وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أشهد أن الله حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن النبيين حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق.
أشهد أن الدين خالد، وأن الكفر خاسر، وأن محمداً خاتم.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
جئتُ هذه الليلة وأنا محمل بالشكر للواحد الأحد، الذي أسعد عينيَّ برؤياكم، وقلبي بحبكم، ثم أشكر لأهل الفضل فضلهم، وعلى رأسهم فضيلة الدكتور إبراهيم الهويمل الذي دعاني لهذه المحاضرة، وكان سبباً في هذا الحضور، وأشكر أخي وزميلي فضيلة الشيخ الداعية سعد البريك على هذه الكلمات المباركات.
عنوان المحاضرة: (وقفات مع السبع المثاني) وقبل أن أعبر هذا البحر الخضم، والطريق الطويل أقف مع من أنزلت عليه السبع المثاني محيياً ومرحباً، وكلي لهفة له ولمنهجه، وأنتم كذلك.
محمدٌ عليه الصلاة والسلام، إمام الأمة.. أستاذ الصحوة.. شيخ المسيرة، أحييه من بنات القريحة، فأقول له بين يدي السبع المثاني:
محمدٌ في فؤاد الغار يرتجفُ في كفه الدهر والتاريخ والصحفُ |
مزمل في رداء الوحي قد صعدت أنفاسُه في ربوع الكون تأتلفُ |
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صوف ولا خصفُ |
والكفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه الحقد في الدنيا ولا الأسفُ |
ولا رأته سيوف كلها كبدٌ في صولة الحق والإيمان تنقصفُ |
أتى الرسول إلينا والربى جثث مطمورة وعليها يضحك القَرَفُ |
والمارد المجرم المعتوه محترمٌ جماجم الجيل في أسيافه نُطَفُ |
نأكل أموال موتانا وسهرتنا ليل الضياع وليل أحمرٌ دنفُ |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّـاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:1-7]
في هذه السورة قضايا:
القضية الأولى: (الْحَمْدُ) لِمَن؟ ومن الذي يُحمد في السراء والضراء؟ حمدُ الله لذاته، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته.
القضية الثانية: (الله) لفظ الجلالة، وأقوال أهل العلم فيه، وأثر هذا الاسم في الخليقة.
القضية الثالثة: (الْعَالَمِينَ) وما فيها من معاني.
القضية الرابعة: (الرَّحْمَنِ الرَّحِِيم): لماذا صفة الرحمن وصفة الرحمة؟ وأثرهما في الإنسانية.
القضية الخامسة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وما سر العكوف على يوم الدين بالذات؟ وفيها قضايا:
سقوط ملوك الدنيا في العرض الأكبر -أخنع الأسماء- أثر هذا الاسم في مشاعر المسلم.
القضية السادسة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ملخص دعوته عليه الصلاة والسلام: العبادة تمنع الكبرياء، والاستعانة تمنع الرياء.
القضية السابعة: (اهْدِنَا): ومعالم اهدنا في حياة المسلم، الهداية العامة والهداية الخاصة.
القضية الثامنة: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ): صفاته الخمس: قربه، اتساعه، استقامته، إيصاله للحبيب الإمام الذي يقود المسير على الصراط، وجود الإمام في أوله.
القضية التاسعة: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ): مَن هم الذين أنعم الله عليهم؟ وما هي صفاتهم؟
القضية العاشرة: (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ): مَن هم المغضوب عليهم؟ ولماذا غضب الله عليهم؟
القضية الحادية عشرة: (الضَّالِّينَ): مَن هم الضالون؟ ولماذا ضلوا؟ وكيف نجتنب المغضوب عليهم، ونجتنب الضالين؟
تلكم هي أفكار هذا الدرس، وإن قصر الوقت، فعَلَّ الله أن يأتي بوقت آخر تُكْمَل فيه، أو يكْمِلُها أي داعية، أو يعاد لكتب أهل العلم، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
سامحن بالقليل من غير عزم ربما أقنع القليل وأرضى |
قال أهل العلم: لأن الله عز وجل يُحمد في السراء والضراء، ولا يُحمد في السراء والضراء إلا الله، وكان عليه الصلاة والسلام يغتبط بسورة الفاتحة، ويفرح بالسبع المثاني، ويُسَر بها أيما سرور.
ففي صحيح البخاري وأبي داود والنسائي وأحمد، عن أبي سعيد بن المعلى قال: ( كنتُ أصلي مع الرسول عليه الصلاة والسلام فدعاني، فلم أجبه، فلما سلم أجبته، قال: لِمَ لَمْ تجبني؟ قال: كنتُ في الصلاة يا رسول الله، قال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام لأعلمنك أعظم سورة أنزلت عليَّ قبل أن تخرج من المسجد، فلما أراد أن يخرج من المسجد علمه السبع المثاني) التي معنا هذه الليلة.
وعند مسلم وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين...) يقصد: الفاتحة، فتسمى: الصلاة، وتسمى: الفاتحة، وأم القرآن، والشافية، والكافية، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، بل عند أحمد والطبراني والدارقطني، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (أم القرآن، والسبع المثاني، والقرآن العظيم هي الفاتحة) ( قال الله: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، إذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمٍ [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال: مَجَّدني عبدي، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيْمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّيْنَ [الفاتحة:6-7] قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل).
كان عليه الصلاة والسلام يسعد بالفاتحة أيما سعادة، ويعدها أشرف سورة في القرآن.
وفي الحقيقة أن تفاصيل القرآن، وقضاياه, وقضايا الأمة وهمومها وأفكارها في هذه السبع الآيات.
وعند أحمد في المسند بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وقد استشهد به الأئمة الكبار، عن عبد الله بن جابر الأنصاري قال: (أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام وقد اهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله! فلم يجبني، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يجبني، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فلم يجبني، فلما توضأ قال: عليكم السلام ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله، وعليكم السلام ورحمة الله، ثم قال:- أما رأيت آيات أنزلت عليَّ لم أر مثلهن، ثم تلا السبع المثاني).
تلكم هي الفاتحة، وكان عليه الصلاة والسلام يرى الفاتحة كنـزاً، وقد بشره بها جبريل، فعند مسلم وغيره، من حديث ابن عباس، بل أصله عند البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ومعه جبريل، فسمع نقيضاً في السماء، قال جبريل: هذا باب فتح نزلت منه سورة الفاتحة، وأواخر البقرة، لم تقرأ منهما بحرف إلا أوتيتَه).
والحقيقة: أنها شافية، وشفاؤها قسمان:
- شفاء معنوي.
- وشفاء حسي.
فالشفاء المعنوي: أنها تشفي من الأفكار الدخيلة، والزندقة، والإلحاد.
والشفاء الحسي: أنها تشفي كذلك من الأمراض الظاهرة، فعند البخاري ومسلم، من حديث أبي سعيد، في قصة الملدوغ الذي قرئ عليه الفاتحة مِن قِبَل أبي سعيد وغيره، وعند مسلم: أن أبا سعيد هو التالي، فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: (ماذا قرأت عليه؟ قال: قرأتُ عليه الفاتحة، فتبسَّم عليه الصلاة والسلام، وقال: وما يدريك أنها رُقية؟) أي: ما يدريك أن فيها شفاء، وأنها تزيل الأوهام والأمراض، والأدواء.
تلكم هي الفاتحة، فمع الفاتحة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]:
في هذه الكلمة قضايا:
فقضاؤه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وقدره حكمة بالغة، فهي بالنسبة للقضـاء والقدر خير، فلذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {الحمد لله على كل حال}.
ولما قَطع الله دابر المجرمين وأهلك الكافرين قال: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
واستفتح سُبحَانَهُ وَتَعَالى سوراً من القرآن بالحمد.
-الأول: يُذكَر في السراء والضراء.
-الثاني: يُذكَر إذا نفي العيب والوَصْم عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
-الثالث: يُذكَر عند الخلق والإنعام.
قال سبحانه في أول سورة الأنعام، وهي سورة بُدئت بهجوم أدبي على المشركين، ردَّت على المشركين في مكة، وعلى المانوية العجم في الشمال، يقول سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
قال بعض الفضلاء: ردَّت هذه الآية على طائفتَين:
الأولى: طائفة المشركين: الذين جعلوا لله شركاء في حكم السماوات والأرض.
الثانية: طائفة المانوية التي قالت: إن للكون إلـهين، إله الخير وهو النور، وإله الشر وهو الظلمة.
فأخبر سبحانه أنه هو الذي جعل الليل والنهار، وليست المانوية.
وكانت المانوية ترى أن من قاتل في الليل لا ينتصر، وأن من طلب مطلباً في الليل لا يكسبه، فيقول المتنبي -وهذا من الاستطراد- يمدح سيف الدولة، يقول:
فكم لظلام الليل عندك من يدٍ تحدث أن المانوية تكذبُ |
يقول: أنت تنتصر في ظلام الليل، وهذا ردٌّ على المانوية التي تقول: إنه لا يمكن للإنسان أن ينتصر في جنح الظلام، وأنت تنتصر وتدوس خصمك في ليالي الليل وتقطع جماجمهم.
ولما ذكر الله بديع خلقه، استفتح بالحمد، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1].
وكان عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري - كان يقول: {والحمد لله تملأ الميزان}.
فأشرف الكلمات بعد (لا إله إلا الله): الحمد لله.
ضاع فرس لـجعفر الصادق، فقال: [[لئن وجدتُ الفرس لأحمدنَّ الله بمحامد ما حُمِد بمثلها فلما وجد فرسه، ركبه، وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]]].
ويقول الله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182] انظر كيف مَدَح وحَمِد نفسه في ختام هذه السورة لينفي الوصْم والعيب عنه تبارك وتعالى!!
وعند أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم: أن الأسود بن سريع وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام وكان شاعراً، فقال: يا رسول الله! عندي محامد، حمدت بها الله، هل أسمعك منها؟ يعني: قصائد حمدت الله فيها، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: {أمَا إن ربك يحب المدح} الله يحب المدح، فلذلك مدح نفسه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وقدَّس نفسه، ونزه نفسه، ووصف نفسه.
الفرقة الأولى: كَفَرَت بالنِّعَم، ظاهراً وباطناً، لساناً وجَناناً وأركاناً، ولم تقبل حمد الله، ولم تثن بنِعَم الله على الله، واستخدمت نِعَم الله في معاصيه وفي محاربته، وهذه أخطر فرقة على وجه الأرض.
هذه الفرقة ذُكِرَت في الحديث القدسي الذي رواه أحمد في كتاب الزهد بسند جيد: أن الله يقول في الحديث القدسي: {عجباً لك يا بن آدم! خلقتُك وتعبد غيري! ورزقتُك وتشكر سواي! أتحبَّب إليك بالنعم وأنا غني عنك! وتتبغَّض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ! خيري إليك نازلٌ! وشرك إليَّ صاعد} وهذا هو حال العبد.
الفرقة الثانية: حمدت الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى باللسان، ولم تحمده بالأركان، أما الشكر فباللسان، تقول: الحمد لله، لكن المعاصي التي يفعلونها والمخالفات وانتهاك الحدود، ومحاربة الواحد الأحد تفضح ادعاءهم.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياءُ |
والله عز وجل لم يقبل قولاً إلا بعمل، وهؤلاء ككثير من الأمة، يمدحون الله إذا أكلوا خبزاً وشربوا ماءً؛ ولكنهم يذهبون بهذا الخبز والماء في غير ما يرضيه، بل يتقوون به على معصيته.
الفرقة الثالثة: المحمديون، الذين أثنوا على الله عز وجل فحمدوه باللسان والأركان والجَنان.
الأول: حمد باللسان: أن تثني على الواحد الأحد بلسانك.
الثاني: حمد بالأركان: أن تسخر أعضاءك في عبادة الله الواحد الأحد.
الثالث: حمد بالجَنان: أن تعلم أنَّ مَن أنعم عليك وأعطاك وسلبك ومنعك ووهبك وأحياك وأماتك هو الله، وهذا استقرار لعظمة الألوهية في القلب.
فمهما فعل العبد، فإنه لا يصل ولا يفي بهذه المقامات الثلاث. فـالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] في السراء والضراء، وفي الأثر: {نعم عبدي المؤمن! أبتليه بجسده، ويقول: الحمد لله}.
وفي الإصابة لـابن حجر والاستيعاب لـابن عبد البر: أن عمران بن حصين أصيب بمرض، فمكث ثلاثين سنة، لا يرتفع عن فراشه، وكان يقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب العالمين، فإذا قيل له: ماذا أصابك؟ يقول: الحمد لله رب العالمين.
تموت النفوس بأوصابها ولم يَدْرِ عُوَّادها ما بها |
وما أنصفتْ مهجةٌ تشتكي أذاها إلى غير أحبابها |
وهذا مثل ما قال المتنبي:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألَمُ |
فإذا رضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فهذا مما يُحْمد عليه في مواطن القضاء والقدر، وهي منـزلة الصديقين عند الله عز وجل.
وهو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى محمود لذاته، فليس في صفاته صفات عيب، بل صفاته صفات كمال، فهو محمود لذاته جلَّ وعلا.
قال الزمخشري: الفرق بين الحمد والشكر: " أن الشكر على صنيع، والحمد بغير صنيع ".
فالحمد: أعم، سواءً قدم لك المحمود خيراً أو يداً أو عطية، فهو محمود، ولذلك تحمد الواحد الأحد.
وأما الشكر: فإنه لا يكون إلا على صنيع، فلا تقل للإنسان: شكراً، إلا إذا أعطاك شيئاً، أو قدم لك خدمة.
أما الله فهو محمود سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لصفاته، وأفعاله. محمود في أفعاله؛ لأن أفعاله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كلها خيرة، ولذلك لا يُنسب الشر إليه، ولما قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الجن:10]: بَنَتْه للمجهول، وأتَتْ بنائب الفاعل، فما أحسن الكلام!
يقول أحد المفسرين: عجيبٌ! حتى الجن يتذوقون اللغة! فلما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً [الجن:1] قال: عجيب! يعرفون أن القرآن عجيب! كيف تذوقوا اللغة؟! فتَعَجَّبُوا منه.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام في القرآن الكريم: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] فلما بلغ إلى المرض نسب المرض إليه، وإلاَّ فالممرض حقيقةً هو الله، فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء:80] وهذا تأدب مع الواحد الأحد.
والخليقة أقل الناس فيهم من يحمد الواحد الأحد، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13] قال ابن الجوزي: أهل الإسلام أقل أهل الأرض، وأهل السنة أقل أهل الإسلام، وأقول هنا: والمخلصون أقل أهل السنة.
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليلِ |
ويحكى أن عمر كان في السوق، فسمع رجلاً من الأعراب يقول: [[اللهم اجعلني من عبادك القليل، قال
وبعضهم قال إنه مشتق مِن: (أَلَهَ) إذا سكن، ولا تسكن القلوب إلا إلى الله، فقد جَرَّبَتِ القلوبُ أن تسكن إلى البشر فرفَضَتْ، جَرَّبَتْ أن تسكن إلى الكراسي فأبَتْ، جَرَّبَتْ أن تسكن إلى المناصب والسيارات والوظائف والوزارات والكيانات والأوسمة والمنظمات فرفَضَتْ وعصَفَتْ وأبَتْ وفَكَّتْ قِيادَها. إلى أين تسكن؟ إلى الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:36] فكل هذه الكيانات كمثل بيت العنكبوت، وبقي الله وحده تسكن إليه القلوب، فقالوا: إذاً الله مِن (أَلَهَ).
وقال بعضهم: إنه مشتق مِن: (وَلهَ) أي: تحير، فتتحير وتندهش من الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقدرته وعظمته، ولا تستطيع أن تصفه، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11].
سيبويه في كتابه العظيم الكتاب عندما وصل إلى كلمة (الله) قال: الله عَلَم لا يحتاج إلى تعريف.
يقول ابن يعيش في ترجمته لـسيبويه: رؤي في المنام، فقيل: يا سِيْبَوِيْه! ما فعل الله بك؟ -ويطلق عليه المحدِّثون: سِيْبَوْيَة، والنحاة: سِيْبَوِيْه- قال: غفر لي، قيل: بماذا؟ قال: بكلامي في لفظ الجلالة.
ورأيتُ ابن القيم في مدارج السالكين نسب كلمات إلى شيخه ابن تيمية رحمهما الله يقول: إن الله دليلٌ على الكائنات، وليست الكائنات دليلٌ على الله. والحقيقة: أن القول الظاهر عند أهل السنة والجماعة: أن الكائنات دليلٌ على الواحد الأحد سبحانه!
والنحلُ قُل للنحل: يا طير البوادي ما الذي بالشُّهد قد حلاَّكا |
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا |
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا |
فالحمد لله الكريم لذاتهِ حمداً وليس لواحدٍ إلاكا |
فكل الخليقة تدل على الواحد الأحد.
وهذا كتاب الكون، يقول إيليا أبو ماضي -قبحه الله- وقد أجاد في هذا البيت:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتابِ |
ونحن نأخذها ونقول: نعم. لأن الأمي الذي كان في الغار قيل له: اقْرَأْ [العلق:1] فأين شيخه؟ وقيل: اقْرَأْ [العلق:1] فأين أستاذه؟ وقيل له اقْرَأْ [العلق:1] فأين سبورته وطباشيره؟ يقرأ أين؟ قيل له: اقرأ في الكون، في السماء المرتفعة، والنجوم الساطعة، والشمس اللامعة، واقرأ في الشجرة، وفي التل، والهضبة، فقرأ:
اقرأ فأنت أبو الأيتام رائده من كل جيلك كل الجيل يغترفُ |
إن لم تصُغْ منك أقلامٌ معارفها فالظلم ديدنها والزور والتلفُ |
فقرأ وأقرأ الأمة، فأصبحت قارئة عليه الصلاة والسلام.
ينعم عليهم ويكسوهم ويغدقهم وهم يحاربونه.. أغدق عليهم العقول، وهم ينحتون العقول لمحاربة وتكذيب الوحي، خلق لهم أفكاراً وشعراً وأدباً ونثراً، فجعلوا الشعر والأدب والنثر محاربة لـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ومن أحسن من تحدث فيها ما قاله الزمخشري، ولو أنه معتزلي غير محمود؛ لكنه داهية في اللغة، قال: والعالمون علامة على وجود الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالى.
قال سفيان بن عيينة في تفسير قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]: [[هذه الحيوانات تشابه الناس، والناس يشابهون الحيوانات، فما من إنسان إلا وفيه شبه من حيوان، إما حَسُنَ أو قَبُحَ، وكلهم يدلون على الله، فهم عالمون]].
وأستطرد فأقول: من الناس من يشابه الخيول، وهي أجود ما تشابَه. قال ابن القيم: وهي أجود الحيوانات. ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة}.
فمن الناس مثل الفرس: وهو الرجل الشهم الأصيل صاحب المبادئ.
ومن الناس مثل الضأن: وقد مدحها صلى الله عليه وسلم, وفيها السكينة، والوقـار، والهدوء، وذكر صلى الله عليه وسلم أنها من أحسن ما يكون من الحيوانات.
ومن الناس مثل البقر: لا يفهمون أبداً، ولا يعون، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] قال الله لبقر بني إسرائيل، وهم بقر: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وهذه تسمى: (عقدة البقرة) قال ابن عباس: [[لو أخذوا بقرة وذبحوها أغنت]] ولكن قالوا: كم رقمها؟ وكم سنها؟! وما لونها؟ وهاتفها؟ فبقوا في تحدٍّ للواحد الأحد حتى طلسم عليهم فاشتروها بملء جلدها ذهباً، فقال تعالى على لسانهم: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70].
روى البغوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده! لو لم يقولوا: إن شاء الله ما وجدوها} ولذلك تعنتوا على الوحي.
ومن الناس مثل الطاووس: وهذا أمام الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ظاهره جميل وليس عنده في الداخل شيء، بل كله رياء وسمعة وتبجح؛ فهذا لا يقدم ولا يؤخر.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصرٍ جسم البغال وأحلام العصافيرِ |
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى في هذا الطراز: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4].
شعراء، أدباء، ينحتون الفكر، وتصفق لهم الجماهير، ولكن -والله- أجهل عامي أقرب إلى الله منهم! وإن العامي يقدم رأسه لترتفع إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وإن هذا الأديب والشاعر والكاتب، يهتز وينهار أمام كأس من الخمر، أو ليلة سكر، أو موسيقى حالمة في ظلام الليل، فانظر إلى هؤلاء من جواهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، المجدد والإمام والأصيل أنه يقول: عامي موحد يغلب ألف مُخَلِّط. وهؤلاء المُخَلِّطون هم النخبة المثقفة صراحةً، ولا أستطرد فسوف يأتون في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؛ لأنهم ينهارون عند إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
كيف اختار الاسمين لصفتين؟ ولم يقل: الجبار، ولا القهار؟ وذلك ليطمئن القلب في أول استفتاح القرآن، ولذلك ترى القرآن بدأ بسورة الفاتحة، ففيها الجمال، والتهدئة، والسكينة؛ لكن ادخل قليلاً إلى سورة البقرة تنظر إلى النسف والإبادة، كقوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].
قال صاحب الظلال: " لا بد من هذا النسف والإبادة في أول سورة البقرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يعيش معالم لا بد أن يؤسسها في الأرض، وقبل هذه المعالم هذه العثرات من بني إسرائيل."
قال عيسى عليه السلام، كما في الإحياء أي: "رحمان الدنيا ورحيم الآخرة."
وقالوا: الرحمن: للكفار وللمؤمنين، فرحمته واسعة رحم الكافر: أسقاه، ومهَّله، ولم يأخذه ورحم الناس: فلم يُقِمْ عليهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى طلباً حتى أقام عليهم الحجة، وأعذرهم بالرسل، كما قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:15] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
ولذلك يقول أهل العلم: "لم يخلق الله خلقاً إلا لحكمة ورحمة، فلا يُعْتَرَض على خلقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى."
أيا رب تخلق أغصان رندٍ وألحاظ حورٍ وكثبان رملْ |
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عَدْلْ؟ |
أستغفر الله! هذا الكلب المعفَّر وقف على نهر دجلة وعنده قرص شعير يريد أن يأكله، فمر خادم من خدم الخليفة، وعنده خيل وجمال وبقر، فالتفت إلى السماء وكأنه يخاطب الله، وقال: أنا الفيلسوف -فيلسوف الإسلام -تعطيني كسرة خبز من شعير، وتعطي هذا العبد الخيول!! ثم رمى بالكسرة في النهر.
هذا الكلب يقول: لماذا خلق الله الذباب؟
وهذا السؤال عرضه أبو جعفر المنصور على ابن السماك، واعظ الدنيا وأبو جعفر - كما قال الإمام أحمد - يذبِّح الملوك كتذبيح الغنم، فقد ذبح أعمامه، وذبح أبا مسلم الخرساني، فلا يقاومه أحد إلا ذبحه بيده.
فيذكرون أن أبا جعفر كان جالساً في اجتماع، جمع فيه العلماء والوعاظ والوزراء والأمراء، وكان أبو جعفر خطيب الدنيا، فلما جلس دخل ذباب في المجلس وأزعجه فخَنْخَنَ عليه في ديوان القصر، فضاقت به الدنيا؛ لكن أراد الله أن يهين أبا جعفر؛ فلما هبط على أنفه، قال: يـ ابن السماك! لماذا خلق الله الذباب؟! قال ابن السماك ليذل به أنوف الطغاة. وهذا من أحسن ما يقال، وما أملحه! ولا شُلَّ لسانُه ولا شُلَّتْ يمينُه.
دعها سماوية تجري على قـدر لا تفسدنها برأي منك منكوسِ |
فالمقصود: أن لله في أفعاله حكم بالغة، لا يعترض عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قال: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] أي: توقيعه الأخير، وحكمه النهائي، ولا أحد يُوَقِّع بعده، قال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقَاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] ويقول ابن كثير في تفسيره، وهذا من أحسن ما يقال! قال: (صِِدْقَاً): في الأخبار، و(عَدْلاً): في الأحكام.
أما (الرحيم) فرحمته بالمؤمنين خاصة وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43] وهذا بخلاف (الرَّحْمَنِ) التي تشمل الناس جميعاً.
يقول بعض المُوَسْوِسِين: يوم القيامة تزدحم الخلائق، إما أن نفر من هنا أو من هنا، أو نتأخر! ولم يعلم أن الله لا يغيب عنه أحد لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً مريم:94-95] أي: وحيداً يحاسبه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي حديث أسماء بنت يزيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى: يأيها الناس! إني وضعتُ نَسَباً ووضعتم أنساباً، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، قلتُ لكم: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فقلتم: أكرمنا فلان بن فلان} انتهى الحكم لله الواحد القهار، فهو الذي يحكم سبحانه، فالصراط صراطه، والميزان ميزانه، والجنة جنته، والنار ناره، ولا معقب لحكمه، قال جل شأنه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].. تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
يا صاحب المبدأ الأعلى وهل حَمَلَتْ روح الرسالات إلا روح مختارِ |
أعلى المبادئ ما صاغت لصاحبها من الهدى والعلا تمثال تذكارِ |
وهذا كما فعله عليه الصلاة والسلام، أبى الشموع واللموع والسطوع في الدنيا، وأبى أن يقدس ويرفع فوق منزلته التي أنزله الله إياها.
أتاه وفد عامر بن صعصعة - كما صح ذلك - فقالوا: أنت أفضلنا وسيدنا وأفضلنا فضلاً وخيرنا، قال: {يا أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله} صلى الله عليه وسلم، كلما زاد تواضعاً تعلقت به القلوب أكثر، فجعله الله أشرف الناس.
ملك الملوك: أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة -كما في الصحيح- قال سفيان بن عيينة: كمثل شاهٍ شاه، وقاضي القضاة، وسلطان السلاطين، ورب الأرباب... لا مالك إلا الله، وأقضى القضاة وقاضي القضاة الله، والحاكم على كل حاكم الله، فأوسمة الأرض تنهار، لأنها خلقت من الطين، أما المواهب والأعطيات من الله فسوف تبقى لأهلها.
دمع الليل، وسهام السَّحَر، ودعاء المظلوم، وزفرات المحسور، كلها تُنْصَف يوم العرض الأكبر.
كتب أبو العتاهية للمهدي وهو في السجن، عندما سجنه المهدي، قال:
أما والله إن الظلم شينٌ وما زال المشين هو الظلومُ |
إلى ديان يوم الحشر نمضي وعند الله تجتمع الخصومُ |
فالمتصف بـ(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هو الله، فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي ينصف أولياءه وأحبابه.
والصحيح: أن الذي اكتسبها هو المغيرة بن شعبة، وهذا مذكور في السير، وفي دلائل النبوة.
يقول كانت: إن هذا الكون مسرحية، ودوره الأول: هو الدنيا، والدور الثاني: لم يأتِ؛ لأنه لا بد من دور ثانٍ.
فإنا نرى في المسلسل الأول للمسرحية أن هناك ظالم ومظلوم، ثم يموت الناس، فلماذا لا يُنْصف المظلوم؟
قال: لا بد من دور ثانٍ يُنْصف فيه المظلوم.
يقول المغيرة بن شعبة: لما رأيت الناس يموتون وينتهون، علمتُ أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يبعثهم في يوم آخر لينصفهم، فكان ذلك مما دعاني إلى الدين، وإلى الدخول في الإسلام، لأن هذا (مالك يوم الدين).
فيا أيها المظلوم! ويا أيها المتحسر! ويا أيها الباكي! ويا أيها المندوب! ويا أيها المجروح! انتظر (مالك يوم الدين) قال عمر: [[والله لولا أن هناك يوماً آخر لكان غير ما ترون]] والمعنى: لكان بطش القوي بالضعيف، وأكل الظالم المظلوم، واستُبِيْحَت أعراض ودماء الناس؛ ولكن موعدنا ذاك اليوم يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
آخر مقالة قالها سعيد بن جبير للحجاج لما سل السيف عليه، بعد المناظرة الحارة الساخنة بينهما: [[يا حجاج، لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى تلقاني بها غداً]] متى غداً؟ يوم العرض الأكبر.
فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] هي سر دعوته عليه الصلاة والسلام، وملخص رسالته.
من هو الملك الذي كانت رايتُه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؟
هذا هو محمود بن سبكتكين، المسلم الساجد لله، فاتح بلاد السند، وما وراء سيحون وجيحون والهند كانت رايته التي يرفعها، والعَلَم الذي يمشي به في الجيش، كانت رايته مكتوب عليها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ولما قال له ملك الهند: يا محمود بن سبكتكين! خذ الأصنام من ذهب فاستشار مولاه وخادمه إياز، قال: ما رأيك نأخذ الأصنام؟! فقال: كسرها، وأحرقها، أتريد أن تدعى يوم القيامة: يا مشتري الأصنام؟ كسرها ليدعوك الله: يا مكسر الأصنام، فقام عليها محمود بالفأس هو وجيشه، فحياه محمد إقبال بالقصيدة المشهورة، فمن أبياته قال:
كنا نرى الأصنام من ذهـب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا |
لو كان غير المسلمين لحازهـا كنزاً وصاغ الحلي والدينارا |
محمود مثل إياس كل منهما لك بالعبادة تائب مستغفرا |
يقول: المولى والسيد عندنا سيان بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] كلاهما قاتلوا من أجلك، ورفعوا دعوتك، ودينك، واستماتوا لترتفع رايتك.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيها مسائل:
ومن مسائل هذه الآية: أنها تمنع الكبرياء والرياء، قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: العبادة تمنع الكبرياء، والاستعانة تمنع الرياء.
وهذا صحيح، فإن من سجد لله في الصلوات، ووضع جبينه على الأرض، يمنعه الله من الكبر في العموم الغالب، ومن استعان بالله منعه الله سبحانه وتعالى من الرياء.
الفرقة الأولى: مَن عبدوا الله عز وجل، واستعانوا به، وهم: المحمديون الربانيون الموحدون، أجدادكم أنتم، وأهل الطلائع.. أهل الصحوة، والمسيرة المباركة، الذين عبدوا الله واستعانوا به، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
الفرقة الثانية: مَن عبدوا الله عز وجل واستعانوا بغيره، وهولاء: مثل عصاة الأمة، وظلمة الموحدين، وهؤلاء خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة:102] وهذا من ذنوبهم وخطاياهم.
الفرقة الثالثة: مَن عبدوا غير الله واستعانوا بالله، وهؤلاء: مثل المشركين، الذين يعبدون غير الله، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [العنكبوت:65] يستعينون -فقط- بالله، ويعبدون غيره.
الفرقة الرابعة: مَن لا يعبدون الله، ولا يستعينون به، وهم: الملاحدة والزنادقة عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة:161].
فانظر لنفسك أين تضعها من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ولابد أن تضع نفسك عند أحد هذه المراتب.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله كما في المدارج: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية."
وقال أهل العلم: " أقرب الطرق إلى الله العبادة."
وكتب عمر لـسعد بن أبي وقاص: [[يا
القرب القرب.. العبادة العبادة، لا قرب آخر.. لا المال، ولا الولد، ولا المنصب، لا قرب من الواحد الأحد إلا بالعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5].
أما شرف العبودية: فاسمع إلى الله وحين ذكر عبده في أشرف المنازل.
فيقول في الإنزال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].
ويقول في الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن:19].
ويقول في الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1].
مرت عجوز كبيرة في السن، وتعريف العجوز: هي من احدودب ظهرها، ويبس بطنها، وجفَّ شعرها، واحضَوْضَلَت عيناها.
تريد عجوزٌ أن تعود فتيةً وقد يبس الجنبان واحدودب الظهرُ |
تسير إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟ |
مرت بالرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: إنه يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد. فقال: {وهل هناك عبد أعبد مني} عليه الصلاة والسلام، نعمْ. أنت العبد صراحةً، وأنت الذي أخرج العبيد من ظلم العبيد، إلى عبادة رب العبيد، كنا عبيداً قبل أن نبعث، وكانت الأمة في عداد الحيوانات، ولا أقول بتلك الأمة التي أكرمها الله؛ لأنها قبل الرسالة يوم كانت مشركة كانت في عداد البهائم، حتى جاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، فرفع رءوسها، فأصبحت عابدة لله، فأعتقها، فلم تتعبد إلا له، إلا من شاء أن يكون عبداً لآخر.
ولذلك كان عمر بن الخطاب يرفض عبودية العبد للعبد، فعبودية العبد للعبد حرام بالإجماع.
ففي مصر: كان محمد بن عمرو بن العاص ابن أمير مصر يتسابق ذات يوم مع قبطي مصري، فسبق القبطي فرس الأمير، ويجوز عند أهل العلم أن يسبق فرس بعض الناس فرس الأمير، فسبق هذا الفرس، فنـزل محمد ابن الأمير فلطم القبطي كفاً، فقال له القبطي: [[والله لأرفعنك إلى أمير المؤمنين، قال: اذهب، فذهب إلى عمر، وقال: ضربني كفاً وأريد أن تنصفني، قال عمر: مَن ضربك؟ قال: محمد بن عمرو، فأخبره القصة، فاستدعى عمرو بن العاص وابنه محمد، فلما قدما كان الصحابة جلوساً، قال عمر: والله لا يحول بيني وبينهما اليوم أحد، ثم أخذ الدرة، فأخذ محمداً فبطحه، ثم جاء على عمرو بن العاص فوضعه عليه، ثم ضربهما بالدرة، وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] من أين هذا؟ لماذا تُبْطَل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لماذا تلغى (لا إله إلا الله)؟! لماذا تلغى قداسة الإنسان، وقيمته، ومعنويته، وكلمته، ودمه، ودموعه؟!
هذه مصداقية إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] في حياة عمر.
كهنوت التصوف ينهار أمام إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
الدروشة، واتخاذ المشايخ آلهة، ورسل من دون محمد صلى الله عليه وسلم، هذه من مذهب غلاة التصوف، وهي أن يُنَصَّب شيخ، فيفرِض ويسُن ويُحَلِّل ويحرم من كيفه، وهذا هو الجهل الذي وقع بالأمة، وسوف يأتي ذلك في تفسير(الضَّالِّينَ) وتأتي النخبة المثقفة العلمانية في (الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ).
لكن إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تلغي على هؤلاء أغراضهم، ولذلك لا يحب الصوفية قراءة القرآن، ولا يحرصون على علم الحديث، لكن عندهم رقص، وليلة سهر، وتصفيق، وليلة مولد، يقف منشدهم فيقول -واسمع النشيد الذي يعارض إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]- يقول:
يا رسول الله! يا من ذكرهُ في نهار الحشر رمزاً ومُقاما |
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما |
ويقول أحد الصوفية: نحن نأخذ علمنا من الرزاق، لا من عبد الرزاق؛ لأن أهل السنة يقولون: حدثنا عبد الرزاق.
قال ابن القيم: والله الذي لا إله إلا هو لولا عبد الرزاق وأمثال عبد الرزاق ما عرفتم الخلاق!
وقالوا: : [علمكم علم الورق، وعلمنا علم الخرق] علم الضلالة والمرقَّعات والخفافيش. ولا علم إلا علم محمد صلى الله عليه وسلم.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] تلغي عصمة الأئمة عند الضُّلاَّل -الأئمة الاثني عشر- فجعلوهم كاثني عشر رسولاً، بل جعلوهم في بعض المقالات أعظم من رسل الله عز وجل.
وليس هناك رسول خاتم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو خاتم الرسل، وهو المعصوم.
فـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ترد عليهم.
و إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] يقف أمامها الشهوانيون.. أهل الكأس، والمرأة الخليعة، والمجلة، والسهرة، والضياع، والأماني المتساقطة، والشبهات، واللهو، يقفون أمامها حيارى، ولذلك لا يريدون إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]؛ لأنها تلغي ما يمكن أن يقيموه من كيان، أويقيموه لأنفسهم من شهرة.
المسألة الأولى: الهداية العامة والخاصة.
المسألة الثانية: هداية الدلالة والتوفيق.
المسألة الثالثة: طُرُق الهداية.
المسألة الرابعة: كيف يطلب عليه الصلاة والسلام الهداية؟! وهو المهتدي، بل وهو الهادي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة: الهداية المجملة والمفصلة.
المسألة السادسة: حاجة الأمة والفرد إلى الهداية.
فالتبيع -ولد البقرة- إذا ولدته أمه رضع من ثديها، والطفل إذا ولدته أمه رضع من ثديها، والنحلة تذهب فتأخذ رحيق الزهر من على بُعد عشرات الأميال ومئات الكيلو مترات وتأتي إلى الخلية، وهدى النملة أن تأخذ الحب فتدخره في الصيف للشتاء، فمن هو الهادي؟ إنه الله، ويُسَمى هذا: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] وهذا موسى عليه السلام وذلك حين سأله فرعون، وقال له: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟
قال الحسن البصري: [[كان فرعون طياشاً]] لأن المجرم هو الذي بدأ بالسؤال، وإلاَّ فالواجب أن يترك الضيف ليتكلم؛ لأن من عادة الناس أن القادم يتكلم أولاً، أما أنك تلقي عليه الأسئلة، أو محاضرة، فهذا من السفاهة، والسخف قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]؟
موسى ألهمه الله وعنده ترجمان؛ لكن أعطاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فصاحةًَ معنوية، فلو قال: ربي العالِم، لقال فرعون: وأنا عالِم؛ لأن العلم قدر مشترك، ولو قال: الحكيم، لقال: وأنا حكيم، ولو قال: الحليم، لقال: أنا حليم؛ ولكن قال: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله دره من جواب! كيف لكمه على وجهه!! ولذلك سكت وانتقل إلى سؤال آخر: من الذي أعطى كل شي خلقه ثم هدى؟ هل يستطيع فرعون أن يقول: أنا أعطيت كل شيء خلقه ثم هديت، لا. فهما صفتان اثنتان تختصان بالواحد الأحد لا توجد في غيره، فـتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54] هذه في الله الواحد الأحد.
انظر لتلك الشجـرةْ ذات الغصون النضرة |
من الذي قومها حتى استقامت شجرة |
ذاك هو الله الـذي قدرتُه مقتدرة |
ذو قدرة باهرةٍ وحكمة منتشرة |
تقرأ اهْدِنَا [الفاتحة:6] في النحل حكمته، وفي النمل، والبستان، والحديقة والصحراء، والسماء والأرض.
وأما الهداية الخاصة: فهي للمؤمنين المهتدين إلى الخير خاصة.
وميزتنا أن لنا على الصراط هادٍ يهدينا، والصراط صراطان: صراط هنا في الدنيا، وصراط هناك في الآخرة.
فالصراط هنا: طوله من هنا إلى الجنة أو إلى النار، وفيه كلاليب، وكلاليبه: الشهوات، والشبهات.
والصراط هناك: كما في الأثر: {طوله شهر، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وأحمى من الجمرة، على متن جهنم، فيه كلاليب} وكلاليبه: مثل شوك السعدان، فمن تخطفته كلاليب الشهوات والشبهات في صراط الدنيا تخطفته الكلاليب في صراط الآخرة.
والناس على الصراط الأخروي مثلهم على الصراط الدنيوي، والله المستعان.
فإن مِن الناس مَن تختطفه الشهوات فتخطفه هناك، ومنهم من تخطفه الشبهات فتخطفه هناك، ومنهم من يسلم قليلاً فيصبح ساعياً، ومنهم من تخدشه فيُجْرَح ويَنْجُو، ومنهم من يُكَرْدَس في جهنم.
والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الناس هناك كوصفهم هنا، فقال: {منهم من يمر على الصراط كلمح البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم من يسعى، ومنهم من يمشي، ومنهم من يحبو، ومنهم المخدوش الناجي، ومنهم المكردس على وجهه في النار}.
فالناس على الصراط هناك مثل ما هم على الصراط هنا.
قيل في الرسول عليه الصلاة والسلام:
في كفك الشهم من حبل الهدى طرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرفُ |
ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله في وصف الصراط المستقيم: أنه يحمل خمس صفات:
الأولى: قربه.
الثانية: اتساعه.
الثالثة: استقامته.
الرابعة: إيصاله للمقصود.
الخامسة: وجود الإمام في أوله.
وقصدي: أن الذي يدل على هذا الصراط محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول أحد الشعراء، يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا |
أدلجنا: أي: مشينا في الليل.
فإما حياة نَظَّم الوحيُ سيرَها وإلا فموت لا يسر الأعاديا |
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا |
فالإمام -إمام الصراط- هو محمد صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
والله على صراط مستقيم، قال أهل العلم: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56] فهو سبحانه على صراط مستقيم، ورسوله على صراط مستقيم.
وفُسِّرَ (الصِرَاطٍ المُسْتَقِيمٍ): بالقرآن, وفُسِّرَ أيضاً: بالإسلام، وفُسِّرَ كذلك: بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو العالية: [[الصراط المستقيم: محمد وصاحباه]]. قال الحسن البصري: [[صَدَقَ ونَصَحَ]].
والصحيح أن الصراط المستقيم: هو الإسلام، والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النور كل النور.
وأما هداية التوفيق: فلا يملكها إلا الواحد الأحد.
يربى الشاب في بيت شيخ علم من علماء الدنيا، فينشأ الشاب مارداً فَتَّاكاً لصاً مجرماً مروِّج مخدرات.
وينشأ الشاب في بيت المجرم المروج للمخدرات فإذا هو ولي من أولياء الله، كأبناء الصحابة.
فمن الذي أهدى وأغوى؟ إنه الواحد الأحد إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56].
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مؤمن |
فموسى (السامري) رباه جبريل فكفر، وموسى رباه فرعون فأصبح رسولاً.
فالهادي هو الواحد الأحد.
يقولأبو المعالي الجويني: طرق الهداية: النظر والاستدلال. وقد ذكر هذا ابن حجر صاحب فتح الباري، فرد عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في الحاشية، فقال: لا. لا النظر ولا الاستدلال، بل قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول لله}.
نَظَرُ في ماذا؟ واستدلالٌ في ماذا؟ يقصد: أن تفكر، وأحياناً قد يستغني بعض المتكلمين والمناطقة بالتفكير بالعقل، أي: أن تفكر بعقلك، فما يُقَبِّحْه العقل قَبِّحْه، وما يُحَسِّنْه حَسِّنْه.
يقول الجويني في تفسير قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157] يقول: ما حرَّمه العقل وقبَّحه حرَّمه، وما حسَّنه العقل واستملحه حلَّله. وهذا خطأ، بل عليه الصلاة والسلام مُشرِّع من عند الله، لا ينطق عن الهوى.
والصحيح عند العلماء: أن هناك درجة في الجنة مرتفعة، هي مجلس واحد لرجل واحد، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك ندعو له بعد كل صلاة: {اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته} وزاد البيهقي زيادة حسنة: {إنك لا تخلف الميعاد}.
فهذه الدرجة العالية، هي درجة الهداية التي يريدها النبي صلى الله عليه وسلم وقد وصل إليها.
وقال بعض الفضلاء: بل طرق الهداية بعدد الأنفاس، فهو يطلب عليه الصلاة والسلام أن يهديه الله كل الطرق.
وقال بعضهم: يحتاج المسلم والمؤمن في كل نفسٍ من أنفاسه إلى هداية خاصة من الله، لهذا فهو يطلبها عليه الصلاة والسلام.
وأنتَ كل يوم تطلب الهداية، لأنك وأنتَ إما أن تتقدم أو تتأخر، ولا تستقر على حالة لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات.
والمعنى: أن المؤمن قد يبدو في إيمانه ناقصاً، فيزداد من الهدى، والنور، والعمل الصالح، ومجالسة الصالحين، وطلب الفقه في الدين، وحب الأخيار، والاستفادة من العلماء، فيزداد نوراً على نور، والإيمان يزيد وينقص بحسب مقتضياته وأسبابه.
وأنا أضرب لذلك مثلاً:
رجلان رأى أحدهما قصراً من خارجه، فرأى أبوابه، وطوله، وعرضه، ولونه، فتصوره تصوراً معيناً، فنقول عن هذا: إنه يعرف القصر معرفة مجملة، ورأى الآخر نفس القصر من داخله، ففتحه، ورأى أبوابه، ودخل مساريبه، وأسيابه، ورأى مجالسه وغرفه، ونوافذه، وطوله، وعرضه، فنقول عن هذا: إنه يعرف القصر معرفة مفصَّلة.
فالناس كمثل هذين الرجلين.
فأما الهداية المجملة: فمثل رجلٌ عرف أركان الإسلام، وأركان الإيمان إجمالاً ولكن لا يعرف دقائق الفقه، ولا فروع الشريعة، ولا الأدلة، ولا يعرف كيف يعبد الله عز وجل في كل مسألة.
وأما الهداية المفصَّلة: فمثل رجلٌ آخر تفقه في الدين، وفي الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين}.
فهذا مثل ذاك، ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].
كل قلب لا تشرق عليه شمس الرسالة فهو قلب ملعون، وكل عين لا ترى بدر محمد صلى الله عليه وسلم فهي عين مغضوب عليها، أو كما قيل.
الصفة الأولى: القُرْب.
الصفة الثانية: الاتساع.
الصفة الثالثة: الاستقامة.
الصفة الرابعة: إيصال المقصود.
الصفة الخامسة: وجود الإمام في أوله.
وصراحةً: هناك بعض الملاحظة على طنطاوي جوهري في تفسير الجواهر، حيث حوَّله إلى كتاب هندسة، وما بقي عليه إلا المثلث، والفرجار، والمسطرة، ويقول: إنه أنشأ أصول الهندسة من القرآن، والقرآن -كما يقول بعض الفضلاء- ما نزل للهندسة ولا للطب، إنما نزل لهداية الناس، ولا شك أن فيه لُمَعاً من هذه العلوم؛ لكن أن يخصص للهندسة فلا.
فمثلاً: يقول في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] يقول: فيه دليل على أن زوايا المثلث منفرجة أو حادة. ما شاء الله!
ويقول في اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]: أن فيه دليل على أن أقرب موصِّل بين نقطتين الخط المستقيم. وهل هو الخط المُعْوَج؟!
والمقصود: أن ابن القيم في مدارج السالكين عندما قال: أقرب خط بين نقطتين الخط المستقيم وهو صحيح؛ لكن ابن القيم لا يريد أن يفسر الصراط المستقيم بأنه نزل ليبين لنا في علم الهندسة هذا الأصل؛ لكن يبين لنا أن أقرب الخطوط الموصلة هو المستقيم.
فالله ذكر خطَّه بأنه مستقيم، وذكر خطوط أعدائه بأنها مُعْوَجَّة، أي: لا توصَّل إلا بعد عناء، وإلى أين توصله؟! توصل العبد المنحرف -والعياذ بالله- إلى نار جهنم، أما هذا الخط المستقيم فيوصل مباشرة ودون عناء إلى الجنة. من الصراط هنا إلى الصراط هناك ثم إلى الجنة.
فهو طريق واسع، ووُسْعُه: أن الناس لا يزدحمون فيه، ولا يتحاسدون، فأهل الآخرة لا يحسد بعضهم بعضاً؛ لأنهم في طريق واحد يتعاونون على طاعة الله، مثل: الإمام أحمد، والإمام الشافعي، فمن مقتضيات عقول البشر أن الإمام الشافعي مهنته مهنة أحمد، وهو صاحبه.
ويقال في المثل العامي: (عدوك صاحب مهنتك) فتجد النجار -الآن- عدو للنجار -إلا ما رحم ربك- يريد أن يقدح في صنعته، إذا دخل النجار إلى البيت فسنتقد الأبواب، ويقول: لو ركبها هكذا، ولو أصلحها هكذا، والخياط ينقد الخياط، والشاعر على الشاعر... وهكذا.
لكن الإمام أحمد والشافعي هما من أهل الآخرة، يقول الإمام أحمد لـابن الشافعي: "أبوك من السبعة الذين أدعو الله لهم وقت السَّحَر" فالطريق واسع.
أما أهل الدنيا فيزدحمون؛ لأن طرق الدنيا ضيقة، إذا ذهبت إلى وظيفة سبقك إليها مائة، وإذا ذهبت إلى سيارة سبقك إليها مائة، وزاحمك على شراء الأرض ألف، أما طريق الآخرة فواسعة.
فمن هوالدليل؟ من هو الماهر الذي يجيد الخط؟ من هو الذي يعرف أسرار وعلامات هذا الطريق.. نزله منزلة.. منزلة، هبطه وادياً وادياً، وعرفه جبلاً جبلاً، وساحة ساحة، وأدركه وفهمه؟! إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
ولذلك رشحه الله للإمامة، فيقول في الصلاة: {صلوا كما رأيتموني أصلي} كما في صحيح البخاري، ويقول في المناسك: {خذوا عني مناسككم} ويقول: {من رغب عن سنتي فليس مني} ويقول كما في كتاب الحجة ورواه النووي بسند صحيح، يقول: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به}.
إذاً: هذه هي الإمامة.
والله لا يرضى منك يوم القيامة عملاً حتى تتبعه الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف:157] النبي الأمي فقط، فلا ثَمَّ إمام ولا شيخ إلا هو، ولا أستاذ إلا هو، وإن أتيت من غير طريقه لا يُفْتَح لك الباب يوم القيامة؛ لأن أول مَن يَقْرَع باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيُفْتَح له، ثم يذهب ومعه أتباعه. وأما الذين تخلفوا عن ركبه، وهم: النخبة المثقفة!!
أشياخه صفر الجباه بـدنفر هنري كسنجر خير مروياته |
أما هؤلاء النخبة المثقفة وغيرهم فما اهتدوا صراحةً بهداه عليه الصلاة والسلام؛ لأن لهم أشياخاً من نوع آخر، فلذلك يراهم صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فيرى أن السنة ليست عليهم، يقولون: يا رسول الله! نحن أتباعُك. فيقول: لا، لستم بأتباعي؛ لأن أتباعه لهم علامات، صاحب الخيل البلق يعرف خيله البلق، وصاحب الدُّهم يعرف الدُّهم، حتى البدوي الأعرابي إذا ضلت ناقته في الصحراء، يصفها بلونها، ووبرها، وطولها، وسمتها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أمته {إن أمتي يُدعون يوم القيامة غُرَّاً مُحَجَّلِين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّتَه فليفعل} فهو يعرفهم صلى الله عليه وسلم.
أما أولئك فيقول لهم: {سحقاً سحقاً} فنسأل الله أن يهدينا وضال المسلمين.
قال تعالى: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] وهذا هو حزب الله وهؤلاء هم أوليائه، وهذه هي صفاتهم، الذين يسلكون معك.
إذاً لست وحيداً في الطريق؛ بل معك حشد هائل يصحبك فيه، ويمشون معك، ويمضون، فلا تستوحش، وهم: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، هؤلاء معك في المسيرة.
ما هي النعمة الحقيقية؟
النعمة الحقيقية هي الهداية ليس إلا، وهي أعظم نعمة، ولو أن النعيم الأخروي من النعم؛ لكن أجلها وأعظمها أن يهديك الله صراطاً مستقيماً.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
هذا الصراط لا يسلكه المغضوب عليهم، ولا يسلكه الضالون.
المغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى، وقد بشرهم بذلك رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين.
غضب الله على اليهود لأنهم أهل علم وثقافة، لكن ما أجْزَتْ عنهم، لأن علمهم بغير عمل.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74].
فهؤلاء مغضوب عليهم؛ لأنهم تركوا العمل.
لأنهم تركوا العلم.
فأولئك -أي: اليهود- علموا ولم يعملوا.
وهؤلاء -أي: النصارى- عملوا ولم يعلموا.
قال سفيان بن عيينة: [[من فسد من علمائنا، ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه بالنصارى]].
وقد شابه كثير من هذه الأمة هاتين الطائفتين, فالأمة فيها الطوائف الثلاث:
طائفة: ((الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] أي: الذين أنعم الله عليهم، وهم: أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين نرجو الله أن نكون منهم ومن روادهم.
وطائفة: (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ) أي: الطائفة الأخرى المعرضة، ما يُسَمون بالمثقفين ثقافة التي لا توصل أحدهم إلى الإيمان، نعم. عندهم شهادات عالية؛ لكن لا توصلهم شهادتهم إلى أن يصلوا الفجر في جماعة، أو أن يبروا بالوالدين، أو يصلوا الرحم، أو يخافوا من الله، أو يحترموا أهل العلم، أو يتعاطفوا مع الدعاة، أو يغاروا على انتهاك محارم الله عز وجل، أو يذبوا عن مبدأ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] نعم! مثقف يحمل شهادة، لكنها شهادة للبطن، وللسيارة، وللوظيفة، يأكل بها عرضاً من الدنيا، ولكنها تنفعه في الآخرة، يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا |
وإن ألقاك فهمُك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا |
فهذا العلم غير نافع، فالذهن بالنسبة له سلة مهملات.. لا يحمل خشية، ولا استقامة، ولا غَيْرَةً لله ولرسوله، ولا يحمل المبادئ الخالدة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم.
هذا القطيع المثقف الذي غُزِيت به الأمة من الغرب، والذي سُلِخ من ظاهره وباطنه، وأصبح ملغماً من الداخل بأفكار منحرفة، هذا يشابه (الْمَغْضُوْبِ عَلَيْهِمْ).
نحن نعرف أن منهم من قد يصلي، ويقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لكن ينقض إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] بعد خروجه من المسجد.. يلغيها بقلمه، ويشَطِّب عليها بفكره، وبقصيدته، وبسهره، وباستهزائه وسخريته بحملتها.
وطائفة: (الضَّالِّينَ) أي: الجهلة، كغلاة الصوفية، ومن شابههم من جهلة الناس، الذين يعبدون الله على غير بصيرة.. يجتهدون في العبادة؛ ولكن على غير علم، وعلى غير سنة، أحدهم يهتم بأمور عبادته؛ ولكن لا يهتم بنجاحها، وصلاحها، وقبولها، فإنه لا يُقْبَل عملٌ إلا بإخلاص ومتابعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أو كمـا قال صلى الله عليه وسلم.
لا كهنوت في الإسلام ولا رهبنة، ولابد من إمام إن عمل بهذا عملنا، وإن ترك تركنا، نقف عند حدود شرعنا.
فهذه -الأمة أيها الإخوة- بين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] هناك عداء أصيل شرعي، لا يدخل فيه التعايش السلمي، ولا الوفاق الدولي، ولا الحب الإنساني، ولا مجلس الأمن، ولا هيئة الأمم المتحدة، عداء أصيل من القدم، لأن اليهود ماذا يقولون؟ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]..وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] فكيف يلتقي المسلم مع النجمة؟! وكيف يلتقي مع اليهود؟! وكيف يلتقي مع النصارى؟! لا التقاء أبداً.
الصليب والنجمة أعداء لنا.. لا وفاق دولي، ولا تعايش سلمي معها قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فلسنا بالذين يتمسحون على عتبات شامير، أو يتقربون من الصليب، وإنما نحن لنا تميز، وكيان، لنا شِرْعة، وواجهة، وإمام، وإمامنا على الصراط يدعونا ألا ننحرف هنا، حتى لا ننحرف هناك.
هذه من أسرار غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] تطلب من الأمة مطلباً عظيماً، وهو: أن يتعلموا العلم النافع، والعمل الصالح.
قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين، من حديث أبي موسى: {مثل ما بعثني الله فيه من الهدى والعلم كمثل الغيث} الهدى: العمل الصالح، العلم: العلم النافع.
فلا بد أن تجمع بين العلم والعمل، وعسى الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، لا صراط المغضوب عليهم، ولا صراط الضالين.
وهذا هو معلم الولاء والبراء، أن نكون أولياء لله.. نغضب لله، ونرضى لله، ونجاهد من أجل الله عز وجل، ونقف على الصراط المستقيم.
فالهداية في مَن هَدَى: أن تطلب بلهف أن يهديك الله، وإن لم يهدِك الله فلن تهتدي مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً [الكهف:17] ولن تجد له هادياً.
فالاستغاثة بالله، والاستعانة به، وصدق اللجوء إليه، والإلحاح في المسألة، هذه من أسرار (اهْدِنَا) والهداية لا تكون إلا من عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أيها الإخوة الفضلاء! هذه وقفات مع السبع المثاني، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يجعلها في ميزان الحسنات، وأسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن كانت له الفاتحة حجة ومحجة وكافية وشافية وواقية.
وأسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا وإياكم الصراط المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم ممن عبدوه واستعانوا به.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلًَّم تسليماً كثيراً.
الجواب: مسألة: هل البسملة آية من الفاتحة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم، ذكرها ابن كثير والقرطبي وغيرهما، والصحيح: أنها ليست بآية من آيات الفاتحة، فهي سبع بدون البسملة.
أما الجهر بها فوقع نادراً من الرسول عليه الصلاة والسلام، واختار ابن القيم في زاد المعاد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر بها غالباً وجهر بها نادراً، ولو أن بعض العلماء يرون أن الجهر بها بدعة، ولكن هذا القول فيه حيف، بل الجهر يقع نادراً، وأما الإسرار فهو الغالب، والمشهور من فعله عليه الصلاة والسلام.
الجواب: مثل هذه الصور التي تقع في الناس تُعالَج من أهل العلم ومن طلبة العلم بالتي هي أحسن، وليس هناك مبرر لأعداء الله عز وجل من العلمانيين وأمثالهم أن يتعدو على شباب الصحوة والاستقامة بمثل هذه التعليقات السخيفة، ويتعرضوا لهم، ودائماً أكرر قول الأول:
ولـو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان |
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني |
هؤلاء الشباب ليسو مروجي مخدرات، ولا مسئولين عن بيوت الدعارة، ولاتزلجوا على الثلج، ولا باعوا قيمهم في سوق النخاسة، ولا باعوا مبادئهم، إنما هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، يريدون الحرص على اتباع سنته، هؤلاء الشباب قدموا رءوسهم تحت الدبابات في أفغانستان.
جيوش أعزتها بلاد محمد فما عذرها ألا تعز محمدا |
ولكن قد يقع التقصير من سوء فهم، أو عدم معرفة تطبيق السنة، فيُفَهَّم هؤلاء بالتي هي أحسن.
صحيحٌ أنني قد سئلتُ في محاضرة سابقة عن الثياب التي إلى الركبة، فقلت: هذه فنائل، وأنا أتكلم عن الثياب، أما الفنائل العلاقية فأنا لم أتحدث عنها.
ولكن على كل حال وما أعرفه أنه إلى الركبة ففيه إجحاف، وبهذه تبدو العورة وقد ثبت عند أحمد في المسند أنه: تحت الركبة بأربع أصابع؛ لكن أرى أن هذا في الإزار، والإزار غير الثوب، الإزار عند السلف مثل الشرشف، أو مثل لفافة من قماش يُلف به الإنسان، ولو لم ترفعه ما استطعت أن تمشي خطوة، أما الثياب فإنك إذا رفعت أكثر؛ شاهَ منظرُك، وأنا أقول: إنه ليس الضابط أن يشُوْهَ منظرُك أو لا، إنما الضابط هو السنة، فالإزار يمكن أن يتحمل إلى تحت الركبة، كالإحرام في الحج إلى تحت الركبة بأربعة أصابع، أما أن تجعل الثوب إلى تحت الركبة بأربعة أصابع فإنه منظر مؤذٍ وقد يعرض الشباب وطلبة العلم للإيذاء والسخرية والاستهزاء من المنافقين، والله حدد من نصف الساق إلى فوق الكعب، وما فوق الكعب كذلك ما زال في السنة، ومجاله واسع، هذا ما لزم في هذه المسألة، والله يعيننا وإياكم، ويهدينا وإياكم سواء السبيل.
الجواب: لا ينسب الشر إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، بل قال عليه الصلاة والسلام: {والخير بيديك، والشر ليس إليك}.
وأهل السنة لا ينسبون الشر إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلاَّ فالحقيقة: أن الذي قدَّر الخير والشر هو الله؛ لكن تأدباً معه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لايقال: الشر إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أو لماذا قدر الله الشر؟ أو كذا.
وقال بعضهم: بل إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقدر إلا خيراً؛ لكنه بالنسبة لبعض الناس شر، وإلاَّ فهو من حيث التقدير والقضاء خير، فالله يقدر الخير والمصلحة المحضة سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
والجن تأدبت مع الله حيث قالت: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10].
وقال إبراهيم عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
الجواب: أثابك الله وحفظك ورفع منـزلتك، ونسأل الله أن يعيننا وإياك على طاعته، وسوف يكون هناك زيارات، وأشير لك أن تعمم هذه الدعوة لطلبة العلم والدعاة، وكما قيل: ففي كل واد بنو سعد.
وكلما كثر عرض الخير بأساليب متعددة كان أمكن وأمتن له، فكل داعية له طريقة خاصة في العرض، وطريقة خاصة في التكلم والتحدث، ويفتح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على يد البعض ما لم يفتح على يد الآخر، فإذا اجتمعت الجهود فهذا طيب. وهذا سوف يتم -بإذن الله- وهذه بشرى سارة بشرتنا بها، وأسأل الله أن يجعلنا وإياك من مفاتيح الخير، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: إجابةً على هذا السؤال لا بد أن أبين قضايا:
أولها: جهل العلمانيون بطبيعة وأسرار هذه الجزيرة؛ لأن هذه الجزيرة لا تصلح إلا للإسلام، ولا تنبت فيها إلا شجرة الإسلام، ولا يمكن أن تنبت فيها شجرة أخرى.
صحيحٌ أنه قد يكون في بعض بلاد الإسلام شيء مزدوج مع الإسلام أو تحالف أو تعايش، أما هذا البلد فلا، ولا نقول هذا تعصباً، لكن لتاريخه ولسر أراده الله فيها، ولقداسة بقاعها، لا يصلح فيه إلا الإسلام، فهؤلاء أخطئوا التقدير يوم أرادوا أن يكون مع الإسلام شيء، أو أن يطرأ على الإسلام شيءٌ آخر.
ثانيها: أن هؤلاء العلمانيون يملكون من الوسائل أكثر مما يملكه الدعاة.
أرى ألف بانٍ لم يقوموا لهادمٍ فكيف ببانٍ خلفه ألف هادمِ |
نعم! يجتمع أهل الخير والنصح من أمثالكم في المحاضرات، ومهما اجتمعوا وكثر عددهم إلى عشرة آلاف أو إلى خمسة عشرة ألفاً فإن في منتدى الكرة يجتمع ستون ألفاً، وفي الأسواق وفي أماكن اللهو والضياع عشرون وثلاثون وخمسون ألفاً، ولكن فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17].
والحقيقة: أنهم يملكون وسائل التأثير ولهم دخول إلى العقول، وينفذون، بينما وسائل طلبة العلم والعلماء قليلة تخاطب مستوىً من الناس، ولكن فمهما يكن فحبل الباطل قصير، قال تعالى: فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
ثالثها: طبيعة هذا الدين أنه مصارَع.. دين عالمي، بدأ بالصراع من أول لحظة، فهو لا ينتهي من الصراع، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31].
فأنت جند نفسك أن تكون داعية، وأن يكون لك ضد، واعلم أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى معك، ولن يَكِلَكَ، وأن للحق صولة، وللباطل جولة، (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الأعراف:128].
الجواب: أولاً: بيت المقدس ملك كل مسلم، لا يملكه ياسر عرفات، ولا غيره، وهذا عقد من الله عز وجل أن بلاد المسلمين المقدسة للمصلين، يملكونها بعقد سماوي منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، والأرض لله يورثها من يشاء.
أما الخونة والعملاء فهم يستطيعون بيع الأرض، أما استرداد الأرض فلا يجيدونه، والذي يسترد الأرض هم المصلون، أهل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ثانياً: تحت أي مظلة تُباع فلسطين؟! أين الدموع ودماء الألوف المؤلفة التي ذُبِحَت؟ وأين المقدسات التي أُهينَت؟! وأين العداوات التي استمرت في التاريخ؟!
ثالثاً: لا تعايش مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل معنا في القرآن، نصلي في كل صلاة ونقرأ القرآن فإذا القرآن يلعنهم ويهاجمهم؛ لأنهم أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو تركت الكلاب نباحَها، والخيول صهيلها، والحمام هديرها، ما ترك اليهود عداءهم لـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ما هو موقفنا أمام الله إذا أتينا نصلي، ونسمع ميثاق الأمم المتحدة في تصالح العرب مع إسرائيل وبيعهم فلسطين، ثم نقول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]؟
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ |
نساء فلسطين تكحَّلن بالأسى وفي بيت لحم قاصراتٌ وقُصَّرُ |
وليمون يافا يابس في حقولهِ وهل شجرٌ في قبضة الظلم يثمرُ>
تعال إلينا فالمروءات أقفرت وموطن آبائي زجاج مكسرُ |
يطاردنا كالموت ألف خليفةٍ ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصرُ |
أيا صلاح الدين هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ |
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا |
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ |
تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر |
ويبكيك صفصاف الشام ووردها ويبكيك نخل الغوطتين وتدمر |
فوالله لن تستعاد فلسطين إلا بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لن تستعاد إلا بالمصلين، والأكفان، والتكبيرات، والجهاد المسلح، أما أن يصبح شامير أخي فهذا حرام بالإجماع، يعارض الكتاب والسنة.
الله الذي على العرش استوى جعلهم أعداء لنا، أرادوا اغتيال رسولنا.. نددوا بنا.. حاربونا.. انتهكوا أعراضنا.. قتلوا شيوخنا.. قتلوا نساءنا.. أطفئوا نورنا.. داسوا مسجدنا الذي صلى فيه رسولنا عليه الصلاة والسلام، لا صلح معهم متى نصطلح؟! نصطلح إذا دخلوا في دين الله قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64].
في جنيف ياسر عرفات الضائع وقف يقرأ الآية، فقال: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] ثم (وقف حمار الشيخ في العقبة) أكمِلِ الآية؟ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
إن المسلم يوم يراهن بدينه، وبمعتقده، وبأرضه، مفضوحاً أمام العالم لا كرامة له، يصبح ضائعاً، أرض بسِلْم، وسِلْم بأرض، رباً لا يجوز، وانتهاك لمواثيق إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ولا يقرها عالِِم، ولا مسلم، ولا داعية، ولا تدخل الدماغ، ولو كُتِبَت فهي على أوراق، وسوف يأتي المصلون أهل الأكفان يدوسون هذه الأوراق، ويدخلون -بإذن الله -بيت المقدس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
فليتشرف الإنسان ألا يتقارب مع هؤلاء؛ لأن الفتح قريب قادم -بإذن الله- والفجر آتٍ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81].
الجواب: نعم. يا أيها الإخوة! منطقة تهامة -الساحل- أكثركم يعرفها أو يسمع بها، إنها إقليم واسع، تمتد من الليث، إلى جازان، إلى حدود بلاد تهامة قحطان، هذه المنطقة واسعة، وفيها آلاف القرى ومدن كثيرة، وبوادي شاسعة، وجبال، وسكان كالذر، وهؤلاء ينقصهم أمران:
الأول: أمر العلم: فهم يعيشون جهلاً مطبقاً، بل بعض المناطق لا يعرف بعضهم قراءة الفاتحة وهو في السبعين من عمره، نحن نعرف هذا، فقد وصلنا إليها قرية قرية، وبلداً بلداً، أحدهم لا يعرف قراءة الفاتحة، وأنا أعرف أن بعضكم أتى مصطافاً ونزل هناك، وأتى يكلمني ويكلم بعض الإخوة، ويقول: لماذا لا تدعونهم؟ وأنتَ ألستَ من بلادنا؟ ألستَ مكلفاً؟ ألستَ داعية؟ شاركنا الجهد، وهم ينتظرونك، والإنسان الداعية مهما فعل لا يغطي هذه المساحات الهائلة، أناس يعيشون جهلاً مطبِقاً، بل بعضهم يقع في الشركيات، وبعضهم لا يعرف التوحيد، ولا يتصور الرسالة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف كثيراً من المحرمات.
الثاني: أمر الفقر فهم يعيشون فقراً مدقعاً.
وأنا أدعو التجار والباذلين والمعطين الذين ينفقون أموالهم، أن يسارعوا لهؤلاء؛ لأنهم أقرب، وأنا أعرف أن كثيراً من التجار ذهبت أمواله وأحسن جزاه الله خيراً في الفلبين وسيرلانكا، وهذا مأجور؛ ولكن الأقربون أولى بالمعروف.
وكذلك جانب آخر: وهو الشريط الإسلامي، نفع الله به هناك نفعاً عظيماً، وكان له أثر بالغ في هداية الناس، فهم بحاجة إليه، فأهل التسجيلات والباذلين والدعاة عليهم أن يجتهدوا في إرسال أشرطة: العقيدة، والإيمان، والرقائق، والآداب، والعبادات، والسلوك، وما يخص المرأة، فإنها تُسْمَع ويتحول الناس بها بين عشية وضحاها.
هذا ما لزم في هذه المسألة، وأنا قد بلغتكم، اللهم فاشهد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر