أخبرنا هناد بن السري والحسين بن حريث عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ].
هذا حديث ابن عمر ، وهو المشهور بحديث القلتين، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب، فقال: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)، وفي لفظ: (لم ينجس).
وقد اختلف العلماء في صحته، والصواب أنه صحيح، وهو يفيد أن الماء إذا بلغ قلتين يدفع عن نفسه النجاسة، ولا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: الطعم أو اللون أو الريح، والقلة تقرب من قربتين ونصف، فتكون القلتان مقاربتين خمس قرب، فإذا بلغ الماء هذا الحد فإنه يسمى كثيراً.
ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى تقسيم الماء إلى كثير وقليل، وقالوا: الكثير ما بلغ قلتين، فهذا لا ينجس بملاقاة النجاسة إذا لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، والقليل الذي دون القلتين، وهو ينجس بمجرد الملاقاة، فإذا كان الماء أقل من قلتين فوقع فيه شيء من البول ولو قليل فإنه ينجس.
فهذا الحديث يعتبر حداً فاصلاً بين القليل والكثير من ناحية المفهوم، فمفهومه أنه إذا لم يبلغ الماء القلتين فإنه يحمل الخبث، إلا أن هذا المفهوم ألغاه منطوق حديث أبي سعيد : (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
وإلى هذا ذهب بعض المحققين، فقالوا: إن حديث القلتين -وإن كان صحيحاً- قد ألغى منطوق حديث أبي سعيد : (إن الماء طهور لا ينجسه شيء).
فحديث أبي سعيد يفيد أن الماء طهور لا ينجسه شيء سواء أكان قليلاً أم كثيراً، إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة اللون أو الطعم أو الريح بالنجاسة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين.
ويلغي المفهوم كذلك حديث الأعرابي كما سيأتي، فإن الأعرابي بال في المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب عليه، والذنوب: الدلو.
ومعلوم أن الدلو أقل من خمس قرب، أي: أقل من القلتين، فلو كان ما دون القلتين ينجس بملاقاة النجاسة لتنجس هذا الماء، لكن بعضهم فرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة، فقال: إن حديث الأعرابي فيه أن الماء هو الذي ورد على النجاسة فطهرها، بخلاف ما إذا وردت عليه النجاسة. وقال بعضهم: إن حديث الأعرابي فيه أن البول لم يبق وإنما شربته الأرض، فلذلك طهر الذنوب الباقي.
والصواب -كما سبق- أن الماء طهور لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أم كثيراً، إلا أنه إذا كان قليلاً في الأواني فإنه إذا صارت النجاسة فيه يراق؛ لما ورد في بعض ألفاظ حديث ولوغ الكلب أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فليرقه)، فإذا كان الماء قليلاً في الأواني فإنه يراق، وأما إذا كان أكثر من ذلك فلا تضره النجاسة إذا لم تغيره، وحديث القلتين يفيد أن الإنسان ينبغي له أن يتأمل وينظر في الماء إذا كان أقل من قلتين، والقلتان ما يقارب ذراعاً وربع ذراع طولاً وعرضاً وعمقاً، فمتى ما كان الماء طوله ذراعاً وربعاً، وعرضه ذراعاً وربعاً، وعمقه ذراع وربع فإنه يبلغ قلتين، وهذا أقرب ما قيل في ذلك، وإلا فقد حدهما العلماء بالأرطال الدمشقية، وبالأرطال العراقية، لكنها أرطال قديمة.
أخبرنا قتيبة قال: حدثنا حماد عن ثابت عن أنس : (أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه لا تزرموه. فلما فرغ دعا بدلو فصبه عليه).
قال أبو عبد الرحمن : يعني: لا تقطعوا عليه ].
في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء على البول، فدل على عدم التوقيت؛ لأن الدلو أقل من القلتين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا قتيبة قال: حدثنا عبيدة عن يحيى بن سعيد عن أنس قال: (بال أعرابي في المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فصب عليه).
وأخبرنا سويد بن نصر قال: حدثنا عبد الله عن يحيى بن سعيد قال: سمعت أنساً يقول: (جاء أعرابي إلى المسجد فبال، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتركوه. فتركوه حتى بال، ثم أمر بدلو فصب عليه).
أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة قال: (قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه وأهريقوا على بوله دلواً من ماء؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) ].
هذا من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وهذا من الحكمة؛ فإن الأعرابي جاهل يحتاج إلى رفق، ولو كان عنده علم لما بال في المسجد، فلما بال في المسجد أراد الصحابة أن يزجروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه)، أي: لا تقطعوا عليه بوله، وهذا من الحكمة؛ لأنه لو تركهم فإنهم سيزجرونه، ولو زجر لقام، وإذا قام ستحصل مفاسد تتعلق بجسمه وبثيابه وبالمسجد، فإذا قطع البول أثر ذلك على صحته وجسمه، وسيصيب البول فخذيه وثيابه، وكذلك النجاسة تتعدد في أماكن من المسجد، ولذا تركه النبي صلى الله عليه وسلم يبول في مكان واحد، لتسلم بقية المسجد من البول، وسلم جسمه من البول، وسلمت ثيابه من البول، وسلمت صحته؛ لأنه يؤثر عليه قطع البول، فلما انتهى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) يعني: إنما بعث نبيكم للتيسير وعدم التعسير، وأنتم كذلك لأنكم أنتم المبلغون.
ولما رأى الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم رفق به وعلمه وأن الصحابة زجروه قال: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد تحجرت واسعاً).
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه).
قال عوف : وقال خلاس : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا إسماعيل عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه) ] .
هذا الحديث فيه النهي عن البول في الماء الدائم؛ لأنه إذا بال فيه فإنه ربما قذره على الناس، وربما قذره على غيره، ولا يلزم من هذا أن يكون الماء نجساً إذا كان كثيراً، لكن إذا ترك هذا يبول وهذا يبول وهذا يبول فقد تغيره النجاسة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن) والنهي للتحريم، فيحرم على الإنسان أن يبول في الماء الدائم.
قوله: (ثم يتوضأ منه) يعني أنه قد يحتاج إليه للوضوء، فكيف يبول فيه وهو قد يحتاج إليه للوضوء، وقد يحتاج إليه للاغتسال بعد ذلك؟!
وأما إذا كان الماء يجري فهذا لا محذور فيه؛ لأن الجريان يزيل الجهة التي فيها البول ويصرفها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبد الرحمن : كان يعقوب لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار ].
ولعل ذلك كان لحاجة؛ فقد يكون متفرغاً للحديث وليس عنده وقت للكسب، فلا يحدث إلا بدينار، والأولى أن يتبرع بالتحديث.
أخبرنا قتيبة عن مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة أن المغيرة بن أبي بردة من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: (سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ].
وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه، وهو أن ماء البحر طهور، أي: طاهر في نفسه مطهر لغيره، فالسائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر، فزاده في الجواب فقال: (الحل ميتته)؛ لأن الإنسان الذي يركب البحر قد يحتاج إلى الأكل مما في البحر، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بحكم ميتة البحر، وميتة البحر حلال، قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة:96].
وظاهر الحديث عموم الحل، إلا أن بعض العلماء استثنى ما يستخبث في البر كالحيات والعقارب، وبعضهم استثنى إنسان الماء وكلب الماء، وظاهر الأدلة العموم، حتى إنسان الماء، وهو حيوان يشبه الإنسان، وهو موجود، فإذا وُجد حيوان البحر فهو حلال.
أخبرنا علي بن حجر قال: أخبرنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة سكت هنيهة، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما تقول في سكوتك بين التكبير والقراءة؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) ].
وهذا الحديث رواه الشيخان، وهو أصح ما ورد من الأحاديث في الاستفتاحات، وهو استفتاح مختصر، وهناك استفتاح مختصر أيضاً، وهو: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك).
وهذا اختاره الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكان عمر يلقنه الناس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الاستفتاحات، وأما الاستفتاح بـ(اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد) فهو أصلح.
والشاهد هو الطهور بماء الثلج، فالثلج إذا ذاب فإنه طهور يتوضأ به.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) ].
هذا الحديث-كسابقه- دليل على طهورية ماء الثلج.
أخبرنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا معن قال: حدثنا معاوية بن صالح عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير قال: شهدت عوف بن مالك يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على ميت، فسمعت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ].
هذا الحديث أخرجه مسلم ، وفيه مشروعية الصلاة على الميت، وهي من فروض الكفاية، وفيه طهورية ماء البرد، وهو ما ينزل من السحاب في المطر، فإذا ذاب فإنه يتطهر به.
أخبرنا قتيبة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات).
أخبرني إبراهيم بن الحسن قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج أخبرني زياد بن سعد أن ثابتاً مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات).
أخبرني إبراهيم بن الحسن قال: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج : أخبرني زياد بن سعد أنه أخبره هلال بن أسامة أنه سمع أبا سلمة يخبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثله ].
هذا الحديث في ولوغ الكلب رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله، وهو حديث صحيح ثابت، وهو دليل على أن الكلب إذا شرب من الإناء فإنه يغسل سبع مرات، وفي رواية أخرى أنه يعفر الثامنة بالتراب، وهذا خاص بالكلب لا يقاس عليه غيره.
وأما النجاسات الأخرى فتغسل من غير تحديد حتى يغلب على الظن أنها قد زالت، فإذا كان هناك نجاسة أصابت الثوب أو الإناء فإنه إذا كان لها جرم فإنه ينقل ثم يغسل أثرها مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى يغلب على الظن أنها قد زالت.
أما حديث: (أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً) فهو حديث ضعيف عند أهل العلم لا يصح، فلا حد لغسل النجاسة، وإنما إذا زال عين النجاسة وغلب على الظن أن المحل قد طهر فقد كفى ذلك، أما الكلب فإنه لابد من غسل الإناء من ولوغه سبع مرات، وتكون إحدى هذه الغسلات فيها تراب، والأولى أن تكون هي الأُولى؛ حتى يزيل التراب ما بعده.
قال العلماء: في لعاب الكلب جراثيم لا يزيلها إلا التراب.
وقاس بعض العلماء على الكلب الخنزير، فقالوا: إن الخنزير يغسل الإناء من ولوغه سبع مرات. والصواب أن هذا خاص بالكلب، وفي الحديث دليل على أن الكلب نجس، وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور خلافاً للبخاري ومالك رحمهما الله تعالى، فإنهما يريان طهارة الكلب، والصواب أن الكلب نجس العين، ونجس العين لا يطهر مهما غسل، حتى ولو غسل بالبحر، وأما النجاسة التي تصيب الشيء فإنها تغسل وتزول.
والمقصود أن هذا الحديث دليل على نجاسة الكلب، فإذا شرب من الإناء فإن الإناء يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
والكلب نجس كله، فعرقه ولعابه نجس، لكن غسل الإناء سبعاً خاص بنجاسة لعابه، وأما بدنه فإنه إذا مس واليد جافة فلا تنجس، وإذا كانت رطبة فإنها تغسل.
أخبرنا علي بن حجر قال: أخبرنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي رزين وأبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات).
قال أبو عبد الرحمن : لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: فليرقه ].
قوله: [ لا أعلم أحداً ...] يعني: أن علياً تفرد بهذه الزيادة، ولكن قد أخرج الدارقطني بسند صحيح عن حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة موقوفاً، وفيه (فليرقه).
وهو يدل على أن الماء إذا كان قليلاً في الأواني وأصابته النجاسة فإنه يراق، وأما إذا كان كثيراً فإنه لا ينجس على الصحيح إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون أو الطعم أو الريح، والجمهور يرون أنه ينجس إذا كان أقل من القلتين بمجرد الملاقاة لحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، ولكن إذا كان قليلاً في الأواني فإنه يراق، كما في هذا اللفظ (فليرقه).
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال: حدثنا خالد قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت مطرفاً عن عبد الله بن المغفل (أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الصيد والغنم، وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب) ].
سماها ثامنة لأنها مع الماء، والأمر بقتل الكلاب كان أولاً ثم نسخ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الكلاب أمة من الأمم)، إلا الكلب الأسود البهيم فالصواب أنه مأمور بقتله؛ لأنه شيطان، أو لأنه يروع الناس، فالكلب الأسود البهيم الذي ليس فيه لون آخر يقتل.
وقد رخص في كلب الصيد وكلب الماشية وكلب البستان، كما في الحديث الآخر: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية أو حرث نقص من أجره كل يوم قيراطان)، وما عدا ذلك من الكلاب لا يجوز اقتناؤه.
وأما الكلب البوليسي فقد يقال بجواز اقتنائه لما فيه من المصلحة أخذاً من قواعد الشريعة العامة، وقد يقال بجواز اقتنائه بالقياس على هذه الأمور الثلاثة من باب الأولى، لأن في اقتنائه مصلحة معرفة السارق ومعرفة الشيء المشتبه ونحو ذلك.
وهناك أمراً آخر وهو: أن كلب الصيد والغنم والماشية يقتنى ولا يباع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثمن الكلب خبيث)، ولكن يجوز إهداؤه.
أخبرنا قتيبة عن مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك (أن
هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي ، وهو حديث صحيح ثابت، وهو دليل على أن سؤر الهرة طاهر، والعلة في هذا مشقة التحرز منها لكثرة دورانها وطوافها في البيت، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات).
والسؤر: بقية الأكل والشرب، وهو طاهر؛ لمشقة التحرز منها لكثرة دورانها في البيت، ومثلها الفأرة، ولهذا قال العلماء -الحنابلة وغيرهم-: الهرة وما دونها في الخلقة طاهر، كالفأرة وما أشبهها، فالفأرة كالهرة في مشقة التحرز منها وكثرة دورانها في البيت، ولهذا يقيس الفقهاء الفأرة على الهرة فيقولون: الفأرة كالهرة في طهارة سؤر كل منهما بجامع الطواف والدوران في الكل، أي: مشقة التحرز منهما بسبب الطواف والدوران.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد عن أنس قال: أتانا منادي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: (إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس) ].
هذا الحديث رواه الشيخان، وهو حديث صحيح، وفيه أن لحم الحمار نجس، وأنه لا يجوز أكله، وروي عن ابن عباس أنه قال بإباحته، وأنه جاءه إنسان وقال له: ليس عندنا إلا الحمر، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك، ويروى عنه أنه رجع، والصواب أن لحم الحمار نجس لا يجوز أكله، وأما سؤره ففيه خلاف، فالجمهور على أنه إذا شرب من القليل الذي دون القلتين فإنه ينجس، وأما إذا شرب من الكثير فلا ينجس إلا بالتغير، لحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
والصواب أن سؤره طاهر إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة، سواء أكان قليلاً أم كثيراً؛ لعموم منطوق حديث أبي سعيد : (إن الماء طهور لا ينجسه شيء)، وهو قاض على مفهوم حديث: (إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث).
أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة قالت: (كنت أتعرق العرق فيضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاه حيث وضعت وأنا حائض، وكنت أشرب من الإناء فيضع فاه حيث وضعت وأنا حائض) ].
هذا حديث صحيح رواه البخاري وابن ماجة ، وهو دليل على طهارة بدن الحائض، وكذلك عرقها وريقها، والنجاسة إنما هي في خصوص الدم، ولهذا كانت عائشة تتعرق العرق -وهو العظم الذي فيه شيء من اللحم- فتعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه مكان فمها، وهذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (ناوليني الخمرة من المسجد قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست في يدك) والخمرة سجادة صغيرة من سعف النخل، وهو دليل على أن الحائض إذا مرت بالمسجد فلا بأس بذلك، وكذلك الجنب، كما قال الله تعالى: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، وإنما الممنوع مكث الحائض في المسجد أو الجنب، إذ قد دلت عليه الأحاديث الصحيحة على أنه لا يجوز للحائض ولا الجنب أن يمكث في المسجد، فلا يجوز للحائض أن تجلس في المسجد لتسمع محاضرة، وإنما تكون في مكان خارج المسجد.
وقد يقال: كيف جاز للحائض حضور العيد؟
والجواب: أن صلاة العيد ليست في المسجد، ولكون صلاة العيد تشرع لها الخطبة والدعاء، فالحائض تؤمن على الدعاء، إلا أن الحيَّض يعتزلن المصلى، فيبتعدن عن المصليات حتى لا يضايقنهن.
أخبرني هارون بن عبد الله قال: حدثنا معن قال: حدثنا مالك ح: والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع عن ابن القاسم قال: حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً ].
هذا الحديث أخرجه البخاري وأبو داود ، وهو حديث صحيح ثابت، وهو محمول على أن ذلك كان قبل الحجاب، والمراد بالوضوء غسل الأطراف.
أو أنه خاص بالنساء مع محارمهن، بحيث تتوضأ النساء مع محارمهن من الرجال.
أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته (أنها كانت تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد) ].
وهذا الحديث أخرجه مسلم وابن ماجة، وهو حديث صحيح، وفيه دليل على أن فضل الماء الذي يبقى بعد الجنب طاهر، ودليل على جواز اغتسال الرجل وزوجته جميعاً، كما كانت عائشة رضي الله عنها تغتسل هي ورسول الله من إناء واحد، ويلزم من هذا أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، فهو يأخذ من فضلها وهي تأخذ من فضله، فدل على أنه إذا فضل عن الجنب ماء فإنه طاهر.
وإنما جاز لهما أن يغتسلا من إناء واحد؛ لأن الزوجة حل لزوجها وهو حل لها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر