الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن من أنواع الشرك في العبادة: الشرك في الطاعة، وهو أن يطيع مخلوقاً في معصية الله، من تحليل حرام، أو تحريم حلال، سواء أكان هذا المخلوق عالماً، أم عابداً أم رئيساً أم ملكاً أم غير ذلك، فهو أن يطيع مخلوقاً في معصية الله من تحليل حرام، أو تحريم حلال، فيكون بذلك قد اتخذه رباً من دون الله؛ لأن التحليل والتحريم من خصائص الربوبية، أي: من خصائص الله عز وجل.
فالمشرع هو الله سبحانه، وهو المحلل والمحرم، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] وقال سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] والآية في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلى هذه الآية، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] فقال عدي بن حاتم رضي الله عنه -وكان نصرانياً فأسلم-: لسنا نعبدهم يا رسول الله!) أي: لسنا نعبد أحبارنا أو رهباننا، فلسنا نعبد العلماء أو العباد، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طاعتهم في التحليل والتحريم هي عبادتهم من دون الله، واتخاذهم أرباباً من دون الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه؟! ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟! قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فبين له صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم واتخاذهم أرباباً من دون الله إنما هي طاعتهم في التحليل والتحريم.
يعني: يعتقد أن له حق التحليل والتحريم، فهذا العالم أو هذا العابد أو هذا الرئيس يأمره بالمعصية فيعتقد حلها، فيطيعه في تحليلها، فيحل له الخمر -مثلاً- فيعتقد حله، ويحل له الزنى فيعتقد حله، ويحل له نكاح المحارم فيعتقد حله، وهكذا.
أما طاعتهم في المعصية من غير اعتقادهم حلها؛ فلا يكون عبادة لهم من دون الله، بل تكون معصية، فإذا أطاع العالم أو أطاع العابد أو الرئيس في معصية من دون اعتقاد حلها، وإنما أطاعه اتباعاً للهوى، وطاعة للشيطان، وهو يعتقد أنها ليست حلالاً؛ فهي معصية، وليست عبادة له من دون الله.
والمقصود أن الشرك في الطاعة أن يطيع المخلوق في المعصية من تحليل حرام مع اعتقاد حله، أو تحريم حلال مع اعتقاد حرمته، أما إذا أطاعه في المعصية من دون اعتقاد حلها فإنه لا يكون مشركاً، ولا عابداً له من دون الله، وإنما يكون فعله معصية من جنس المعاصي، فإذا أمره بشرب الخمر فشربه يكون مرتكباً لكبيرة، وإذا أطاعه في تحليل الخمر يكون قد اتخذه إلهاً ورباً من دون الله، وفرق بين الأمرين: بين الطاعة في التحليل والتحريم، والطاعة في المعصية من دون اعتقاد حلها.
فالطاعة في التحليل والتحريم تكون شركاً، وعبادة له من دون الله، وطاعته في المعصية من دون اعتقاد حلها معصية.
وهذا هو الشرك في الطواف؛ لأنه طاف تقرباً لغير الله، قال الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].
ولا يطاف بغير بيت الله، ولا يطاف لغير الله، أما إذا طاف بغير الكعبة تقرباً لله لا لغيره، كمن طاف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى الله، وظن أنه لا بأس بأن يطاف بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو طاف بقبر البدوي تقرباً إلى الله لا للبدوي ، أو طاف بقبر الحسين تقرباً لله لا للحسين؛ فإن هذا يكون مبتدعاً لا مشركاً؛ لأنه لم يطف لغير الله، بل طاف لله، لكن المكان الذي طاف فيه لا يطاف به، وليس هناك شيء في الدنيا يطاف به إلا الكعبة، فإذا طاف لله في أي مكان غير الكعبة فإنه يكون مبتدعاً، وإن طاف لغير الله يكون مشركاً، حتى وإن طاف بالكعبة وهو لا يقصد أن يتقرب إلى الله، إنما يتقرب إلى غيره.
والشرك في الطواف، والشرك في الدعاء، والشرك في الذبح، والشرك في النذر، هذه كلها منتشرة قديماً وحديثاً عند القبوريين، فهم يفعلونها كثيراً، فمن القبوريين من يفعل ذلك عند قبر من قبور من يسمونهم أولياء، أو يعظمونهم، فتجدهم يشركون بالله، ويصرفون إليهم الدعاء، ويرفعون أصواتهم بسؤال المدد، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويذبحون لهم الذبائح والقرابين، فهذا يذبح خروفاً، وهذا يذبح عجلاً، وهذا يذبح كذا، وهذا يذبح دجاجة، فيقدمون النذر لهم من دون الله، ينذرون لهم بأرواحهم، ويطوفون بقبورهم تقرباً إليهم.
ومن سجد للنجم أو للشجر أو للحجر أو للقبر فإنما يضع الرأس قدامه تقرباً إليه، فحقيقة السجود وضع الرأس أمام من يسجد له، فسجود المريد للشيخ، شرك من الساجد والمسجود له.
أما الساجد فإنه أشرك حيث صرف السجود -وهو عبادة- لغير الله، وأما المسجود له حيث رضي أن يسجد له، ورضي بالعبادة، فيكون طاغوتاً من الطواغيت، فيكون الشيخ الذي رضي أن يسجد له طاغوتاً، والساجد عابداً للطاغوت، فسجود المريدين من الصوفية لشيوخهم من الشرك.
وهذا الركوع يسمى سجوداً في اللغة، وفسر السجود بالركوع في قول الله تعالى في بني إسرائيل : وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58] والمعنى: ادخلوا الباب منحنين، وإلا فلا يمكن الدخول على الجبهة.
فبنو إسرائيل أمرهم الله أن يدخلوا القرية منحنين، وأن يقولوا: حطة، أي: يا الله! حط عنا ذنوبنا، واغفرها لنا، فقوله: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58] المعنى: ادخلوا الباب منحنين ركوعاً، وإلا فإنه لا يمكن الدخول على الجبهة.
ففسر السجود بالركوع في هذه الآية، لكن بني إسرائيل قوم عتاة، غيروا في القول والفعل، فقد أمرهم الله أن يدخلوا الباب سجداً منحنين، فدخلوا يزحفون على أعجازهم، وهذا تغيير في الفعل، وفي القول قالوا: حنطة، بدلاً من أن يقولوا: (حطة)، فغيروا قولاً وفعلاً.
والميل يسمى سجوداً في اللغة، ومنه قول العرب: سجدت الأشجار: إذا أمالتها الريح.
قال الله تعالى آمراً عباده أن يخصوه بالركوع والسجود والعبادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، فالركوع والسجود عبادة لا تكون إلا لله عز وجل.
قال الله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق رأسه في حجة الوداع، وأمر أصحابه أن يحلقوا رءوسهم، فحلق الرأس نسك من مناسك الحج، لا يكون إلا في النسك خاصة لله عز وجل.
والذين يتوكلون على الأموات أصحاب القبور، ويعتمدون عليهم في حصول مطالبهم من نصر أو رزق أو حفظ أو شفاعة قد عبدوهم من دون الله، وأشركوهم في توكلهم على الله، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23].
أما التوكل على الحي الحاضر في الأسباب الظاهرة فلا يكون شركاً أكبر، وإنما يكون شركاً أصغر، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى أو غير ذلك، فهذا نوع من الشرك؛ لما فيه من ميل القلب واعتماده على غير الله، هذا إذا كانت الأسباب ظاهرة، أي: يتوكل على من أسبابه ظاهرة.
أما إذا توكل على ميت أو غائب في رجاء ما يطلبه من نصر أو رزق أو حفظ فيما وراء الأسباب، فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه توكل على غير الله، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] فالتوكل على غير الله تعالى فيما وراء الأسباب يكون شركاً أكبر، والتوكل على غيره فيما أسبابه ظاهرة يكون شركاً أصغر؛ لما فيه من ميل القلب واعتماده على هذا المخلوق، والواجب على المسلم أن يفوض أمره إلى الله.
والتوكل أقوى من الرجاء، فالرجاء يكون عادياً ويكون حسياً، لكن التوكل أقوى؛ لما فيه من اعتماد القلب وميله إلى المخلوق.
وقد يكون السحر عن طريق الأدوية والتدخينات، وسقي أشياء تضر، والساحر يتصل بالشياطين ويتقرب إليهم، ويأخذ عنهم، وهناك اتفاق بين الساحر وبين الشياطين، فيفعل هذه العزائم وهذه الرقى والعقد، فيحصل التأثير في القلب بالمرض أو القتل أو التفريق بين الاثنين بإذن الله الكوني القدري، ولا يمكن أن يضر أحد أحداً إلا بإذن الله، قال الله: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] والمراد بالإذن هنا: الإذن الكوني القدري، وليس الشرعي.
والساحر قد يصنع أدوية وتدخينات وأشياء تضر في الأبدان فيبتز أموال الناس.
ويسمى فعله سحراً لأنه يشارك السحر في التأثير في الخفاء؛ لأن السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، فالشيء الخفي اللطيف السبب يسمى سحراً، ومنه سمي السَّحَر سَحَراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل، ومنه يسمى القول البليغ سِحْراً، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً).
ومعلوم أن الرجل البليغ يؤثر في السامعين في الخفاء، ومنه سميت النميمة سحراً؛ لتأثيرها في الخفاء، وفي الحديث: (أنبئكم ما العضة؟ قالوا: بلى، قال: هي النميمة، القالة بين الناس) قال بعض السلف: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.
فالساحر يصنع عزائم ورقى وعقداً، ويستخدم الشياطين، وتؤثر هذه العزائم والرقى والعقد في القلوب والأبدان بالمرض أو القتل أو بالتفريق بين المتحابين.
وقد لا يتصل بالشياطين، فيكون فعله سحراً عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر.
واختلف العلماء في حكم الساحر هل يكفر أو لا يكفر؟ فذهب الجمهور -ومنهم الأئمة الثلاثة مالك وأحمد وأبو حنيفة- إلى أن الساحر يكفر، واستدلوا بقول الله تعالى في قصة الملكين: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، قالوا: فتعلم السحر وتعليمه كفر.
قال أصحاب أحمد إلا أن يكون السحر بأدوية وتدخينات وسقي أشياء تضر، فلا يكفر. وذهب الإمام الشافعي -رحمه الله- وجماعة إلى التفصيل، وقالوا: إذا تعلم السحر فإننا نقول له: صف لنا سحرك! فإن تضمن السحر ما يوجب الكفر كفر، وإن تضمن ما لا يوجب الكفر فإذا اعتقد إباحته كفر، فنقول له: هل تعتقد أنه حلال أو حرام؟ فإذا اعتقد إباحته كفر، وإن اعتقد تحريمه فلا يكفر، وإنما يكون مرتكباً لكبيرة ولأمر عظيم محرم.
إذاً: الجمهور لا يفصلون، بل يقولون: إن السحر كفر مطلقاً، وأما الشافعي فإنه يفصل، فيقول: لابد من أن نسأل الساحر؛ فإن تضمن سحره كفراً كفر، وإن لم يتضمن كفراً نسأله ونقول: هل تعتقد أنه حرام أم حلال؟ فإن اعتقد حله كفر، وإن اعتقد تحريمه فإنه لا يكفر، ولكنه ارتكب محرماً وكبيرة يستحق عليها التعزير.
والواقع أن الخلاف بين جمهور العلماء الذين يكفرون الساحر بإطلاق، وبين الشافعي الذي يفصل هو خلاف اصطلاحي.
فالجمهور يرون أن السحر لا يسمى سحراً إلا إذا كان عن طريق الاتصال بالشياطين، فهذا هو السحر الاصطلاحي.
وأما السحر الذي يكون عن طريق الأدوية والتدخينات، ولا يتصل صاحبه بالشياطين، فقالوا: هذا لا نسميه سحراً؛ لأنه يسمى سحراً من جهة اللغة، فهو سحر لغوي، فلذلك فلا يحتاج إلى تفصيل.
إذاً: الجمهور لا يسمون السحر سحراً، إلا السحر الاصطلاحي الذي يتصل صاحبه بالشياطين، وهذا لا يكون إلا كفراً، أما السحر الذي لا يتصل بالشياطين فهذا لا يسمونه سحراً؛ لأن تسميته سحراً تسمية لغوية، فلا يحتاج إلى تفصيل.
أما الشافعي وجماعة فإنهم أدخلوا سحر الأدوية والتدخينات وسقي الأشياء في مسمى السحر، فاحتاجوا إلى تفصيل، وعلى ذلك يكون الجمهور والشافعي على أن الساحر الذي يكون سحره عن طريق الاتصال بالشياطين كافر، وعلى هذا يكون السحر نوعين، النوع الأول: سحر يتصل صاحبه بالشياطين، وهذا كفر وردة، ولابد من أن يقع في عمل الساحر شرك.
الأولى: من جهة الاتصال بالشياطين، والتعلق بهم، والتقرب إليهم بما يحبونه، وبفعل الأعمال الخبيثة؛ ليقوموا بخدمته ومطلوبه، فقد يذبح لهم، وقد يدعوهم من دون الله، ويتقرب إليهم بما يحبونه، ويتصل بهم عن طريق الأفعال الخبيثة حتى يقوموا بخدمته، فهناك خدمة متبادلة بين الساحر وبين الشيطان الجني.
إذاً: الساحر يخدم الجني بالكيفيات التي يتقرب بها إليه، كدعائه، والذبح له، والتقرب إليه بما يحب، والجني يخدم الساحر بما يطلبه منه، ويساعده على لطم المصروع، ويساعده على أعماله السحرية، وبينهما خدمة متبادلة.
الجهة الثانية: دعوى الساحر لعلم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر وردة؛ لأن هذا مشاركة لله في علمه الذي اختص به، قال الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، فهذا بالنسبة للساحر الذي يتصل بالشياطين.
أما الساحر الذي لا يتصل بالشياطين فهذا يكون سحره عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر يأتي بها حتى يبتز أموال الناس.
وبعض الناس لا يجد له حرفة، وإيمانه ضعيف، فيتصدر لعلاج الناس، ويأتي بأدوية وتدخينات، وبأصباغ وألوان، فإذا جاءه المريض أعطاه شيئاً من الأصباغ والألوان، وقال: استعمل هذا للشراب، وهذا للدهون، وهذا للاستنشاق، ويبتز أموال الناس، وقد تضر هذه الأدوية، وقد تقتل.
فهذا يستحق التعزير البليغ من قبل الحاكم الشرعي، فإذا رفع إلى المحكمة، يجتهد الحاكم في تعزيره بالضرب أو السجن، وقد يصل التعزير إلى القتل إذا كان شره لا يندفع إلا بذلك، هذا إذا كان الساحر لا يتصل بالشياطين، كسحر الأدوية والتدخينات، وسقي أشياء تضر.
فقتل الساحر ثابت عن ثلاثة من الصحابة: عمر وابنته حفصة وجندب .
وقال بعض العلماء: إنه يحبس حتى يتوب أو يموت، واختلف القائلون بقتله، هل يكون قتله حداً أو كفراً؟
فالجمهور على أن قتله للكفر، فيقتل كافراً، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، هذا إذا كان سحره عن طريق الشياطين، أما إذا كان سحره عن طريق الأدوية والتدخينات وسقي أشياء تضر ولم يستحله، فهذا لا يكفر، وإذا استحله في إيذاء الناس بالمرض أو القتل وأكل أموالهم بالباطل كفر، أما إذا لم يستحله ولكن حمله على ذلك الهوى والطمع والجشع وحب المال، وحمله ذلك على أن صار يمتهن هذه المهنة، فهذا لا يكون كافراً.
والسحر عن طريق الشياطين لا يأتي إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب، ولهذا جاء في الحديث (من سحر فقد أشرك) وسماه الله كفراً كما في قوله سبحانه في قصة الملكين: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] أي: فلا تكفر بتعلم السحر، وقال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102].
واتفق العلماء على أن ما كان من الساحر الذي يتصل بالشياطين ويعبد الكواكب ويتقرب إليهم كفر وردة، ومن ذلك مناجاة الكواكب السبعة ومناداتها، وهي الشمس والقمر والزهرة والمريخ وزحل وعطارد والمشتري، فإذا كان يناجيها ويناديها، فهذا شرك.
وأما في الآخرة فأمره إلى الله، فإن كان صادقاً في توبته أو في دعواه التوبة فإن الله يقبل الصادقين، وإن كان كاذباً فلا يقبل الكاذبين.
وكذلك الزنديق والمنافق، وكذلك من سب الله أو سب الرسول أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، فلا تقبل منه توبته، قال بعض العلماء: لأن علم السحر لا يزول بالتوبة.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه تقبل منه التوبة، ويستتاب، فإن تاب خلي سبيله، وإن لم يتب قتل، لكن المعروف والمشهور والأرجح أن الزنديق ومن سب الله أو سب الرسول أو سب الدين، والساحر لا تقبل توبته في أحكام الدنيا، زجراً للناس حتى لا يتجرءوا على مثل هذا الكفر العظيم.
فذهب بعض العلماء إلى أنه تخييل، وينسب هذا إلى قوم من المعتزلة، وإلى بعض الأحناف.
والصواب أن السحر نوعان: نوع حق، أي: له حقيقة، والنوع الثاني: تخييل، والدليل على أن منه ما هو خيال قول الله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66] والضمير يعود إلى موسى عليه الصلاة والسلام في قصة السحرة لما وضعوا الحبال والعصي، ووضعوا عليها الزئبق، فصارت تتلون في الشمس، فموسى عليه الصلاة والسلام -كما قال تعالى عنه- أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً [طه:67] وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فقال الله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68-69] فألقى موسى العصا، فابتلعت جميع ما في الوادي من العصي والحبال التي وضعوها.
فهذه عصي وحبال وضعوها، ووضعوا عليها الزئبق فجعلت تتلون، فخيلوا للناس أنها حيات وعقارب، ولهذا قال الله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].
وهذا النوع من الخيال يسحر الساحر به أعين الناس فقط، ويكون الشيء المرئي ليس على حقيقته.
النوع الثاني: السحر الحقيقي، أي: له حقيقة تؤثر في القلوب والأبدان بالمرض والقتل وبتغيير العقل، ولهذا قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].
فالنفاثات: السواحر اللاتي يعقدن العقد، وينفثن في عقدهن، فلولا أن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، وبما أن الخيال لا يؤثر إلا في العيون فقط لم يأمر الله بالاستعاذة منه، فلما أمر الله بالاستعاذة من السحر؛ دل على أن له حقيقة، فلو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه، قال تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير، وهو أن السحر نوعان: نوع له حقيقة، يؤثر في القلوب والأبدان ويمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ونوع هو خيال.
وقد ثبت في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله)، وقد أنكر بعض الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وظن أن هذا يقدح في شخصه عليه الصلاة والسلام، وهذا غلط؛ لأن هذا ثابت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة، في وعاء طلع النخل، وجعل في صخرة أسفل بئر ذروان.
والمشط معروف، والمشاطة: ما يحصل من الشعر حينما يمشط الشعر بالمشط، فيسقط بعض الشعر، وهذه تسمى مشاطة، وقد جعلهما الساحر في جف طلعة ذكر، وهو وعاء الطلع، ويسمى حبوب اللقاح الذي يلقح به النخلة.
فأخذ هذا الوعاء -وعاء طلع الذكر- وجعله في مشط ومشاطة، وجعله في صخرة تحت بئر ذروان، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه شيء في جسده، وصار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله.
ثم جاءه ملكان على صورة رجلين في رؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما بال الرجل؟ فقال: مطبوب. يعني: مسحور، والسحر يسمى طباً تفاؤلاً بالسلامة، كما يسمى اللديغ سليماً، تفاؤلاً له بالسلامة، فكذلك المسحور يسمونه مطبوباً تفاؤلاً له بالطيب والسلامة.
قال: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، فسأله: في أي؟ قال: في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر، في بئر ذروان. فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يستخرج السحر، فذهب إلى تلك البئر، واستخرج السحر، ثم أمر بالبئر فدفنت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (يا
وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج السحر، وفي بعضها أنه لم يستخرجه، وجمع العلماء بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استخرج وعاء طلع النخل، ثم أزيل السحر؛ ولكنه لم يستخرج ما بداخله من المشط والمشاطة.
ثم أمر بهذه البئر فدفنت، ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم لبيد بن الأعصم اليهودي.
وهذا السحر الذي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقدح في عصمته، فلم يؤثر في عصمته ولا في عقله عليه الصلاة والسلام، ولا في تبليغه الرسالة، وإنما في شيء يتعلق بأمور الدنيا، ويتعلق بجسده، فكان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، لكنه لم يتعلق بعقله، ولا بتبليغه الرسالة، ولا بعصمته عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا الذي أصابه من السحر نوع من المرض كسائر الأمراض، لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك بعض الناس، فالصواب أن ذلك لا يقدح في عصمته عليه الصلاة والسلام، وليس له تأثير على تبليغ الرسالة، ولا على عقله ولا فكره عليه الصلاة والسلام.
وقد جاءت روايات أو آثار فيها المنع من النشرة، وآثار أخرى فيها الإباحة، وجمع العلماء بينهما بأن الرواية التي فيها المنع محمولة على حل السحر بسحر مثله، كما في الحديث: (لا يحل السحر إلا الساحر) والمراد: النشرة المحرمة، فلا يجوز لمن ابتلي بالسحر أن يحل السحر عن طريق السحرة، ولا يجوز له إتيان السحرة ولا سؤالهم ولا تصديقهم؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وسلم.
فإذا سأله ولم يصدقه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، وإذا سأله وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السحرة قال: (ليسوا بشيء) يعني: أخبارهم لا يوثق بها، وفي الحديث: (ليس منا من تكهن أو تكهن له، أو تطير أو تطير له، أو سحر أو سحر له)، فلا يجوز للمسلم أن يأتي السحرة، ولا يجوز له سؤالهم ولا تصديقهم، ولا المعالجة عندهم؛ لأن السحر لا يحله إلا سحر مثله، ولا يحل السحر إلا ساحر.
لكن يجوز له أن يحل السحر وأن يتعالج عن طريق الأدوية المباحة، والرقية الشرعية، وهي آيات من القرآن تقرأ عليه، والأدعية الشرعية المباحة لا بأس بها، وهذا ما يحمل عليه كلام بعض السلف، كما سئل سعيد بن المسيب عن رجل به طب -أي: سحر- أيحل عنه أو ينشر؟ فقال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينهوا عنه. يعني: لا بأس بحل السحر؛ لأن حل السحر إنما يراد به الإصلاح، والمراد حل السحر عن طريق نشرة شرعية، وهي النشرة الشرعية التي لا محذور فيها.
فهذه الآيات تقرأ في إناء في ماء، ثم يصب من فوق رأس المسحور، ويكرر هذا، ولابد من الثقة بالله عز وجل والاعتماد عليه، وسكون القلب عند قراءة الآيات، وتكون نفس المريض منفعلة وقابلة، فإذا وجدت الأسباب ووافق ذلك ما قدر الله فإنه يشفى بإذن الله.
وكذلك الرجل الذي يحبس عن امرأته، فلا يتوق إلى جماعها، يؤتى له بسبع ورقات من السدر، وتوضع في الماء، ويقرأ فيها آية الكرسي، و(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وهذا مجرب، قد جربه العلماء، وجربه الكثير من مشايخنا، وجربته أنا أيضاً بنفسي، إذ أتي إلي مرات عديدة بعض الناس يقول الواحد منهم: إنه محبوس عن امرأته، ولا يستطيع أن يجامعها، فقرأت له آية الكرسي وغيرها مما ذكر فاستفاد والحمد لله، وشفاه الله، وآخر كذلك، وثالث، فهذا مجرب، وقال العلماء: إن هذا العلاج جيد في حبس الرجل عن امرأته.
وعلى كل حال فإنه ينبغي للإنسان أن يثق بالله، وأن يعلق رجاءه بالله، وأن يعتمد عليه، ويفوض أمره إليه، ويدعوه ويتضرع إليه دائماً أن يشفيه، فالمريض يتضرع إلى الله ويبتهل إليه، وكذلك من حوله من أقاربه، لا ينسون الدعاء، فيتضرعون إلى الله، ويدعون الله له بالشفاء، فالدعاء سلاح المؤمن، فيدعو ربه ليلا ونهارا، ويسأل الله الشفاء، مع الأخذ بالأسباب، وقراءة الرقى الشرعية، والأدوية لا بأس بها، وكذلك العقاقير الطبية التي لا محذور فيها عند الأطباء، ومن الأدعية التي وردت أن يكثر من قوله: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً)، و(أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، و( بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)، و(بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك)، و(ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء والأرض، اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع).
ويستعمل مع هذه الأدعية والرقى الأدوية المباحة التي لا محذور فيها عند الأطباء، أما هذه التي عند السحرة والمشعوذين فلا تجوز المعالجة بها، ولا يجوز الإتيان إليهم أبداً؛ لأن هذا رفع من شأنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليسوا بشيء)، ولأن من أتى إليهم متوعد بهذا الوعيد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)؛ لأنه قد يأمره بالشرك، وبعض الناس يذهب ليتداوى عند السحرة، فيقول له -وقد يكون جاهلاً-: علاج مرضك أن تأتي بكبش أو ديك أبيض أو كذا ثم تذبحه على كذا، ولا تسمي الله، أو لا تذكر الله، وبعضهم يصرح ويقول: هذا لشيوخ الجن، والعياذ بالله، وهذا من البلاء والمصائب.
وإن أغلى ما يملكه الإنسان هو دينه، فلا يجوز للإنسان أن يأتي السحرة؛ ولهذا جاء الوعيد الشديد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، وفي الحديث الآخر: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وسلم، فالأمر جد خطير.
فالعلاج له طريقان: طريق شرعي، وطريق محرم مسدود ممنوع، وهو الإتيان إلى السحرة، والطريق الثاني: مباح مشروع، وهو العلاج عن طريق الرقى الشرعية، والآيات القرآنية، والدعوات المباحة، والأدوية والعقاقير الطبية التي لا محذور فيها.
الجواب: الدعاء من القدر، ولا يخرج عنه، والدعاء سبب من أسباب الإجابة، فالله قدر السبب والمسبب، فلا يخرج الدعاء عن القدر، وجاء في حديث آخر (الدعاء والبلاء يعتلجان بين السماء والأرض، فأيهما كان أقوى غلب صاحبه) والله تعالى قدر أن يكون شفاء المريض بهذا السبب وهو الدعاء، وقدر أن هذا لا يشفى بترك الدعاء.
والمقصود أن الدعاء سبب من الأسباب، وهو من قدر الله، فلا يخرج عن القدر.
الجواب: عليهم أن يبحثوا عن العلم، ولا ينبغي لهم أن يستسلموا للصوفية، بل عليهم أن يبحثوا عن العلماء، ولاسيما في العصر الحاضر، ووسائل الإعلام قد تعددت الآن، فبإمكانهم أن يتصلوا بالعلماء بطريقة الهاتف، أو عن طريق الإذاعة، وإذاعة القرآن فيها برنامج (نور على الدرب)، وفيها الفتاوى، ومن الممكن أن يتصلوا بالعلماء، أو يكتبوا لهم، ولو كان للإنسان حاجة دنيوية لبحث عنها حتى يحصل عليها، فلماذا لا يبحث عن دينه، ويسأل عن دينه، ويسأل عما أشكل عليه؟! فلابد من أن يتصلوا بالعلماء، فهم ليسوا مكتوفي الأيدي، والحمد لله، فلهم قدرة على الاتصال، والطرق متعددة، فيستطيعون أن يتصلوا بالعلماء وهم في بلادهم عن طريق الهاتف، وعن طريق المكاتبة، وعن طريق الإذاعة.
والمقصود أنهم لا يعذرون بالاستسلام، فلا يستسلموا للجهل، بل عليهم أن يبحثوا ويسألوا حتى يتعلموا أمور دينهم، ويبحثوا عما أشكل عليهم، ويعبدوا الله على بصيرة.
الجواب: هذا لا بأس به، وإنما الممنوع أن يقول توكلت على الله وعليك، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا جاءت (ثم) فإنه يزول المحذور.
لكن هذا اللفظ المقصود منه الوكالة، فتسميته توكلا غلط من قائله، والأفضل أن يقول بأن هذا وكالة، أي: وكلتك في هذا الشيء وأنبتك عني، فالعاصي يقول: أنا متوكل على الله، وبعضهم يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وهذا غلط، فالمقصود هو: الوكالة، وتسميته توكلاً خطأ.
الجواب: يجاب عنه كما أجبنا على الصوفي الذي يسجد لشيخه ويقول: إنما أضع الرأس قدام الشيخ احتراماً له وتواضعاً، فنقول له: هذا سجود ولو سميته احتراماً وتواضعاً، فما دام أنه قصد السجود للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا شرك، وكونه يقول: إن هذا احترام وتواضع لا يغير من الأمر شيئاً؛ لأن العبرة بالحركة والمعنى، وليست العبرة بالتسمية، فلو سمى الناس الخمر شراب الروح فهو خمر، ولا تزيل التسمية تحريمه، ولو سمى الناس الربا الفائدة أو العمولة أو الربح المركب فهو ربا؛ لأن العبرة بالمعاني والحقائق.
فلو سمى سجوده للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للشمس، أو للقمر، أو للنجم تواضعاً واحتراماً؛ فهو سجود؛ لأن العبرة بالمعنى والحقيقة لا بالتسمية.
أما سجود أبوي يوسف وأخوته له فهو سجود احترام، وهو جائز في شريعة يوسف وفي شريعة يعقوب، ولهذا لما رأى يوسف الرؤيا قال في أول الأمر عندما كان صغيراً: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] فقال هذا وهو صغير، ثم بعد ذلك لما كبر وولي خزائن مصر وأتاه الناس يكيل لهم، ثم أتاه إخوته، ثم أخذ أخاه، ثم بعد ذلك أرسل قميصه، وقال لإخوته: ائتوني بأهلكم أجمعين، جاء أبوه وأمه وأخوته وهم أحد عشر أخاً، فلما جاءوا رفع أبويه على العرش، وخروا له سجداً، وهو سجود تحية واحترام لا سجود عبادة، وهذا جائز في شريعتهم، لكن شريعتنا أكمل الشرائع، فلا يجوز فيها سجود التحية.
ولما سجد معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاء من اليمن، وقال: إنه رآهم يسجدون للملوك؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) من عظيم حقه عليها.
فالمقصود أن السجود لا يجوز في شريعتنا، أما في شريعة يوسف ويعقوب فإنه جائز، وليس سجود عبادة، وإنما سجود تحية وإكرام، ولما سجدوا قال يوسف لأبيه: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] أي: وقعت الرؤيا، حيث رآها وهو صغير، ثم تحققت الرؤيا وهو كبير، فلما سجدوا له بالفعل قال: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100].
,التأويل بمعنى: الحقيقة التي يئول إليها الشيء، والتأويل يأتي بمعنى: التفسير، ويأتي بمعنى: الحقيقة التي يئول إليها الشيء.
الجواب: إذا كان المقصود التعظيم لهم؛ فإنه يخشى على صاحبه من الشرك، مثلما يفعل الصوفية حينما يلقى بعضهم بعضاً، ويركع بعضهم لبعض.
وعلى كل حال فإنه ينبغي ألا يفعل هذا، ولا ينبغي أن ينحني أحد أمام أحد، فإن هذا يخشى أن يكون من الركوع لغير الله.
الجواب: إذا اُتبع الهوى بترك التوحيد وفعل الشرك والكفر صار شركاً، وإذا كان اتباع الهوى بالمعصية صار معصية، فإذا اتبع المرء الهوى فزنى أو سرق، أو شرب الخمر صار عاصياً، وإذا اتبع الهوى فذبح لغير الله أو نذر لغير الله، أو فعل شيئاً لغير الله صار مشركاً.
الجواب: لا دليل على ذلك ولا منع؛ لأن أصله مباح، فأي شيء يستعمل ليس فيه محذور لا مانع منه؛ لأن الأصل فيه الإباحة، والسدر إذا كان فيه فائدة فإنه يستعمله، وإذا كان هناك شيء مفيد كالدواء وفيه تجارب فإنه يفعله، فإذا قلت: هات الدليل على كذا وكذا، قلنا: هات الدليل على أن العين يجعل فيها قطرة للدواء، هل عندك دليل على أن العين يجعل فيها قطرة؟! الجواب: لا دليل، لكن هذا مباح، والتجارب أثبتت أن هذا فيه فائدة والحمد لله، فكذلك السدر إذا كان فيه فائدة، فهو مثل القطرة التي تضعها في عينك، فهذا لا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل فيه الإباحة، ما لم يكن فيه محذور.
الجواب: إذا لم يترتب على ذلك ضرر أكبر فهذا مشروع، أما إذا كان يترتب على ذلك ضرر فلا يجوز، فإن كان هدمها عن طريق المسئولين، أو عن طريق أهل الحسبة، أو من له قدرة وسلطة، ولم يترتب على ذلك ضرر أكبر فإنه جائز.
وإن من أجل القربات وأفضل الطاعات هدمها وإزالتها إذا كان لا يترتب على هذا ضرر؛ لأنه قد تزال هذه العين ثم يجعل غيرها، وتنصب معابد أكبر منها، كردة فعل، وهذا يترتب عليه منكر أكبر، فبعض الناس إذا أنكرت عليه المنكر زاد في منكره.
فإذا كان لا يحصل ضرر أو منكر أكبر فهدمها طيب مشروع، وإن كان يحصل من ذلك ضرر أو منكر أعظم فلا تفعل، ولابد من المشاورة في هذا مع العقلاء في تلك الديار، والعلماء والسمحاء وأهل الخير، وإن كان هناك بعض المسئولين فيه خير فلا بد من التشاور معه، وكذلك إقناعه وأخذ رأيه وبيان عظم هذا الأمر، فيكون ذلك عن طريق الولاة الصالحين، أو طريق العلماء الصالحين، أو العقلاء، أو أعيان البلاد، فلابد من البصيرة في هذا الأمر، والنظر في عواقب الأمور.
الجواب: هذا ليس فيه شيء، أما الصوفية فهم يحلقون رءوسهم تعبداً للشيخ وتقرباً إليه، أما حلق الرأس فهو مباح، والأفضل إبقاء الشعر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترك شعره حتى يكون كالوفرة إلى كتفه أو إلى أذنه، ولا يحلق إلا في الحج أو العمرة، قال الإمام أحمد : هو سنة بقاء الشعر، لو نقوى عليه لاتخذناه، ولكن له كلفة ومشقة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان له شعر فليكرمه) أي: يحتاج إلى غسل ودهن، فحلقه مباح على الصواب، وقال بعض العلماء بكراهته.
لكن إذا كان إبقاؤه فيه تشبه ببعض الفساق والعصاة فعليه أن يحلقه حتى لا يتشبه بهم، والمقصود أن هذا لا محذور فيه، إنما المحذور الذي يفعله الصوفية، بأن يحلق الواحد رأسه تعبداً للشيخ وتقرباً، كما يتعبد الحاج بحلق شعره في العمرة أو في الحج، فإن حلق رأسه نسك من مناسك الحج والعمرة.
الجواب: قال بعض العلماء: إن هذا شرك، وهو أن يتعصب للمذهب حتى يترك نصاً من الآية أو الحديث لقول الشيخ أو إمامه، قال بعض العلماء: يخشى أن يكون هذا داخلاً في الشرك، حتى قال بعض متعصبي الأحناف: كل آية أو حديث يخالف المذهب فهو منسوخ أو متأول.
فانظر إلى هذا التعصب، كل نص يخالف المذهب فهو متأول أو منسوخ! يعني: من دون تأمل، ومن دون تفكير، أي آية تخالف المذهب إما منسوخة أو متأولة، وأي حديث يخالف المذهب إما منسوخ وإما متأول.
فجعل المذهب هو الأصل، والنصوص من الآيات والأحاديث تخضع للمذهب، والواجب العكس، والأصل هو الدليل من الآيات والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والمذهب يخضع للآيات، فإذا وافق المذهب النص أخذ بالمذهب، وإن لم يوافقه ترك وطرح.
لكن هؤلاء المتعصبين عكسوا الأمر فقالوا: الأصل المذهب، وإذا جاء نص يخالف المذهب فهو إما منسوخ أو متأول، وهذا من البلاء ومن المصائب.
قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] قال الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، نسأل الله السلامة والعافية.
الجواب: إذا كان يتعلمها لدعوى علم الغيب، أو يتعلمها ليستدل بها على السعادة أو الشقاوة والنحاسة، أو المرض؛ فهذا من علم التنجيم، أما إذا كان يتعلم الحروف الأبجدية حتى يتهجاها ويكتبها بالجمل لمعرفة وفيات الأئمة والعلماء، فلا بأس بأن يتعلم هذه الحروف الأبجدية.
أي: إذا كان يتعلم أن الألف واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، حتى يصل إلى عشرة، ثم الكاف عشرين فلا بأس بذلك، فإن بعضهم ضبط وفيات الأئمة الأربعة بالحروف الأبجدية، فقال:
فنعمانـهم (قان) و(طعق) لمالك وللشافعي (در) و(رام) لابن حنبل
فـأبي حنيفة النعمان (قان)، فالنون أربعون، والقاف مائة، والألف واحد، أي أن وفاته في مائة وواحد وأربعين، و(طعق) لـمالك فالطاء تسعة، والعين سبعون، والقاف مائة، أي: في مائة تسعة وسبعين، وللشافعي (در)، فالدال أربعة، والراء مائتان، فوفاته في مائتين وأربعة، و(رام) للإمام أحمد، فالراء مائتان، والألف واحد، والميم أربعون، فوفاته في مائتين وواحد وأربعين.
فهذا ضبط وفيات الأئمة بالحروف الأبجدية، ولا بأس إذا كان يستعملها لهذا، لضبط الوفيات، أو لولادة بعض العلماء، أو للتهجي، أما إذا كان يتعلمها ليدعي بها علم الغيب، أو ليعرف بها النحاسة والتعاسة، والسعادة والشقاوة، ويعرف حظه أو ما أشبه ذلك، فهذا من التنجيم المحرم.
الجواب: الشرك محرم، والشرك شرك، وتسميته بدائياً أو ساذجاً تسمية خاصة بقائلها، ومقصوده أن هذا شرك الأولين، أما شرك المتأخرين فلأنهم يعبدون الأشخاص، والرؤساء، أو النساء، أو الصور، وهذا هو الشرك المتطور، أما الطواف بالقبور والذبح لها فشرك بدائي، وهذا اصطلاح له، والتسمية لا تغير من الأمر شيئاً.
الجواب: نعم ينكر عليهم ذلك إذا كانوا يعتقدون أن فيها الشفاء لذواتهم، فهذا من جنس التبرك، فإذا اعتقدوا أن البركة فيها ذاتية فهذا هو الشرك الأكبر.
أما إذا كان يعتقد أنها سبب، وأن الله يجعل فيها الشفاء؛ فهذا شرك أصغر، لكن بعض الناس يقول: إن فيها مواد مالحة، وإنها تفيد من هذه الجهة، لا لأنها شافية، ولا لأنها سبب، بل يستفاد من الأملاح التي فيها، أو المعادن التي فيها، فهذا شيء لا بأس به.
الجواب: الحمد لله، مادام أنهما منعاك فلتمتنع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في الجهاد، فقال: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)؛ لأن الجهاد فرض كفاية، وبر والديك فرض عين، ففرض العين مقدم على فرض الكفاية.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وفق الله الجميع لما يرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر