أما بعد:
فإن موضوع أنواع التوحيد الثلاثة هو أول ما نطرقه، حيث إن الطحاوي رحمه الله بدأ رسالته بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].
والتوحيد معناه في اللغة: الإفراد، فالله تعالى هو المتوحد بكمال الجلال والجمال، فهو الذي لا يشابهه غيره سبحانه وتعالى، والموحد هو الذي أفرد الله ووحده.
والتوحيد عند أهل العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي الأقسام المعروفة بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأقسام الثلاثة دليلها الاستقراء والتتبع؛ فإن العلماء استقرءوا النصوص وتتبعوها، فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية والعبادة.
ولابد في الإيمان من توحيد الله تعالى بهذه الأنواع الثلاثة كلها، فمن لم يوحد الله بهذه الأنواع الثلاثة فليس بمؤمن، فلابد لصحة الإيمان من توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في إلهيته وعبادته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، فمن وحد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وشهد أن محمداً رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، وصدق برسالته، والتزم وعمل بالشريعة، ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام؛ فهو المؤمن، وإن فعل شيئاً من المعاصي دون الشرك، ودون الناقض فلا يخرجه ذلك عن ملة الإسلام، لكنه إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب يكون ناقص الإيمان، ويكون فاسقاً، إلا إذا تاب، ومن تاب تاب الله عليه.
فلابد للمؤمن من أن يعترف بوجود الله، وأن الله فوق العرش له ذات لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى، ولابد من أن يعترف بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأن الله هو الخالق وغيره مخلوق، وأن الله هو المالك وغيره مملوك، وأن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، ومن أفعاله: الخلق، والرزق، والإماتة والإحياء، وتدبير الأمور.
إذاً: فالمشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من كفار مكة كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، وكذلك سائر الأمم، فقوم نوح وقوم هود وقوم صالح كلهم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، ولكن توحيد الله في ربوبيته، والإقرار بهذا النوع من التوحيد لا يكفي في الإيمان، ولا يكفي في الدخول في الإسلام، فالمشركون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، ومع ذلك كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم؛ لأنهم لم يوحدوا الله في عبادته وإلهيته، نعم توحيد الله في ربوبيته حق، وهو أحد أنواع التوحيد ولابد منه، لكنه لا يكفي وحده، إذ لابد من أن يضم إليه الإنسان توحيد الله في عبادته وإلهيته وأسمائه وصفاته.
أما بعد:
فإن موضوع أنواع التوحيد الثلاثة هو أول ما نطرقه، حيث إن الطحاوي رحمه الله بدأ رسالته بقوله: [ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا إله غيره ].
والتوحيد معناه في اللغة: الإفراد، فالله تعالى هو المتوحد بكمال الجلال والجمال، فهو الذي لا يشابهه غيره سبحانه وتعالى، والموحد هو الذي أفرد الله ووحده.
والتوحيد عند أهل العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي الأقسام المعروفة بتوحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأقسام الثلاثة دليلها الاستقراء والتتبع؛ فإن العلماء استقرءوا النصوص وتتبعوها، فوجدوا أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية والعبادة.
ولابد في الإيمان من توحيد الله تعالى بهذه الأنواع الثلاثة كلها، فمن لم يوحد الله بهذه الأنواع الثلاثة فليس بمؤمن، فلابد لصحة الإيمان من توحيد الله في ربوبيته، وتوحيد الله في إلهيته وعبادته، وتوحيد الله في أسمائه وصفاته، فمن وحد الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وشهد أن محمداً رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه لا نبي بعده، وصدق برسالته، والتزم وعمل بالشريعة، ولم يفعل ناقضاً من نواقض الإسلام؛ فهو المؤمن، وإن فعل شيئاً من المعاصي دون الشرك، ودون الناقض فلا يخرجه ذلك عن ملة الإسلام، لكنه إذا فعل كبيرة من كبائر الذنوب يكون ناقص الإيمان، ويكون فاسقاً، إلا إذا تاب، ومن تاب تاب الله عليه.
فلابد للمؤمن من أن يعترف بوجود الله، وأن الله فوق العرش له ذات لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى، ولابد من أن يعترف بأن الله هو الرب وغيره مربوب، وأن الله هو الخالق وغيره مخلوق، وأن الله هو المالك وغيره مملوك، وأن الله هو المدبر وغيره مدبَّر، وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه وتعالى، ومن أفعاله: الخلق، والرزق، والإماتة والإحياء، وتدبير الأمور.
ومن هذه الطوائف التي شذت وأنكرت توحيد الربوبية: طائفة الدهرية، وهم الذين يزعمون أن العالم يسير بنفسه، وليس له مدبر، بل هو الذي يدبر نفسه بنفسه، وقالوا ما حكى الله عنهم في القرآن الكريم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، فهؤلاء الدهريون أنكروا الرب سبحانه وتعالى، وقالوا: إن العالم هو الذي يسير نفسه، وليس له مدبر ولا مسير، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والشيوعيون دهرية في الجانب الفكري والاعتقادي، فهم يقولون: لا إله، والحياة مادة، فهذه هي عقيدة الشيوعية، أما عقيدة المسلمين فهي توحيد، فيقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فالمؤمنون يوحدون الله، والشيوعيون عقيدتهم أنه لا إله، والحياة مادة، فيعبدون المادة، وينفون الإله، ولا يثبتون لهذا الكون رباً ولا إلهاً ولا مدبراً، فهم دهرية في الجانب الفكري.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله أن الدهرية فرقتان:
الفرقة الأولى من الدهرية يقولون: إن الله تعالى خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة، فدارت عليه وأحرقته، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركتها، فبقيت بلا مدبر.
والفرقة الثانية يقولون: إن هذا العلام ليس له أول البتة، وإنما يخرج ما كان بالقوة إلى الفعل، فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل تكونت الأشياء من ذاتها لا من شيء آخر، ويقولون: لا يمكن أن يخلق المبدع شيئاً يضمحل ويفنى إلا وهو يضمحل ويفنى مع خلقه، وقالوا: إن هذا العالم هو الممسك بنفسه لهذه الأجزاء التي هي فيه، نسأل الله السلامة والعافية.
وهؤلاء الدهرية فساد فطرتهم وعمى بصيرتهم ظاهر لكل أحد، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى رد عليهم في القرآن الكريم لما حكى مقالتهم: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، فقال الله رداً عليهم: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24]، أي أن هؤلاء ليس لهم على هذه المقالة دليل ناتج عن علم، وليس لهم دليل عقلي ولا سمعي، ليس لهم دليل من الشرع ولا من العقل ولا من الفطرة، ومن كان هذا شأنه فلا يلتفت إليه في ميزان العلم، وكل قول ليس عليه دليل من العقل ولا من الشرع ولا من الفطرة فهو قول فاسد، وعلى صاحبه أن يثبته، وإلا فإن كلامه هذيان وفساد، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24]، يعني: ليس لهم دليل دلهم على هذه المقالة من الشرع ولا من العقل ولا من الفطرة ولا من الحس ولا من الواقع، فتبين أن هؤلاء القوم عميت بصائرهم، وخرجوا عن ضرورات العقلاء، وبنوا آدم جميعاً يثبتون وجود الله، ويثبتون الخالق ضرورة، من دون احتياج إلى نظر وتأمل، فالله تعالى فطر الخلق على الإقرار بوجود الله، والإقرار بربوبيته، وأنه الخالق المدبر المتصرف سبحانه وتعالى.
التفسير الأول: أنها عبارة عن ذات الأشياء، فذات النبات خلقت النبات، وذات الأرض خلقت الأرض، وذات السماء خلقت السماء، وذات الإنسان خلقت الإنسان، وذات الحيوان خلقت الحيوان، هكذا يقولون، وهذا من أفسد ما يقال من الأقوال؛ لأن معنى ذلك أن الشيء أوجد نفسه، فتكون الأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء، والإنسان خلق الإنسان، وهذا باطل، فلا يمكن أن يخلق الشيء نفسه؛ لأن الشيء قبل وجوده عدم، والعدم لا يمكن أن يوجد شيئاً، فالأرض كانت قبل وجودها عدماً، فكيف يخلق العدم ويوجد، والإنسان عدم قبل أن يخلق، والعدم ليس بشيء، فكيف يوجد ويخلق، ولهذا قال الله تعالى في كتابه العظيم: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36].
فلا يمكن أن يُوجِد شيء معدوم نفسه إلا بموجد، بل لابد له من موجد خالق، وهو الرب سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى، وهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الحي القيوم، القائم بنفسه المقيم لغيره سبحانه وتعالى، لا يلحقه نقص ولا عدم، بل هو واجب الوجود بذاته سبحانه وتعالى.
وأما المخلوقات فهي مخلوقة من العدم، والعدم لا يوجد نفسه، ولا يخلق ولا يوجد شيئاً، فالمعدوم لا يخلق نفسه ولابد له من خالق، ولهذا قال سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35].
وقد ثبت في صحيح البخاري أن جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم المدينة في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، حيث وضعت الحرب أوزارها فاختلط المشركون بالمسلمين، وهذا من الحكم العظيمة في صلح الحديبية، فالرسول عليه الصلاة والسلام قبل الشروط -وإن كان فيها غضاضة على المسلمين- لأن فيها مصالح عظيمة، حيث تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للكتابة للرؤساء والعشائر، واختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا القرآن، وأسلم جمع غفير منهم، وفي ذلك الزمن قدم جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل أن يسلم إلى المدينة من مكة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الطور، وسمع هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] قال: فكاد قلبي أن يطير. فدبت الحياة فيه قبل أن يسلم، ثم بعد ذلك أسلم رضي الله عنه.
وأما تفسير الطبعيين الثاني للطبيعة فهو أنها عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها، فيقولون: هي صفات الأشياء وخصائصها من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والملاسة والخشونة، وكذلك المتقابلات من حركة وسكون، وتزاوج وتوالد، ونمو واغتذاء، فهذه الصفات وهذه المتقابلات هي الطبيعة عندهم، وهي التي أوجدت الأشياء، وهذا التفسير أفسد من التفسير الذي قبله؛ لأنه إذا عجزت ذات الأشياء عن إيجاد نفسها فعجز صفاتها من باب أولى، فإذا كانت الذات لا توجد ولا تخلق، فكيف تكون الصفة موجدة خالقة؟! بل إذا عجزت ذات الأشياء فعجز صفاتها من باب أولى، وهل الصفة تخلق الموصوف؟! فإذا كان الموصوف نفسه لا يستطيع أن يوجد نفسه، فكيف توجد الصفة نفسها؟!
ولأن الصفة تابعة للموصوف، والطبيعة حالة محضة لا شعور لها، فكيف توجد؟! وكيف تصدر عنها هذه الأفعال العظيمة، وهذه الأفلاك المنظمة المرتبة التي على أحسن نظام وأبدعه؟!
إن ذلك لا يمكن، ثم إن هذا التفاوت العظيم بين المخلوقات لابد من أن يحصل عن حكمة، فلو كانت الطبيعة هي الخالقة لكان الخلق متساوين غير متفاوتين! والمقصود أن هذا من أخبث ما يقال.
وهذا كلام لا يقوله عاقل، فهؤلاء صاروا يتكلمون بمثل كلام المجانين، ولا يمكن أن يقبل هذا الكلام عاقل؛ فإن من نظر إلى هذا الكون العظيم علويه وسفليه المنظم المرتب البديع، فسيقول هذه السماوات العظيمة من الذي أقامها؟!
وهذه الأرض من الذي بسطها؟! وكذلك هذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار.
وهذه الشمس كل يوم تخرج من المشرق وتغرب في المغرب ولا يختل نظامها، وهذا القمر يبدو صغيراً ضعيفاً في أول الشهر في المغرب، ثم يكبر حتى يتم منتصف الشهر، ثم يضعف إلى آخر الشهر ولا يتغيب.
وكذلك خلق الإنسان، فانظر إلى خلقك حينما كنت نطفة في بطن أمك، ثم خلق لك السمع والبصر والعقل، ثم خرجت إلى الدنيا، فهل يمكن أن يوجد هذا نتيجة للصدفة؟! تعالى الله، لكن هؤلاء الملاحدة ألغوا عقولهم، وصاروا كالمجانين، نسأل الله السلامة والعافية.
وما مقالتهم هذه إلا كمقالة من يقول: إن هناك انفجاراً انفجر في المطبعة، فتطايرت الحروف والأرقام، ولما تطايرت الحروف والأرقام جاءت الباء وصارت بجوار السين، والسين بجوار الميم، والميم بجوار الألف، وكذلك اللام والهاء والألف والراء والحاء والميم والنون، والألف والراء والحاء والياء والميم، فتكونت (بسم الله الرحمن الرحيم)، فجأة! ثم تطايرت الحروف وكونت: (الحمد لله رب العالمين)، وهكذا حتى تم الكتاب في مجلدات صدفة، فهل يقول هذا عاقل؟!
لا يقول هذا عاقل، وإذا كان هذا لا يمكن في تكون الكتاب؛ فكيف يتكون هذا العالم علويه وسفليه، المنظم المرتب البديع، الذي يحوي فصول السنة التي لا تختلف ولا تتغير، فشتاء وربيع وخريف وصيف على مر السنين والأعوام، كيفيتكون ذلك من غير مدبر؟!
فهؤلاء ينكرون وجود الله في الظاهر وإن كانوا مستيقنين بوجوده في الباطن، وسيأتي أن ابن عربي يقول: ليس هناك فرق بين الرب والعبد، ويقول:
الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف
ويقول: (رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك).
فهؤلاء الملاحدة على طريقة فرعون، لا يثبتون وجوداً لله.
وهذه الطوائف الأربع شذت عن المجموعة البشرية وأنكروا وجود الرب الكريم، وأنكروا ربوبيته.
قال: يحكى أن سفينة في نهر دجلة ليس لها قائد، جاءت وحدها ورست على الساحل، ثم حملت بنفسها جميع البضائع حتى امتلأت، ثم ذهبت بنفسها وصارت تمخر عباب الماء، حتى وصلت إلى الشاطئ الثاني، ثم رست أياماً وليالي، فلما وصلت إلى الساحل الثاني أفرغت حمولتها بنفسها، ثم رجعت، وهكذا تمشي في البحر ليس لها قائد ولا ملاح.
فقالوا: هذا مستحيل لا يمكن، ولا يصدق بهذا عاقل! سفينة ليس لها ملاح ترسي على الساحل وحدها، وتحمل البضائع وحدها، ثم تذهب وتفرغ حمولتها بنفسها وترجع، وليس لها ملاح ولا قائد! هذا لا يمكن، بل مستحيل.
قال: فإذا كان يستحيل أن تكون سفينة واحدة تمشي بدون مدبر، فكيف يمشي هذا الكون بدون مدبر؟! وكيف يوجد هذا الكون بدون مدبر؟! وهذا العالم علويه وسفليه هل يمكن أن يوجد بدون مدبر؟! أين عقولكم؟!
فهذه السماوات، وهذه الأفلاك، وهذه النجوم، وهذه المجرات، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه الأرض، وهذا النبات، وهذه الأشجار، وهذه الحيوانات، وهذه الحيتان، وهذه الطيور، هل يمكن أن توجد بدون مدبر؟!
إذا كنتم تقولون: يستحيل أن تدبر سفينة نفسها، فكيف يجوز أن يدبر العالم نفسه بنفسه؟!
فانقطعوا وبهتوا وانتهت المسألة من أساسها.
فتوحيد الربوبية توحد فطري، فقد فطر الله جميع الخلق على الإقرار بوجود الله والإقرار بربوبيته.
قال: يحكى أن سفينة في نهر دجلة ليس لها قائد، جاءت وحدها ورست على الساحل، ثم حملت بنفسها جميع البضائع حتى امتلأت، ثم ذهبت بنفسها وصارت تمخر عباب الماء، حتى وصلت إلى الشاطئ الثاني، ثم رست أياماً وليالي، فلما وصلت إلى الساحل الثاني أفرغت حمولتها بنفسها، ثم رجعت، وهكذا تمشي في البحر ليس لها قائد ولا ملاح.
فقالوا: هذا مستحيل لا يمكن، ولا يصدق بهذا عاقل! سفينة ليس لها ملاح ترسي على الساحل وحدها، وتحمل البضائع وحدها، ثم تذهب وتفرغ حمولتها بنفسها وترجع، وليس لها ملاح ولا قائد! هذا لا يمكن، بل مستحيل.
قال: فإذا كان يستحيل أن تكون سفينة واحدة تمشي بدون مدبر، فكيف يمشي هذا الكون بدون مدبر؟! وكيف يوجد هذا الكون بدون مدبر؟! وهذا العالم علويه وسفليه هل يمكن أن يوجد بدون مدبر؟! أين عقولكم؟!
فهذه السماوات، وهذه الأفلاك، وهذه النجوم، وهذه المجرات، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه الأرض، وهذا النبات، وهذه الأشجار، وهذه الحيوانات، وهذه الحيتان، وهذه الطيور، هل يمكن أن توجد بدون مدبر؟!
إذا كنتم تقولون: يستحيل أن تدبر سفينة نفسها، فكيف يجوز أن يدبر العالم نفسه بنفسه؟!
فانقطعوا وبهتوا وانتهت المسألة من أساسها.
فتوحيد الربوبية توحد فطري، فقد فطر الله جميع الخلق على الإقرار بوجود الله والإقرار بربوبيته.
ومن هذه الطوائف الذين أشركوا في الربوبية: المانوية من المجوس، وهم الذين يقولون: إن العالم له مدبران وله خالقان، وهما: النور والظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر، فأشركوا في الربوبية، وما قالوا: العالم ليس له مدبر كالسابقين، بل قالوا: المدبر أكثر من واحد.
وهم طائفة ينتسبون إلى ماني بن حكيم ، أو حكيم الماني ، فهؤلاء أشركوا في الربوبية، وقالوا: إن العالم له مدبران: النور والظلمة، وله خالقان، فالنور إله الخير وخالق الخير، والظلمة خالق الشر.
فهم يقولون: الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، وقد كفرهم الله سبحانه وتعالى، وعرض عليهم التوبة، فالتوبة معروضة على جميع العصاة، حتى المثلثة من النصارى الذين هم من أكفر الناس، قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:73-75]، فالمسيح عبد رسول، لا يخرج عن العبودية، وأمه صديقة، لا تخرج عن الصديقية.
وهذا فيه دليل على أن مريم ليست نبية، خلافاً لـابن حزم ، وكذلك أم موسى، والصواب أن النساء ليس فيهن نبية، وإنما النبوة خاصة بالرجال، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109]، فالنبوة خاصة بالرجال، وقد غلط ابن حزم وجماعة فقالوا: إن أم موسى نبية، مستدلين بقوله: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7].
وكذلك سارة امرأة إبراهيم عليه السلام، قالوا: إنها نبية؛ لأن الله قال: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71] فكلمتها الملائكة.
وكذلك مريم قالوا عنها: إنها نبية، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى أثنى عليها، وفي مقام الثناء أخبر أنها وصلت إلى درجة الصديقية، فهي صديقة، أي: نهايتها أنها صديقة، ولم تصل إلى درجة النبوة، حيث قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، ثم قال: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75] يعني أن عيسى وأمه يحتاجان إلى الطعام، فكيف يكونان إلهين؟! والإله كامل بنفسه لا يحتاج إلى شيء، والذي يحتاج إلى الطعام لا يكون إلهاً.
فمن يأكل الطعام ليس بإله، وعيسى احتاج إلى الطعام، فهو ناقص، وإذا لم يأكل الطعام مات وهلك، فهل هذا يكون إلهاً؟! فلهذا بين الله ذلك وقال: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75].
وكذلك طائفة أخرى يزعمون أن الكواكب لها تأثير في الكون، فهذا شرك في الربوبية، نعم إن الكواكب لها تأثير، ولكنها ليست مؤثرة في كل شيء.
وكذلك المثلثة من النصارى لا يقولون: إن للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متناقضون في التثليث، فهم يقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وتارة يقولون: الأب عين الابن وعين روح القدس، والابن عين الأب وعين روح القدس، وهم متفقون على أن الأب هو الإله الأكبر، وأنه خالق السماوات والأرض، ولا يقولون بثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض.
وهذه الأرباب متناقضون فيها، تارة يفسرونها بالصفات، وتارة يفسرونها بالخواص، وهم يقولون: هو إله واحد وثلاثة أقانيم، وهذا من تناقضهم، وكثير منهم لا يعرفون ولا يفهمون التثليث، بسبب تناقضهم وغموض مفهوم التثليث عند هؤلاء النصارى.
فالمقصود أنهم لا يقولون: إن للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل يقولون: الأب هو الإله الأكبر، وهو الأول، وهو خالق السماوات والأرض.
وكذلك المشركون الذين يزعمون أن في آلهتهم شيئاً من النفع والضر لا يقولون: إن آلهتهم تساوي الله، لا، بل يقولون: إن الله هو الخالق، ولكن آلهتهم لها شيء من النفع والضر.
وكذلك الصابئة الذين يقولون: إن بعض الكواكب لها تصرف في هذا الكون.
وكذلك القدرية لا يقولون: إن الإنسان مساو لله، بل يقولون: الله هو الخالق، لكن أفعال العباد خلقها العباد.
والذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فالله تعالى له حكم وأسرار في الخلق، والذي ينسب إلى العبد هو المباشرة والفعل والتسبب، فالفعل من المعصية والكفر خلقه الله لحكم وأسرار، فهو شر بالنسبة إلى العبد؛ لأن العبد هو الذي كسبه وباشره، فعذب عليه، لكن الله خلقه لحكم، فالذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً بالنسبة إلى الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (والشر ليس إليك) يعني: الشر البحت الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره ليس إليك يا الله، ولا يوجد في الكون شر محض، بل جميع الشرور الموجودة في الكون شرور نسبية، فالعبد إذا فعل المعصية والكفر كان فعله شراً بالنسبة إليه؛ لأنه فعلها وباشرها وعذب عليها، لكن الله خلقها، والذي ينسب إلى الله هو الخلق، والخلق مبني على الحكمة، فلا يكون شراً.
فمن الحكم والأسرار في خلق الكفر والمعاصي: ظهور العبادات المتنوعة، كعبودية الجهاد في سبيل الله، وعبودية الولاء والبراء، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو كان الناس كلهم مؤمنين فأين ستظهر عبودية الجهاد في سبيل الله؟! وأين ستظهر عبودية الولاء والبراء؟! وأين ستظهر عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وأين ستظهر عبودية الدعوة إلى الله؟! وأين ستظهر عبودية الصبر؟! وأين ستظهر عبودية التوبة؟! وقد يتوب الله على هذا العبد فتكون حاله أحسن من حاله قبل المعصية.
فالله تعالى خلق الكفر والمعاصي لحكم وأسرار، فلا تكون شراً بالنسبة إليه، لكنها تكون شراً بالنسبة إلى العبد.
أرأيت -ولله المثل الأعلى- المطر الغزير الذي ينفع الله به البلاد والعباد، ويحيي الله به الأرض بعد موتها، فالله تعالى جعل فيه الحياة لجميع الناس والأنعام والأرض، فنفعه عام، ولا أحد ينكر هذا، لكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فقد تتهدم بعض المنازل، وقد يموت منه بعض الناس أو يغرق، فهل نقول: إن هذا المطر شر أم خير؟
نقول: هو خير، لكنه شر بالنسبة إلى الذين تهدمت منازلهم، فهو شر بالنسبة إليهم فقط، أما المطر فهو خير نفع الله به البلاد والعباد.
وكذلك المعاصي والكفر، خلقها الله لما فيها من الحكم، وليست شراً بالنسبة إلى الله؛ لأن خلقها مبني على الحكمة، ولكنها شر بالنسبة إلى العبد؛ لأنه هو الذي كسبها وفعلها وباشرها، فصارت وبالاً عليه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) يعني: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، ولا يوجد في الدنيا شر محض، فجميع الشرور الموجودة شرور نسبية؛ لأن الشر المحض هو الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره، وهذا لا يجوز على الله تعالى.
الأمر الأول: أن يعلو أحد الخالقين على الآخر، ويستولي ويغلب عليه.
الأمر الثاني: أن يعجز أحدهما عن العلو على الآخر, فينحاز كل منهما بمملكته عن الآخر.
الأمر الثالث: أن يكون هذان الخالقان تحت إله آخر فوقهم، يجبرهما ويصرفهما ويقهرهما، وليس لهما من الأمر شيء، وهذا الأمر الثالث هو الواقع، فالله سبحانه هو الخالق وليس فوقه أحد، فهو سبحانه وتعالى الخالق والمدبر، يدبر الأمر ويقهرهم، ويتصرف فيهم، وتنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ولا يخرجون عن ذلك، ولهذا قال سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91] أي: إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولا نحاز بملكه وسلطانه، ولعلا بعضهم على بعض عند القدرة، (سُبْحَانَ اللَّهِ) تنزيه لله (عَمَّا يَصِفُونَ).
فهذا ما يتعلق بتوحيد الربوبية.
وعرفنا أن توحيد الربوبية توحيد فطري أقر به جميع طوائف بني آدم، إلا من شذ فأنكر الرب، وهو لابد منه في توحيد الله والإيمان به، فمن لم يوحد الله في ربوبيته فليس بمؤمن، ولا يكفي ذلك في الإيمان حتى يضم إليه الإنسان توحيد العبادة والإلهية.
وتوحيد الله في الأسماء والصفات يحصل بأن تثبت لله الأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة، على ما يليق بجلال الله وعظمته.
والأسماء والصفات توقيفية، فلا نثبت من الأسماء والصفات إلا ما ورد في الكتاب والسنة.
وهذا النوع من التوحيد أيضاً فطري، فقد فطر الله عليه جميع الخلق، ولم ينكره طائفة معروفة من بني آدم، حتى إن المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بهذا النوع من التوحيد، لكن قد ينكرون بعض الأسماء لله، إما عناداً وتعنتاً وإما جهلاً، وهذا شيء قليل، كما ثبت أن كفار قريش أنكروا اسم الرحمن، فنزل قول الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، ولما كان في صلح الحديبية أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يكتب الصلح، فقال: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال كفار قريش: لا تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، اكتب: باسمك اللهم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الظاهر أن إنكارهم من باب التعنت والعناد، وإلا فإنه يوجد في أشعارهم إثبات الرحمن، قال الشاعر الجاهلي: (وما يشأ الرحمن يعقد ويخلق)، لكن فعلهم هذا من باب العناد والتعنت، فقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة .
ولما قال: اكتب: (من محمد رسول الله)، قالوا: اكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله، فلو كنا نعرف أنك رسول الله ما قاتلناك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه الشروط وإن كان فيها غضاضة لما يرتب عليها من المصالح، وكان هذا بأمر الله عز وجل.
فكفار قريش قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة؛ لأن مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة كان يدعى بالرحمن قبحه الله، والرحمن من خصائص الله، فلا يسمى به غيره، فلما تسمى مسيلمة بالرحمن لزمه وصف الكذب، وصار عليه عاراً إلى يوم القيامة، فلا يذكر مسيلمة إلا ويوصف بالكذاب، فيقال: مسيلمة الكذاب ، حيث تسمى باسم من أسماء الله المتصف به.
وممن ادعى النبوة غير مسيلمة وما لزمهم وصف الكذب: طليحة الأسدي والأسود العنسي في اليمن، فلم يقل: الأسود العنسي الكذاب، ولا : طليحة الأسدي الكذاب ، وإنما يقال: مسيلمة الكذاب ، فلزمه وصف الكذب والعار؛ لأنه تسمى باسم الرحمن الذي هو من خصائص الله سبحانه وتعالى.
والمقصود أن الكفار يقرون بجنس هذا النوع، فإذا وجد منهم إنكار فهو قليل، إما جهلاً وإما عناداً وتعنتاً.
ونثبت لله الأسماء والصفات كما يليق بجلال الله وعظمته، من غير تكييف، ولا تحريف، ولا تعطيل، وهذا هو مذهب أهل الحق، فيثبتون الأسماء والصفات لله إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن النقائص والعيوب تنزيهاً بلا تعطيل.
وجاءت المعطلة بعد السلف الصالح وابتدعوا في باب الأسماء والصفات بدعاً عظيمة، وعطلوا الرب سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته، وأول من تكلم في نفي الصفات -وهو المؤسس لعقيدة التعطيل ونفي الصفات- هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية للهجرة، وقتله خالد بن عبد الله القسري، وتقلد عقيدته الجهم بن صفوان ، وتوسع فيها ونشرها، فنسب المذهب إليه فقيل: مذهب الجهمية، فأدخلوا في مسمى التوحيد نفي الصفات، وقالوا: إن معنى التوحيد نفي الصفات، فنفوا الصفات والأسماء عن لله وما أثبتوا شيئاً منها، فنفوا السمع والبصر والعلم والقدرة، ونفوا اسم السميع والبصير والعليم، وقالوا: لو أثبتنا لله أسماء وصفات لشابه المخلوق، فالمخلوق سميع، فإذا كان الخالق سميعاً حصل التشابه، والمخلوق له علم، فإذا قلنا: الخالق له علم حصل التشابه، فنفوا الأسماء والصفات، وقالوا: إن دليلنا قوله تعالى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وعموا عن آخر الآية: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهم استدلوا ببعض الآية وتركوا بعضها، فالتوحيد عندهم أصل أدخلوا فيه نفي الصفات، وقالوا: إن التوحيد معناه أن تنفي الأسماء والصفات عن الله عز وجل.
وقالوا أيضاً: لو أثبتنا أسماء وصفات لله لكانت هذه الأسماء والصفات قديمة، والله قديم، ويلزم من ذلك تعدد القدماء، والقديم واحد هو الله، والمخلوق حادث، فإذا قلنا: إن الله له سمع وبصر وعلم وقدرة كانت هذه الصفات قديمة مع الله، وصارت متعددة مع الله، فيصير القديم متعدداً، مع أن القديم واحد وهو الله، فنفوا عن الله جميع الأسماء والصفات، وهذا هو مسمى التوحيد عندهم، وهذا -والعياذ بالله- يؤدي إلى إنكار وجود الله، ذلك أن إثبات شيء بدون اسم ولا صفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، حتى إن غلاتهم نفوا كل شيء عن الله، فقالوا: إن الله ليس مستوٍ على العرش، وليس له سمع ولا بصر ولا عين ولا قدرة، وليس فوق العالم ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا داخل العالم ولا خارج العالم، فماذا يكون؟ يكون ممتنعاً أشد من المعدوم والعياذ بالله، ولو وصفوا المعدوم بأكثر من هذا لما استطاعوا، نسأل الله السلامة والعافية.
نقول لهؤلاء الجهمية: إن إثبات ذات بدون اسم وصفة لا وجود له في الخارج، لكن قد يكون له وجود في الذهن، والذهن قد يتخيل المحال، فلو قلت: هذه المنضدة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست فوق ولا تحت، وليس لها لون، فهل تكون موجودة أم غير موجودة؟!
تكون معدومة لا وجود لها، فكل شيء ليس له اسم ولا صفة، ولا وجود له في الخارج، إنما يكون وجوده في الذهن؛ لأن الذهن يفرض المحال ويتخيله، فأنت الآن يمكن أن تخرج بذهنك وتطوف المشارق والمغارب وأنت موجود هنا، أليس كذلك؟! فتفرض أن هناك بحراً بين السماء والأرض، وأن في وسط البحر سفناً، وفي وسط السفن قصوراً، وهكذا، فهل هذا له وجود أم هو خيال؟ إنه خيال لا وجود له.
وكذلك هؤلاء الجهمية يفرضون أن هناك خالقاً ليس له اسم ولا صفة في أذهانهم، فنقش الشيطان في أذهانهم أن هناك خالقاً ليس له وجود في الذهن، ولهذا كفر العلماء الجهمية، وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية أنه كفرهم خمسمائة عالم، فقال:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم بل قد حكاه قبله الطبراني
فهؤلاء -والعياذ بالله- ابتدعوا في الأسماء والصفات، وزعموا أن التوحيد هو نفي الأسماء والصفات.
وكذلك المعتزلة تقدلوا عقيدة نفي الصفات، وقالوا: إن نفي الصفات من أصولهم، وهم الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري ، وزعموا أن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، وخلدوه في النار، وقالوا: إن التوحيد هو نفي الصفات، وقالوا: عندنا أصول خمسة: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقالوا: التوحيد يندرج تحته القول بنفي الصفات، فمن أثبت الصفات لله فليس بموحد عند المعتزلة ولا عند الجهمية، ويكون مجسماً مشبهاً.
حتى إنهم كفروا أهل السنة والجماعة الذين يثبتون العلو، وقالوا: من قال: إن الله فوق العرش فقد تنقص الله، أي: جعل الله مخلوقاً وجعله جسماً، وجعله متحيزاً، فيكفر بهذا.
إذاً: ما التوحيد؟
قالوا: التوحيد ألا تثبت أن الله فوق العرش، وليس له مكان، فأين هو؟
قال بعضهم: إنه داخل العالم، وقال بعضهم: لا داخل العالم ولا خارجه، واستوى على العرش بمعنى: استولى عليه بالقدرة.
فالمعتزلة قالوا: التوحيد معناه نفي الصفات، والعدل: إنكار القدر والتكذيب به، والمنزلة بين المنزلتين: أن المؤمن إذا فعل المعصية الكبيرة خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، فكان في منزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد: هو أن مرتكب الكبيرة يجب أن ينفذ فيه الوعيد ويخلد في النار، ولا يخرج منها كالكافر.
والأمر بالمعروف ذكروه تحت إلزام الناس بمذهبهم الباطل واجتهاداتهم الباطلة، والنهي عن المنكر ذكروا تحته الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي، فقالوا: إذا عصى ولي الأمر جاز الخروج عليه، وهذا من أبطل الباطل، فلا يجوز الخروج على ولاة الأمر بالمعاصي، ولو جاروا وظلموا.
ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور ولو فسق ولي الأمر وعصى؛ لأن الخروج على ولاة الأمور يترتب عليه مفاسد، من إراقة الدماء، واختلال الأمن، والتطاعن والتناحر، وتربص الأعداء بهم الدوائر، بخلاف الصبر على جور الولاة وظلمهم، فهو مفسدة قليلة يصبر عليها المسلمون في كل مكان وزمان، فعليهم أن يصبروا على ما حصل من ولاة الأمور، وليس لأحد أن يخرج على ولي الأمر بالمعصية، ومن خرج على ولي الأمر بالمعصية فقد سلك مسلك أهل البدع من الخوارج والرافضة والمعتزلة، وهذه طريقة أهل البدع وطريقة أهل الزيغ، أما أهل السنة والجماعة فمن عقائدهم عدم الخروج، كما سيأتي في الطحاوية: (ولا نرى الخروج على أئمتنا، ولا نرى نزع يد من طاعة، وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة)، هكذا معتقد أهل السنة والجماعة، لا يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور، كما دلت النصوص الكثيرة على هذا، كحديث مالك بن عوف الأشجعي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم -يعني: تدعون لهم ويدعون لكم- وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف، قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة).
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني)، وفي حديث أبي ذر : (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف).
ولكن هذه الطاعة مقيدة بطاعة الله عز وجل، فمن أمر منهم بالمعصية فإنه لا يطاع، لكن لا يجوز الخروج عليه، ولهذا جاء في الحديث: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فمن أمر بالمعصية لا يطاع، لكن ليس معنى هذا أنه يخرج على ولاة الأمر، فلو أمرك ولي الأمر أن تشرب الخمر فلا تطعه، لكن لا تخرج عليه، ولو أمرك بأن تقتل إنساناً بغير حق فلا تطعه، كالأب إذا أمر ابنه بمعصية فإنه لا يطيعه، والزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية لا تطعه.
وفي حديث حذيفة الطويل قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، فالمعتزلة أصل من أصولهم الخروج على ولاة الأمور إذا جاروا وظلموا، كما أن الرافضة كذلك يرون الخروج على ولاة الأمور، ولا يرون الطاعة إلا للإمام المعصوم، وهو من الأئمة الاثني عشرية الذين من نسل الحسين بن علي، فهم اثنا عشر إماماً نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم لا طاعة له، وكذلك الخوارج يكفرون بالمعاصي.
أما أهل الحق أهل السنة والجماعة فيرون السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي، وفي الحديث الآخر: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) يعني أنه واضح لا لبس فيه.
وبهذا يتبين أن معتقد أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي ولا بالجور ولا بالظلم، إلا إذا وجد كفر صريح لا شبهة فيه، مع القدرة والاستطاعة.
ولهذا حصلت مفاسد كثيرة على مر التاريخ من الخروج على ولاة الأمور، والإسلام يراعي المصالح والمفاسد، فالمفاسد التي تترتب على الخروج على ولاة الأمور مفاسد عظيمة لا حصر لها، كإراقة الدماء، وتفرق الناس، واختلاف الكلمة، وتربص الأعداء بهم الدوائر، واختلال الأمن، واختلال المعيشة، واختلال الحياة الاقتصادية والاجتماعية، واختلال التعليم، وغير ذلك من الشرور والفتن، كما نرى في الثورات التي تحصل في أمكنة كثيرة، فيحصل بسببها شرور وفتن.
فالواجب على المسلمين أن يعملوا بإسلامهم، وأن يلزموا طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يطعيوا ولاة أمورهم في طاعة الله عز وجل، وأن لا ينزعوا يداً من طاعة، هكذا يعتقد أهل السنة والجماعة.
وفق الله الجميع لطاعته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الجواب: القدرية شركهم في الربوبية شرك خفي، وليس شركاً عاماً، فهو شرك فيه تأويل، حيث حصلت لهم الشبهة، وهو زعمهم أن المعاصي إذا خلقها الله لا يستقيم أن يعذب عليها، والمعروف عند العلماء أن القدرية مبتدعة.
والقدرية طائفتان:
الطائفة الأولى: القدرية الأولى، وهم الغلاة الذين أنكروا علم الله وكتابته، فهؤلاء كفار؛ لأن مراتب القدر أربع: علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، والإرادة والمشيئة، والخلق.
فالقدرية الأولى الذين أنكروا المرتبتين الأوليين -العلم والكتابة- كفار؛ لأن من أنكر العلم فقد نسب الله إلى الجهل، وهذا كافر بالإجماع، وهم الذين قال فيهم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا.
أما القدرية المتأخرون فيقرون بعلم الله، وأن الله كتب الأشياء، وأن الله أراد الأشياء، وأن الله خلق الأشياء كلها، لكن بالنسبة لأفعال العباد خاصة حصلت لهم الشبهة بتأويل، ولو كان معتقدهم إنكاراً من دون تأويل لكان كفراً، لكنه عن تأويل بسبب الشبهة التي عرضت لهم، بخلاف الأمور الواضحة، مثل شرك العبادة، كعبادة القبور، والنذر لغير الله، والذبح لغير الله، ودعاء غير الله، فهذه أمور واضحة لا لبس فيها ولا إشكال.
ومما يبين أن الشيء إذا كان خفياً قد يعذر صاحبه ما ثبت في الصحيحين في مواضع متعددة من قصة الرجل الذي كان من بني إسرائيل، فقال لبنيه: (إني أسرفت على نفسي، وإني أخاف أن يعذبني الله عذاباً شديداً، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الهواء، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً شديداً، ففعل به بنوه لما مات ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه فإذا هو قائم، فسأله الله عن ذلك، فقال: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: يا رب! مخافتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فغفر الله له) .
فهذا الرجل ما أنكر قدرة الله، وما أنكر البعث، وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة، وظن أنه إذا أحرق وذري لا يقدر الله عليه، وهو يعلم أنه لو لم يفعل به ذلك فإنه سيبعث، يقول: إذا ما أحرقتوني بعثني الله، لكن أحرقوني وذروني فلا يقدر الله على بعثي، والذي حمله على ذلك أمران: الجهل وخوف العذاب؛ لأن هذا الأمر خفي بالنسبة إليه، فلما كان الذي حمله عليه الجهل والخوف العظيم من الله غفر الله له.
فالشيء الخفي قد يعذر صاحبه، بخلاف الشيء الواضح، فلو أنكر أحد البعث كفر، أو أنكر قدرة الله كفر، وهذا مؤمن بالله ومؤمن بقدرة الله، وظن أنه إذا أحرق وذري في البر والبحر لا يقدر الله عليه، فكذلك القدرية حصلت لهم هذه الشبهة.
الجواب: العلماء يفرقون بين من أنكر جحوداً وبين من أنكر جهلاً أو تأويلاً، فإذا كان جاهلاً حقيقة فهو معذور في هذه الحالة، ويُعلَّم ويبين له، أما إذا كان متأولاً فلا يكفر، مثل الذين تأولوا الصفات، فقالوا: استوى معناه: (استولى)، ونحن نثبت أن الله استوى، لكن من أنكر الاستواء وقال: إن الله لم يستو كفر، لأنه يكذب القرآن، وأما هؤلاء فيقولون: إن الله استوى على العرش، لكن معنى (استوى) (استولى)، فهؤلاء متأولون، فكذلك الذي أنكر عن جهل وهو لا يعلم، وقد يخفى عليه ذلك، فهو معذور في هذه الحال حتى يعلم.
الجواب: البواح هو الصريح الذي لا لبس فيه ولا شبهة ولا إشكال، فإذا كان فيه لبس أو إشكال أو احتمال لا يسمى بواحاً.
الجواب: أسماء الله ليست أعلاماً محضة، بل هي أعلام دالة على الصفات، فالرحمن دال على الرحمة، والعليم دال على العلم، أما الصفة فقد لا يشتق له اسم منها، فلا يلزم اشتقاق الاسم لله من الصفة، لكن الاسم يدل على الصفة، فأسماء الله ليست أعلاماً محضة كما يقول أهل التعطيل، بل هي أسماء دالة على صفات، أما الصفة فلا يلزم أن يشتق منها الاسم، فلا يقال: من أسماء الله المتكلم.
الجواب: النوايا تختلف، فأحياناً تكتب للإنسان النية حسنة، وأحياناً تكتب سيئة، وأحياناً لا تكتب له ولا عليه، وقد ثبت : (أن العبد إذا هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة واحدة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، وإن هم بالسيئة فلم يعملها كتبها الله حسنة واحدة، وإن هم بها فعملها كتبت عليه سيئة)، فالنصوص التي وردت في النية المنطوية على السيئة دلت على أحوال:
الحالة الأولى: أن الإنسان إذا هم بالسيئة لكنه عجز عن عملها، ومنعه مانع، أو كان يعمل السيئة ثم تشاغل عنها ولم يهتم بها، كتبت عليه سيئة إذا فعل الأسباب التي يقدر عليها، لقوله عليه الصلاة والسلام: (القاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول في النار؛ لأنه نوى وحاول أن يقتل صاحبه، لكن غلبه صاحبه.
إذاً: ما الذي منعه من فعل السيئة؟ إنه العجز، عجز فغلبه صاحبه فقتله، وإلا فقد كان حريصاً على قتل صاحبه، فهذا هم بالسيئة فكتبت عليه لأنه تركها عجزاً.
الحالة الثانية: أن ينوي السيئة ثم يتركها خوفاً من الله، ولا يمنعه العجز، لكن يمنعه خوف الله، فهذا تكتب له حسنة؛ لما جاء في الحديث: (إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرائي) يعني: تركها من أجلي. فإذا تركها خوفاً من الله كتبت له حسنة.
الحالة الثالثة: أنه ينويها ثم يعرض عنها، أو يتشاغل عنها، فما منعه الخوف ولا العجز، فهذا لا تكتب له ولا عليه، كما في الحديث: (وإن هم بسيئة فلم يعملها لا تكتب عليه، وإن هم بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة).
الجواب: هذا الخلود عام، أما أهل القبلة على وجه العموم فلا يخلدون في النار، لكن من ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام أو شركاً في العبادة خلد في النار، فغلاة القدرية وغيرهم ارتكبوا ناقضاً من نواقض الإسلام، حيث أنكرواعلم الله وأنكروا كتابته، فإذا فعل المرء ناقضاً من نواقض الإسلام ولو كان من أهل القبلة كفر.
لكن على وجه العموم يقال: كل مؤمن في الجنة، وكل أهل القبلة لا يخلدون في النار، أي: إذا لم يأتوا بناقض من نواقض الإسلام، ولم يفعلوا شركاً في العبادة، وكلام العلماء يضم بعضه إلى بعض، كما أن النصوص يضم بعضها إلى بعض فيتبين الحق، وابن تيمية رحمه الله بين هذا كما بينه غيره من أهل العلم.
والمراد أن أهل القبلة لا يخلدون في النار، إلا من فعل ناقضاً من نواقض الإسلام، أو أشرك في العبادة ومات على ذلك، فهذا خرج عن كونه من أهل القبلة، ولا ينفعه كونه مستقبلاً القبلة.
الجواب: هذا فيه تفصيل، فمن حكم بغير ما أنزل الله إذا استحله ورأى أنه حلال فإنه يكفر، أما إذا لم يستحله فذلك فسق ومعصية عند أهل العلم، ولا يؤخذ بالكفر إلا بعد إقراره واعترافه بالاستحلال.
الجواب: من دعا غير الله وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله خرج من الملة، وصار من المشركين، كأن يقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! خذ بيدي، يا رسول الله! اغفر ذنبي، أو يقول: يا عبد القادر الجيلاني! أو: يا سيدي البدوي! أو: يا دسوقي! أو: يا نفيسة! المدد المدد، خذ بيدي، أنا في حسبك، أنا في جوارك، اشفع لي، لا تخيب رجائي، فهذا كفر وردة، وخروج عن ملة الإسلام، وفاعله يصير من المشركين الوثنيين بعد أن كان من المؤمنين الموحدين، وإذا مات على ذلك صار من أهل النار.
فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، قلنا: هذا لا يجوز، فإذا قال: الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع، نقول: نعم يشفع، لكن لا تسأل الرسول الشفاعة، بل سلها من الله، فقل: يا رب! شفع في نبيك، لكن إذا كان يوم القيامة وهو حي قادر فإنك تطلب منه الشفاعة، أما بعد وفاته فلا، فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، نقول: هذا شرك، ولا يجوز سؤال غير الله، فمن دعا غير الله فقد أشرك، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، فإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، أو: يا رسول الله! أغثني، أو يا رسول الله! فرج كربي، أو يا رسول الله! المدد المدد، أو يا عبد القادر ، أو: يا سيد البدوي! المدد المدد، خذ بيدي، لا تخيب رجائي، أنا في حسبك، أنا في جوارك، فهذا شرك وردة، أما إذا دعا حياً قادراً فلا يكون ذلك شركاً، كأن يقول: يا فلان! أعني على إصلاح سيارتي، أعني على إصلاح مزرعتي، أعني على بناء البيت، أعني على السيارة، أقرضني، أما أن تدعو ميتاً أو غائباً لا يسمع فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك وردة، كأن تدعوه لأن يفرج كربتك، وهو ميت قد صار تراباً، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14]، وقال سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس:106] يعني: من المشركين، وقال سبحانه: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[المؤمنون:117] فنص الله على أن من فعل هذا كفر.
وقال: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14] فسماه الله شركاً بنص القرآن، فمن دعا غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر وأشرك وخرج من الملة، لكن إذا تاب قبل الموت تاب الله عليه، فإن مات حبطت أعماله وصار من أهل النار بما فعل، نسأل الله السلامة والعافية.
وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله تقرباً إليه، كأن يطوف بقبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الحجرة النبوية، فإذا قال: أنا أطوف بقبر النبي عليه الصلاة والسلام وأتقرب لله، نقول: هذا بدعة، فليس هناك شيء يطاف به إلا الكعبة؛ لأن الله أمرنا فقال: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، فإذا قال: أنا أطوف لرسول الله، نقول: أنت وثني؛ لأنك صرفت الطواف الذي هو العبادة لغير الله.
وكذلك الذي يطوف على قبر البدوي أو قبر الحسين، ويقول: أنا أطوف على قبر السيد البدوي لله، فنقول له: هذا بدعة وحرام، فاذهب إلى الكعبة، فلا مكان يطاف به إلا الكعبة، فإذا قال: أنا أطوف للسيد البدوي ، نقول له: أنت مشرك وثني، انتقلت من دين الإسلام إلى دين أبي جهل ؛ لأنك صرفت الطواف الذي هو العبادة لغير الله.
كذلك الذي يطوف على قبر الحسين ، فلو قال: أنا أطوف على قبر الحسين لله، نقول: لا تطف لله في هذا المكان، فهذا بدعة وحرام، وطف بالكعبة، فإذا قال: أنا أطوف للحسين ، نقول له: هذا شرك، والعياذ بالله، إلا أن يوفقك الله للتوبة قبل الموت، نسأل الله السلامة والعافية.
والصواب أنه لا يعذر في ذلك، ولا يعذر إلا أهل الفترات، فالقرآن يتلى، والنصوص واضحة، وهذا هو الأمر الذي بعث الله به نبيه، فكونه صم عن سماع الحق، وأعرض عن النصوص ليس عذراً له، فالعذر إنما هو في حق أهل الفترات الذين ما بلغتهم الدعوة، وأما هذا فقد بلغته الدعوة، فالقرآن في كل مكان الآن يقرأ، والحمد لله.
الجواب: إن كان جاهلاً لا يدري فإنا نقول له: ليست هذه القبلة، والله تعالى نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فإن بقي يتعبد لله بذلك مع العلم فهو مرتد؛ لأن صلاته تكون باطلة، ومن ترك الصلاة كفر على الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) أو يصلي للمشرق، أو غير جهة القبلة وهو يعلم ذلك معتقداً أنه يتعبد لله بذلك، فهذا غير مصلٍ، وهو تارك الصلاة، ومن ترك الصلاة كفر بنص حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
الجواب: الطواف حول القبور لم يشرعه الله، لكن إذا طاف حول القبر تقرباً إلى الله قائلاً: أنا أتقرب إلى الله بذلك، ويظن أنه يتقرب إلى الله، فإنا نقول: هذا بدعة، فإن كان يتقرب للمقبور نفسه صار فعله شركاً، وصرفاً للعبادة لغير الله.
ومن أنواع الشرك أن بعض الناس إذا سقط من فوق البعير قال: يا محمد. وبعض الناس إذا أراد أن يقوم أو أصابه شيء قال: يا رسول الله. فهذا دعاء لغير الله والعياذ بالله، وكذلك قوله: يا رسول الله! أعني، يا محمد! أعني، فيستعين بغير الله، وهذا شرك، وقد قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فلا يستعان إلا بالله.
ومن استعان بالميت أو بالغائب فقد أشرك، وبعض الناس إذا نزلت به مصيبة أو ضربه إنسان قال: يا رسول الله. فبدل أن يقول: يا ألله، يقول: يا رسول الله. فقد تعودوا على الشرك والعياذ بالله.
نعم الرسول له حق، والله له حق، وحق الله العبادة، وحق الرسول الطاعة والاتباع والعظيم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، فلا ترفع الرسول من مقام العبودية والرسالة إلى مقام الإلهية، فهذا حق الله، فلا تقل: يا محمد، بل قل: يا ألله، أتنسى ربك؟! فلا تكن مثل البوصيري الذي ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدته فيقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
يقول: ليس لي من ألوذ به يوم القيامة عند الحادث العمم الذي يعم الناس إلا أنت، ونسي ربه، ثم قال:
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
يقول: إن لم تأخذ بيدي -يا رسول الله- فإني هالك.
وقال يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وما أبقي لله شيئاً، وإذا كان الرسول له الدنيا والآخرة، فماذا بقي لله؟!
فجعل الدنيا والآخرة من جود الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا غلو والعياذ بالله، فالله تعالى أحق بالعبادة، والرسول له حق الطاعة والتعظيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر