرض، لكن والله إن أذنت لي لآتينك برأس أبي هذا اليوم، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل نترحم على أبيك، ونصحبه خيراً، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فلما أتى أبوه ليدخل المدينة، وقف عبد الله بالسيف على مدخل المدينة، وقال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز، فإذا أذن لك فادخل؛ ويقول الله عز وجل عن هذا: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] فالعزة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين.
أحد الناس، يقول في مقطوعة له وهو يعيش في ظلمة وهو إيليا أبو ماضي يقول:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!! |
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!! |
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!! |
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!! |
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!! |
في ظلمة، لكن سوف يدري: إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:9-10] وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
أحدهم يقول لسلطان:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار |
فابتلاه الله بمرض؛ لأنه يعيش في ظلمة: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
ورجل ثالث، مجرم من المجرمين، قام يقول للناس ويخاطب العرب:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم |
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم |
فكان يعيش ظلمة، ومات في الظلمة: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
الشهوة- والغضب- والغفلة.
فإذا غضبت أوقعك الشيطان في حبائل القتال، وهي نفس غضبية، وجعلك من جند فرعون -نعوذ بالله من ذلك- إن لم تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليجعل الله لك نوراً، وإذا غضبت فتوضأ، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ شيئاً من القرآن، ليأتيك النور على هذه الظلمة.
وإذا أصابتك الشهوة، ووقعت في حبائل إبليس، وقعت في التردي والمعصية، وكنت من جند الشيطان ومن أهل الشهوات قارون وأمثاله.
وإذا غفلت وقعت في نسيانه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
إذا علم هذا -إخوتي في الله- فلا بد أن تتنبه للأبواب الثلاثة التي تدخل عليك منها الظلمة، وتجعلك في الظلمة: الغضب والشهوة والغفلة.
فالنور الذي في قلبك أيها المؤمن: كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35].
قال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً) فالنور هذا هو نور الإيمان، والقرآن، والذكر، والدعاء: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] ذكر ابن إسحاق في السيرة بسند فيه إعضال -والمعضل ما سقط من سنده رجلان على التوالي- قال: لما نزل صلى الله عليه وسلم بـوادي نخلة، استقبل القبلة، وقام يصلي، ثم دعا الله، وقال: (اللهم إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة) فذكر لوجهه سبحانه وتعالى نوراً.
وفي صحيح مسلم قال أبو ذر: (يا رسول الله! هل رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنى أراه).
وجمهور أهل السنة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في الإسراء، وقد أخطأ من ذهب من بعض أهل العلم إلى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك عن نفسه، قال: ( نورٌ أنى أراه) أي: ما رأيت الله، والله عز وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].
ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الله يراه المؤمنون في الآخرة، ويحجب عنه الكفار والمنافقون: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16].. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري يصف ربه، قال: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) فهو نور سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو النور، وهو المنـزل للنور، وهو الهادي إلى النور، فنسأله أن يهدينا وإياكم إلى النور.
والنور في القرآن ذكر على ثلاثة أضرب:
نور معنى كما في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور:35] ونور حس كما في قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] ونور هداية كما في قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] فهو على ثلاثة معان.
مما قال أهل العلم: إن القلب يسرج سراجه فيه النور -لحديث حذيفة في الصحيح- فإذا استكمل العبد في الهدى وزاد في الصالحات، وأكثر في النوافل، نور الله قلبه حتى يصبح أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض -نسأل الله من فضله- وأن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فتجتمع هذه النكات حتى يصبح القلب أسود كالكوز مجخياً -أو منكوساً- لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.
ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تاب صقلت وأزيلت، حتى يعود أبيض، وهذه الذنوب والخطايا تؤثر في ثوب الإيمان الأبيض، فتنكته فيصبح أسود، فإذا أزلته بالاستغفار والتوبة أعاده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أبيض.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: {قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال عليه الصلاة والسلام: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} ما أجمل هذه الكلمات! تصل إلى القلوب، لا أجمل منها ولا أعبق إلا القرآن، فهو كلام من أنزله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
فلذلك قال: {اللهم نقني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} والبخاري يستشهد على هذا بلباس البياض، ويأتي بمثل هذا.
فإذا علم هذا فالخطايا هي التي توردك في الظلمة، ولا يوردك في الظلمة إلا الخطايا، وواجبك في الخطايا أن تتوب ليصقل قلبك، ومن ترك نفسه للخطايا أظلمت روحه، وأظلم قلبه فأصبح في ظلمة: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40].
أحد المناطقة يذكره ابن تيمية في المجلد الرابع من فتاويه، يقول: سئل عن قلبه، قال: ظلمات بعضها فوق بعض، سبحان الله! الذي لا يهتدي بالقرآن لا يهتدي بالوحي ويقع في الظلمات، قالوا له: لماذا لا تقرأ وتستغفر وتتوب وتعبد الله؟ قال: لا أستطيع: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [سبأ:54].
فإذا وصل الخطأ إلى هذا المستوى والظلم والعصيان والفجور أظلم القلب، فأصبح مغلقاً، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].. كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] بل: طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [محمد:16].. فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].
قال ابن المبارك: [[من ترك الآداب ابتلاه الله بترك السنن، ومن ترك السنن ابتلاه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر]] ومن فعل هذه أصبح في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
ما هي الآداب؟ هي آداب الإسلام.
ما هي السنن؟ سنن الإسلام التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، ولذلك سئل الإمام أحمد عن رجل ترك الوتر وداوم على تركه، قال: "هذا رجل سوء لا خير فيه" وإذا رأيت الإنسان يترك النوافل ويداوم على تركها، فاعرف أنه سوف تمر به مرحلة يترك الفرائض.
آداب، وسنن، وفرائض، فمن ترك الآداب ابتلاه الله بترك السنن، ومن ترك السنن وقع الثلم والنقص في الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر.
وهذا أمر لا بد أن يعلم، وحجاب، أو ساتر الإيمان أمور أذكرها:
منها: ذكر ابن تيمية في المجلد الأول من فتاويه، قال: "للقلب أو محركان الذكر والفكر" فأعظم ما يحصل لك به النور الذكر والفكر: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40] والذكر ذكر الله بالقرآن وبأي ذكر، والفكر التفكر في آيات الله المشهودة والمقروءة، وهذا أمر لا يغيب عنكم أيها الإخوة الكرام.
المسألة الأولى: أن الفطرة وحدها لا تكفي للهداية، وقد أخطأ الفلاسفة لما قالوا: ليس هناك داعٍ أن يرسل الله الرسل؛ لأن الله خلق السماوات والأرض وأقام الكائنات، وعرض الآيات البينات، فلماذا يرسل الرسل؟ وقد كذبوا، فالفطرة وحدها لا تكفي، ولو كفت الفطرة لاهتدى الناس، لكن الناس مفطورون على الهداية، ولكنهم يزيغون فيحتاجون إلى الرسل، قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15].
المسألة الثانية: أن النور لا يأتي إلا من عند الواحد الأحد، وأن من التمس النور من غير هداية الله أضله الله، ومن التمس العافية من غير الله أمرضه الله وأسقمه وأتلفه، ومن التمس السداد من غير الله أضله وأعماه وأهلكه، فالهداية من الله، والنور من الله، وهو في الإيمان والقرآن.
المسألة الثالثة: أن النور أقسام وهذا معلوم بالنصوص، وأننا نأتي يوم القيامة على أنوارنا في الدنيا بصالحاتنا -نسأل الله من فضله- منا من يأتي كالقمر ليلة البدر، ليلة أربعة عشر، ومنا من يأتي كالكوكب الدري اللامع في السماء، ومنا من يزهر نوره إزهاراً كالنجم، ومنا من يأتي نوره كالمصباح، ومنا من يأتي نوره على رأس ظفره وأصبعه.
المسألة الرابعة: أن النور يزيد وينقص بزيادة الإيمان، ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان ينقص ويزيد كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17].. وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].. لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] والنور يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي.
ومن اعتقادنا أن موقدات الإيمان اثنان: الذكر والفكر، والذكر بالقرآن وبالتسبيح، والفكر في آيات الله الكونية وآياته الشرعية، ومما يعرض في هذا الباب أن النور ينقطع.
فإنه يكون للمنافقين في الدنيا بحسب ما استضاءوا بالنور ظاهراً.
-كيف استضاءوا بالنور ظاهراً؟- كانوا يصلون معنا ويصومون، ونعوذ بالله من النفاق، ومن لم يخف من النفاق خيف عليه من النفاق.
قال الحسن في صحيح البخاري -معلقاً-: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]] وقال عمر لـحذيفة: [[أسألك بالله يا حذيفة أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا. ووالله! ولا أزكي أحداً بعدك]].
وهناك نور يجعله الله للمنافقين بالصلوات الظاهرة فيأتي يوم القيامة لهم نور، ثم يقطع الله عنهم النور، فيتساقطون في نار جهنم: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة:17].
المسألة الرابعة: الظلمات على أنواع ثلاثة:
كفر، ونفاق، ومعاص، والظلمة تزيد بالمعاصي، وتنقص بنقصان المعاصي، وأكثرها للكافر والمنافق، والظلمة هي معنوية وحسية كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في الحسية: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] وقال في المعنوية: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] وأن المؤمن قد توجد في قلبه ظلمة، لكن لا تخرجه من الإسلام والدين.
المسألة الخامسة: وصف النور والظلمة وصفات أهل النور:
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:257].
ما هو وصف الكفر وظلمة الكفر؟ ووصف الإيمان ونور الإيمان؟
أما وصف الإيمان ونور الإيمان، فيوصف بالنور وبالماء البارد على القلب، وبالحبل الممدود إلى السماء، وباستطاعتنا أن نوجد من النصوص أمثلة وشواهد لهذا.
والظلمة توصف بأمور: توصف بانعقاد الخاطر، وظلمة القبر، وتوصف بانعقاد القلب، فلا يرى النور ولا ينشرح، فيكون: ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].. أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
وأهل النور -يا أيها المسلمون- هم أهل السنة والجماعة.
وصفات أهل النور -أهل السنة والجماعة - أربع صفات:
الأمر الأول: أنهم لا يأخذون منهجهم، ولا عقيدتهم، ولا عبادتهم، ولا سلوكهم إلا من الكتاب والسنة: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
الأمر الثاني: أنهم يقصدون بعملهم وجه الله تبارك وتعالى، فلا يشركون مع الله شيئاً في عبادتهم، ولا في أخلاقهم، ولا في سلوكهم.
الأمر الثالث: أنهم يتعاونون ويتواصون بالحق والصبر: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].
الأمر الرابع: أنهم وسط، وقد وصفهم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذا نور على نور، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143] فهم وسطٌ في المعتقد، ووسطٌ في العبادة، ووسطٌ في الأخلاق والسلوك.
وهذه هي صفات أربع لأهل النور، وهم أهل السنة والجماعة.
فنخلص من هذه المحاضرة إلى أن أهل النور هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله منهم، وجعل الله لنا نوراً نمشي به في الناس، وأحيانا الله بالنور، وأماتنا على النور، وشرح صدورنا للنور، وهدانا إلى صراط مستقيم.
وهذا الأخ يشتكي ويقول: وجد في أماكننا وقرانا ومدننا كثيرٌ من الدجالين والسحرة والمشعوذين والعرافين والكهنة، فماذا تقول في هذا الباب؟
وهؤلاء نسأل الله أن يكفينا شرهم، وأن يزيلهم عن مجتمعاتنا، فإنهم أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأعداء الكتب السماوية، وهم الذين قطعوا الطريق بين الخلق والخالق تبارك وتعالى، وهم الذي صرفوا القلوب إلى غير باريها، وهم الذي عطلوا الأرواح عن أن تسافر إلى واليها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فعليهم من الله ما يستحقونه، وهؤلاء كفرة بلا شك.
وفي صحيح مسلم (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وفي لفظ صحيح: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام) والسحرة هؤلاء كثير، ووجدوا في القرى والمدن، وهم أناس يدعون الغيب، وقد كذبوا ودجلوا على الله عليهم لعنة الله، وهؤلاء السحرة يدعون علم الغيب، ويقول أحدهم: أنا أعلم الغيب: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].
حتى يقول بعض أهل العلم: إنه اكتشف أن بعض السحرة اشترط الجن عليه أن يبول على المصحف فبال على المصحف، والسحرة هؤلاء لا تخدمهم الجن في القرى ولا الأماكن ولا الضواحي حتى يكفرون بالله العظيم، إما بأن يستهزئوا بالآيات، أو أن يدوسوا شيئاً من أوراق المصحف أمامهم، أو يصلوا بالنجاسات، كما ذكر ابن تيمية، فبعض السحرة قد يكون من أئمة المساجد، وبعضهم قد يكون خطيب يوم الجمعة وهو ساحر، وبعضهم قد يكون إماماً وهو مشعوذ كاهن، فيأتي يصلي بالناس وعليه جنابة.
فهذا الساحر يكفر بالله العظيم، فلا يخدمه الجان إلا بعد أن يكفر بالله ويبول على المصحف، فيأخذ المصحف في زاوية ويبول عليه، فإذا بال عليه كفر بالله وانسلخ من الإسلام ومن لا إله إلا الله، فتأتي الجن تنقل له الأخبار من مكان إلى مكان، والجن لا تنقل له خبراً وهو مؤمن أبداً.
هنا وليٌ من أولياء الله تأتيه كرامة، مثل أن يرى نوراً في بيته، مثل أن يطوي الله له الأرض، مثل أن يأتي الأسد له فيطأطئ الأسد رأسه له، ويأخذ الأسد ويمسكه، أو يمسك الثعبان فلا يؤذيه الثعبان، وبين مشعوذ يأتي إلينا فيأخذ الثعبان فإذا هو عصا، ويأخذ العصا فإذا هي ثعبان.
أحد الناس قال: رأيت مشعوذاً أخذ فنجاناً فحوله إلى بيضة دجاجة، وأخذ براداً فحوله إلى حمامة، وهذا من المشعوذين، فكيف نفرق بين هذا وبين هذا؟
قال ابن تيمية: نفرق بين الكرامة والشعوذة بفارقين اثنين، وهذا من الفرقان الذي يجعله الله لأهل النور: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
الفارق الأول: أن الكرامة لا تجري إلا على يد رجل صالح عامل بالكتاب والسنة، فإذا رأيت الرجل الفاجر تجري على يديه خوارق للعادات فالعنه والعن خارقته ولا تقبل منه كلمة، رجل فاجر يصلي بجنابة، رجل يأوي الزبالات، ولذلك كثير من السحرة والكهنة -كما نقل إلينا برجال ثقات- يبيتون في المزابل والرماد والمذابح والحمامات، لأن الجن لا تأتيهم ولا تسخر لهم إلا في هذه الأماكن، ولذلك إذا دخلنا الحمام قلنا: نعوذ بالله من الخبث والخبائث، فهؤلاء إذا أتى علي أيديهم شيء فنكفر بهم ونكفر بما أتى على أيديهم.
ليست كرامة، بل هي ندامة، ولعنة، وخزي، ودمار، وعار في الدنيا والآخرة، ومن أتاهم وصدقهم فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا يزكيه ولا ينظر إليه، وله عذاب أليم، وقد كفر بما أنزل على محمد عليه الصلاة والسلام.
فالضابط أن الكرامة لا تأتي إلا على يد رجل صالح، عامل بالكتاب والسنة، صاحب سنة واستقامة، يعتقد اعتقاد السلف الصالح، فهذه كرامة أتت علي يده، وإذا أتت على يد النجس الآخر القذر المشعوذ الكاهن، فهي خيبة وندامة ولعنة وابتلاء من الله.
الفارق الثاني: ألا يستخدم الكرامة إلا فيما يرضي الله وينصر بها دين الله، مثلما فعل الصالحون، فالصحابة أكرمهم الله بكرامات فكانت في سبيل الله، مثل الطفيل بن عمرو الدوسي أكرمه الله بنور جعله في جبينه، فسأل الله أن يحوله في عصاه، فكان إكرامه بجعل النور في العصا آية في الدعوة.
يقول ابن تيمية: هذا وأمثاله تأييد للحق ورفعٌ لـ(لإله إلا الله) فكان في سبيل الله؛ لأنه خالد بن الوليد صاحب الكتاب والسنة، 1000028>خالد
الذي غزا في سبيل الله مائة معركة، تكسرت في يده تسعة أسياف لأنه ينصر دين الله.تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها |
و خالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها |
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها |
أما المشعوذون والسحرة والكهنة، فحدهم السيف: {حد الساحر ضربة بالسيف} وهذا الحديث تكلم فيه، ولكنه حسن، وهذا معلوم لولاة الأمور وأهل التنفيذ أنهم إذا ظفروا بساحر يتقربون إلى الله بدمه؛ لأن بعض الناس يتقرب إلى الله بدماء المبتدعة والسحرة والمشعوذين.
ولذلك ابن القيم يتفنن في مقطوعة له في مثل هؤلاء، فـالجعد بن درهم، هذا الظالم العميل، المبتدع، الخرافي، الساحر، المشعوذ، أتى به خالد بن عبد الله القسري يوم عيد الأضحى، وقد كان خالد بن عبد الله القسري والي العراق، فخطب الناس، فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله منكم فإني مضحٍ بـالجعد بن درهم، فنـزل فأخذ خنجره، وبرك على صدر الجعد بن درهم، وذبحه مستقبلاً به القبلة، وهذا يكفي عن سبعة.
قال ابن القيم:
ولأجل ذا ضحى بـجعد خالد الـ ـقسري يوم ذبائح القربان |
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني |
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان |
من أراد أن يتقرب فليقرب بمثله، فهؤلاء السحرة من ظفر بأحد منهم فليرفعه إلى الجهات، وحكمهم السيف، وهم ملعونون في الكتب، وعلى ألسنة الرسل، وهم أعداء الرسالات الخالدة، ومن وصلهم وصدقهم فقد كفر بالقرآن، وكفر بالسنة، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه، ولا حجه، ولا عمرته، وهو ضالٌ مضل.
وقد رأيت أشخاصاً حدثوني، أنهم ذهبوا إلى ساحرة مشعوذة، فوصفوا لها جفاف البئر، فوصفت لهم من أين يحفرون، وهي ما حضرت، وما رأت، وما سمعت، وهي في بيتها، فعليها لعنة الله.
وأحدهم ذهب بابنه إلى مشعوذ كاهن ساحر، فوصف له داءه، فقرأ عليه ورقاه، وأراني هذه الأوراق، فإذا فيها طلاسم وخطوط، فتشافى الابن ابتلاءً من الله، فلعنة الله على الذاهب والماضي إلا أن يتوب.
فعلموا أهلكم وجيرانكم ومجتمعكم، وإلا فالأمة سوف تذهب مع السحرة والمشعوذة والكهنة، وسوف يسحتها الله بعذاب من عنده، وتفتري على الله، وتكون أمة فاشلة منهزمة مشركة، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر