حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع أخبرنا معاوية عن يحيى أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة -رضي الله عنه- أخبره: (أن
قول المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب في غسل الجمعة ] يعني: ما حكمه؟ وهل هو واجب أو مستحب؟ والمؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم؛ لأنها مسألة مختلف فيها بين أهل العلم، فقد اختلف العلماء في غسل الجمعة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه واجب، فكل من ذهب إلى الجمعة عليه أن يغتسل، واستدلوا بحديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وهو قول قوي، وعلى هذا فإن من لم يغتسل يوم الجمعة فإنه آثم وصلاته صحيحة، ويكون الغسل من طلوع الفجر يوم الجمعة، وأما قبل طلوع الفجر فلا يعتبر؛ لأن اليوم إنما يدخل بطلوع الفجر.
والقول الثاني -وهو قول جمهور العلماء-: أن الغسل مستحب وليس بواجب، وستأتي أدلتهم، وعلى هذا فالإنسان إن ترك الغسل يأثم ويكون تاركاً لمستحباً.
القول الثالث: أنه يجب على أهل المهن والعمال الذين تنبعث منهم الروائح الكريهة، وأما من عداهم فلا يجب عليه، وعلى هذا فإن من كان من أهل المهن ولم يغتسل يأثم، وإن لم يكن من أهل المهن ولم يغتسل لا يأثم، وسيأتي في حديث عائشة أن الناس كانوا مهان أنفسهم -أي: خدام أنفسهم- وكانت تنبعث منهم الروائح فقال صلى الله عليه وسلم: (لو اغتسلتم)، ولهذا لم يجزم المؤلف رحمه الله بحكم، وإنما قال: [ باب في غسل الجمعة ]، يعني: هل هو مستحب كما قال الجمهور، أو واجب كما قال به فريق من العلماء، أو واجب على أهل المهن؟
وهذا الحديث فيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخطب في الناس الجمعة، وكان الأمراء والخلفاء هم الذين يتولون الخطابة في الجمعة والعيدين، فبينما هو يخطب رضي الله عنه إذ دخل رجل من السابقين الأولين، وهو عثمان رضي الله عنه، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه وقال: أي ساعة هذه يا عثمان ؟! يعني: لماذا تأخرت؟! وهذا فيه دليل على أنه ينبغي التبكير إلى الجمعة، ولا سيما للأكابر وأهل الفضل، فقال عثمان رضي الله عنه: ما هو إلا أن سمعت النداء فما زدت على أن توضأت. فأنكر عليه إنكاراً آخر فقال: [ والوضوء أيضاً! ] يعني: لماذا لم تغتسل؟ ثم قال: [ أو لم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) ] ولعل عثمان رضي الله عنه انشغل في هذه المرة وتأخر.
وفي الحديث بيان بعد عثمان رضي الله عنه عن الرياء، فإنه قال: [ ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت ].
وهذا الحديث أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم وأخرجه الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عمر عن أبيه.
وهذا الحديث فيه دليل على أنه ينبغي لأهل العلم والفضل أن يبكروا في المجيء إلى صلاة الجمعة؛ لأنهم قدوة للناس، وفيه أن من تأخر عنها فإنه ينكر عليه، وقد اُستدل به على أن الغسل واجب؛ لأن عمر أنكر على عثمان رضي الله عنه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) والأصل أن الأمر للوجوب.
ويحتمل أنه ليس بواجب كما قال الجمهور، ويكون قد أنكر عليه لترك السنن والمستحبات، ولا سيما إذا كان المرء من أهل الفضل ومن أهل العلم كـعثمان رضي الله عنه، والحديث من أدلة من قال: بوجوب الغسل؛ لأن الأمر الأصل فيه أنه للوجوب والجمهور صرفوا هذا الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب لأحاديث أخرى، منها: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ولكن هذا الحديث فيه ضعف، وهناك أدلة أخرى.
أورد المؤلف حديث أبي سعيد هذا، وهو: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم ، وأخرجه -أيضاً- النسائي وابن ماجة ، وهو من أصح الأحاديث، وهو من أدلة من قال بوجوب الغسل، وهو قول قوي.
وقوله: [ على كل محتلم ] المراد به: البالغ، يعني: من بلغ سن الاحتلام، وهو الذي تجب عليه الجمعة، أما من لم يبلغ سن الاحتلام فإنه يكون صبياً، والصبي لا تجب عليه الصلاة، فقوله: [ محتلم ] يعني: من بلغ سن الاحتلام، وليس المراد من احتلم في النوم وأنزل، فهذا يجب عليه الغسل على كل حال.
وهذا الحديث -كما ذكرنا- من أدلة من قال بوجوب الغسل، وأما الجمهور فإنهم صرفوا هذا الأمر، وتأولوا هذا الحديث بأن المراد بقوله: [ واجب ] أن غسل الجمعة متأكد ومستحب، كما تقول العرب: حقك واجب علي، أي: متأكد.
ولا شك في أن القول بالوجوب قول قوي، فينبغي للمسلم ألا يخل بالغسل.
هذا الحديث حسن، وأخرجه النسائي ، وهو من أدلة من قال بوجوب الغسل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل) يعني: إن بلغ سن الاحتلام فعليه الرواح إلى الجمعة، أي: يلزمه أن يصلي الجمعة، فالرواح هو الذهاب إلى الجمعة، قال: (وعلى كل من راح إلى الجمعة الغسل). والجمهور تأولوا هذا الحديث بأن المراد به: تأكد الاستحباب.
هذا هو الصواب، وهو أن الاغتسال يكون بعد طلوع الفجر، فإذا اغتسل الإنسان بعد طلوع الفجر أجزأه، أما إذا اغتسل قبل طلوع الفجر فهذا لا يجزئه؛ لأن النهار لم يدخل بعد، فالنهار يكون بعد طلوع الفجر، فإذا اغتسل بعد طلوع الفجر أجزأه عن غسل الجمعة وإن أجنب، يعني: ولو كان عليه جنابة، فإذا كان عليه جنابة واغتسل بعد طلوع الفجر كفاه ذلك عن غسل الجمعة، إذ الغسلان يتداخلان، فيكفي غسل الجنابة عن غسل الجمعة.
أما إذا اغتسل قبل طلوع الفجر فلا يكفيه ذلك، بل لابد من أن يغتسل بعد طلوع الفجر، وكلما تأخر فهو أفضل، فإذا تأخر وكان غسله عند الذهاب إلى الجمعة فهو أفضل.
هذا الحديث في سنده محمد بن إسحاق ، وهو ثقة لكنه مدلس، فلا يقبل حديثه إذا لم يصرح بالسماع، لكن الحديث له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.
وهذا الحديث أخرجه مسلم مختصراً من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وهو من أدلة الجمهور القائلين بعدم وجوب الغسل؛ لأنه ليس فيه الأمر بالغسل، وإنما فيه فضل الغسل؛ فإنه قال: (من اغتسل يوم الجمعة)، وفيه فضل الذهاب إلى الجمعة والإتيان بهذه الأمور المذكورة في الحديث، وكل هذه الأمور دلت عليها أحاديث أخرى صحيحة وقوله: [ (كانت كفارة لما بينها وبين جمعته التي قبلها). ويقول أبو هريرة : (وزيادة ثلاثة أيام)؛ ويقول: (الحسنة بعشر أمثالها) فيه أنه إذا أتى بهذه الأمور فاغتسل، ولبس أحسن ثيابه، وتطيب، ولم يتخط رقاب الناس، وصلى ما قدر له، ثم أنصت للخطبة فإن هذه الأمور كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها وزيادة ثلاثة أيام.
قال المنذري: إن أبا هريرة أدرج في الحديث [ وزيادة ثلاثة أيام ]، لكن هذا ليس بجيد؛ لأن الحديث من رواية أبي هريرة وأبي سعيد ، وإنما أبو هريرة انفرد عن أبي سعيد برواية: (وزيادة ثلاثة أيام).
أما قول المنذري: أنها مدرجة من كلام أبي هريرة فليس بجيد.
ثم إن الآية دلت على هذا أيضاً، وهي قوله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] .
[ قال أبو داود : وحديث محمد بن سلمة أتم، ولم يذكر حماد كلام أبي هريرة ].
وهو قوله: [ (وزيادة ثلاثة أيام) ].
إلا أن بكيراً لم يذكر عبد الرحمن ، وقال في الطيب: (ولو من طيب المرأة) ].
وهذا الحديث استدل به من قال: إن غسل الجمعة مستحب، قالوا: لأنه قرنه بالسواك والطيب، والسواك والطيب مستحبان وليسا بواجبين.
والحديث أخرجه مسلم والنسائي، وأخرج البخاري أيضاً من رواية عمرو بن سليم الزرقي عن أبي سعيد بنحوه.
ومثله الحديث الذي سيأتي وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) لكنه من رواية الحسن عن سمرة ، وقد اختلفوا في سماعه من سمرة كما سيأتي، وعلى كل حال فالأولى والذي ينبغي للمسلم هو أن يغتسل للجمعة خروجاً من الخلاف، وعملاً بالأحاديث، ورغبة في الفضل والأجر.
هذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن. والحديث سنده لا بأس به، وهذا الفضل العظيم في قوله: (له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)؛ لأن هذه الأعمال عظيمة، وفيها جهد ومشقة، وقل من تجتمع فيه، وقد قيل: إن المراد من اللفظتين في قوله: (بكر وابتكر) التأكيد، مثل: (مشى ولم يركب) فمعناهما واحد، وكذلك (غسل واغتسل) فهو تأكيد، وقيل: (غسل) أي: غسل رأسه (واغتسل) أي: غسل جسده، وقيل: (غسل) أي: غسل غيره بأن جامع زوجته وتسبب في اغتسالها فاغتسلا جميعاً ليكون أملك لنفسه، وأحفظ لبصره، ومن هذا قول العرب: فحل غسله: إذا أكثر الضراب، فقد قالوا له: غسله بصيغة المبالغة.
فإذا حقق هذه الأوصاف بأن غسل واغتسل، وبكر ابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع للخطبة ولم يلغ حصل له هذا الأجر العظيم، وهو قوله: (له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها) فضلاً من الله تعالى وإحساناً، والحديث سنده لا بأس، وحبي: هو لقب محمد بن حاتم الجرجرائي .
هذا يدل على أن قوله: (من غسل) في حديث أبي الأشعث السابق المراد به.
من غسل رأسه؛ لأن حديث أوس هذا فسره، فالمراد: غسل رأسه؛ لأنه قال: [ (من غسل رأسه واغتسل) ].
هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، وهو عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، فأبوه شعيب وجده عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواية عمرو لا بأس بها، وهي من قسم الحسن، لكن هذا الحديث في سنده أسامة بن زيد ، وأسامة هذا إن كان أسامة بن زيد الليثي فالحديث لا بأس به، لأن أسامة بن زيد الليثي -كما في التقريب- صدوق يهم، وإن كان أسامة بن زيد بن أسلم فهو ضعيف؛ لأن زيد بن أسلم له ثلاثة أولاد كلهم ضعفاء: أسامة وعبد الله وعبد الرحمن ، وأحسنهم عبد الله ، فـأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف.
وعلى كل حال فالحديث فيه هذا الفضل لمن أتى بهذه الأمور يوم الجمعة، بأن اغتسل، ومس من طيب امرأته -ولعله إذا لم يكن عنده طيب وكان لامرأته طيب- ولبس من صالح ثيابه، ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما.
قوله: [ (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) ] يعني: فاتته الجمعة وكانت له ظهراً، وهذا يدل على التحذير من اللغو والتخطي لرقاب الناس، وذلك أن الواجب الإنصات والاستماع للخطبة، ولو سمع موعظة من خارج المسجد لكان عليه أن يستمع فلعله يستفيد، فكيف وهو في المسجد وهو يسمع خطبة الجمعة وهي موعظة الأسبوع؟! ولهذا لما سمعت أم سلمة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: (أيها الناس) وهو في المسجد وكان عندها ماشطة تمشط شعرها فأرادت أن تستمع لمقالته قالت الماشطة: إنه يقول: (يا أيها الناس) فقالت: كفي! فأنا من الناس.
وقوله: (كانت له ظهراً) يعني: مثل صلاة الظهر، وهذا إذا فاتته الجمعة، وفيه التحذير من تخطي رقاب الناس وإيذائهم واللغو إذا تكلم الإمام.
هذا الحديث ضعيف، لأن في سنده مصعب بن شيبة ، وهو ضعيف، ولكن الغسل من الجنابة معروف أنه واجب، وكان صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم الجمعة، أما الغسل من الحجامة، ومن غسل الميت فليس هناك دليل يدل عليه. والمنذري : أخرجه في الجنائز، وقال: هذا منسوخ.
وقال البخاري : حديث عائشة في هذا الباب ليس بصحيح.
وقال الإمام أحمد وعلي بن المديني : لا يصح في هذا الباب شيء. وقال محمد بن يحيى : لا أعلم فيمن غسل ميتاً أن يغتسل حديثاً ثابتاً. وعلى هذا فالحديث ضعيف؛ لأنه ليس هناك دليل واضح على وجوب الغسل على من غسل الميت، ولا من الحجامة، أما غسل الجنابة فمعروف حكمه من الأدلة، وكذلك غسل يوم الجمعة.
وهذا تفسير لقوله: (غسل واغتسل) أي: غسل رأسه وجسده، وهذا يفسر ما سبق في حديث: (غسل واغتسل) بأن (غسل) بمعنى: غسل رأسه، (واغتسل) غسل جسده، خلافاً لمن قال: إن قوله: (غسل) يعني: غسل زوجته بأن تسبب في غسلها إذا جامعها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الوليد الدمشقي حدثنا أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز في: (غسل واغتسل) قال: قال سعيد : غسل رأسه وغسل جسده ].
هذا الحديث صحيح أخرجه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله، وأخرجه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة بنحوه، وفي الحديث: تفاوت الناس في الأجر على حسب تقدمهم إلى الجمعة، وفيه أن ساعات الجمعة خمس ساعات، وأن الإمام يخرج في الساعة السادسة، والمراد بالساعة جزء من الزمن قد يزيد على الساعة المعروفة وقد ينقص، فهي في الصيف أطول وفي الشتاء أقل، وهي خمس ساعات من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس إلى خروج الإمام، وفي الشتاء قد تكون تلك الساعة أقل من ساعة، وفي الصيف قد تكون ساعة وربعاً أو ساعة ونصفاً؛ لأن النهار طويل في الصيف وقصير في الشتاء.
وفيه (أن من راح إلى الجمعة في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) أي: بعيراً، (ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة) يعني: تقرب بها إلى الله وتصدق بها، (ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن) أي: ذا قرنين؛ لأنه أفضل من غيره، (ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة)، ثم يخرج الإمام في الساعة السادسة، (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) أي: يستمعون الخطبة.
وجاء في الحديث الآخر أن الملائكة يقفون على الأبواب يكتبون الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ليستمعوا الخطبة والذكر.
وقد مر معنا في رواية النسائي زيادة عصفور بعد الدجاجة، حيث قال: (فكأنما قرب عصفوراً)، وفي بعضها زاد بطة فقال: (فكأنما قرب بطة).
وهذا الساعات هي جزء من الزمن تكون بعد طلوع الشمس أو بعد الفجر، خلافاً للإمام مالك رحمه الله، فإنه قال: إن هذه الساعات لحظات تكون بعد الزوال، قال: لأن الرواح إنما يكون بعد الزوال، فقال: إنها خمس لحظات تبدأ من زوال الشمس. وهذا قول ضعيف لا وجه له، والرواح يطلق على النهار كله لا سيما أول النهار.
حدثنا مسدد حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الناس مهان أنفسهم، فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل له: لو اغتسلتم) ].
وهذا الحديث أخرجه البخاري وأخرجه مسلم بنحوه، وقد بوب المؤلف عليه بقوله: [ باب الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة ] فدل على أن الغسل ليس بواجب، وهذا من أدلة من قال: إن الغسل إنما هو واجب على أهل المهن والعمال الذين تخرج منهم الروائح، وفي لفظ البخاري : (كان الناس مهان أنفسهم -أي: خدام أنفسهم- فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم -وفي لفظ آخر: تخرج منهم الريح- فقيل له: لو اغتسلتم).
فقوله: (لو اغتسلتم) هو للتمني، وليس فيه إيجاب، فدل على أنه ليس بواجب، وقد استدل به المؤلف على الرخصة في ترك الغسل يوم الجمعة.
قال ابن عباس : ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع مسجدهم، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق ].
هذا حديث عكرمة عن ابن عباس ، وفيه أن ابن عباس رضي الله عنه يرى أن الغسل ليس بواجب في الجمعة، وأن سبب الوجوب أولاً أن الناس كانوا مجهودين يلبسون الصوف، وكان مسجدهم ضيقاً مقارب السقف، وأن الناس كانوا يأتون في اليوم الحار فيعرقون فتخرج منهم الريح ويؤذي بعضهم بعضاً، فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أمرهم بالغسل، وأما بعد فإن الناس صاروا يلبسون غير الصوف، ووسعت المساجد -ويقال في هذا الزمان: ووجدت المكيفات- وكفوا العمل، فهم لا يعملون أيضاً، وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضاً من العرق فصار ليس بواجب، فهذا قول ابن عباس ، ولكن الأحاديث الصحيحة واضحة في وجوب الغسل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وقد تقدم هذا، ولكن هذا اختيار ابن عباس رضي الله عنه.
وقد أخرجه أحمد بن خزيمة من طريق عمرو بن أبي عمرو .
وفي هذا الحديث قال: (أيها الناس) ولم يقل: أيها المسلمون، وذلك ليشمل المنافقين الموجودين في المسجد؛ لأنه قد يكون في المسجد منافقون، وقد يسمعه من هو خارج المسجد، وقد يقال: إن قوله: (أيها المسلمون) يشمل المنافقين؛ لأن أحكام الإسلام تجري عليهم؛ لأنهم ملتزمون بالإسلام ظاهراً.
و عبد العزيز بن محمد صدوق.
هذا الحديث أخرجه الترمذي .
قوله: [ (ومن اغتسل فالغسل أفضل) ] فيه دليل على استدلال الجمهور على أن الغسل ليس بواجب، لكن الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة ، وقد اختلف في سماع الحسن عن سمرة ، فقيل: إنه لم يسمع منه شيئاً، وقيل: إنه سمع حديث العقيقة، ولكن الأولى أنه سمع منه غير حديث العقيقة؛ لأن كلاً منهما كان في البصرة، فيبعد ألا يسمع منه غيره، وفيه -أيضاً- عنعنة قتادة ، وهو وإن كان مدلساً ولم يصرح بالسماع إلا أن تدليسه قليل يحمل على السماع.
وقوله في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) من أدلة الجمهور.
ويصدق هذا حديث في صحيح مسلم ، فيه الاكتفاء بالوضوء يوم الجمعة، واستدل به على أن الغسل مستحب، وهذا هو الذي عليه جمهور العلماء، ولكنه متأكد.
حدثنا محمد بن كثير العبدي أخبرنا سفيان حدثنا الأغر عن خليفة بن حصين عن جده قيس بن عاصم -رضي الله عنه- قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أريد الإسلام فأمرني أن أغتسل بماء وسدر) ].
حديث قيس بن عاصم هذا أخرجه الترمذي والنسائي ، وفيه أمر الكافر بالغسل إذا أسلم، والأصل في الأمر الوجوب، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم كالإمام أحمد وأبي ثور ، وذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر للاستحباب، وأنه صرف عن الوجوب إلى الاستحباب، فقد أسلم في عام الفتح جم غفير ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، ولا أمر منادياً ينادي بذلك، فدل على أن الأمر للاستحباب.
قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: (ألق عنك شعر الكفر واختتن) ].
هذا الحديث فيه علتان: إحداهما: قول ابن جريج : [ أخبرت عن عثيم ] ففيه جهالة الرجل الذي أخبر ابن جريج .
والعلة الثانية: أن عثيماً اختلف فيه، فقيل عنه -كما في التقريب-: عثيم بن كليب ، وقيل: ابن كثير ، فالحديث ضعيف بهذا، فلا دلالة فيه على وجوب حلق شعر الكفر.
أما الاختتان ففيه اختلاف، فقيل: سنة، وقيل: واجب، ولكن الأولى أن من أسلم لا يؤمر بالاختتان في الحال لئلا ينفر عن الإسلام على القول بوجوبه، لكن إذا استقر الإسلام في قلبه بعد ذلك يؤمر بالاختتان، وقد ثبت أن إبراهيم عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين، وهو واجب عند البلوغ، لكن الأولى أن يختتن قبل ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر