هذه الآية آية عظيمة تسمى آية البر، لأن الله ذكر فيها خصال البر القولية والفعلية، فمن حقق هذه الصفات واستقام عليها فهو الصادق في إيمانه وبره وتقواه، وهو من المتقين حقاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال: حدثنا عبيد بن هشام الحلبي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر رضي الله عنه: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] إلى آخر الآية، قال: ثم سأله أيضاً فتلاها عليه، ثم سأله فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك) وهذا منقطع؛ فإن مجاهداً لم يدرك أبا ذر ، فإنه مات قديماً.
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] حتى فرغ منها، فقال الرجل: ليس عن البر سألتك، فقال أبو ذر : (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أن ترضى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأشار بيده-: المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها) رواه ابن مردويه ، وهذا -أيضاً- منقطع، والله أعلم ].
ومع ما ذكر من كونه منقطعاً إن المعنى صحيح، فقد دلت عليه النصوص، وهو أن المؤمن إذا عمل حسنة سرته، ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة أحزنته وخاف عقابها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، ولهذا قال: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177] الآية، كما قال في الأضاحي والهدايا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] ].
معنى البر: امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فالمؤمن عبد لله مطيع له، فإذا وُجِّه إلى بيت المقدس توجه، وإذا وُجِّه إلى الكعبة توجه، وهكذا، فليس البر التوجه إلى هذه الجهة إلا إذا أمر الله بذلك، ولهذا بين الله سبحانه وتعالى الإيمان لبعض المؤمنين أو لغيرهم ممن تأثر عندما حولت القبلة، وبيَّن أن الإيمان هو اتباع ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالناس عبيد مأمورون إذا وجههم الله إلى هذه الجهة اتجهوا، وإذا وجهوا إلى جهة أخرى اتجهوا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك.
وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل، وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله.
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل، وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى: أن تؤدوا الفرائض على وجوهها.
وقال الثوري : وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ .. [البقرة:177] الآية قال: هذه أنواع البر كلها. وصدق رحمه الله؛ فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، وهو الإيمان بالله وأنه لا إله إلا هو، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله، والكتاب، وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ].
هذه الآية هي آية البر، ذكر الله فيها خصال البر، وفسر البر بالإيمان؛ وذلك لأن البر إذا أطلق يشمل الإيمان والإحسان، ويشمل أمور الدين كلها، فأمور الدين كلها تسمى براً، وتسمى تقوى، وتسمى إسلاماً، وتسمى إيماناً، فالإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] وهو الإيمان، وقال تعالى:وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا [آل عمران:85] وهو الإيمان فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
والإيمان هو البر والتقوى والهدى، وكل هذه المعاني إذا أطلق واحد منها دخل فيه جميع أمور الدين.
والإيمان أصله: التصديق، ثم تتبعه أعمال القلوب، ولهذا قال سبحانه وتعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، فأصل الإيمان التصديق بهذه الأمور المذكورة في الآية، أي: التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه هي أركان الإيمان والركن السادس هو الإيمان بالقدر، كما في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وكما في حديث جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).
وأصل الإسلام: الانقياد والذل والخضوع في أعمال الجوارح، ولهذا فسر الإسلام في حديث جبريل بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، ثم تتبعه بقية الأعمال، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فليس هناك إسلام بلا إيمان، والأعمال لا بد لها من إيمان، وكذلك الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، فلا بد في الإيمان من أعمال يتحقق بها، فلا إسلام بلا إيمان ولا إيمان بلا إسلام.
فهذه آية عظيمة جمعت خصال البر، وجمعت أمور الدين.
يعني أن إيتاء المال على حبه من خصال البر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر).
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر). ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قلت: وقد رواه وكيع عن الأعمش وسفيان عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً وهو أصح، والله أعلم.
وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9]، وقال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92].
وقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، نمط آخر أرفع من هذا، وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له ].
يعني أن الإطعام يتنوع، فبعضه أرفع من بعض، فإذا أطعم المال وهو محتاج إليه ليس عنده غيره فهذا أفضل ممن أطعم الطعام على حبه وهو يجد غيره، وكل منهما فيه خير، لكن هذا أرفع، لقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] فهو محتاج إلى الطعام ويؤثر غيره ويؤثر المسكين على نفسه.
يعني أن قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] أي: آتاه وهو يحبه هذه الأصنافذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] فأنفق في هذه الوجوه، وهي: القرابات، وقرابة الإنسان تكون من جهة الأب ومن جهة الأم، واليتامى، وهم من فقدوا آباءهم وهم صغار دون البلوغ، والمساكين: الفقراء، وأعطى السائلين وفي الرقاب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ كما ثبت في الحديث: (الصدقة على المساكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة، فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك).
وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز، واليتامى: هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب.
وقد قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتم بعد حلم) ].
هذا الحديث من الشواهد الضعيفة، لكن المعنى صحيح، وهو أن من بلغ الحلم زال عنه اليتم، قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فالصحيح أنه إذا بلغ الحلم زال عنه اليتم، ولا يسمى يتيماً، واليتيم إنما يعطى من المال إذا لم يكن عنده مال، بحيث لم يخلف له والده شيئاً، أما إذا كان عنده مال فلا يعطى من الزكاة، لكن الله نص عليه لأن الغالب أن يكون اليتامى محتاجين.
الفقير يعطى ما يكفيه لمدة سنة من نفقة وكسوة وسكنى؛ لأن الزكاة من العام إلى العام، وإذا كان عنده بعض الشيء لكنه لا يكفيه، أو عنده مرتب لا يكفيه، أو أنه يكسب ولا يكفيه ما يكسبه فإنه يكمل له ما يكفيه، فإذا كان -مثلاً- له مرتب في الشهر مقداره ثلاثة آلاف ريال، وكان عنده أسرة كبيرة لا يكفيهم إلا ستة آلاف فإنه يعطى ثلاثة آلاف، أو كان مستأجراً بيتاً يستطيع سداد نصف أجرته ولا يستطيع نصفها، فيعطى من الزكاة ما يكمل سداد الأجرة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه) ].
هذا نفي الوصف ممن هو موجود فيه لإثباته لمن هو أولى منه، فالرسول نفى المسكنة عن هذا وهي موجودة فيه ليثبتها لمن هو أولى منه، فقال: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه) فهذا أشد منه، والأول مسكين، وهو الذي تصله التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، لكن الأشد منه هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه، فالمسكين هو الذي يأتي ويدق الأبواب فيعطيه هذا ريالاً، وهذا يعطيه عشرة، وهذا يعطيه خمسة، فيتجمع عنده شيء من المال، لكن الأشد منه مسكنة هو الذي يستحي ولا يسأل، ولا تظهر عليه علامة الفقر في الظاهر، فهو لا يقدر على أن يسأل الناس؛ لأنه يستحي، ولا يفطن له فيتصدق عليه؛ لأن علامات الفقر ليست ظاهرة عليه، وليس عنده شيء، فهذا هو الذي ينبغي أن يبحث عنه.
والنبي صلى الله عليه وسلم نفى المسكنة عمن هي موجودة فيه ليثبتها لمن هو أولى منه، مثل الحديث الآخر: (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). فالذي يصرع الناس شديد وقوي، لكن هناك من أشد منه، وهو الذي يملك نفسه عند الغضب.
ومثل الحديث الآخر: (ليس الرقوب الذي لا يولد له، إنما الرقوب الذي لم يقدم شيئاً من الولد). والرقوب هو العقيم الذي لا ولد له، لكن الأشد عقماً منه الذي لم يقدم ولداً، أي: لم يمت له أحد من الولد؛ لأن موت الأولاد وهم صغار حجاب من النار، فهذا فيه نفي الوصف لمن هو موجود فيه ليثبته لمن هو أولى منه.
والضيف له حق، فيجب أن يعطى حق الضيافة من غير الزكاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيلكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام)، والمقصود أن الضيف يعطى حق الضيافة من غير الزكاة، وإذا أراد أن يسافر وهو ممن ليس عنده شيء فيعطى من الزكاة؛ لأنه أصبح ابن سبيل.
هذا الحديث ضعيف، ففيه مصعب بن محمد، وهو ضعيف، وكذلك يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة، منقطع، فالحديث ضعيف، والله تعالى قال: وَالسَّائِلِينَ [البقرة:177] في هذه الآية، وقال في الآية الأخرى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فالسائل على ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يُعلم أنه فقير وأنه محتاج، فهذا يعطى.
الحالة الثانية: أن يُعلم أنه غير محتاج وأنه كذاب، فهذا لا يعطى، وينصح ويزجر، ويرفع به إلى ولاة الأمور إذا لم يرتدع.
الحالة الثالثة: ألا يعلم حاله، فهذا يعطى بعض الشيء؛ لأنه قد يكون محتاجاً وأنت لا تعلم حاله، وهو داخل في عموم الآية: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].
والمقصود بقوله: وفي الرقاب العبيد الذين يشترون أنفسهم عن طريق المكاتبة، ويدخل في ذلك الأسير المسلم عند الكفار، فيفدى عنه من الزكاة، والعبد الذي اشترى نفسه يعطى ما يسدد دينه.
ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في المال حق سوى الزكاة، ثم قرأ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] إلى قوله: وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177]).
وأخرجه ابن ماجة والترمذي، وضعف أبا حمزة ميموناً الأعور، وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ].
يعني أن الترمذي ضعف أبا حمزة ميمون الأعور ، والحديث ضعيف، ولكن المال فيه حقوق أخرى سوى الزكاة، وهي التي لها أسباب، كالنفقة على الوالدين، والنفقة على الزوجة، والنفقة على الأولاد، والنفقة على الضيف، كل هذه حقوق لها أسباب، وفي صحيح مسلم في الإبل أنها وجب فيها حلبها على الماء للمساكين، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحمله عليها في سبيل الله، فهذه كلها حقوق زائدة عن الزكاة، لكن لها أسباب.
والمتزوج عليه أن ينفق على زوجته وأولاده، وكان من عنده والدان فإن عليه أن ينفق عليهما إذا كان موسراً، وإذا نزل به الضيف وجب عليه أن ينفق عليه ويقوم بواجب الضيافة.
وقوله: وَآتَى الزَّكَاةَ [البقرة:177] يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة، كقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقول موسى لفرعون: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19]، وقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7].
ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة، والله أعلم ].
والأقرب أنها زكاة المال، وأما زكاة النفس فقد ذكرت في قول الله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177]، فقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] يعني: طهرها، فهذا من تزكية النفس، وقوله: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [البقرة:177] فيه زكاة المال، وهو من تزكية النفس، ففي هذه الآية زكاة المال وزكاة النفس.
فالأمور الشديدة -كالفقر والبأساء- تحتاج إلى صبر وتحمل؛ فلا يجزع الإنسان، ولا يتسخط، ولا يتكلم بما لا يليق، ولا يفعل شيئاً يغضب الله، وكذلك الصبر عند الضراء وعند الأمراض والأسقام، وكذلك الصبر عند البأس وعند ملاقاة العدو في الشدة، ومقارعة الأعداء والرمي بالنبال والسيوف، فهذا يحتاج إلى صبر وتحمل، فالله تعالى حكى حال الصابرين في هذه المواضع الثلاثة: في البأساء، أي: عند الفقر، والضراء، أي: عند الأمراض والأسقام، وحين البأس، أي: عند الحرب والقتال.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ].
(الهمداني) بالدال نسبة إلى قبيلة همدان، أما بالذال -همذَان- فنسبة إلى بلدة هي بلدة في إيران في الشرق.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم، وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته، والله أعلم، وهو المستعان وعليه التكلان.
وقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177] أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]؛ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات ].
ولاشك في أنهم هم الصادقون، فقد صدقت أفعالهم وأعمالهم أقوالهم، فهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ثم عملوا هذه الأعمال العظيمة، وهم المتقون الذين اتقوا المحارم، واتقوا الشرك والمعاصي، واستقاموا على طاعة الله، فهذه آية عظيمة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر