هذه عادة المؤلف رحمه الله، يقول في أول كل فقرة جديدة: (اعلم) يعني: تيقن تيقناً جازماً، فهو يدعو ويسأل من الله عز وجل الرحمة لطالب العلم.
وقوله: أن الكلام في الرب، يعني: ما يتكلم به أهل الكلام في الخوض في الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله بغير علم، فمنهم من تكلم في الرب فقال:
إنه ليس فوق العرش والعياذ بالله، ومنهم من قال: إنه في كل مكان، فهذا كله محدث، وهو كفر وردة والعياذ بالله.
فالجهمية الذين يقولون: إن الرب ليس فوق العرش وإنما هو في كل مكان، وكذلك من ينفي النقيضين عن الله، يقول: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، هذا الكلام في الرب كفر وضلال، بل الرب سبحانه وتعالى فوق العرش، مستو على عرشه، بائن من خلقه.
فكلام الجهمية في هذه المسألة محدث، وكذلك كلامهم وكلام المعتزلة في نفي الأسماء والصفات، وكذلك كلام الأشاعرة في نفي الصفات ما عدا الصفات السبع، وكذلك نفيهم للإرادة الدينية، ونفي المعتزلة للإرادة الكونية، كل هذا محدث، وهذا المحدث منه ما هو كفر ومنه ما هو دون الكفر.
فلم يكن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم يتكلمون في الرب بما تكلم به هؤلاء، فالرب سبحانه وتعالى أثبت لنفسه الأسماء والصفات، وأثبت أنه فوق العرش، فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، فهؤلاء المبتدعة تجاوزوا ما وصف به الرب نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان كلامهم محدثاً.
فهو بدعة، وهذه البدعة إما أن تكون مكفرة، كبدعة الجهمية الذين يقولون: إنه ليس فوق العرش، وإنما هو في كل مكان، وإما أن تكون بدعة غير مكفرة كبدعة الأشاعرة الذين يتأولون بقية الصفات ما عدا الصفات السبع، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ واعلم رحمك الله أن الكلام في الرب محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ] وهذا كما قال بعض السلف: لا يوصف الرب إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يتجاوز القرآن والحديث.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يتكلم في الرب إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو جل ثناؤه واحد، فهو واحد في ذاته، وواحد في أسمائه وصفاته وأفعاله، وواحد في ألوهيته، وواحد في ذاته، كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2].
واحد في أسمائه وصفاته أي: ليس له مثيل، ولا يشبه أحداً من خلقه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو واحد في ألوهيته، فلا يستحق العبادة أحد غيره.
فهو سبحانه واحد، وهو الأحد، وهو الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فهو صمد في نفسه، وتصمد إليه الخلائق في حوائجها، ولا نظير ولا مثيل ولا سمي ولا ند له، كما قال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وقال سبحانه: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، وقال سبحانه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وقال سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4].
قال المؤلف رحمه الله: [ ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى وعلمه بكل مكان لا يخلو من علمه مكان ].
قوله: (ربنا أول بلا متى) يعني: لا يوجه إليه هذا السؤال، فلا يقال: متى كان؟ فهو سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو سبحانه وتعالى واجب الوجود بذاته، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، كما قال الله عز وجل في كتابه المبين: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].
فهذان اسمان متقابلان لأوليته وأبديته: (الأول والآخر)، وهذان اسمان متقابلان لفوقيته وعلوه: (الظاهر والباطن) وهو سبحانه لا يشبهه شيء من خلقه.
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء الأربعة في حديث الاستفتاح الصحيح، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر).
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ربنا أول بلا متى)، يعني: لا يوجه هذا السؤال إليه، فلا يقال متى كان، (وآخر بلا منتهى)، كما ورد في الحديث الذي قدمناه آنفاً.
يعلم السر وأخفى، فصفة العلم من صفاته سبحانه وتعالى، والذي أخفى من السر هو حديث النفس، فهو سبحانه يعلم الكلام الذي تتكلم به سراً، ويعلم ما هو أخفى من ذلك، وهو ما تحدث به نفسك، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16].
وكما أخبر الله سبحانه وتعالى في خطابه لموسى عليه الصلاة والسلام: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15].
وقوله رحمه الله تعالى: (وعلى عرشه استوى) أي: أن الله سبحانه استوى على العرش، والاستواء ذكر في سبعة مواضع من كتاب الله عز وجل، وكلها جاءت بلفظ الاستواء، وتعدت بعلى التي تفيد العلو والارتفاع، وهذه المواضع جاء ذكرها في سورة الأعراف وفي سورة يونس وفي سورة طه وفي سورة الفرقان وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، والموضع السابع في سورة الرعد، وكلها فيها التصريح بأنه سبحانه استوى على العرش، ومع ذلك أنكر الاستواء أهل البدع من الجهمية والأشاعرة والمعتزلة، وقالوا معنى استوى: استولى، وهذا لا شك أنه تحريف لمعنى استوى، فإن الله تعالى لو أراد بمعنى استوى: استولى فليس عاجزاً أن يقول: الرحمن على العرش استولى، أي: لو أراد هذا المعنى لبين ذلك.
ولأن (استوى) يختلف معناها عن استولى، فمعنى استوى: استقر وارتفع وصعد، واستولى تتضمن نقصاً في حق الرب، وذلك أنه لا يقال للشيء استولى إلا بعد أن كان عاجزاً ثم غلب غيره واستولى عليه، وهل العرش حاول أحد أن يغالب الله عليه؟! وهل كان الله عاجزاً عن الاستيلاء ثم استولى بعد ذلك؟! فلا يقال استولى إلا في حق من كان عاجزاً ثم غلب، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق.
فهذا التحريف الذي جاء به أهل البدع يعتبر زيادة في كلام الله، ولهذا قال العلماء: إن هذه اللام الزائدة، وهي تحريف لكلام الله ومحادة له ورسوله، وهذه صفة اليهود حين قال الله لهم: قولوا حطة، فقالوا: حنطة، زادوا حرفاً واحداً، ولهذا يقول العلماء: لام الجهمية كنون اليهود، حين قال الله لهم: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58]، أي: قولوا: حط عنا يا الله ذنوبنا واغفرها لنا، فزادوا في كلام الله، واستهزءوا، وقالوا: حنطة، فزادوا نوناً.
وكذلك الجهمية أخبر الله عن نفسه أنه استوى على العرش، فزادوا لاماً وقالوا: استوى بمعنى استولى، نسأل الله السلامة والعافية.
وقوله: (على عرشه استوى) وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان، المعنى: أن الله تعالى استوى فوق العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، فهو فوق العرش سبحانه وتعالى، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، أما علمه فهو في كل مكان، يعلم ما في لجة البحار، وما في ظلمات البر والبحر، ويعلم السر، ويعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
فهو سبحانه فوق العرش وعلمه في كل مكان.
أي: لا يقول في صفات الرب كيف، كأن يقول: كيف استوى؟ أو كيف ينزل؟ أو كيف يعلم؟ أو كيف يسمع؟ أو كيف يبصر؟ فهذا السؤال اعتراض، فلا يوجهه إلى الرب إلا شاك في الله، أما المؤمن المتيقن فلا يوجه هذا السؤال في صفات الله، بل يقول: آمنت بالله وبما جاء عن الله على لسان رسول الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
وكذلك لا يوجه لأفعال الله هذا السؤال: لم فعل كذا؟ لم قال كذا؟ لم شرع كذا؟ لم أغنى هذا، ولم أفقر هذا؟ فهذا السؤال باطل، فالسؤال بـلِمَ لا يوجه إلى أفعال الله، والسؤال بكيف لا يوجه إلى صفات الله.
فالذي يوجه هذا السؤال: كيف ولم، يقول عنه المؤلف إنه شاك في الله تبارك وتعالى، أما المتيقن والمسلم فإنه إذا بلغه النص في صفات الله يقول: آمنت بالله ورسوله، سلمت، ولا يقول كيف؟ وكذلك إذا بلغه شيء من أفعال الله فلا يقول: لم، بل يسلم ويمتثل الأوامر ويجتنب النواهي.
القرآن كلام الله وتنزيله ونوره ليس بمخلوق، وهو صفة من صفاته جل وعلا، وهذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن القرآن كلام الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.
فالقرآن كلامه وتنزيله، أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وحياً بواسطة جبرائيل، كما قال عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195].
فالقرآن كلام الله وتنزيله قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقال: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13]، وقال: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102]، وقال: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [المائدة:48]، وقال: حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الأحقاف:1-2]، وقال: حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:1-2]، وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، وقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3].
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة التي فيها بيان أن القرآن كلام الله وتنزيله، نزل به جبريل عليه الصلاة والسلام على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195]، فمن قال إنه مخلوق فقد كفر، وهذا هو قول الأئمة كلهم؛ لأن القرآن الكريم صفة من صفات الله تعالى، فمن قال إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه جعل صفات الله من جنس المخلوقات، وهذا كفر والعياذ بالله، كما قال الإمام أحمد والشافعي وغيرهم، قالوا: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر، وهذا على وجه العموم، أما الشخص بعينه فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة.
إذاً: فالقرآن من الله وما كان من الله فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفقهاء قبلهما وبعدهما، كلهم قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكلهم قالوا: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر.
وقوله: المراء فيه كفر، يعني: الجدال في القرآن كفر؛ لأنه يوقع في الضلال، وفي البدعة.
يعني: يجب على المسلم أن يؤمن برؤية الله تعالى يوم القيامة، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصار رءوسهم، والنصوص في إثبات الرؤية كثيرة من القرآن العزيز ومن السنة المطهرة، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فالأولى: نَاضِرَةٌ [القيامة:22]، من النضارة والبهاء والحسن، بالضاد أخت الصاد، والثانية: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، بالظاء يعني: تنظر إلى ربها.
قال العلماء: إن هذه الآية صريحة في أن الرؤية تكون بالعين التي في الوجه؛ لأن الله تعالى أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، أي: أضاف النظر إلى الوجوه التي هي محل العين، وعداه بأداة (إلى) الصريحة في النظر بالعين التي في الوجه إلى الرب.
وهكذا أخذ الكلام من قرينة تدل على اختلاف موضعه وحقيقته، فدل ذلك على أن المراد النظر بالعين التي في الرأس إلى الرب سبحانه.
وأهل البدع يفسرون قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22] ويؤولونها بتأويلات باطلة، فبعضهم يقول: ناظرة إلى ثواب ربها، وبعضهم فسرها بالنضرة والنعيم.
ومن الآيات الدالة على الرؤية كذلك قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، فدل على أن المؤمنين ليسوا بمحجوبين، وقوله سبحانه: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، جاء تفسير (مزيد) بالنظر إلى وجه الله الكريم.
وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم، جاء تفسير هذه الآية بهذا في صحيح مسلم ، من حديث صهيب رضي الله عنه.
والسنة جاءت بإثبات رؤية المؤمنين لربهم عز وجل يوم القيامة، والنصوص في هذا متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه (هادي الأرواح إلى بلاد الأفراح): رواها من الصحابة نحو ثلاثين صحابياً في الصحاح والسنن والمسانيد، وقال: إن أهل السنة والجماعة يتلون هذه النصوص ولا شيء أقر لأعينهم من ذلك، فهم يتلونها ويستدلون بها، ويورثها السابق للاحق، ويرويها المتأخر عن المتقدم.
هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فهم يؤمنون بالميزان يوم القيامة، أي: أن هناك ميزاناً توزن فيه أعمال العباد وأقوالهم.
والله تعالى قادر على أن يزنها، فهي توزن ولو كانت أعراضاً، فإن الله تعالى يجعلها أجساماً، وتكون الخفة والثقل على حسب صلاح العمل، فالذي أعماله صالحه فإنها تثقل في الميزان، والذي أعماله غير صالحة فإنها تخف في الميزان.
ومن معتقد أهل السنة والجماعة، أن الميزان له لسان وله كفتان، كما جاء في حديث ابن عباس : (الميزان له لسان وكفتان)، وجاء في بعض الأحاديث أن كفتي الميزان كأطباق السماوات والأرض، فهو ميزان حسي، له كفتان ولسان، توزن فيه الأعمال، ويوزن فيه الأشخاص أيضاً على حسب العمل، كما قال الله تعالى عن الكفرة: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وفي الحديث: (يؤتى بالرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة).
وثبت في الحديث الصحيح أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كشفت الريح عن ساقيه، وكان دقيق الساقين رضي الله عنه، فضحك الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد).
واختلف العلماء هل هو ميزان واحد، أو أن هناك موازين متعددة، فمن العلماء من قال: إنه ميزان واحد، ومنهم من قال: هي موازين متعددة، لكل شخص ميزان، ولكل أمة ميزان، واستدلوا بقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، ومن قال إنه ميزان واحد أجاب عن ذلك بأنها جمعت باعتبار الموزون، وإلا فهو ميزان واحد.
فالمقصود أنه ميزان حسي، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وخالف في ذلك أهل البدع كالمعتزلة، فقالوا: ليس هناك ميزان حسي وإنما هو ميزان معنوي، وحجتهم في ذلك قالوا: الرب لا يحتاج إلى الميزان؛ لأنه ليس عاجزاً، والميزان لا يحتاج إليه إلا البقال والفوال، أما الرب فلا يحتاج إلى الميزان، فأنكروا الميزان، وهذا من جهلهم وضلالهم؛ لأنهم يعملون عقولهم في النصوص، فهذا من أبطل الباطل، فإن هناك ميزاناً حسياً توزن فيه الأعمال والأشخاص، فمن ثقلت موازينه فهو من السعداء، ومن خفت موازينه فهو من الأشقياء، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7]، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:8-11]، ويوزن فيه الخير والشر.
هذا هو الصواب، أنه ميزان حسي له لسان وكفتان خلافاً للمعتزلة القائلين بأنه ميزان معنوي.
أي: من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بعذاب القبر، والإيمان بمنكر ونكير.
وكان ينبغي للمؤلف أن يقول: والإيمان بعذاب القبر ونعيمه، ولكنه لم ينص على النعيم لأنه يقابل العذاب، وإذا ثبت العذاب ثبت النعيم، قال الله تعالى في شأن آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فقول الله عز وجل:وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ [غافر:46]، دل على أن العرض الأول في القبر، وهو قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، أي: قبل يوم القيامة؛ لأنه قال بعد ذلك: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].
وقال سبحانه: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، فهذا عذاب القبر.
وقوله سبحانه: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال:50]، فيضربون وجوههم وأدبارهم أي: عند التوفي، فهذا من عذاب القبر ونعيمه.
ومن السنة نصوص كثيرة، بل إنها قد تبلغ حد التواتر، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيحين وغيرهما- قال: (إذا صلى أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (استعيذوا بالله من عذاب القبر).
وثبت في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا).
وكذلك أيضاً ما جاء في حديث البراء وغيره: (أن المؤمن يوسع له في قبره مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الريح يؤنسه، فيقول: من أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، والفاجر أو الفاسق يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويأتيه رجل قبيح الوجه، منتن الريح، فلا يزال يروعه ويوحشه، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث) كل هذا يدل على إثبات عذاب القبر ونعيمه، فهو حق.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومنكر ونكير)، يعني: يجب الإيمان بمنكر ونكير، وهما ملكان يسألان الإنسان في القبر، كما جاء في بعض الأحاديث: (إن المؤمن إذا وضع في قبره جاءه ملكان، يقال لأحدهما المنكر، ويقال للآخر النكير، فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فأما المؤمن فيثبته الله فيقول: ربي الله، ومن نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ما دينك؟ فيقول: الإسلام. وأما الكافر فلا يستطيع أن يجيب -ولو كان من أصلح الناس في الدنيا نعوذ بالله- فإذا قال له: من ربك؟ قال: هاه هاه لا أدري، من نبيك؟ هاه هاه لا أدري، ما دينك؟ هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته
وجاء في حديث البراء : (أنه يضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل من خلق الله إلا الثقلين) فلا بد من الإيمان بمنكر ونكير وأنهما الفتانان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر