السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الشعر أنت أنت الحداءُ غنِّ شعراً تصغي إليه السماءُ |
رتل الحق ساطعاً يفضح البهـ ـتان فالحق عزة شماءُ |
لا تراء يا شعر واسكب شجوناً فقبيح لدى الكرام الرياءُ |
مرحباً يا دمَّام جئت وبعضٌ من البكاء غناءُ |
مرحباً مرحباً أتعرف وجهاً نحتته الأنواء واللأواء |
فجراح الحسين بعض جراحي وبقلبي من الأسى كربلاءُ |
أيها الاخوة الكرام!
أقول كما قال الشيخ عمر الدويش للمتزوج: بارك الله لك وبارك عليك، وجمع بينكما في خير، ليلة مباركة وعرس مبارك واجتماع حافل، ثلاثة أنوار:
نور هذا الزواج الإسلامي السني الخالد.
ونور ليلة حفتكم وحضرتم أنتم بها.
ونور الكلمات العطرة التي تنبعث فتشدو بإذن الله وتشدو بحول الله وقوته.
أمانة الكلمة.
ما هي الكلمة؟
وما هي الأمانة؟
ومن يحملها؟
ومن هم روادها؟
أمانة الكلمة: يحملها يوسف عليه السلام الصديق ابن الصديق، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، في الحبس وداخل الزنزانة يسأل عن فتيا ورؤيا، فلا يجيب عن الرؤيا ولا عن الفتيا حتى يقول: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39].
فإذاً الله معه، وإذا هو ملء جوانحه وملء إدراكه وجفونه ومعتقده، فقبل أن يجيب وأن يفتي فإنه يوضح لمن يسأل عن الرؤيا العقيدة الإسلامية الخالدة، التي ترافق المحبوسين في حبسهم، والمسجونين في سجنهم، وأهل المعاناة مع معاناتهم، والتجار في تجارتهم، والفلاحين في فلاحتهم، والأساتذة في مدارسهم، والعلماء في مجامعهم، وكل أحد ترافقه كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا يوسف وهو محبوس ينبعث منطلقاً مشتعلاً بلا إله إلا الله، وإذا هو ينادي إلى معتقد التوحيد الأول الذي نادى به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
ومؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، ولكنه ينبعث في فجوة من فجوات الغيظ والمعاناة فيقول: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر:28] وهي أمانة لا بد أن يحملها الإنسان يوم أن يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، يسأل عنها، فإذا هو أمام الله قد أدى أمانته، وقد سلم جهده، وقد برئت عهدته إذا هو قام بها.
ليست الحياة التي يتصورها السادرون المخمورون؛ حياة الأكل والشرب، والشهوة، والظهور، والشبهة، والسيارة، والوظيفة، والقصر، والحديقة، والمنصب، لا:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا |
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا |
أتى الطفيل بن عمرو الدوسي من زهران إلى محمد صلى الله عليه وسلم يسمعه يشعُّ بلا إله إلا الله، يسمعه يتفجر بلا إله إلا الله، يسمعه يحيي القلوب بلا إله إلا الله، قال: يا رسول الله! ادع الله على دوس، كفرت دوس، عصت دوس يقصد قبيلته، فأتى الرحيم العطوف الحنون صلى الله عليه وسلم ذو الخلق العظيم فرفع يديه، قال الطفيل: هلكت دوس! وظن أنه سوف يسحقها بكلمة يبيدها عن بكرة أبيها، فقال: {اللهم اهد دوساً وأت بهم} فانطلق داعية مؤثراً، فأسلموا عن بكرة أبيهم.
ماذا تجدي الدنيا عن رجل غضب الله عليه، ونقض ميثاق الله؟! لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يوجه ولا يؤثر ولا يوزع ولا يخطب ولا يغار ولا يغضب، إنما هو جثمان يأكل ويشرب ثم يموت، والله ذكر أعداءه أنهم ينفقون الأوقات والأموال والجهد قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] وهم يألمون ويخططون ويعملون ويشتغلون، لكن يقول المولى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:104] ويقول الشاعر:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا |
فنحن أهل عقيدة ورسالة، حملناها من القدم يوم أعلنها فينا عليه الصلاة والسلام، ووجه كل إنسان ليحمل أمانة الكلمة لا إله إلا الله.
يفور دمي وأنا أطالع تراجم أصحابه، وهم أمامه كالكواكب في المسجد، وهو شاخص على المنبر يتدفق بالكلمات عليه الصلاة والسلام، ثم يثير في قلوبهم لا إله إلا الله من جديد، كل يوم وهو يحرق في قلوبهم عناصر الوثنية.
يقول: (من يقتل
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أو ورائي تغلبُ |
فليست بلادي بيرقاً أو خريطةً ولكن بلادي حيث أسطيع أكتبُ |
فلتؤثر ولتنشر ولتأمر ولتنه، وإلا فتوقع الغضب المقيت، الحال المحتوم من الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160].
هدهد نقم عليهم عملهم الخاطئ الوثني وأتى يخبرهم بعقيدة التوحيد لا إله إلا الله، ثم قال: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النمل:25] وانظر إليه كيف التفت إلى الخبء! لأنه هدهد ورزقه دائماً يخبئه، وأعظم معجزة عند الهدهد تخبئة الرزق، فمن يكشف رزقه إلا الله!
فأشار أي: بلسان الوحدانية، وبفم الصمدانية إلى رب السماوات والأرض، ثم أخبر أن هذه العقيدة بائرة خاسرة لا تصلح، وأن الأحسن منها عقيدة التوحيد، أما أدى دوره؟! أما حمل أمانة الكلمة؟! أما قام بها؟!
والله إن منا من هم أبخس حظاً من الهدهد، وأقل حماساً وغيرة، يرون المنكرات والمخالفات والتعديات، ثم لا يغضبون ولا تتمعر وجوههم، ولا يشاركون ولا يؤثرون ولا يتحمسون، فأنى لهم النجاة؟!
كيف ينجون من غضب الله عز وجل والله يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143]؟!
أمانة الكلمة أمانة الميثاق: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
محمدٌ في فؤاد الغار يرتجف في كفه الدهر والتأريخ والصحفُ |
مزمَّل في رداء الوحي قد صعدت أنفاسه في ربوع الكون تأتلفُ |
من الصفا من سماء البيت جلله نور من الله لا صُوف ولا خزفُ |
والكفر يا ويحه غضبان من أسف لم يبقه القهر في الدنيا ولا الأسف |
ولا رعته سيوف كلها كذب في صولة الحق والإيمان تنتسفُ |
فماذا قال؟! نادى ربه وشكى إليه وبكى، فاستمع له الجن، ولكن هل كانوا سلبيين؟ هل سمعوا المحاضرة والدرس ثم خرجوا وهم في عزلة وانطواء، وفي نظرة سوداوية وتشاؤم؟! هل تركوا الميدان لأعداء الله من العلمانيين والمنافقين والكفرة والملحدين؟! لا. بل قالوا: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31].
وهي مسئولية الإنسان أن يحترم نفسه وأن يحترم مبادئه مستقبلاً، وأن يؤثر؛ وكم نحضر من المحاضرات! كم هي الألوف التي تحف بالمحاضر! وكم هي الألوف التي تحضر الجمعات! وكم هم طلائع الصحوة الذين يزينون شرفات المجامع العامة! أين تأثيرهم؟! أين أمرهم ونهيهم؟! أين توزيعهم للشريط الإسلامي وللكتيب الإسلامي؟! أين دروسهم؟! أين مشاركاتهم؟! أين نصائحهم؟! أين وعظهم؟! لو اشتغل منهم العشر لصلحت الدنيا، لو تأثر منهم العشر وقاموا وأخذوا بحديث: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} لأصلح الله بهم الجيل والأمة.
قال عمر شاكياً إلى الله: [[اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر ومن عجز الثقة]] جلد الفاجر: أن يكون الفاجر جلداً قوياً حازماً داهية في أمره، وأن يكون الثقة كسولاً فتوراً متخاذلاً، إنها قاصمة الظهر! حين تكون الأمة أعداداً هائلة لكنهم كما قال الشاعر:
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا |
من كل مفتون على قيثارة كلٌ وجدت بفنه بيطارا |
أو كاذب خدع الشعوب بدجله عاش السنين بعمره ثرثارا |
أو عالم لو مالقوه بدرهم رد النصوص وكذب الأخبارا |
كعبة للأفكار فتؤخذ أفكار الدنيا من أفكارها، وكعبة للشريعة فشريعة الناس من شريعتها السماوية، من الوحي الصافي الذي نزل من فوق سبع سماوات.
وقبلة في الريادة، وقبلة في الأدب وفي الفن، وفي الطموح وفي الإدراك، وفي التربية وفي التعليم، هذه أمة تستحق، أما أمة عاطلة ينزوي صالحوها بحجة ركعتي الضحى وصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ فلا يأمرون ولا يدرسون، ولا يتكلمون ولا يخطبون، وعندهم وسوسة الخوف من غير الله فيحجمون، لا والذي لا إله إلا هو حتى يذوق الإنسان الأمرين من غير أن يقول: آح.
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح |
بهمة تذهب ماء الحصى وعزمة ما شابها قول آحْ |
فليس في الطريق آه ولا آح، وإنما في الطريق صبر ومواصلة ومصامدة للباطل ومراغمة؛ حتى تكون العاقبة للمتقين، والخاتمة لأولياء الله، والنصرة لمن يهتدي بهدى محمد صلى الله عليه وسلم ومن يحمل الكتاب والسنة ومن يقوم على هذا المبدأ، ويقدم رأسه ودمه وكل ما يملك، ليرضى الواحد الأحد، فإذا رضي الله فهو المغنم.
وأنا أخبركم بكلمة وهي سر بيني وبينكم، والمجالس بالأمانات، والذي نفسي بيده لو دفع أهل الدنيا ذهبهم وفضتهم وقناطرهم المقنطرة وخيولهم المسومة والأنعام والحرث، ثم غضب الله عليهم فإنها لا تنفعهم شيئاً، وهي خزي في الدنيا والآخرة، فوالذي نفسي بيده لو عاش الإنسان فقيراً مسكيناً، شريداً طريداً، حبيساً مقيتاً مريضاً، ثم رضي الله عنه إنها سعادة الدنيا والآخرة، وهي الرضوان، ولذلك منى الله الصحابة ووعدهم بذلك، وكان وعده حقاً، وبشرهم وهم تحت الشجرة يبايعون: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18].
تخيل أني أنا وأنت تحت الشجرة نسمع قول هذا النداء الحبيب، والله عز وجل ينادينا أنه رضي عنا، ثم ننفض ثيابنا من الغبار، ثم نقوم وقد رضي الواحد الأحد عنا، أي فوز وأي مغنم هذا؟!
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا |
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العجاج فما حادوا وما انكشفوا |
فأي جهد بذلناه؟! ماذا قدمنا لديننا؟! أنا أعلم أن فينا استقامة ظاهرية، والباطن خير إن شاء الله، لكن أيظن ظان أن من أطلق لحيته وقصر ثوبه وحمل سواكه واكتفى بالنوافل التعبدية القاصرة اللازمة لنفسه أنه سوف ينجو من المسئولية يوم العرض الأكبر؟! مسئولية أداء الكلمة وأمانة الرسالة وحمل الميثاق؟! أيظن أنه يعفى؟! كلا. والصحابة قدموا جماجمهم وحملوا دين الله إلى قرطبة والحمراء والسند والهند وكابل وكل بلد من أصقاع الدنيا، يحملون الرماح والسيوف، وينامون الليالي الطوال لا يجد أحدهم كسرة الخبز، ثم يدفنون في الصحراء هنا وهناك.
قرأت قصة لـعمر وقد أتته بشائر الجيش المنتصر مع الأحنف بن قيس، فوصلوا إلى المدينة فاستقبلهم بشغف، لكنه ما يسر جيوشاً كان يعرفها، قتلوا هناك:
بـقندهار ومن تكتب منيته بـقندهار يرجم دونه الخبرُ |
خرجوا من المدينة إلى قندهار، بلا طائرة ولا سيارة ولا موكب ولا حشم، خرجوا على أقدامهم يحملون أرواحهم على أكفهم في سبيل الله، خرجوا فتركوا اللذائذ، خرجوا فتركوا الطعام، خرجوا فتركوا الشراب، خرجوا فتركوا البنات والأبناء، فلذات القلوب وشذا الأنفس، خرجوا وتركوها لله، ثم ذبحوا ودفنوا هناك، فقام عمر يعانق الجيش لكنه ما يسر البقية، فأخذ يبكي، القريب الراعي المشغول، قال: أين فلان؟ قالوا: قتل، فترحم عليه، وفلان: قتل، وفلان: قتل، قالوا: يا أمير المؤمنين! وقتل أناس لا نعرفهم، فبكى عمر وقال: [[لكن الله يعرفهم]]، إن لم تعرفوهم أنتم ولم يسجلوا في الدواوين ولم أر أسماءهم في الدفاتر فالله يعرفهم، الله يدري ويعلم من الذي يقتل في سبيله ويجاهد وينفق ويعطي.
ونحن والحمد لله في مؤسسة نافعة، أعضاؤها أهل الخير من الأطهار الأخيار الأبرار الذين يتوضئون لصلاة الفجر، وينحدرون في البرد القارس إلى المساجد، فيضعون جباههم، وأبشرهم أنها لا تخزى يوم العرض الأكبر..!
فوالذي نفسي بيده لا نجعل أبداً رجلاً متمرداً جلس ونام على فراشه، وسمع الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم أعرض وسكت وخنع على فراشه كرجل مسلم متوضئ متطهر، سمع حي على الصلاة، حي على الفلاح، فانتفض من فراشه.
وفي صحيح مسلم أن عائشة تقول: {كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب، قال
والله لا نجعل هذا كهذا الذي يأتي إلى المسجد، فيصلي ويمرغ جبينه للواحد الأحد، هذه المؤسسة أعضاؤها الخيرون وهي مؤسسة محمد صلى الله عليه وسلم أعضاؤها مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد ومعاذ، فمن لم يكن على طريقتهم فليقدم الآن تنازله، ولا يدخل في هذه المؤسسة، وليعلم أنه سوف يندم في يوم من الأيام: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
يسمعني تاجر لعله يظن أنه بدرهمه ووسع بيته وبستانه سوف ينجو، لا. وقد قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37].
إن الذي يقربكم زلفى عند الله: الإنفاق، بناء المساجد، الإصلاح، أن تدفع مالك سخياً للدعوة وللأمانة وللرسالة، وأن تكون متهيئاً في قبرك بمهاد أحسن من مهادك الذي مهدت في فلتك وفي قصرك، تذهب هناك لكنك تتركه هنا، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94] فلا أعطيات ولا سيارات ولا فلل ولا قصور.
وكلامي هذا لأستاذ يؤدي مادةً في فصل فيظن أن معنى ذلك: أن يتعاطى أعطية وأجراً في آخر الشهر، أو يقدم مادة سواء فهم الطلاب أم لم يفهموا، ونسي أنه داعية، وأنه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الله سوف يسأله عن كلامه وعن عباراته وعن جمله، وهل أثر في الجيل والنشء الذي طرحناه أمامه وبين يديه؟!
وكلامي هذا لجندي استأمنه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وسهرت عينه لمصالح المسلمين، عسى عينه ألا تمسها النار! فيسأل نفسه: هل قمت بالجندية الإسلامية، وكنت حاملاً للا إله إلا الله محمد رسول الله؟ هل صدقت مع الله؟ هل كنت ساهراً في مرضاة الله؟ هل سهرت كما سهر سعد وعمار وعباد بن بشر؟ هل آمنت بهذه الكلمة الصادقة الحقة لا إله إلا الله؟
وكلامي كذلك لداعية أنفق جهده وساعاته في الدعوة إلى الله عز وجل، ألا يتعالى على الله ولا يتعزز ولا يمن على الله؛ فالفضل لله والعطاء من الله، والكلام والتوفيق والعلم منه سبحانه وتعالى فما لنا شيء: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] ويمنون عليك أن أنفقوا، ويمنون عليك أن جاهدوا، ويمنون عليك أن وعظوا وخطبوا، قل لا تمنوا علي خطبكم ولا وعظكم، ولا دراهمكم ولا أموالكم، المنة لله الواحد الأحد، هو الذي أعطى ووهب ثم امتحن الناس: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48].
فالإتيان منه، والعطاء منه، والبذل منه، والخير منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيا أيها الإخوة! لا نبخل بعطاء الله الذي أعطانا فنكون نحن من الخاسرين.
إن بعض الناس من أهل الغنى أو الثراء أو الدعوة أو العلم يظن أنه إذا شحذه داعية وطلب منه أن يقدم شيئاً أنه أحسن لهذا الداعية أو أحسن للإسلام، أحسنت أنت لنفسك: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء:7]. فالإحسان للنفس ليس إلا.
والله يقول عن أعدائه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5] وهذا الزياغ نسبي يزيغ به المنافق والكافر والفاسق، فالفاسق يزيغ، لأنه بدأ الزيغ فأزاغ الله قلبه، زاغ من المسجد إلى الملعب، وزاغ من المصحف إلى المجلة الخليعة، وزاغ من التلاوة الحقة والشريط الإسلامي إلى الأغنية، فأزاغ قلبه، وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن أوليائه وأحبابه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] تعبوا فينا، سهروا فينا، أعطوا فينا، تكلموا فينا، أنفقوا فينا، أي: من أجل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولقد أحسن من قال:
ما أحسن الصبر الجميل بعاشقيك وأجملا |
إن تحم عيني أن تراك جعلت قلبي منزلا |
وحقك لو أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبهُ |
وأفنيت جسمي في علوم كثيرة وما منيتي إلا رضاه وقربهُ |
ثم يقول:
أمـا قلتمُ من كان فينا مجاهداً سيحمد مثواه ويعذب شربهُ |
الشباب الآن، هؤلاء الألوف المؤلفة الذي يموت أحدهم وهو على كرة وتسلية وهواية، وحزبية لنادٍ على نادٍ، وتصفيق وزفير وشهيق، ثم يغسل ويكفن ويدفن، أية رسالة قدمها للأمة؟! أي جهد؟! هل كان طياراً؟! هل كان طبيباً؟! هل كان مهندساً مسلماً، داعية مؤثراً؟! أهذا الجهد من أجله خلقت السماوات والأرض؟! من أجله خلق الإنسان، من أجله خلف في الأرض! من أجله بعثت الرسل! أمن أجل هذه الهواية؟: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115] عبث صور، وعبث نماذج، وعبث ميادين، وعبث العقول، أحدهم يبلغ الستين وهو ما زال طفلاً عابثاً! وأحدهم يكون طويلاً متيناً قوياً وهو عابث! وأحدهم يدرك ويفهم ويعقل وهو عابث! وأحدهم عنده شهادة ومال ومنصب وهو عابث! فأي عبث؟ أهي رسالة العبث أم رسالة الحق المتلقاة عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم؟
وأتى أهل الصليب فسحقوه ولم ينسحق، فخرج أقوى وأعتى مما كان، ووجهت له الشيوعية ضربة فانتفض وانتصر، والرأسمالية ضربة فانتصر، والصهيونية ضربة فانتصر، فسوف ينتصر، سواء نصرناه نحن وإياكم لم ننصره؛ كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] أو نكون في ركام قائمة الهامشية، فلا نعد ولا نحسب، وما وفينا وما صدقنا مع الله وما قمنا بشيء.
إن هذا الكلام ليس تنفيساً عاطفياً ليتكلم الإنسان بالكلمات الرنانة، ولكنه يطلب منه أثر وواقع، وأن تكون داعية إلى الله، غيوراً على محارم الله، تقوم بدين الله وبرسالته في الأرض، لتكون صادقاً مع الله عز وجل، وتحمل الميثاق.
وفيهم مقامات الحسان وجوههم وأندية ينتادها النبل والفضلُ |
جزى الله رب الناس خير جزائه وأبلاهم خير البلاء الذي يبلو |
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبلُ |
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخلُ |
أباؤكم هم: معاذ، أُبي، سعد، سلمان، طارق، خالد بن الوليد، فلا عجب أن تنبعث طائفة من المؤمنين تقول:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا |
ونتكلم كما تكلموا، ونقرئ الناس ونعلمهم ونرشدهم كما فعل أولئك، وليس على الله بعزيز! وفي مسند أحمد عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى الخير في أوله أم في آخره} سبحانك ربي! أية أمة معطاءة! أو أية أمة مجيدة! كلما قالوا: خمدت، خرج منها آلاف الشهداء، وآلاف العظماء، وآلاف الخطباء، وآلاف الأدباء، وآلاف الدعاة.
ضجت أفغانستان قبل ثلاث عشرة سنة، وظن الناس أن الشيوعية سوف تسحقها، فخرج الأبطال في شوارع كابل يحملون الكلاشنكوف ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا |
فمن أخرجهم؟ أخرجتهم لا إله إلا الله، وأهل الصومال يخرجون من بين شجر الكاكاو يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا |
وفي سراييفو وفي بورما وفي كشمير وفي كل بلد، ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ودعاته وجيله وأحبابه الذين يريدون أن يركبوا في سفينته، ولن ينجو إلا من ركب في هذه السفينة.
أما الذي لا يركب في سفينته فلا يطمع مرة من المرات أنه سوف ينجو، بل سوف يأخذه الطوفان ويهلك ويدمر: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا |
ندمت على ألا تكـون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا |
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: تتردد قضية بين النسوة والجيل والشباب وهي مسألة الأنانية وحب الذات، والأنا وحب الظهور ونحو ذلك كبار من أمراض القلوب، وإذا وجد في العبد (أنا.. ولي .. وعندي) فقد تلف! إلا أن يعصمه الله ويتوب عليه، فتجد بعضهم يحب كلمة "أنا" وأن يكون هو الذي في الصورة وغيره لا، فيتحقر الآخرين ويسخر بهم ويتعالى عليهم ويصادر طاقات الناس، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، وتجده بعملية الإسقاط -عند أهل التربية- يسقط الآخرين، إن كان خطيباً أسقط الخطباء، وإن كان داعية سعى لإسقاط الدعاة ليبقى هو، وإن كان منفقاً سعى لإتلاف وإسقاط المنفقين، وهذا ذنب كبير عليه أن يتوب منه.
الجواب: هناك من يتصور أن الدعوة فقط إنما تكمن في المحاضرة، والدرس، والندوة، والخطبة، وهذا ليس بصحيح، الدعوة أكبر من ذلك، الدعوة هي الحياة الإسلامية، هي التي تقدم لله عز وجل بأية صورة قدمت، لم يكن الصحابة كلهم خطباء، ولا متفوهين ولا مدرسين، هذا مجاهد بماله، وهذا بدمه، وهذا مخطط، وهذا منسق، وهذا منفق، وهذا يصلح بين اثنين، وهذا يقف مع المنكوبين، فهذا جهاد كبير يتوزع على الأمة، والدعوة فقط بالمحاضرة والندوة والخطبة إنما هي صورة من صور هذه الدعوة الكثيرة.
الجواب: على كل حال أيها الأخ! أنت إذا ذهبت إلى الشيطان تستفتيه عن كل خطوة تريد أن تخطوها فإنه يفتيك بالرفض، فلا يريد أن تتكلم ولا أن تخطب ولا أن تدعو، ويأتيك بالورع البارد المظلم، لأنه هو يدخل من هذه المداخل، إن رآك خائفاً من الورع ورَّعك أكثر حتى تخرج بالغلو من الدين، وإن رآك عابداً مشمراً أخرجك بالغلو إلى أن تبتدع في العبادة ما ليس منها، وإن رآك مقصراً قصر بك حتى تجفو، فانتبه له واحذر أن تستفتيه! إنما يُستفتى مثل هيئة كبار العلماء، أما الشيطان فلا يستفتى في هذه المسائل.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع}.
الجواب: عسى ألا يستمر هذا الفتور! وعسى أن يكون فتوراً لا بد منه، لأنه لا بد للسائرين إلى الله من فتور، وقد شكا منه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة، وهم أهل بدر وأحد والعقبة، فكيف بنا نحن وليس عندنا قدوة كما كان صلى الله عليه وسلم، وما كان أصحابنا وجلاسنا يوماً من الأيام كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن مسعود؟! وعندنا من المنكرات والوسائل والأساليب والفتن وما فتح من الخزائن ما الله به عليم؟! لكن ما هو الموقف؟ الموقف أن تكون غفوة، أن تكون غفوة ذئب، لا نوم سلحفاة، فلا تنم ثم تقل: هذا فتور لا بد منه!
الجواب: إذا بلغ هذا الحال نسأل الله العافية.
يقول أحد الصالحين: إذا رأيت الرجل وتفقدته فما صلى الفجر معك في جماعة فاغسل يديك منه! أي انفض يديك منه، العلامة الفارقة بيننا وبينهم صلاة الفجر، أن يأتي إلى صلاة الفجر، هذه الشهادة الكبرى، أنك صليت الفجر في جماعة، أما إذا وصل إلى هذا الحال واغتاله الشيطان، فحاول أن تتأخر عنه أو أن تدعوه أو تقيم الحجة عليه، لأن المسألة مسألة عمل: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] ليس معناه: أن يحب الدين ويحب الله عز وجل، ويقول: أنا متحمس! ويريد التأثير ثم لا يصلي الفجر جماعة! لا والله حتى يصلي الفجر جماعة!
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم في صلاة العشاء فيقول: استووا استووا، وكان هناك ظلمة في جو المدينة، وظن المنافقون أنهم سوف يبتعدون عنه صلى الله عليه وسلم، ويتخلفون في بيوتهم، فقام صلى الله عليه وسلم مغضباً محمرَّ الوجه، وقال: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون العشاء معنا أو الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} ماذا تنفع الرتب العسكرية والشهادات العلمية والمناصب العالية والأموال الطائلة لأناس لا يصلون الفجر جماعة؟ أي شهادة هذه وأي رتب؟! من يرضى عنهم إذا غضب الله عليهم؟!
الجواب: حقيقة الشيخ حمد لفت انتباهي لهذا الجانب، وقال: ليس فيه كفاية لكني أقول: إنها مسئولية الكلمة عند المرأة، والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج تسعاً من النساء لا لمطمع، إلا لتبليغ دين الله عز وجل من طريق النساء، إلا لتكون المرأة داعية مؤثرة في بنات جنسها، والمرأة مع الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً وأبداً حتى جعل لهن يوماً من نفسه، وعقد البخاري على ذلك باباً، فكان يعلم صلى الله عليه وسلم، فتنتقل هذه المرأة مبلغة ومفهمة حتى يبلغ بـعائشة أن تكون مجتهدة مطلقة في دين الله، يعود إليها كبار الصحابة إذا أشكل عليهم بعض المسائل.
الجواب: على كل حال ورد في الموضوع كلمة للأساتذة، ولكن عندي بعض الوقفات لهم:
الأمر الأول: أن علاقة الحب في الله عز وجل هي أقوى العلاقات بين الأستاذ والطالب، لا الإرهاب الفكري وهو أن بعض الأساتذة قد يمارس فرض السيطرة على الطلاب بحجة أن يستمعوا له وأن يهابوه حتى كأنه قيصر أو كسرى في الفصل، وهذه طريقة خاطئة وقد أثبتت عدم جدواها، وأثبتت أن الطالب لن يستفيد أبداً، وإذا وثق فيك الطالب وأحبك في الله استفاد منك ودعا لك.
الأمر الثاني: أن هؤلاء الذين في الفصل هم جميعاً في ميزان حسناتك: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
الأمر الثالث: أن الكلمات تكون هباءً منثوراً إذا لم تكن قدوة ماثلة في شخصك، تكلمهم عن الصدق وأنت صادق، عن إعفاء اللحية وأنت ملتح، عن تقصير الثوب وأنت مقصر، عن ترك الغناء وأنت لا تستمع الغناء، عن بر الوالدين وأنت بار بوالديك، عن حسن الجوار وأنت حسن الجوار، هذه هي القدوة، وليعلم الإنسان الذي يتكلم بشيء يخالف ما هو عليه أنه إنما يوبخ نفسه ويكذبها أمام الناس، فكيف بطلبة العلم الذين أمامه؟!
الجواب: صار الكلام موجهاً إلى الآباء في كثير من المناسبات من الدعاة والعلماء، ولكن بعضهم ما يزال يترك أبناءه وبناته بحجة الثقة المطلقة، فإذا كلمته في ابنه قال: ابني ما علمت فيه إلا خيراً، ابني لا يفعل شيئاً، وكأن ابنه معصوم، وبنته كذلك كأنها صاحبة ثقة، وأمينة لا يمكن أن يحدث منها شيء، فهذه الثقة أودت بكثير من الآباء أن تركوا أبناءهم وبناتهم، ووقعت دواهي -نسأل الله العافية والسلامة- بحجة الثقة.
الجواب: لا يخرج عن الدين الإسلامي شيء، المسلم محوط بدين حتى في مزحه وفي نومه وفي يقظته، وفي أكله، وشربه، وفي سفره وحله، ويتصور بعض الناس أن هناك ساعة وساعة، {ساعة وساعة} حديث مروي في صحيح مسلم، ومعناها: الراحة بالمباح وهي من الدين، فبعضهم يتصور أن هناك ساعة للدين وساعة للدنيا أو لغير الله، قالوا: ساعة لربك وساعة لقلبك، وكأن الساعة التي لقلبك لا يدخل فيها لله مدخل، وهذا خطأ لا يصح إطلاقه وقد رد عليه أهل العلم من أوجه كثيرة.
الجواب: إن كان هذا في وقت محدد فلا بأس به، وقت يخصص لنفسه، وأنا أشير بذلك على إخواني الطلاب والشباب ألا يكونوا مخالطين في كل وقت ليلاً ونهاراً، وليكن لك وقت لكي تطلب العلم فيه في بيتك وتقرأ وتطالع، لأن الذي يخالط ليل نهار سوف تكون أفكاره بسيطة، يعيش بأفكار الناس ولا يكون عنده جديد، ولكن الذي يعتزل الناس دائماً وأبداً، ولا ينفع ولا يحضر الجمع والجماعات ولا المناسبات والأعياد، ولا يستفيد من أهل الوعي فهذا مخالف لدين الله، ودين الله وسط، فالخلوة لا بد منها، وهذا أمر نسبي، ومن ألهمه الله عز وجل عرف الطريق، فيخالط الناس في الخير، ويعتزلهم في فضول المباحات، فما بالك بالمعاصي؟! فهو من الاعتزال الواجب.
الجواب: حضرته والحمد لله، وكان من أسعد الليالي في حياتي ليلة حضرت ذاك الحفل البهيج، وخرجت منه بمسائل، وقد جلست مع حملة السنة -هؤلاء الحفظة- اليوم الثاني من العصر إلى صلاة العشاء في مجلس خاص، فاستفدت فوائد منها:
الأمر الأول: أن الهمة بالإمكان أن تطبع فتصبح طبيعة في حياة الإنسان، وأن الحفظ يمكن أن يطبع، وأن الهيلمان الذي وضع للحفظ، وأن الحفظ مع السلف فقط انتهى والحمد لله، وكسر تلك الليلة في بريدة، فقد رأينا ثمانية شباب يحفظ كل واحد منهم أربعة آلاف حديث، يحفظها كالفاتحة، ويبارونه ويسألونه ويخلطون عليه المخرجين والرواة، ويأتي بهم صباً صباً وتوكيداً توكيداً وحفظاً حفظاً، وهذا نبوغ والحمد لله.
الأمر الثاني: استفدت أن العمل المستمر هو الأثبت من المنقطع، فأخبرني أحدهم أنه كان يحفظ كل يوم صفحة، فأنا أرى أن من أراد أن يحفظ شيئاً فليحفظ كل يوم صفحة، حتى قالوا: كنا نحفظ يوم الجمعة، ونحفظ حتى في الأعياد، وكان أحدنا عنده امتحان اليوم الثاني، فكان يحفظ في اليوم الأول، من الحديث ويواصل.. هكذا.
استفدت أيضاً: أن على الأمة يجب أن تراجع موقفها من السنة المطهرة، فقد مر بها فترة من الفترات اعتنت بالقرآن وهذا هو الواجب وينبغي أن تزيد، لكنها أهملت جانب السنة حفظاً ومراجعة وتحقيقاً وتنقيحاً، فإن نَفَس الخوارج التركيز على القرآن وترك السنة، ونفس العصرانيين والعقلانيين أنهم يقولون: القرآن القرآن فقط، ولكنهم لا يأخذون بالسنة، حدثنا أحد المشايخ: أنهم دخلوا الحرم بعد صلاة الفجر، فقام أحد العصرانيين من بعض البلدان العربية، فتحلق الناس لما رأوه فكان يلقي كلمة، وقال: عليكم بالقرآن أيها الناس، فقام أحد الوعاظ في هذه الجلسة، وكان حاداً متحمساً مندفعاً، وقال: والسنة؟ قال هذا العصراني المتكلم: القرآن، قال الواعظ: والسنة، قال: القرآن القرآن، فقام هذا الواعظ المتحمس وفصفعه بعد صلاة الفجر، فقام الناس قسمين: البعض يمسك هذا، والبعض يمسك المضروب، فكأنه يعلمه بهذه الصفعة -وهذه من صفعات أهل السنة- أن هناك وحيين: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} هناك قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهناك سنة مع القرآن تبينه: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] أنت يا محمد! صلى الله عليه وسلم تبين للناس ما نزل إليهم.
فيجب أن نهتم بهذا وبهذا، أيضاً أرى أن من أراد أن يحفظ منكم لا يحفظ تخليطاً ولا سبهللا، يأخذ مختصراً مثل مختصر المنذري لصحيح مسلم، أو مختصر الزبيدي لصحيح البخاري، هذان المختصران مجيدان، وهنا كتابان: رياض الصالحين وبلوغ المرام، ولا يأتي الإنسان بوسوسات يقول: هؤلاء أوتوا عقولاً، لا. ولكنهم شدوا من هممهم واستعانوا بالله وواظبوا ثم وصلوا.
رأيت في مذكرات مثل طه حسين هذا يقول: أنا رجل عادي لكن عندي همة، وابن الجوزي يقول عن نفسه:
لي همة في العلم ما مر مثلها وهي التي جلب البلاء هي التي |
إلى آخر ما قال:
لو كان هذا العلم شيخاً ناطقاً وسألته هل زار مثلي قال لا |
والسبب أنه بهمته وبأخذه على نفسه وصل، وما أنزل الله من السماء عباقرة لا يخطئون ولا يسيئون، لكن جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الأمة من يهتم ومن يحصل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
الجواب: أنا قد قلت:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي ورائي قريش أو ورائي تغلب |
الإنسان ابن نفسه، ولا يعني ذلك اختلاط الأنساب، وأن الإنسان -كما في الغرب- ينتسب أحياناً لزوج أمه، ولو كان رجلاً آخر، مثل بيل كلينتون، فـ كلينتون هذا زوج أمه وليس أباه، لأن أباه طلق أمه، ولما طلق أبوه أمه تزوجها رجل آخر، فلما تزوجها انتسب إليه وأصبح كلينتونأباه، فنقول: خلط النسب ضياع، وهو من الوثنية والجاهلية، ونحن أهل الإسلام نحفظ الأنساب، ولا نجعل هذه الأنساب كأننا ندخل بها الجنة، أنت من قبيلة فلان، وتتنطع بها في المجالس:
إذا فخرت بآباء لهـم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا |
فـأبو لهب تنطع بنسبه، فأكبه الله على منخريه في النار، وأنزل فيه سورة نقرؤها في الصباح والمساء سباً وشتيمة فيه، وبلال من أرض الحبشة وله قصر كالربابة البيضاء في الجنة، من يعرف منكم أباه رباحاً أو يعرف أنسابه أو أجداده؟!
سلمان الفارسي من أبوه؟! يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم |
هذا هو دين الله، أما القبيلة فهي لا تنفع، والواجب علينا أن نحاصرها في نطاق ضيق، وأنا رأيت بالتجربة والاستقراء أني ما رأيت أحداً يفتخر بهذه القبيلة وهذه العنصرية إلا أحد اثنين:
إما رجل في قلبه مرض، ولا يحب الدين وأهله، وعنده مركب نقص، فتجده دائماً ليس عنده فضل ولا دين ولا ورع ولا حسن خلق، دائماً يتعلق بالأجداد والآباء والقبيلة.
أو رجل جاهل مركب، يظن أن الناس يوم القيامة يدعون بقبائلهم، فلا والله، إنما الإنسان ابن نفسه، قتيبة بن مسلم من باهلة، وباهلة عند العرب لا تساوي درهمين! حتى قيل لأحد الناس: أتريد أن تدخل الجنة وأن جارك في الجنة باهلي؟ قال: نعم. ولكن بشرط ألا يدري أهل الجنة أن جاري باهلي، ومع ذلك أتى قتيبة بن مسلم فكان فاتحاً مجيداً، وفتح الهند والسند ودكدكها بلا إله إلا الله محمد رسول الله، فتشرفت القبيلة به.
وأيضاً: مثل من يفتخر بجماعته وينتمي لجماعة يتبجح بهم، ويقول: هذه الجماعة هي العامة الشاملة المؤصلة التي يجعل الله فيها النور والخلافة والريادة، وآخر ينكت عليه، وآخر يفتخر بإقليمه أو قبيلته أو بشيخه، أو بأستاذه، فكلها من الجاهلية.
الجواب: الله يوفقك! ومن أراد الزواج فلا يظل في بيته حتى تدخل عليه زوجته! فالإنسان يتقي الله عز وجل، وإذا لم يستطع فإنه يصبر، ثم إذا وجد مجالاً فليذهب ويخطب ويتزوج، ونحن لا نعطل الأسباب، لأن بعض الإخوة يقول: أنا لا أحفظ في العلم، فادع لي أن يحفظني الله، ثم تجد الناس يدعون له في المسجد، وهو جالس لا يذاكر، ولا يقرأ، يظن أن صحيح البخاري أو مختصر الزبيدي سوف ينزل في ذهنه، وهذا لا يمكن، لا بد من الإيمان بالأسباب وأخذ الوسائل حتى يحفظ الإنسان ويكون عبداً لله.
الجواب: الدش وردت فيه فتاوى من الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ ابن جبرين، وقد كثر الكلام فيه، والفتوى موجودة، ونحن أحياناً نجتر الكلام، ونجتر الفتيا، ونجتر المحاضرات، فتجد الواحد يعرف الفتيا، فيشرب الدخان، وتقول له: حرام، فيقول لك: والله أنا سمعت ابن باز يقول: حرام، وسمعت ابن عثيمين وابن جبرين، لكن يأتي يسألك لرابع مرة، لأنه يبحث عن رخص أو يريد أن يسمع وجهات النظر.
قرأت في السيرة أن عمر رضي الله عنه أتاه أعرابي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فسأله وقال: يا عمر! سعيت قبل أن أطوف! قال له عمر: افعل ولا حرج، قال الأعرابي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، فقال مثلما قلت، فقال عمر: [[خررت من يدك -أي وقعت من رأسك- تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تسألني]] يعني أن صاحب المنهج موجود، فكبار العلماء أفتوا ونصحوا وأرشدوا وما عندنا يكفينا.
الجواب: بعض الإخوة فيه حماس وعاطفة، يظن أنه لو ألقى كلمة في مجلس فقد انتهى دوره، وقال: أنا بلغت! اللهم إني أقمت الحجة عليهم! سواء اهتدوا أو لم يهتدوا، وبعضهم إذا أخبر جيرانه أو نبههم للصلاة قال: اللهم اشهد إني أقمت عليهم الحجة! أبرأ إلى الله منهم! هذه ليست بدعوة، فلا بد أن ندعو بالتي هي أحسن ونستخدم الأساليب والوسائل.
لأن المقصود ليس إقامة الحجة فحسب، إنما المقصود: أن تدعو حتى تنقذهم من النار.
الجواب: على كل حال كلنا مركب نقص، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور:21] لكن زكاة الجربان منها، فنحن معور يروي عن معور بنسبة العصر والأحوال والأشخاص، فبعضنا يعظ بعضاً، ولولا أنه لا يعظ الناس إلا من كان معصوماً، ما وعظهم إلا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقولون: أبو معاذ الرازي إذا ارتقى المنبر وهو يعظ الدنيا رحمه الله حيث يقول:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليلُ |
فيبكي ويبكي الناس، وسئل الإمام أحمد: هل يبقى الإنسان حتى يكتمل ثم يدعو الناس؟ قال: ومن يكتمل؟! وصدق! من يكتمل ويسلم من الذنب والخطأ حتى يدعو الناس؟ سدد وقارب، ولعل من نجاتك أنت دعوتك للناس! لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينجيك بسبب أنه هدى على يديك رجلاً أو رجلين أو ثلاثة!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر