وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً، ومع هذا هو معقب بالفاء، وهكذا هاهنا قال: فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج:63]، أي: خضراء بعد يبسها ومحولها ].
أي: بعد أن كانت الأرض يابسة ممحلة تصبح مخضرة، وهذا دليل على إحياء الله الموتى، وكثيراً ما يدلل سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات بعد يبسها ومحولها، وذلك بأن ينزل الله عليها الماء فتنبت وتصير خضراء، فكذلك الأموات يحييهم الله بعد أن كانوا أمواتاً، فيعيد الحياة إليهم؛ لأنه سبحانه وتعالى قدير، وهو قادر على أن يعيدهم من الذرات التي تحولوا إليها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء، فالله أعلم ].
فالفاء للتعقيب في قوله تعالى: (فتصبح)، يعني: إذا نزل الماء فإنه يعقبه اخضرار الأرض، وهذا التعقيب قد يطول وقد يقصر، مثل قوله تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا [المؤمنون:14] فبين كل طور وطور أربعون يوماً، فالنطفة تكون أربعين يوماً، ثم تكون العلقة أربعين يوماً، ثم تكون المضغة أربعين يوماً، واخضرار الأرض قد يكون في أقل من هذه المدة.
وقال: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رءوسه ففي ذاك آيات لمن كان واعيا ].
فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فكل شيء يأتي عبداً يوم القيامة مقهوراً ذليلاً خاضعاً، تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.
يعني أن تسخير الفلك في البحر هو جعلها تجري بالريح الطيبة، وتمخر عباب الماء، وتحمل البضائع والأمتعة والأشخاص إلى الأماكن البعيدة، ولا سيما في هذا الزمن الذي صارت فيه المراكب والباخرات العظيمة كأنها قرية أو بلدة، فيحصل الانتفاع والتبادل، فهذا من آيات الله العظيمة الدالة على قدرته ووحدانيته واستحقاقه للعبادة.
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ [الحج:66]، أي: خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر، فأوجدكم، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج:66]، أي: يوم القيامة، إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ [الحج:66]، أي: جحود ].
قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، يعني: حصل لهم موتتان وحياتان: أما الموتة الأولى فحين كانوا عدماً في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم أحياهم الله فعاشوا في الدنيا، وأما الموتة الثانية فهي التي كتبها الله عليهم، ثم يحييهم في الآخرة، فهما موتتان وحياتان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً، قال ابن جرير : يعني: لكل أمة نبي منسكاً. قال: وأصل المنسك في كلام العرب: هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر، قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك؛ لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها.
فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً، فيكون المراد بقوله: فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ [الحج:67]، أي: هؤلاء المشركون، وإن كان المراد: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا [الحج:34]، أي: جعلاً قدرياً كما قال: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148]، ولهذا قال هاهنا: هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، أي: فاعلوه، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق، أي: هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته، فلا تتأثر بمنازعتهم لك، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق، ولهذا قال: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [الحج:67]، أي: طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود.
وهذه كقوله: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ [القصص:87].
وقوله: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68]، كقوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس:41].
وقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحج:68] تهديد شديد ووعيد أكيد، كقوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف:8]، ولهذا قال: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج:69] ].
أي: إذا كان الله عليماً بأعمالكم، وسوف يجازيكم عليها، فاحذروا أن تبارزوه بالمعاصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذه كقوله جل وعلا: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ.. [الشورى:15]، الآية ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه، وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء).
وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) ].
هذه الآية فيها إثبات مرتبتين من مراتب القدر لا بد من الإيمان بهما، ومن لم يؤمن بهما فليس بمؤمن:
المرتبة الأولى: العلم الشامل لكل شيء في هذا الوجود، وأن الله يعلم ما كان في الماضي، وما يكون في الحال، وفي المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، يعني: يعلم حالهم لو ردوا، لكنهم لا يردون.
المرتبة الثانية: الكتابة، وهي أنه كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، فقال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج:70]، وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ [الحديد:22]، وقال سبحانه: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] وقال سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].
ولما أنكرت القدرية الأولى هاتين المرتبتين: العلم والكتابة، أخرجهم العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: إنهم كفار؛ لأن من لم يؤمن بعلم الله فقد نسب الله إلى الجهل.
وأما عامة المتأخرين من القدرية فأثبتوا هاتين المرتبتين -العلم والكتابة- لكن أنكروا المرتبتين الأخريين، وهما: الإرادة والخلق، فلم يقولوا بعموم الإرادة وبعموم الخلق، بل قالوا: إن الله أراد كل شيء، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد، فاستثنوها بسبب شبهة حصلت لهم، فصاروا مبتدعة.
وقال سبحانه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فهو سبحانه يعلم أحوال العباد، وما هم عاملون، وما يصيرون إليه، بل كل حركة في السماء والأرض، وكل رطب ويابس مكتوب عنده، كما قال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] والكتاب هو اللوح المحفوظ.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً، يعني: حجة وبرهاناً، كقوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، ولهذا قال هاهنا: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ [الحج:71]، أي: ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم، ولهذا توعدهم تعالى بقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، أي: من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال ].
فالواجب على المسلم أن يتبع الحق، ولا يقلد الآباء والأجداد والقبيلة في الباطل، وقد أنكر الله تعالى على المشركين اتباعهم آباءهم وأجدادهم بالباطل، فقال سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، فاتباع الآباء والأجداد في الباطل طريقة أهل الجاهلية، ولهذا أخبر الله عن كفار قريش أنهم قالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7].
وهي حجة فرعون عندما قال لموسى: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، فاتباع السابقين في الباطل ليس بحجة، وإنما الواجب على الإنسان أن يتبع الدليل والحجة، أما أن يتبع غيره في الباطل فهذا لا يجوز، ولو كان أباه أو جده أو سلفه، ولكن إن كان الأسلاف على الحق فإنه يتبع الحق، ويقتدي بهم في أعمالهم الطيبة، وإن كانوا على الباطل ترك ما هم عليه، ولو كانوا آباء وأجداداً.
فالواجب على المسلم أن يعمل بالحق، ويعمل بالدليل، ولهذا أنكر الله على هؤلاء المشركين بقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [الحج:71]، يعني: ما ليس لهم به حجة ولا دليل، وتوعدهم بقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71].
فلا عمل بالنسبة للعبادات إلا بدليل من الكتاب أو من السنة، وقد يكون الدليل قياساً؛ لأن القياس يرجع إلى أصل مأخوذ من دليل من الكتاب أو السنة، وكذلك الإجماع هو مستند إلى نص من الكتاب أو السنة، والقياس الصحيح يرجع إلى النصوص؛ لأنه مبني على النصوص.
أما المعاملات في البيوع والمأكولات فالأصل فيها الإباحة والحل، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، فهذا دليل على أن الأصل في الأشياء الحل، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، وهذا دليل على أن الأصل في المآكل والمشارب والملابس والبيوع الحل، أما الذبائح فالأصل فيها التحريم، فإذا أشكل عليك شيء في ذبيحة فإنك تتوقف حتى يأتيك الدليل، وكذلك الأبضاع أي: الفروج فالأصل فيها التحريم حتى يأتي الدليل.
وقوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72]، أي: وبئس النار منزلاً ومقيلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:66].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر