إسلام ويب

تفسير سورة الحج الآية [36]للشيخ : عبد العزيز بن عبد الله الراجحي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأضحية والهدي من النسك المشروع ذبحه لله عز وجل، شكراً للنعمة وتوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين. وللأضحية والهدي زمن معلوم وصفة معلومة، فيشترط فيها صفات لا ينبغي أن تخرج عنها، كما يشترط أن تذبح في أيام لا يجوز الذبح في غيرها.
    قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى ممتناً على عبيده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إليه كما قال تعالى: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2].

    قال ابن جريج قال عطاء في قوله: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [الحج:36] ]، قال: البقرة والبعير، وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري ، وقال مجاهد : إنما البدن من الإبل.

    قلت: أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين: أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة، كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة سبعة والبقرة عن سبعة)، وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة.

    وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما فالله أعلم ].

    الأرجح أنها تجزئ عن سبعة في الأضاحي، وإنما جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عن عشرة في الغنائم، ففي الغنيمة جعل البدنة عن عشرة من الغنم، أما في الأضاحي والهدايا فالبدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.

    وقوله: قال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة، الأقرب: أنه تجزئ البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة، وهذا الحديث غريب من هذا لوجه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36]، أي: ثواب في الدار الآخرة.

    وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأضلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً)، رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه.

    وقال سفيان الثوري : كان أبو حاتم يستدين ويسوق البدن، فقيل له: تستدين وتسوق البدن؟ قال: إني سمعت الله يقول: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36].

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد)، رواه الدارقطني في سننه، وقال مجاهد : لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ [الحج:36] قال: أجر ومنافع، وقال إبراهيم النخعي : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها ].

    تفسير قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36].

    وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، فقال: بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي). رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر رضي الله عنه قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين [الأنعام:179] .. إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، ثم سمى الله وكبر وذبح).

    وعن علي بن الحسين عن أبي رافع : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: هذا عن محمد وآل محمد فيطعمها جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما) رواه أحمد وابن ماجة .

    وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [الحج:36]، قال: قياماً على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك.

    وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا، وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث.

    وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه، وقال الضحاك : يعقل رجلاً فتكون على ثلاث.

    وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه أتى على رجل قد أناق بدنه وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم).

    وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها). رواه أبو داود وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لـسليمان بن عبد الملك : قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر.

    وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في صفة حجة الوداع قال فيه: (فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده) وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال في حرف ابن مسعود : (صوافن) أي: معقلة قياماً.

    وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد : من قرأها صوافن قال: معقولة، ومن قرأها (صواف) قال: تصف بين يديها.

    وقال طاوس والحسن وغيرهما: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافِي) يعني: خالصة لله عز وجل، وكذا رواه مالك عن الزهري .

    وقال عبد الرحمن بن زيد : صوافِي: ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.

    وقوله سبحانه: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] ].

    وهذه الآثار تدل على أنه يشرع للمسلم أن يذبح الهدي والأضحية إذا كانت من الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، وهذا هو السنة، وأن يطعنها في الوحدة التي في أصل العنق، فإذا سقطت أجهز عليها، ولما رأى ابن عمر رجلاً ينحر بدنة وهي باركة قال: (ابعثها مقيدة سنة أبي القاسم)، عليه الصلاة والسلام، وأما البقر والغنم فتذبح على جنبها الأيسر، لكن لو عكس وذبح الإبل باركة والغنم والبقر واقفة أجزأ، لكن خالف السنة.

    والبدنة توقف على ثلاث والرابعة معقولة.

    معنى قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله سبحانه وتعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني: سقطت إلى الأرض، وهو رواية عن ابن عباس وكذا قال مقاتل بن حيان ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، يعني: نحرت، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا يعني: ماتت، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد : فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، وقد جاء في حديث مرفوع: (ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق) ].

    هذا الحديث رواه الدارقطني في السنن من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وسعيد بن سلام العطار كذبه أحمد وابن نمير ، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى.

    لكن المعنى صحيح، ولهذا قال العلماء: ينبغي للإنسان ألا يعجل في سلخها قبل أن تبرد، فينتظر قليلاً حتى تبرد، ثم يسلخها بعد ذلك، وقد ذكر العلماء: أن من المكروهات: كسر العنق، وسلخها قبل أن تبرد، وأن يحد السكين والحيوان يبصره، أو يذبحها أمام أختها، أو يوجهها إلى غير القبلة، فكل هذه من المكروهات.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد رواه الثوري في الجامع عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عن قرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ذلك، ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم : (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ].

    القِتلة والذِّبحة، والمراد به: الهيئة، والذَبحة والقَتلة: الضربة، والمراد الهيئة وليس الضرب، كما في الحديث: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).

    والشفرة: السكين، ويحدها، أي: حتى تكون أسرع في الذبح وفي إزهاق الروح، وقوله: (وليرح ذبيحته)، أي: يجعلها ترتاح، فإذا حد الشفرة والسكين صارت حادة فتكون أسرع في إزهاق الروح وإراحة الذبيحة.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ].

    ما قطع من البهيمة فحكمه حكم الميتة، كأن قطع الإلية، كما في الحديث: (أن رجلاً قطع إلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة)، فلا يحل الحيوان إلا بالذكاة.

    معنى القانع والمعتر

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36]، قال بعض السلف قوله: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، أمر إباحة، وقال مالك : يستحب ذلك، وقال غيره يجب، وهو وجه لبعض الشافعية ].

    في الأمر بالأكل منها ثلاثة أقوال: أنه للإباحة أو للاستحباب أو للوجوب، والصواب: أنه للاستحباب وليس بواجب.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ واختلف في المراد بالقانع والمعتر، فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته.

    والمعتر: الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل، وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس القانع: المتعفف، والمعتر: السائل، وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه، وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم والكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس القانع: هو الذي يقنع إليك ويسألك، والمعتر: الذي يعتري يتضرع، ولا يسألك.

    وهذا لفظ الحسن ، وقال سعيد بن جبير : القانع هو السائل، ثم قال أما سمعت قول الشماخ :

    لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع ].

    القنوع أي: القانع، وهو السائل. والمعتر أعف من القانع.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال يغني: من السؤال، وفيه قال ابن زيد ، وقال زيد بن أسلم : القانع: المسكين الذي يطوف، والمعتر: الصديق والضعيف الذي يزور، وهو رواية عن ابنه عبد الرحمن بن زيد أيضاً، وعن مجاهد أيضاً، القانع: جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك، والمعتر: الذي يعتزل من الناس ].

    الأقرب أنها: يعتري.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وعنه أن القانع: هو الطامع، والمعتر: هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، وعن عكرمة نحوه، وعنه القانع: أهل مكة، واختار ابن جرير أن القانع: هو السائل؛ لأنه مِنْ أقنع بيده إذا رفعها للسؤال، والمعتر: من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم ].

    والحاصل: أن هذا فيه خلاف، وقد ذكر الحافظ رحمه الله أقوالاً كثيرة في القانع والمعتر، وظاهر الآية: أن القانع: هو الذي يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً وقد يكون غير سائل، والظاهر أنه غير السائل؛ لأنه يقنع بما يعطى، وقد يكون سائلاً ثم يقنع بما يعطى. والمعتر من الاعترار، وهو الذي يتعرض لأكل اللحم.

    تقسيم الأضحية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله منها، وثلث يهديه لأصحابه، وثلث يتصدق به على الفقراء؛ لأنه تعالى قال: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] ].

    ذهب الحنابلة وجماعة إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، وكذلك العقيقة: ثلث يأكله وأهل بيته، وثلث يهديه، وثلث يتصدق به، وهذا من باب الاستحباب، ولكن لو أكلها كلها فعند الحنابلة: إن أكلها كلها إلا أوقية جاز، والأوقية مقدار قليل، ولو قطعة قصيرة، فإذا تصدق أو أخذ شيئاً منها ولو قطعة صغيرة كفى، وإذا أكلها كلها ضمن بمقدار أوقية يخرجه، وهذا من باب الاستحباب.

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: (إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وفي رواية: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، وفي رواية: (فكلوا وأطعموا وتصدقوا) ].

    نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الدافة، وهم الفقراء الذين دخلوا المدينة، ونهاهم أن يدخروا أكثر من ثلاثة أيام حتى يتصدقوا به على الفقراء، ثم بعد ذلك في السنة التي بعدها لما لم يكن هناك فقراء نسخ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا ما بدا لكم)، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة إلى أنه: إذا وجد فقراء مثل هؤلاء فلا يجوز الادخار فوق ثلاث؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، والعلة في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي وجود الفقراء، فإذا وجد فقراء في مثل هذه الحال فلا يجوز الادخار فوق ثلاث، بل يجب أن يتصدق على الفقراء وإذا لم يوجد جاز الادخار فوق ثلاث.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف؛ لقوله في الآية المتقدمة: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]؛ ولقوله في الحديث: (فكلوا وادخروا وتصدقوا)، فإن أكل الكل فقيل: لا يضمن شيئاً، وبه قال ابن سريج من الشافعية، وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها وقيمتها، وقيل يضمن نصفها، وقيل ثلثها، وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعي ].

    إذا أكلها كلها ولم يترك شيئاً فلم يطعم ولم يتصدق قيل: ليس عليه شيء، وذهب إلى هذا ابن سريج والمالكية، وقال بعضهم: يضمنها كلها، وقيل: يضمن النصف، وقيل: يضمن الثلث، وقيل: يضمن أقل شيء يعني مقدار أوقية، أي قطعة صغيرة، يضمن ثمنها ويتصدق بها على الفقراء، هذا عند الحنابلة؛ لأن الله تعالى أمر بالإطعام وهذا لم يطعم لأنه أكلها كلها فيضمن. والقول بأنه يضمن بعض الشيء هو ظاهر الحديث، وله وجه.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي (فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها)، ومن العلماء من رخص في بيعها، ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها، والله أعلم ].

    الصواب: أنه لا يجوز بيع الجلود، لكن له أن يستفيد منها ويستمتع بها، كأن يدبغها ويجعلها قربة، أو يتصدق بها، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر من الإبل بيده الشريفة سبعة وثلاثين، ونحر علي رضي الله عنه ما غبر-أي: ما بقي- أمر بها فتصدق بها على الفقراء، وأمر أن يؤتى له في كل واحدة منها ببضعة فطبخت في قدر، فأكل منها وشرب من مرقها عليه الصلاة والسلام، وأمر أن يتصدق بلحومها وجلالها وجلودها على الفقراء جميعاً. فالجلد: إما أن ينتفع بها، وإما أن يتصدق بها على الفقير، أما أن يبيعه فلا، ولا يقاسمه الفقراء، إما أن يستمتع به أو يدبغه ويجعله قربة، ويتصدق به، أو يهديه.

    وله أن يعطيها ويجعلها بقصد الهدية؛ لأن الأضاحي يهدى منها، ويتصدق، ويؤكل، فإما أن يهدي الجلد، أو يتصدق به على الفقير، ولا يبيعه.

    ومثله العقيقة.

    بيان وقت الأضحية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ مسألة: عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء)، أخرجاه ].

    وهذا الحديث رواه الشيخان، وفيه قوله: (إن أول ما نبدأ به في هذا اليوم)، وهو: عيد الأضحى ويوم النحر، أول ما يبدأ به صلاة العيد ثم يرجع فينحر، والسنة: أن يكون ذبح الأضاحي بعد طلوع الشمس وبعد صلاة العيد في القرى والأمصار، أما في البوادي التي ليس فيها صلاة عيد فبعد طلوع الشمس بمقدار مضي صلاة العيد، أما من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، وعليه أن يعيد.

    فهذا أبو بردة بن نيار قال البراء بن عازب عنه: (أنه تعجل وذبح قبل الصلاة وقال للنبي: يا رسول الله! تعجلت وذبحت قبل الصلاة، وأعطيت جيراني المحتاجين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاتك شاة لحم، ولا تجزئ عنك أضحية، فقال: يا رسول الله! إن عندي عناقاً هي أحب إلي من شاتين)، والعناق: هي السخلة الصغيرة التي لم تبلغ سنة، ومن المعلوم أن من المعز لا تجزئ إلا إذا تم لها السنة، وهذه عناق قد يكون لها ستة أشهر أو ثلاثة أشهر لكنها جيدة، قال: (إن عندي عناقاً أحب إلي من شاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك)، وهذه خصوصية لـأبي بردة بن نيار : أنه ضحى بجذعة المعز، وأما غيره فلا يجزئ من المعز إلا من تم له سنة، ومن الضأن ما له ستة أشهر، والجذع من الضأن لا بأس، أما المعز فلا يجزئ إلا ما تم له سنة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين، زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك ].

    هذا إذا كان الإمام يذبح في المصلى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العيد في صحراء قريبة من البلد ولا يصليها في المسجد النبوي، بل يصليها في صحراء؛ وكذلك صلاة الاستسقاء، ثم بعد ذلك يذبح في المصلى، ولهذا قال: إذا كان يذبح في المصلى فيكون الذبح بعد ذبح الإمام، أما إذا كان لا يذبح في المصلى فيكون بعد صلاة العيد.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ لما جاء في صحيح مسلم : (وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام) ].

    لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وهو (ولا تنحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم) ، وإذا كان الإمام ينحر في المصلى فلا بأس، وقوله: (وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام)، هذا اللفظ أثبت.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام. والله أعلم ].

    أي: أن صلاة العيد لا تشرع لأهل القرى ولا تشرع إلا لأهل الأمصار الساكنين في البلد، والظاهر أنه قول ضعيف: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أنهم يذبحون بعد صلاة الفجر، والصواب: أنه لا يجوز الذبح مطلقاً لا لأهل الأمصار ولا لأهل البوادي إلا بعد ارتفاع الشمس، لكن لأهل القرى يكون بعد الصلاة والخطبتين، وأما أهل البوادي إذا لم يكن عندهم صلاة فبمقدار ارتفاع الشمس وبمقدار مضي صلاة العيد.

    الأيام التي يجزئ فيها الذبح

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم قيل: لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده، وقيل يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده، وبه قال سعيد بن جبير .

    وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع، وقيل: ويومان بعده وبه قال الإمام أحمد ، وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيام التشريق كلها ذبح)، رواه أحمد وابن حبان .

    وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهو قول غريب ].

    وهذا ضعيف بل لا وجه له، وهو قول غريب.

    وعند الحنابلة في المذهب: يوم التشريق ويومان بعده، أي: ثلاثة أيام، والصواب: أن أيام الذبح أربعة أيام، يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي يوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر للحديث: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)، وأيام التشريق الثلاثة هي: الأيام المعدودات، وكلها أيام أكل وشرب، ويحرم صومها، وهذه الأيام الأربعة هي أيام الرمي في الحج، وكلها أيام ذبح، وكلها يحرم الصوم فيها، فالحكم واحد في الذبح في الأيام الأربعة في الأضاحي والهدايا، وهي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، فهي أربعة أيام على الصحيح.

    سبب تشريع الأضحية

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]يقول تعالى من أجل هذا سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، أي: ذللناها لكم، جعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم، وإن شئتم حلبتم، وإن شئتم ذبحتم، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71].. إلى قوله: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]، وقال في هذه الآية الكريمة: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086779844

    عدد مرات الحفظ

    768887141