اعتقادية:
وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد، الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية.
ومنها اللفظية:
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد، حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية:
كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة، ومنها: الصوم، وأفعال الحج، والطواف.
ومالية:
كإخراج جزء من المال، امتثالاً لما أمر الله تعالى به.
وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال، والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها ].
هذا فصل في أنواع العبادات، قوله:
قوله: (إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعاً) أي: أن العبادة التي يتعبد بها المسلم أنواع: منها اعتقادية يعتقدها بقلبه، ومنها: لفظية ينطق بها بلسانه، ومنها: عملية يعملها بجوارحه.
قوله: (وكان كإبليس) فيه نظر؛ لأن إبليس مقر بلسانه، لكن كفره بالإباء والاستكبار، فقد قابل إبليس أمر الله بالإباء والرفض، فاعترض على الله حين أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] فرفض وقال: ليس من الممكن أن أسجد له، فأنا عنصري مخلوق من نار، وعنصره مخلوق من طين، والنار أحسن من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول! وهذا اعتراض على الله، ولذلك كان أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس، ولا يوجد قياس مع النص، فإذا جاءك النص فسمعاً وطاعة، ولا تقس كإبليس، الذي جعل الله جزاؤه أن طرده من رحمته، وجعله شيطاناً رجيماً.
وكفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كفر استكبار، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فحمله تعظيمه لآبائه وأجداده أن يشهد عليه بالكفر، وهؤلاء كلهم حملهم الإباء والاستكبار ما يشهد عليهم بالكفر.
إذاً: كفر إبليس ليس كما قال المؤلف: (أن من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس) حيث أن كفر إبليس لم يكن بعدم النطق، بل إن كفره كان بالإباء والاستكبار، وعليه من أبى النطق وأنكر هذا يكون كافراً؛ لأن كفره عندئذ كفر جحود.
إذاً: قد يكون الكفر بالإباء والاستكبار، كمن نطق بالشهادتين، وهو يعرف هذا فرفض الذكر، أو رفض عن الانقياد والاتباع، ومن هذا الباب من أبى النطق بالشهادتين، فيكون كافراً؛ لأنه امتنع عن نطقه بالشهادتين.
والخلاصة: أن العبادات أنواع، منها: اعتقادية، ومنها: لفظية، وهي: النطق بكلمة التوحيد، فمن امتنع عن النطق بكلمة التوحيد مع القدرة على ذلك فإنه لا يكون مؤمناً؛ لأن الكفر يكون بالجحود، ويكون بالإباء والاستكبار، وإن كان مصدقاً فيكون بالشك، ويكون بالإعراض، فهذه أنواع الكفر، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار، وكذلك كفر فرعون، وكفر اليهود كذلك بالإباء والاستكبار والرفض، فقد رفضوا أمر الله وأمر رسول الله، ولم ينقادوا لشرع الله ودينه، وكان كفرهم بالرفض والإباء والاستكبار، ولهذا قوله:
(من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه وماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به) كما أسلفنا عنه، لكنه أبى واستكبر، ولهذا قال: (إلا أنه لم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق بها ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين) وهذا يسمى كفر النفاق: هو وكفر النفاق: أصل كفر الإباء والاستكبار، وكفر الإباء والاستكبار: أن يتكلم وينطق، لكن يمتنع من العمل ويرفض، وكفر النفاق: أن يعمل، لكنه مكذب في الباطن، وذلك مثل المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يصلون ويحجون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم كفار؛ لأنهم لم يصدقوا بقلوبهم.
إذاً: الكفر أنواع: كفر جحود وكفر وإباء واستكبار، وكفر نفاق، وكفر شك، وكفر إعراض، فالذي يشك في الله، أو في كتابه، أو في رسوله، أو في دينه، أو في الجنة، أو في النار، أو في الرسل، أو في الأنبياء، يكون كفره بالشك، وكذلك من يعرض عن دين الله، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فكفره يكون كفراً بالإعراض، ومن أبى واستكبر ولو كان مقراً مصدقاً يكون كفره بالإباء والاستكبار، ومن جحد يكون كفره بالجحود، ومن عمل ولكنه مكذب في الباطن، فكفره يكون النفاق.
وقوله: (وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال، والأبدان، والأفعال، والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها) وضابطها ما سبق، أي: أن ضابط العبادات: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فيشمل كل ما جاء به الشرع، وكل ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، وما يفعل المسلم من الأوامر، وما يترك من النواهي، سواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وسواء كان النهي نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وهذا يشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات والأعمال والنيات، وكلها داخلة في ذلك.
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب وبالنذور والنحر لهم، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله تعالى الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرين -كما عرفت في الأصل الرابع- بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده ].
خلاصة هذا الكلام: أن الرسل بعثهم الله تعالى لدعوة الناس إلى توحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، وإخلاص العبادة له عز وجل.
وأما توحيد الربوبية، وإن كان توحيداً مطلوباً وتوحيداً صحيحاً -وهو أحد أنواع التوحيد- إلا أنه أمر فطري أقر به المشركون ولم ينكروه، بل ولم يخالفوا فيه؛ فلهذا بعث الله الرسل بتوحيد العبادة، وإخلاص العبادة له عز وجل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهذا هو الأمر الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وسيلتان إلى توحيد العبادة، فإذا عرف المسلم ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، فعليه أن يعبد هذا الرب الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
والمؤلف رحمه الله يبدأ ويعيد، ويكرر هذا من أول الرسالة إلى آخرها، ويبين أن الرسل بعثوا لأمر الناس بإفراد الله بالعبادة ونهيهم عن الشرك، وأن توحيد الربوبية أمر فطري أقر به المشركون؛ ولهذا فإن الرسل ما دعتهم إليه، لأنهم يقرون به، ولأنهم موحدون لله في الربوبية، ولكن الرسل إنما بعثهم الله بتوحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك، فهذا خلاصة هذه الرسالة من أولها إلى آخرها، وهذا خلاصة كلام المؤلف؛ ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: (وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم: أن الله تعالى بعث الأنبياء عليم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة) أي: يدعون الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة، والعبادة كما سبق هي: الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة، فالأوامر يفعلها المسلم امتثالاً لأمره، والنواهي يتركها، وبهذا دعت الرسل الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة ويخصوه بها، فالرسل من أولهم -وهو نوح عليه الصلاة والسلام- إلى آخرهم -وهو نبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم- يدعون الناس إلى العبادة وإفراد الله تعالى بالعبادة.
قوله: (لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه) لأنهم مقرون بذلك، فهم لم يدعوهم إلى إثبات أن الله خلقهم، لأنهم معترفون بهذا، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].
وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61]، ولهذا قوله: (لا) يعني: لم يبعثوا إلى إثبات أن الله خلقهم، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، وقد ذكر المؤلف: أنه قرر هذا وكرره.
وقوله: (لذا قالوا) أي: أن الأمم قالوا لرسلهم: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [الأعراف:70] وهذا كما أخبر الله عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [الأعراف:70] أي: لنفرده بالعبادة فقط، فقوم نوح وغيرهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ونوح عليه الصلاة والسلام أمرهم بأن يفردوا الله بالعبادة، فقال: لا تعبدوا إلا الله، وهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدون معه غيره، فيشركون بالله؛ ولهذا أنكروا عليه أمرهم بإفراد الله بالعبادة.
وقوله: (فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله) أي: هذا هو الذي اعترضوا عليه، وإلا فهم يعبدون الله، لكنهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدوا معه غيره، ولذلك أنكرت الرسل عليهم عبادة غير الله معه، ولم ينكروا عليهم توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون به، ولم ينكروا عليهم عبادة الله؛ لأنهم يعبدون الله، لكن أنكروا عليهم الإشراك في توحيد العبادة.
ولهذا قوله: (ولم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى).
أي: ما أنكروا وجود الله، بل هم معترفون بوجود الله، ولم يقولوا: إنه لا يعبد، بل هم يعبدون الله، وأقروا بأنه يعبد، ولكنهم أنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أنداداً، يعتقدون أنهم الأمثال والنظراء، وجعلوهم معبودين، وسووهم بالله في المحبة والتعظيم والإجلال، سواء من الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار والأنبياء والصالحين وغيرهم، كما قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وقد كان المشركون يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فعندما يقول المسلم: لبيك لا شريك لك. هذا توحيد، ولكن قولهم: إلا شريكاً. هذا نقض للتوحيد، حيث أنهم أثبتوا لله شريكاً، وهذا من جهلهم حين أثبتوا لله شريكاً يملك؛ فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل يعلمهم تلبية التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأبطل قولهم: إلا شريكاً هو لك؛ لأن هذا هو الشرك، وكان يسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل جلاله، لو تركوا قولهم: إلا شريكاً هو لك، وهذا الحديث أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه: (كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد) حيث أنهم يقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، وهذا من جهلهم، حيث أنهم يعبدون الله بزعمهم وهم يشركون.
وقوله: (فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به) أي: أنهم حينما أشركوا بالله في نفس الشرك إقرار بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أثبتوا معه غيره، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره، وهذا دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، وإقرار بالربوبية، واستشهد بقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] أي: مع الله، إذاً: أثبتوا وجود الله.
وقوله تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وقوله تعالى: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] [القصص:64] كل هذا في إثبات العبادة لله تعالى مع إشراك غيره معه.
ففي نفس الشرك أقروا بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أشركوا معه، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره، دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، واستشهد المؤلف بقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] يعني: مع الله! إذاً: أثبتوا وجود الله، فقوله: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص:64]، وقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] هذا كله فيه إثبات لوجود الله، ولهذا قال المؤلف: [ فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد] يعني: أن المشركين لم يعبدوا الأنداد، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى.
وقوله: [بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم]. أي: بالخضوع، والذل، والمحبة، والدعاء، والركوع، والسجود، وغيرها، ولماذا عبدوا الأنداد؟! قال: [لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه] كما سبق أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن ذلك بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18].
قال: [وقد كانوا مقرين -كما عرفت في الأصل الرابع- بتوحيد الربوبية، وهو: أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده.
ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم -وهو نوح عليه السلام- إلى آخرهم -وهو محمد صلى الله عليه وسلم- هو توحيد العبادة. ولذا تقول لهم الرسل: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2] . اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
وقد كان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد، ومنهم من يعبد أحجاراً ويهتف بها عند الشدائد ] وهي في الأصل صور رجال صالحين، كانوا يحبونهم ويعتقدون فيهم، فلما هلكوا صوروا صورهم تسلياً بهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم، ثم زاد الأمد طولاً فعبدوا الأحجار، ومنهم أيضاً من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد الكواكب ويهتف بها عند الشدائد.
قال: [ فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي: بربوبية السماوات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة: (لا إله إلا الله) معتقدين لمعناها، عاملين بمقتضاها، وألا يدعوا مع الله أحداً].
قوله: (ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم وهو نوح عليه الصلاة والسلام) نوح هو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، وبعثه الله إلى بنيه وغير بنيه، وما كان قبله إلا أنبياء، أولهم آدم الذي كان نبياً إلى بنيه، ولم يقع الشرك في زمانه، وإنما وقعت المعصية، وهي قتل قابيل أخاه هابيل ، ومضت عشرة قرون وكلهم على التوحيد، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس:19] قال ابن عباس : (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم اختلفوا فوقع الشرك، فبعث الله نوحاً). وقبله كان شيث، وكذلك آدم، إلا أنهم لم يرسلوا إلى قوم شرك، فآدم أرسل إلى بنيه، وأما نوح فأرسل إلى بنيه وغير بنيه، وأرسل بعد وقوع الشرك، ولهذا كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، وآخرهم نبينا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكلهم دعوتهم واحدة؛ فهم يدعون الناس إلى توحيد الله، وإفراد الله بالعبادة، وينهونهم عن الشرك. ولهذا كانت تقول لهم الرسل: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2] . اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
وقد كان المشركون يعبدون عبادات متنوعة كما قال المؤلف رحمه الله: (منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد، ومنهم من يعبد أحجاراً يهتف بها عند الشدائد) وكان منهم أيضاً من يعبد الصالحين، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد النجوم والكواكب.
قوله: (فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية) يعني: كما وحدوا الله في الربوبية فعليهم أن يوحدوا الله في الألوهية.
وقوله: (بربوبيته السماوات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة: (لا إله إلا الله) معنى ومؤدى كلمة (لا إله إلا الله) هو التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله.
وقوله: (معتقدين لمعناها) أي: إثبات العبادة لله، ونفي العبادة عن غير الله.
وقول المؤلف رحمه الله: (عاملين بمقتضاها) مقتضاها: أداء الواجبات وترك المحرمات، وألا يدعو مع الله أحداً.
فهم إنما صوروهم ليتشوقوا إلى العبادات، وليتذكروا عبادتهم، ثم جاء من بعدهم فوسوس إليهم الشيطان وقال: إنما دعى آباؤكم الله بهؤلاء، يعني: أنهم يستسقون بهم المطر، فعبدوهم من دون الله، فوقع الشرك.
أي: من شرائط الصدق في الإيمان بالله، ألا يتوكلوا إلا عليه، وأن يفردوه بالتوكل، كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار ].
قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [الرعد:14] يعني: لا يمكن لأي مخلوق من دون الله أن يستجيب لهم، وإذا كان لا يستجيب لهم، فكيف يُعبد؟ إذاً لا يستحق العبادة.
وقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23] يعني: توكلوا على الله إن كنتم مؤمنين، فجعل من شرط الإيمان التوكل على الله، والتوكل يجمع أمرين: فعل الأسباب النافعة، ثم تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه في حصول النتيجة، وتقديم الجار والمجرور دليل على أنه شرط في صحة الإيمان، ولهذا قال المؤلف: (أي من شرط الصدق في الإيمان ألا يتوكلوا إلا عليه، وأن يفردوه بالتوكل، كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأمر الله عباده أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] ، ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذباً منهياً عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] و: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، كما عرف من علم البيان، أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا تتقوا إلا الله، ولا تتقوا غيره، كما في (الكشاف) ].
قوله: (وأمر الله عباده أن يقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] يعني: نخصك يا الله! بالعبادة، فمعناها هو معنى: لا إله إلا الله، وهذا مستفاد من تقديم الضمير، ولهذا لو لم يقدم الضمير الخاص بـ(نعبده) فإنها لا تفيد التوحيد؛ لأن التوحيد لابد فيه من أمرين: نفي، وإثبات، فالنفي قول: (لا إله)، والإثبات: (إلا الله)، وقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] يفيد النفي والإثبات، يفيد هذا من تقديم الضمير إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] والمعنى: نعبدك ولا نعبد غيرك، أو نخصك بالعبادة، وهذا مستفاد من تقديم الضمير، ولهذا قال المؤلف: (لا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله) يعني: لا يصدق من قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] وهو مشرك، لأن المشرك لا يكون صادقاً، وإنما يكون كاذباً، ولا يكون صادقاً إلا إذا أفرد الله بالعبادة، ولهذا قال: (وإلا كان كاذباً منهياً عن أن يقول هذه الكلمة). إذ كيف يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] وهو مشرك بالله؟
إذاً: معنى الآية: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد. ومثل هذه الآية قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، وقوله: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] يعني: اعبدوني ولا تعبدوا غيري، وخصوني بالعبادة والتقوى.
وقول المؤلف: (كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر) يعني: أن الأصل أن نقول: نعبدك، فلما قدم (إياك) وهو حقه التأخير أفاد الحصر، والمعنى: نحصر العبادة لله عز وجل، وحصر العبادة معناه: أن يخص الله بالعبادة. أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا تتقوا غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستغاثة والاستعانة بالله وحده، واللجأ إلى الله، والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات: من الخضوع والقيام تذللاً لله تعالى، والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل ].
يعني: أن إفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يُخص سبحانه بجميع أنواع العبادات، فلا يكون الدعاء إلا لله، ولا يكون النداء في الشدائد والرخاء إلا لله، ولا تكون الاستعانة إلا بالله، واللجأ يكون لله، والنذر والنحر وجميع أنواع العبادات: من الخضوع والقيام تذللاً، والركوع والسجود، والطواف والتجرد عن الثياب، يعني: في الإحرام، فالمحرم إذا أحرم بحج أو عمرة تجرد من المخيط، ولبس إزاراً ورداء، والحلق والتقصير، كله يكون لله، والحلق والتقصير يكون في الحج والعمرة، فالحاج أو المعتمر يحلق رأسه ويقصر عبادة، فيتحلل بذلك من العمرة أو الحج، ولا يجوز أن يكون ذلك إلا لله عز وجل.
قوله رحمه الله: (ومن فعل شيئاً من ذلك) يعني: من أنواع العبادة التي سبقت: من الدعاء والنداء والنذر والنحر والحلق والتقصير والركوع والسجود أو غيره، لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره، فقد أشرك في العبادة.
وقوله: (وصار من تفعل له هذه الأمور إلهاً لعابديه) يعني: من ركع لشخص أو سجد له أو نحر له أو ذبح له صار إلهاً له، أياً كان هذا الذي تفعل له، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجراً أو قبراً أو جنياً أو حياً أو ميتاً، فكل من تفعل له هذه الأشياء صار معبوداً لهذا الشخص الذي يفعل هذا، وصار العابد بأي نوع من أنواع العبادة عابداً لذلك المخلوق، ومشركاً بالله، وإذا كان مقراً بالله ومشركاً به، فإن هذا لا ينفعه، ما دام أنه يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فلو عبد الله وأقر بربوبيته ووجوده، وبأسمائه وصفاته، لكنه يصرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فإنه يكون مشركاً.
وقوله: (فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك). أي: أن المشركين أقروا بالله وتقربوا إليه وعبدوه، فجوا وصلوا وصاموا يوم عاشوراء في الجاهلية، لكنهم مشركين؛ لأنهم يعبدون معه غيره، فلم تنفعهم هذه العبادات، ولم تخرجهم عن الشرك كما قال المؤلف: (فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك، وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم) والرسول عليه الصلاة والسلام قد قاتلهم، واستحل دماءهم وأموالهم، لأنهم أشركوا مع الله غيره. قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيره تركته وشركه)، وأما قوله: (لا يقبل الله عملاً شورك فيه غيره) ظاهره أنه حديث، لكن يقول المحشي: لم أجد من أخرجه بهذا اللفظ. (ولا يؤمن به من عبد ما سواه) يعني: لا يؤمن بالله الإيمان الصحيح من عبد معه غيره.
الجواب: المعنى: أنه ينقص التوحيد ويضعف الإيمان، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فهذا من كمال الإيمان، فمن الواجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فإذا كان الإنسان لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فهذا نقص في الإيمان، فالإنسان يحب لنفسه الخير، ويحب لنفسه أن يؤتيه الله علماً نافعاً، ومالاً حلالاً وأبناء صالحين، فيجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فإذا كنت لا تحب لأخيك ما تحب لنفسك من ذلك، فهذا نقص في الإيمان، ويكون إيمانك ضعيفاً ناقصاً.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) فإذا قدم الإنسان محبة المال أو الولد أو الصديق، أو الأبناء أو الإخوان أو التجارات أو المساكن على محبة الله ورسوله، صار ناقص الإيمان وضعيف الإيمان، ومرتكباً لكبيرة، ومن هنا توعد الله من قدم شيئاً من الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله بوعيد شديد، قال سبحانه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24] فقد حكم الله عليهم بالفسق، فمن قدم محبة شيءٍ من المال أو الأبناء أو الآباء أو المساكن على محبة الله ورسوله، فإيمانه ناقص وضعيف، ومرتكب لكبيرة.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) وبوائقه يعني: غوائله وشره، فمن لم يأمن جاره شره، فهو ناقص الإيمان؛ لأنه فاته كمال الإيمان الواجب.
وهكذا قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فإذا لم يقل خيراً، ولم يصمت عن الشر، أو لم يكرم ضيفه، أو آذى جاره، يكون إيمانه ضعيفاً ناقصاً؛ لأنه فاته كمال الإيمان الواجب.
الجواب: هذا العمل شرك أكبر، فإذا قال للولي: يا ولي! اشفع لي عند الله، فقد أشرك مع الله، وهذا هو الذي كفر الله به المشركين بنص القرآن، قال الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ )[يونس:18] والدعاء: عبادة. وقال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
وقال سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] أي: من المشركين.
وقال سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعراف:188] فمن دعا غير الله فقد أشرك بالله.
وقد حكم الله عليه بالكفر فقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117].
وقال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:13-14].
وقال تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس:106] وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأحقاف:5].
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ [يونس:106] ولفظ: (من دون الله) عام، أي: من دعا غير الله، والذي يأتي إلى القبر ويقول: يا فلان! يا ولي الله! اشفع لي، فقد دعا غير الله، فيكون شركاً بنص القرآن، والمشركون قد كفرهم الله بهذا؛ لأنهم يدعونهم ويطلبون منهم الشفاعة، وهم يعلمون أنهم لا يخلقون ولا يرزقون، فالذي يقول: إن هذا بدعة وليس بشرك. فهو جاهل أو ملبس، يريد أن يلبس الشرك على الناس، ويسميه بدعة.
الجواب: عوام المشركين حكمهم حكم علمائهم، فقد أخبر الله أن التابعين والمتبوعين كلهم في النار، قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:166-167]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] أي: التابعين والمتبوعين، وقال سبحانه وتعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67-68].
وقال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا [سبأ:31] فهؤلاء المتبعون، لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]. وهذا حوار بينهم قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا [سبأ:32-33] .. وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [سبأ:33] فكلهم أسروا الندامة، التابعون والمتبوعون، فالعوام والعلماء حكمهم كلهم في النار، نسأل الله العافية.
الجواب: إذا كان حياً قادراً فلا بأس أن تطلب منه؛ لأن هذا من الأمور العادية المحسوسة، كأن تقول: يا أخي! ساعدني في إصلاح سيارتي، أو يا أخي! أرجوك أن تساعدني في إصلاح مزرعتي، أرجوك أن تقرضني ديناً، أو أن تقضي ديني، فلا بأس في ذلك، كذلك الغريق إذا استغاث بسباح يعرف السباحة، كأن يقول: أنقذني، أخرجني.
والشرك عندما يدعو ميتاً أو غائباً أو حياً حاضراً فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو دعا حياً قادراً ليس بمستطيع، أما إذا دعا الحي الحاضر القادر فلا بأس في هذا؛ لأن هذا من الأمور الحسية، وأسبابه ظاهرة.
الجواب: التوسل ثلاثة أنواع:
توسل يكون شركاً، ويكون بدعة، ويكون مشروعاً.
النوع الأول: التوسل الشركي: كأن يتوسل بدعاء الميت أو الغائب، أو يتوسل بالذبح له، أو النذر له، ويتوسل إلى الله في أن يشفع له عند الله، فهذا شرك، وهذا هو الشرك الذي كان يفعله المشركون، مثال ذلك: أن يتوسل إلى الله بدعاء هذا الميت فيقول: يا فلان! أغثني، يا فلان! اشفع لي، ويتوسل إلى الله بالذبح له، وبالنذر له، وبالصلاة له.
النوع الثاني: التوسل البدعي: وهو أن يتوسل بذات الشخص لا ليدعوه، ولكن يدعو الله، كأن يقول: يا الله! أتوسل إليك بفلان، أتوسل إليك برسول الله، فهو لم يدع غير الله، بل دعا الله لكن الوسيلة بدعة، حيث أنه توسل بقرب فلان، وكأن يقول: اغفر لي بجاه فلان، اغفر لي بجاه نبيك أو بجاه أنبيائك، فهذا كله بدعة وليس شركاً؛ لأنه ما دعا غير الله، بل دعا الله لكن الوسيلة بدعة.
النوع الثالث: التوسل المشروع: كأن يتوسل إلى الله بإيمانه بالله، كأن يقول: اللهم إني أسألك بإيماني بك وبرسولك، أسألك بعملي الصالح، كما أخبر الله في كتابه عن المؤمنين: رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا [آل عمران:16] فهم توسلوا إلى الله بالإيمان، وكذلك التوسل إلى الله بالعمل الصالح، والتوسل إليه بالتوحيد، كتوسل الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، حيث أنهم توسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فأحدهم توسل ببر والديه، والثاني بعفته عن الإماء، والثالث بأمانته، ففرج الله عنهم، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء الحي الحاضر، كأن يدعو هو وأنت تؤمن ، فيسأل الله لفقرك وحاجتك، فهذا كله توسل مشروع، وبهذا يتبين أن التوسل ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.
الجواب: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشفع بـالعباس ، يعني: بدعاء العباس ، وقال عمر لما أجدبوا: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتكفينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قم يا عباس فادع الله، فقام العباس ودعا وهم يؤمنون، فهم ما توسلوا بذات العباس ، بل توسلوا بدعاء العباس ، ولو كانوا يتوسلون بذات العباس لتوسلوا بذات النبي صلى الله عليه وسلم، إذ هو موجود في قبره عليه الصلاة والسلام، وهو حي في قبره حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، فلما لم يتوسلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعدلوا إلى التوسل بـالعباس، دل على أنهم يتوسلون بشفاعته ودعائه وهو حي حاضر، ولهذا قال عمر في آخر الدعاء: قم يا عباس فادع الله، فقام العباس يدعو الله وهم يؤمنون ، فـعمر استشفع بدعاء العباس وهو حي حاضر، وهذا لا بأس به، وإنما الممنوع هو: التوسل بالميت أو بالغائب أو بذاته؛ لأنه لو كان التوسل بذات العباس لتوسلوا بذات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذات النبي عليه الصلاة والسلام أوجه من ذات العباس ، فلما عدلوا عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بـالعباس ، دل على أنهم توسلوا بغير الذات، ألا وهو الدعاء، ولهذا قال عمر : قم يا عباس! فادع الله، وهذا حجة على من يرى التوسل بالذات.
و عمر بن الخطاب توسل بدعاء العباس لأنه قريب النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: الشك مع مقاومته لا يعد شركاً ولا كفراً، لكن إن كان المرء يشك في الله، أو في القيامة، أو في الجنة، أو في النار، وليس عنده يقين أن هناك جنة أو نار فهو شاك، ولا يدري هل الله مستحق للعبادة أو غير مستحق للعبادة؟ فهذا كفر شك، أما الخواطر والوساوس التي ترد على الإنسان وهو يدافعها، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، وهو يعلم ذلك لكن عنده شكوك، ويأتيه الشيطان ويوسوس له، وهو يعلم يقيناً أن الله هو المستحق للعبادة، ويعلم يقيناً بكتب الله، ورسوله، ومصدق باليوم الآخر، ومصدق بالبعث والنشور، فهذا ليس كفر شك، لكن إذا جاءت الوساوس فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يضره ذلك؛ لأن الشيطان يريد أن يعيبه ويقول كما جاء في الحديث: (آمنت بالله ورسله).
وإذا وجد شيئاً من الوساوس، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أحدكم يقول: من خلق كذا من خلق كذا) فالشيطان يقول له ذلك (حتى يقول من خلق الله؟! فإذا وجد ذلك فليقل: آمنت بالله ورسله).
وفي لفظ يقول: (اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3] ثم لينته) أي: يقطع الوساوس وخاصة التفكير فيها، وينتهي ويفكر فيما ينفعه في أمور دينه ودنياه.
إذاً: عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وعليه أن يقول: آمنت بالله ورسله، وعليه أن يقطع التفكير، فتزول هذه الوساوس بإذن الله، أما إذا كان عنده شك في ربوبية الله، أو في ألوهيته، أو في أسمائه وصفاته، أو في الجنة، أو في النار، أي: لا يدري هل هناك جنة؟ أو هل هناك نار؟ فإن هذا الشك شك كفر، أما الوساوس التي ترد على الإنسان وهو مؤمن بالله ورسوله، فهذه من الشيطان يريد أن يعذبه، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقطع التفكير ويقول: آمنت بالله ورسله.
الجواب: هذه شفاعة خاصة مستثناه، خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمه، وهذه الشفاعة ليس فيها إخراج من النار، وإنما فيها التخفيف في العذاب؛ لأن أبا طالب خف كفره بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، فلما خف كفره شفع له النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة تخفيف لا شفاعة إخراج من النار، ولذلك جاء في الحديث في صحيح مسلم وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، فقيل له: يا رسول الله، إن
وفي لفظ: (إن أهون الناس عذاباً
وفي لفظ: (إن أهون أهل النار عذاباً، لرجل منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه).
وفي لفظ: (إن أهون أهل النار عذاباً، لرجل له شراكان من نار يغلي منهما دماغه).
وفي لفظ: (إن أهون أهل النار عذاباً، لرجل في أخمصيه جمرتان يغلي منهما دماغه) وهو يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، من شدة ما يجد، وهو أخفهم.
فهذه الشفاعة خاصة مستثناة، خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصة بعمه، ثم أيضاً هي ليست شفاعة في إخراجه من النار، بل شفاعة في تخفيف العذاب فقط؛ لأنه خف كفره، وهذه شفاعة مستثناة دلت عليها النصوص.
الجواب: كلمة التوحيد إذا نطق بها الإنسان المريض ولم يحضر الأجل بعد تنفعه؛ ولهذا نفعت اليهودي لما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (قل: لا إله إلا الله. فنظر إلى أبيه، فقال: أطع أبا القاسم) فكلمة التوحيد تنفعه إذا كان في مرض الموت ما لم تصل الروح إلى الحلقوم، أما إذا وصلت الروح إلى الحلقوم فلا ينفع ذلك؛ لأن الأمر قد انتهى؛ ولأنه حينئذ يكشف له عن المستقبل، ويكون غيبه شهادة، فيعاين الملائكة، وهذا هو الذي حصل لفرعون عندما، لما وصلت روحه إلى الحلقوم فآمن، لكن لم ينفعه ذلك؛ لأن هذا إيمان المضطر، قال الله تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فقال الله له: آلآنَ [يونس:91]، أي: تؤمن لما وصلت الروح الحلقوم آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:91] فلا ينفع الإيمان إذا وصلت الروح إلى الحلقوم، وإذا نزل العذاب كذلك لا ينفع، وفرعون نزل به العذاب، نزل به العذاب ووصلت الروح إلى الحلقوم فلا ينفع في هذه الحالة، وأما الرجل اليهودي الذي آمن فلم ينزل به العذاب، ولا وصلت الروح إلى الحلقوم، فلهذا نفعه، وقد استثنى الله سبحانه وتعالى أمة واحدة وهم قوم يونس فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] فهؤلاء استثناهم الله.
الجواب: إذا نطق بالشهادتين وهو لا يقولها في حالة كفره يحكم له بالإسلام، وإذا قالها عن إيمان وصدق ثم مات يحكم عليه بالإسلام، وإذا بقي ولم يمت ينظر: إن التزم بأحكام الإسلام فهو مؤمن، وإن نقضها بأفعاله حكم عليه بأنه مرتد ويقتل، كأن لم يلتزم بالصلاة ورفض وقال: لا أصلي، أو عمل ناقضاً.
أما إذا قالها ثم مات وهو لا يقولها في كفره فيحكم عليه بالإسلام.
فإن قيل: ليس لديه أعمال إلا النطق بالشهادتين؟
فالجواب: ولو كان ذلك، إذا قالها في حالة كفره يحكم عليه بالشهادتين، لكن إن بقي وعاش يشرح له مقتضى الشهادتين ويبين له، ويؤمر بالعمل بمقتضاها وبحقوقها، فإذا رفض وعمل ناقضاً من النواقض يستتاب فإن تاب وإلا قتل، أما إذا مات وهو لا يقولها في كفره فنحكم عليه بالإسلام مثل اليهودي الذي قالها، وحكم عليه النبي بالإسلام قال: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر