فلو شاء سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل، فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه، إذ كنا قد أمرنا به في قوله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7] ].
هذا الكلام الذي سمعناه فيه بيان اعتقاد أهل السنة وأهل الحديث بنزول الرب سبحانه وتعالى ومجيئه، فأهل السنة وأهل الحديث يؤمنون بنزول الرب، وأنه سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وقد تواترت أحاديث النزول في الصحاح والسنن والمسانيد، وأن الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يطلع الفجر. وسيسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث بأسانيد متعددة.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى ينزل بلا كيف، نزولاً يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نعلم كيف ينزل، ونعلم يقيناً أنه فوق العرش سبحانه وتعالى، بنصوص العلو المحكمة، وهي تزيد على ثلاثة آلاف دليل، كلها تدل على أن الله تعالى فوق المخلوقات، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
فهذا فعلٌ يفعله كما يليق بجلاله وعظمته لا نكيفه، وإنما نقول: ينزل سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله وعظمته. هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وهل يخلو العرش منه أو لا يخلو؟
ذكر العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، أن للعلماء فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يخلو منه العرش، والقول الثاني: أنه لا يخلو، والقول الثالث: التوقف، وأصحها القول بأنه لا يخلو منه العرش سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي عليه المحققون، أي: أنه سبحانه ينزل وهو فوق العرش نزولاً يليق بجلاله وعظمته؛ لأنه لا يشبه نزول المخلوقين.
وكذلك يؤمنون بمجيئه سبحانه وتعالى وإتيانه، كما يليق بجلاله وعظمته، كما قاله سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، وقال سبحانه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [البقرة:210]، فيأتي إتياناً يليق بجلاله وعظمته، ولا نكيف صفاته سبحانه وتعالى؛ لأنها ليست كصفات خلقه، فهو يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وينزل لا كنزولنا، ويأتي لا كإتياننا، ويجيء لا كمجيئنا، فله صفات تليق بجلاله وعظمته، والمخلوق له صفات تناسبه. هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف وأهل الحديث، كما بين الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني ، ولهذا قال رحمه الله: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل. لا نقول: ينزل كنزول المخلوقين، أو مثل كذا وكذا، أو على كيفية كذا وكذا.
بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويقفون عند هذا الحد، فلا يكيفون، بل يمرون الخبر الصحيح الوارد على ظاهره من غير تكييف ولا تمثيل، ويكلون علم الكيفية إلى الله تعالى.
وكذلك يثبتون ما أثبت الله عز اسمه في كتابه: من المجيء والإتيان المذكوران في قوله عز وجل: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة:210]، في هذه الآية إثبات إتيان الله يوم القيامة إتياناً يليق بجلاله وعظمته، وقوله سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فيه أيضاً إثبات المجيء.
وذكر المؤلف رحمه الله أنه قرأ في رسالة الشيخ أبو بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان: أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الآية.
وأما الراسخون في العلم فإنهم يعملون بالمحكم، ويؤمنون بالمتشابه، ويردون المتشابه إلى المحكم، فيفسرون المتشابه بالمحكم، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، يعني: سماهم في هذه الآية.
فعلامة أهل الزيغ أنهم يأخذون بالمتشابه، ويتركون المحكم، فيأتون للنص الذي فيه اشتباه ويلبسون به على الناس، ويتركون النصوص الكثيرة المحكمة.
فمثلاً نصوص الفوقية والعلو تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل، كقوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، وقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وقوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وقوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، في سبع آيات من القرآن، وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، والصعود من أسفل إلى أعلى، وقوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء)، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.
فأهل الزيغ يتركون هذه النصوص كلها، ويتعلقون بالمتشابه.
يقول الجهمي مثلاً: إن الله في كل مكان، وليس فوق العرش لقول الله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، هذه دليله على أن الله في كل مكان.
فنقول له: أنت من أهل الزيغ، تركت ثلاثة آلاف دليل واضحة صريحة وتأتي بنص مشتبه، تعلقت بالمتشابه وتركت المحكم، هذه علامة أهل البدع، أما أهل الحق الراسخون في العلم فيفسرون النص المتشابه بالنصوص المحكمة.
ونقول له: إن النصوص التي فيها أن الله فوق العرش وفوق المخلوقات محكمة واضحة لا لبس فيها، وأما هذا النص فإنا نرده إلى النصوص الأخرى، ونفسره بما يتناسب معها، فيكون معنى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]، يعني: وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وذاته فوق العرش.
فهذه طريقة أهل الحق الراسخين في العلم، أي: أنهم يعملون بالمحكم ويردون المتشابه إليه، ويفسرونه به، أما أهل الزيغ فيتركون النصوص المحكمة ويأخذون المتشابهة.
فمثلاً: النصوص التي فيها أن المرأة يجب عليها أن تتحجب عن الرجال الأجانب، نصوص محكمة، كثيرة واضحة، منها قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، أي: حجاب ساتر للمرأة، فيكون بينك وبينها باب أو جدار أو غطاء على وجهها، فلا بد من الحجاب، ويقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، وفي حديث عائشة : كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه.
وثبت في صحيح البخاري في قصة الإفك أن عائشة رضي الله عنها -لما ذهب الجيش وتركوها وظنوا أنها في الهودج- جلست في مكانها لعلهم يرجعون إليها، فجاءها صفوان بن معطل ، وكان متأخراً خلف القوم، فرآها وعرفها قبل الحجاب، فجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أهل رسول الله! وكانت قد غلبتها عيناها، قالت: (فاستيقظت بـاسترجاع صفوان -أي: استيقظَت لما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمّرت وجهي بجلبابي، وكان يعرفني قبل الحجاب.) هذا في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب بعد كتاب الله.
قولها: (فخمّرت وجهي بجلبابي) فيه دليل على وجوب الحجاب، وقولها: (وكان يعرفني قبل الحجاب)، فيه دليل على أن المرأة قبل الحجاب كانت تكشف وجهها.
هذه كلها يتركها أهل الزيغ ويقولون: المرأة لا يجب عليها ستر وجهها، ويستدلون بحديث المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الفضل بن عباس ، فكان ينظر إليها، وتنظر إليه فصرف النبي وجه الفضل عنها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: هذا دليل على أنها كاشفة الوجه؛ لأنه ينظر إليها وتنظر إليه.
نقول له: أتركت النصوص المحكمة وتتعلق بهذا النص المتشابه؟ أنت من أهل الزيغ؛ لأنك تركت النصوص، كقوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، قول عائشة في الحديث المتقدم: و(خمرت وجهي بجلبابي).
هذا الحديث فيه اشتباه فنرده إلى النصوص المحكمة. ونقول: لا يلزم أن تكون هذه المرأة كاشفة وجهها، ويكون معنى: (ينظر إليها وتنظر إليه) أي: ينظر إلى طولها أو قدمها أو ثيابها، فلا يلزم أن تكون كاشفة وجهها، بدليل النصوص الأخرى التي فيها الأمر بوجوب ستر الوجه وتغطيته.
هذا مثال لطريقة أهل الزيغ، وطريقة أهل الحق.
هذا الأثر ثابت عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، وهو المعروف بـإسحاق بن راهويه ، الإمام المحدث المشهور، وهو من قرناء الإمام أحمد رحمه الله، قال له الأمير عبد الله بن طاهر في زمانه: (يا أبا يعقوب هذه كنية إسحاق بن راهويه ، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا)، كيف ينزل؟) فقال له إسحاق بن راهويه : (أعز الله الأمير -قال هذا تأدباً مع الأمير، وفيه استحباب مخاطبة ولاة الأمور بما يليق بهم- لا يقال لأمر الرب كيف! إنما ينزل بلا كيف). هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة.
وفي الحديث النهي أن يقال: كيف ينزل؛ إذ لا تكيّف صفات الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم العدل حدثنا محبوب بن عبد الرحمن القاضي حدثني أبو بكر بن أحمد بن محبوب حدثنا أحمد بن حمويه حدثنا أبو عبد الرحمن العباسي حدثنا محمد بن سلام سألت عبد الله بن المبارك عن نزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله : يا ضعيف في كل ليلة ينزل ].
وفي نسخة: [ يا ضعيف ليلة النصف، ينزل في كل ليلة ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان منه؟ فقال عبد الله : ينزل كيف شاء].
وفي رواية أخرى لهذه الحكاية: أن عبد الله بن المبارك قال للرجل: إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له.
وفي رواية أخرى: أن عبد الله بن المبارك قال للرجل: إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصغ له. يعني: فاعمل به ولا تتجاوزه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت إبراهيم بن أبي طالب يقول: سمعت أحمد بن سعيد بن إبراهيم بن عبد الله الرباطي يقول: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم، وحضر إسحاق بن إبراهيم -يعني: ابن راهويه - فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب! أتزعم أن الله تعالى ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبَتُّه فوق، فقال إسحاق : قال الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب! هذا يوم القيامة. فقال إسحاق : أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ ].
وهذا فيه دليل على أنه يجب على المسلم أن يثبت الصفات لله عز وجل وينفي علم الكيفية، بل نقول: ينزل كما يشاء، ويجيء كما يشاء، ويأتي كما يشاء سبحانه وتعالى، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد ، قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد حدثنا أبو مصعب حدثنا مالك .
وحدثنا أبو بكر بن زكريا حدثنا أبو حاتم مكي بن عبدان -وفي نسخة أخرى: علي بن عبيدان - حدثنا محمد بن يحيى قال: ومما قرأت على ابن نافع وحدثني مطرف عن مالك رحمه الله.
وحدثنا أبو بكر بن زكريا أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم باكويه حدثنا يحيى بن محمد حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب الزهري عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟) ].
هذا الحديث هو من الأحاديث المتواترة في الصحاح والسنن والمسانيد، وفيه إثبات نزول الرب في ثلث الليل الآخر وهو أفضل الأوقات.
وجاء في الحديث الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام داود، وأفضل الصلاة صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه) وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يفعل مثلما يفعل داود ، وأحياناً يقوم ثلث الليل.
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام يصلي).
وفي حديث صفة صلاة نبي الله داود المتقدم أنه كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، أي: السدس الرابع والخامس، وينام سدسه، أي: السدس السادس؛ حتى يتقوى بنومه على أعمال النهار.
وفي هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) وهو السدس الخامس والسادس. وعلى هذا يكون النصف الأخير من الليل كله فاضل، وهو السدس الرابع والخامس والسادس؛ فالسدس الرابع والخامس فيه قيام داود، والسدس الخامس والسادس ثلث الليل العام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا وهذا، بل كان عليه الصلاة والسلام إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام للصلاة. وبهذا يتبين أن النصف الأخير من الليل كله فاضل -السدس الرابع والخامس والسادس- فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء أوى إلى فراشه، فإذا انتصف الليل أو قبله بقليل قام.
أما نحن فلا ننام إلا إذا جاء ثلث الليل الأخير، نسهر طوال الليل فإذا جاء الوقت الفاضل وقت النزول الإلهي نمنا، فنشكوا إلى الله سوء حالنا.
و مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة .
و مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة .
و عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة .
و عبد الأعلى بن أبي المساور وبشير بن سليمان عن أبي حازم عن أبي هريرة .
وروي هذا الخبر من غير طريق أبي هريرة ، فقد رواه نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه عن موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت .
و عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله .
و عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب .
و شريك عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود .
و محمد بن كعب عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء .
و أبو الزبير عن جابر ، وعن طارق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس .
وعن أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟) فبذلك كانوا يفضلون صلاة آخر الليل على أوله، وهذه الطرق كلها مخرجة بأسانيدها في كتابنا الكبير المعروف (بالانتصار) ].
والحاصل: أن حديث النزول هذا له طرق متعددة، فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء وجابر وابن عباس وعائشة وأم سلمة ، وجمع من الصحابة، وهو من الأحاديث المتواترة.
وفي رواية يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داع فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح) ].
هذه الرواية فيها: (إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه). وأكثر الروايات فيها: (ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر). وفي هذه الرواية (إذا مضى نصف الليل)، وفي رواية (إذا مضى ثلثاه). وجاء في رواية: (إذا مضى ثلثه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة زيادة في آخره وهي: (ثم يبسط يديه فيقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم) ].
وهذه الرواية أخرجها مسلم، وقد جاءت من طريقين: الأولى: (ثم يقول: من يقرض غير عديم ولا ظلوم)، وفي الثانية: (ثم يبسط يده -تبارك وتعالى- يقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم).
وهذا يدل على أن هذا الوقت فاضل وعظيم، إذ هو وقت تنزل الله في آخر الليل، وأنه يبسط يده ويقول: (من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)، ويقول: من يسألني؟ من يستغفرني؟ من يدعوني؟
فينبغي للمسلم أن يكون له في هذا الوقت ولو ركعات معدودة يناجي فيها ربه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فلا يبقى شيء فيه الروح إلا علم به إلا الثقلين الجن والإنس، قال: وذلك حين تصيح الديوك، وتنهق الحمير، وتنبح الكلاب) ].
هنا: تصيح الديكة، وهي زيادة، يقول في الحاشية: لم نقف على هذه الزيادة، ويحتاج إلى معرفة ثبوتها (فلا يبقى شيء فيه الروح إلا علم به إلا الثقلان، قال: وذلك حين تصيح الديكة، وتنهق الحمير، وتنبح الكلاب).
وأول الحديث إلى قوله: (فأغفر له). أخرجه الإمام أحمد في المسند، والدارمي في السنن، والآجري في الشريعة، وابن أبي عاصم في السنة، كلهم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه بدون لفظ: (في ثلث الليل الأخير).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت زيادات حسنة وهي التي أخبرنا بها أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي أنبأنا عبد الله بن محمد الرازي أنبأنا أبو عثمان محمد بن عثمان بن أبي سويد حدثنا عبد الرحمن -يعني: ابن المبارك - حدثنا فضيل بن سلمان عن موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له؟ ألا مقتر عليه رزقه فيدعوني فأرزقه؟ ألا مظلوم يذكرني فأنصره؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأفكه؟ فيكون كذلك إلى أن يطلع الصبح ويعلو على كرسيه) ].
هذا فيه زيادات، قال عنه المحقق: إسناده ضعيف، يعني بهذه الزيادات، أما نزول الرب سبحانه وتعالى فهذا ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد، لكن هذه الزيادات فيها ضعف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي رواية أبي الزبير عن جابر ، من طريق مرزوق أبي بكر الذي خرجه محمد بن إسحاق بن خزيمة مختصراً.
ومن طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر ، الذي خرجه الحسن بن سفيان في مسنده.
ومن طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عشية عرفة ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، ويقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين، جاءوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوماً أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة) ].
وهذا الحديث فيه نزول الرب سبحانه وتعالى عشية عرفة، وإن كان قد ذكر أن في بعضه ضعف، لكن قد يتقوى بشواهده.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وروى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مضى ثلث الليل، أو شطر الليل، أو ثلثه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من يستغفرني فأغفر له؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر الصبح) ].
وهذا نزول يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى. وهذا الحديث صحيح ثابت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو محمد المخلدي أخبرنا أبو العباس السراج قال حدثنا محمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر قال: أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أشهد عليهما أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول هبط إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مذنب؟ هل من مستغفر؟ هل من سائل؟ هل من داع؟ حتى تطلع الشمس) ].
قوله: (حتى تطلع الشمس) هذه اللفظة شاذة لا تصح، والصواب الثابت: حتى يطلع الفجر.
والمؤلف رحمه الله روى هذا الحديث وذكر له طرقاً كثيرة؛ ليبين أن الحديث ثابت، وأنه بلغ حد التواتر، وأن النزول صفة من صفات الرب، التي تليق بجلاله وعظمته، وأن أهل السنة والجماعة يثبتون النزول بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل خلافاً لأهل البدع، فإنهم يقولون: إن معنى: (ينزل كل ليلة إلى السماء) ينزل أمره، وبعضهم يقول: ينزل ملك، فاستوحشوا من إثبات النزول للرب، وقالوا: لا يمكن أن ينزل الرب بذاته.
وسيأتي أنه إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل من مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
فأهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة استوحشوا من إثبات النزول وأنكروه.
ويقال لمن يقولون: إن معنى (ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا)، ينزل أمره: إن أمر الله ينزل في كل وقت، كما قال سبحانه: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ [السجدة:5]، أما نزوله سبحانه في ثلث الليل الآخر، فهو مخصوص بهذا الوقت المعين بخلاف نزول الأمر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو محمد المخلبي حدثنا أبو العباس الثقفي حدثنا الحسن بن الصباح حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي مسلم الأغر قال: أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل الأول هبط إلى هذه السماء، ثم أمر بأبواب السماء ففتحت، فقال: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مضطر أكشف عنه ضره؟ هل من مستغيث أغيثه؟ فلا يزال ذلك مكانه حتى يطلع الفجر في كل ليلة من الدنيا) ].
وهذا الحديث فيه إثبات النزول للرب في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، في أي مكان من الأرض سواء أكان في الشرق أو الغرب، في أمريكا أو جزيرة العرب في الشام أو مصر أو في أي مكان آخر، فهذا وقت فاضل لا ينبغي للمسلم التفريط فيه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو محمد المخلدي أنبأنا أبو العباس -يعني: الثقفي - حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن سهل قالا: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سهيل عن أبي إسحاق عن الأغر أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان ثلث الليل نزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فقال: ألا هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ألا هل من تائب يتاب عليه) ].
المؤلف رحمه الله كرر وعدد الطرق والأسانيد ليبين أن هذا الحديث ثابت، وأن له طرقاً متعددة، وأنه بلغ حد التواتر، وأن النزول ثابت للرب سبحانه وتعالى في ثلث الليل الأخير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الأستاذ أبو منصور بن حمشاد قال حدثنا أبو إسماعيل بن أبي الظمأ ببغداد حدثنا أبو منصور الرمادي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: أنا الملك أنا الملك ثلاثاً من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر) ].
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي في جامعه وابن خزيمة في صحيحه وغيرهم.
أبو حنيفة رحمه الله هو أحد الأئمة الأربعة، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، سئل عن هذا الحديث، فقال: ينزل بلا كيف، وهذا قول أهل السنة قاطبة لا كنزول المخلوق ولا يكيف على كيفية معينة، بل الله أعلم كيف ينزل، إنما نثبت النزول ولا نعلم الكيفية.
يقول الإمام أبو حنيفة : لأنه جل جلاله منزه أن تكون صفاته مثل صفات الخلق، كما أنه منزه أن تكون ذاته مثل ذوات الخلق، فكذلك الصفات.
فالله تعالى له ذات لا تشبه ذوات المخلوقين، وكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة : (فمجيئه وإتيانه ونزوله على حسب ما يليق بصفاته من غير تشبيه ولا كيف) أي: من غير تشبيه بصفات المخلوقين لا نقول كيفية المجيء كذا ولا كيفية النزول كذا، ولا كيفية الإتيان كذا، بل نقول: صفات الله تليق بجلاله ولا نكيف، ولا نمثل.
هذا الكلام قاله الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة -الذي يلقب بإمام الأئمة، وهو من أئمة أهل السنة والجماعة- في كتابه الذي سماه بـ(كتاب التوحيد).
وقوله: (وسمعت من حفيده) الحفيد هو: ابن الابن.
وقول الإمام ابن خزيمة في كتابه التوحيد: (باب ذكر أخبار ثابتة السند رواها علماء الحجاز والعراق في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة من غير صفة كيفية النزول، مع إثبات النزول).
هذا هو قول أهل السنة قاطبة: إثبات النزول من غير إثبات كيفية معلومة لدينا، لهذا قال: (من غير صفة كيفية النزول مع إثبات النزول).
ثم قال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة : (نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه، مستيقن بما فيها من الأخبار من ذكر النزول) يعني: نقر ونوقن ونشهد أن الله تعالى ينزل.
وقوله: (من غير أن نصف الكيفية) أي: لا نقول كيفية النزول كذا أو كذا،.
وقوله: (لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل) أي: لم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الكيفية، فنحن نثبت النزول ولا نتعرض للكيفية.
وقوله: (والله عز وجل ولّى نبيه صلى الله عليه وسلم بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم) قال الله تعالى لنبيه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالله تعالى ولى نبيه أن يبين ما يحتاجه المسلمون فلو كانت هناك حاجة لبيان كيفية النزول لأعلمنا الله بها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، لكن ليست هناك حاجة لمعرفتها.
وقوله رحمه الله: (فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين بالنزول بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف كيفية النزول). هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة: يثبتون النزول وينفون الكيفية.
وهذا الحديث حسن، أخرجه الدارقطني في كتابه (أدلة النزول) بهذا اللفظ من طريقين، وفيه إثبات نزول الرب، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا عشية عرفة نزولاً يليق بجلاله وعظمته، كما ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
وعند نزوله سبحانه وتعالى عشية عرفة يباهي بأهل الموقف أهل السماء، فيقول سبحانه: يا ملائكتي! انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم.
ذكر الحاكم أن هذا الحديث صحيح، ومعروف عند العلماء أن الأحاديث في نزول الله تعالى في النصف من شعبان أحاديث ضعيفة وهذا الحديث فيه ضعف، لكن أتى به المؤلف رحمه الله؛ ليبين ويؤكد نزول الرب، وهو ثابت في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وفي عشية عرفة، أما هذا الحديث الذي فيه: (أنه ينزل في ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا، ويعتق من النار بعدد شعر معز بني كلب، وفي لفظ: بعدد شعر غنم بني كلب ويكتب الحاج، وينزل أرزاق السنة، ولا يترك أحداً إلا غفر له، إلا مشركاً أو قاطع رحم أو عاقاً أو مشاحناً) فالمعروف عند أهل العلم أن الحديث الذي يخصص ليلة النصف من شعبان حديث ضعيف.
وليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي لا تخصص فيها، وكونه جاء في بعض الأحاديث أنها ليلة القدر فتلك أحاديث ضعيفة لا تصح، ومعلوم أن ليلة القدر إنما هي في رمضان وليست في شعبان.
وليلة النصف من شعبان ليس لها خصوصية، وكذلك يوم النصف من شعبان، فلا يخصان بصيام أو قيام، بل الإنسان يفعل ما يفعله كل يوم؛ فإن كان يصلي في كل ليلة يصلي في ليلة النصف من شعبان، وإذا كان يصوم الأيام البيض يصومها من شعبان ومن غيره، ولا يخص يوم النصف من شعبان بصيام ولا تخص ليلة النصف من شعبان بقيام، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة حدثنا جدي الإمام حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني حدثنا إسماعيل بن علية عن هشام الدستوائي (ح) قال الإمام وحدثنا الزعفراني حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام الدستوائي (ح) وحدثنا الزعفراني حدثنا يزيد -يعني: ابن هارون - أخبرنا الدستوائي (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون بالإسكندرية حدثنا الوليد عن الأوزاعي جميعهم عن يحيى بن أبي كثير عن عطاء بن يسار حدثني رفاعة بن عرابة الجهني ].
وفي الإسناد الذي بعد هذا عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار .
فسقط من هذا الإسناد هلال بن أبي ميمونة، وسيذكره المصنف في الإسناد الآتي، وهو مثبت في كتاب التوحيد لـابن خزيمة .
قوله: (صدرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: رجعنا، والصدر: هو رجوع المسافر من مقصده، وهو نقيض الورود.
قوله: (فجعلوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يأذن لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال شق الشجرة الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم أبغض إليكم من الآخر هذا فيه إنكار عليهم بالاستئذان، ومعنى: (ما بال شق الشجرة الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم أبغض إليكم من الآخر) قال هذا؛ لأنهم يستأذنون من الجهة التي تلي النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فلا يرى من القوم إلا باكياً) أي: أنهم بكوا لأنهم شعروا بموعظة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى: قال: (يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن الذي يستأذنك بعدها لسفيه) أي: بعد هذه المقالة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وكان إذا حلف قال: والذي نفسي بيده أشهد عند الله ما منكم من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ثم يسدد إلا سلك به في الجنة، ولقد وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب، وإني لأرجو أن لا تدخلوها حتى تتبوءوا ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكنكم في الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا مضى شطر الليل -أو قال: ثلثاه- ينزل الله إلى السماء الدنيا، ثم يقول: لا أسأل عن عبادي غيري من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأجيبه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى ينفجر الصبح) هذا لفظ حديث الوليد ].
هذا الحديث ثابت، وفيه إشارة للمؤمن الذي سدد أنه من أهل الجنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده أشهد عند الله ما منكم من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ثم يسدد إلا سلك به في الجنة) يعني: أن من سلك مسلك السداد، واجتهد في مقاربته، واجتهد في فعل الأوامر وترك النواهي، وقبل هذا آمن بالله واليوم الآخر ومات على الإيمان فهو من أهل الجنة والكرامة إن شاء الله عاجلاً أو آجلاً، وهذا إن مات على توحيد خالص لم يصر فيه على كبيرة فإنه يدخل الجنة فضلاً من الله تعالى وإحساناً، وإن مات على توحيد ملطخ بالمعاصي والكبائر، فهو على خطر، وهو تحت مشيئة الله، قد يعفو عنه قد يعذبه في قبره، وقد تصيبه شدائد في موقف القيامة تكفر عنه، وقد يعذبه في النار وقد لا يعذبه، وإن عذب في النار فإنه لن يخلد فيها؛ لأنه مات على التوحيد، فمآله إلى الجنة. ويخرج من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ثم يسدد إلا سلك به في الجنة، ولقد وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب)، هذا ثابت وثبت أيضاً في حديث آخر: أن الله تعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم مع كل ألف سبعين ألفاً.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني لأرجو أن لا تدخلوها حتى تتبوءوا ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكنكم في الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا مضى شطر الليل -أو قال: ثلثاه- ينزل الله إلى السماء الدنيا) وهذا هو الشاهد: أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر فيقول الرب سبحانه: (من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأجيبه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى ينفجر الصبح)، ففيه إثبات أن الله تعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته، فيثبت المؤمن ذلك ولا يكيف، بل يؤمن بأنه سبحانه وتعالى ينزل كما يشاء نزولاً يليق بجلاله وعظمته.
قوله: (قال شيخ الإسلام) أي: المؤلف إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني .
قوله: (قلت: فلما صح خبر النزول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه) هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فلما صح خبر نزول الرب، وهو ثابت بل متواتر أقر به أهل السنة وقبلوا الخبر وأثبتوا أن الله ينزل على ما يليق بجلاله وعظمته، وقوله: (على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته) أي: كيفية النزول وقوله: (إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق) هكذا يعتقد أهل السنة والجماعة، أي: يثبتون صفات الله كما يليق بجلاله وعظمته، وينفون عنها مماثلة صفات المخلوقين، كما أنهم يثبتون ذات الله سبحانه وينفون مماثلتها لذوات المخلوقين تعالى الله عما يقول المشبهة والمعطلة علواً كبيراً.
وقلنا لهم: إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته، ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه، أرأيتم من أنكر أن الملك لا يجيء صفاً صفاً، ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب، قلنا: فكذلك من أنكر أن الله سبحانه لا يجيء فهو كافر مكذب.
قال أبو عبد الله بن أبي حفص البخاري أيضاً في كتابه: ذكر إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا قال لك الجهمي : أنا لا أؤمن برب يزول عن مكانه. وفي نسخة: ينزل -لكن لعلها يزول- فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء ].
وهذه القصة التي ذكرها المؤلف رحمه الله عن أبي حفص وهو من كبار أصحاب محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة ، أنه سمع محمد بن الحسن يقول قال حماد بن أبي حنيفة : (قلنا لهؤلاء -يعني المعطلة الذين ينفون صفات الله- أرأيتم قول الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، يعني هل تؤمنون بهذا، فقالوا: (أما الملائكة فيجيئون صفاً صفاً، وأما الرب فإنا لا ندري ما عنى بذلك) أي: نثبت أن الملائكة يصفون، ويجيئون، ولا نثبت أن الله يجيء، قوله: فقلت: لهم: (إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته، ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه) أي: أنتم لستم مكلفين بمعرفة الكيفية وإنما مكلفون بالإيمان بمجيئه بلا تكييف.
ثم قال لهم من باب الإلزام: (أرأيتم من أنكر أن الملك لا يجيء صفاً صفاً، ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب، قلنا: فكذلك من أنكر أن الله سبحانه لا يجيء فهو كافر مكذب)؛ لأن الله أثبت في آية واحدة مجيئه ومجيء الملائكة فقال سبحانه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، فإذا كان الذي ينكر مجيء الملائكة كافر مكذب، فكذلك الذي ينكر مجيء الله كافر مكذب.
ثم ذكر أبو عبد الله بن أبي حفص أيضاً هذه القصة عن الفضيل بن عياض أنه يقول: (إذا قال لك الجهمي: أنا لا أؤمن برب يزول عن مكانه فقل له أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) هذا من باب الإلزام.
فالجهمي ينكر نزول الرب سبحانه، فيقول: أنا لا أؤمن برب يزول عن مكانه، وأنت رد عليه بقولك: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء.
الجواب: هذا تأويل باطل؛ لأنه إنكار للصفة، فالذي يقول: إن الاستواء هو الهيمنة فقد أنكر استواء الله، وسلك طريقة المبتدعة؛ لأنهم ينكرون الاستواء، وبعضهم يقول: معنى الاستواء: الاستيلاء والهيمنة، فأهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة هذا قولهم.
والاستواء على العرش هو العلو والارتفاع والصعود، فاستوى بمعنى: صعد وعلا وارتفع واستقر، هذه أربعة معان للاستواء عند أهل السنة، أما كيفية الاستواء فلا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.
الجواب: أهل السنة والجماعة يعملون بالمحكم ويؤمنون بالمتشابه، فيردون النص المتشابه إلى المحكم ويفسرونه به.
وأما أهل الزيغ فإنهم يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم.
الجواب: هذا تأويل بلا دليل، بل نقول: ينزل سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته، وبكيفية لا نعلمها.
الجواب: بعض العلماء يقول: جميع المعاصي نوع من الهوى، والهوى شرك، لكن الصواب: أن المعاصي منها ما هو شرك ومنها ما ليس بشرك، والشرك الأصغر منها: هو ما ورد في النصوص تسميته شركاً، كالحلف بغير الله، وما لم يسم في النصوص الشرعية شركاً فهو كبيرة من الكبائر.
الجواب: (فَلَمَّا أَفَلَ) يعني: غاب، وهذه مناظرة إبراهيم مع المشركين من عباد الكواكب، يوهمهم أنه لما يعرف ربه، وليس فيها دليل لمنكري النزول، وإنما ناظرهم عليه الصلاة والسلام كما حكى الله عنه بقوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ أي: غابت قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:78-79]، هذا من باب المحاجة والمناظرة لهم؛ ليريهم بطلان ما هم عليه من عبادة الكواكب، ليس له علاقة بمسألة النزول.
الجواب: لا يجوز للمرأة الحائض الجلوس في المسجد، وكذلك الجنب ليس له المكث فيه، ويجوز له العبور من باب إلى باب؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، فليس لها أن تجلس في المسجد لكن تجلس في بعض مرافقه، إلا إذا كان هناك مكان خارج المسجد، أي: خارج سور المسجد فلا بأس ببقائها فيه، أو تجلس في السيارة أو أي مكان آخر.
الجواب: هذا حجة عليه؛ لأن قول الله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]، فيه إخبار أن الملائكة لها إتيان، وأمر الله له إتيان، والله له إتيان، فهذا حجة عليه، فلو كان الإتيان واحداً لما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الإتيان.
فالقول بأن الإتيان إنما يعني إتيان أمر الله قول باطل، فالله تعالى إذا وصف نفسه بأنه يأتي فهو إتيان له سبحانه وتعالى يليق بجلاله وعظمته.
الجواب: هذا الإشكال ناشئ من كونك شبهت نزول الخالق بنزول المخلوق، لكن ألغ هذا التشبيه ينجلي عنك الإشكال.
وللتوضيح نقول: إن الله تعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله وعظمته بأي مكان في الدنيا إذا جاء ثلث الليل الآخر؛ لأنه وقت التنزل الإلهي، ولا نكيف النزول، والإشكال الذي في السؤال ناشئ من كون السائل شبه نزول الخالق بنزول المخلوق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر