قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!).
ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق ].
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه كما قال المؤلف رحمه الله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فهو سبحانه وتعالى طيب في ذاته وفي صفاته وأسمائه وأفعاله، ولا يقبل من العمل إلا ما كان طيباً، وهو الخالص لوجهه الموافق لشريعته.
وفي هذا الحديث إثبات الطيب لله عز وجل، فإن من أسمائه الطيب والجميل، وفي الحديث: (إن الله جميل يحب الجمال)، فالله يحب العبد الجميل والعبد الطيب.
وفيه بيان عظم شأن الحرام، وأنه يمنع قبول الدعاء،
فهذا الرجل الذي يطيل في السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: (يا رب يا رب)، قد فعل أسباباً متعددة من أسباب قبول الدعاء، ومنها: أنه مسافر، فالسفر من أسباب قبول الدعاء، ففي الحديث: (ثلاثة لا ترد دعوتهم)، وذكر منهم المسافر، ومنها: أنه أشعث أغبر بعيد عن الترفه والتنعم، ومنها: أنه يرفع يديه إلى السماء، ومنها: أنه يتوسل بربوبية الله فيقول: يا رب يا رب، لكن عارضها مانع أقوى منها، وهو التلبس بالحرام أكلاً وشرباً ولباساً، فهذا المانع قضى على تلك الأسباب.
فالواجب على المسلم أن يحذر من الحرام حتى يقبل الله دعاءه ويقبل أعماله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، أي: إن كنتم عبيده فكلوا من طيباته واشكروا له.
والمال الطيب الحلال هو الذي ليس فيه شيء من أسباب الحرام، فالحرام له طرق متعددة، فقد يكسب المال عن طريق الربا، أو عن طريق الرشوة، أو عن طريق بيع المحرمات، كالدخان وآلات اللهو والخمور، أو بأن يجحد المرء حقوق الناس ويأكل أموالهم، أو يأخذها بالحلف الكاذب، أو يخفي عيب السلعة، أو يأخذ المال عن طريق السرقة أو الغصب، فإن كل هذه من أنواع أكل الحرام.
فالواجب على المسلم الحذر من الحرام بأنواعه؛ لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً.
ذكر الله في آية المائدة أنواعاً من المحرمات، فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ [المائدة:3]، وهي التي تموت بالخنق، وَالْمَوْقُوذَةُ [المائدة:3]، وهي التي تضرب على رأسها فتموت، وَالْمُتَرَدِّيَةُ [المائدة:3]، وهي التي تسقط من جبل أو من شاهق، وَالنَّطِيحَةُ [المائدة:3]، وهي التي تنطحها أختها فتموت وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة:3] أي: أكلها السبع، وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3] أي: ما ذبح على الأنصاب ولم يذكر عليه اسم الله، فهذه أنواع الميتة المحرمة، فلا يجوز أكلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [المائدة:96] على ما سيأتي إن شاء الله، وحديث العنبر في الصحيح، وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه الصلاة والسلام في البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ].
الطهور -بالفتح- هو الماء المعد للطهارة، وبالضم هو الفعل، أي: التطهر بالماء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعاً: (أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد، والكبد والطحال)، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
مسألة: ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره؛ لأنه جزء منها.
وقال مالك في رواية: هو طاهر، إلا أنه ينجس بالمجاورة، وكذلك أنفحة الميتة فيها الخلاف، والمشهور عندهم أنها نجسة ].
والأقرب للصواب أن ما انفصل من الميتة فإنه نجس تبعاً لها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد أوردوا على أنفسهم أكل الصحابة من جبن المجوس، فقال القرطبي في التفسير: ههنا يخالط اللبن منها يسير، ويعفى عن قليل النجاسة إذا خالط الكثير من المائع.
وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: (الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) ].
هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه سيف بن هارون، وقد وصفه الحافظ ابن حجر رحمه الله بأنه ضعيف.
وهو <=1002025>سيف بن هارون البرجمي
-بموحدة أبو الورقاء الكوفي- روى عن سليمان التيمي، وروى عنه داود بن رشيد وإسماعيل بن موسى الفزاري .قال الدارقطني : ضعيف متروك، وقال أبو سعيد الأشج: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سيف بن هارون وكان ثقة.
والحاصل أن الحديث ضعيف، ووقفه على سلمان أصح.
و الفراء قال فيه صاحب القاموس: الفَرَأ: كـ(جبل) و(سحاب): حمار الوحش أو فتيه، وجمعه: أفراء وفِراء.
الخنزير عينه نجسة كالكلب، فلا يؤكل بالتذكية، والتذكية إنما تطهر مأكول اللحم كالإبل والبقر والغنم، أما نجس العين فلا تطهره التذكية، كالكلاب والخنازير؛ لأنها نجسة العين.
والأقرب أن شحم الخنزير محرم؛ لأنه يدخل تحت عموم النص، لأن الخنزير محرم بجميع أجزائه، ولهذا أخذ بعض العلماء من هذا أن لحم البعير وشحمه ينقض الوضوء.
وذهب بعض العلماء -كالحنابلة وغيرهم- إلى أنه لا ينقض الوضوء إلا اللحم الأحمر، أما الشحم والعصب ولحم الرأس والكبد والكرش فلا ينقض الوضوء؛ لأنه ليس بلحم.
والصواب أن الله تعالى لما حرم لحم الخنزير شمل ذلك جميع أجزائه، فكذلك لحم الإبل، فإنه يَنقُضُ الوضوء من جميع أجزائه، وأما لبن الإبل ومرق لحمها فلا ينقض الوضوء.
وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرساً للعبها فنحرت فيه جزوراً، فقال: لا تؤكل؛ لأنها ذبحت لصنم ].
أي: كأنها تقربت إليه، والأقرب أنه من باب الإسراف.
أي: كلوا من النباتات ولا تأكلوا مما يذبح لأعيادهم، فلا تجوز مشاركة الكفار في أعيادهم والأكل من طعامهم، ولا الاحتفال معهم، ولا قبول الهدية في وقت أعيادهم، ولا الأكل معهم، فيجب البعد عن ذلك، وقد بسط الكلام على هذا أبو العباس بن تيمية رحمه الله في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) فذكر أنه لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم، ولا في احتفالاتهم، ولا تهنئتهم بأيام أعيادهم، ولا الأكل معهم، ولا قبول هديتهم، ولا الإهداء لهم، فكل هذا منكر، وقد يكون هذا من الكبائر، فيجب البعد والحذر من مشابهتهم وموافقتهم في أيام أعيادهم.
ومن الممنوع كذلك أن يتخذ الإنسان كافراً صديقاً له فيزوره ويدعوه لزيارته، أما الشيء الذي يأتي من دون اختيار الإنسان فهو شيء عارض.
وقال مجاهد : فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعاً للسبيل أو مفارقاً للأئمة أو خارجاً في معصية الله فله الرخصة، ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير .
وقال سعيد -في رواية عنه- ومقاتل بن حيان : (غير باغ) يعني: غير مستحل، وقال السدي : غير باغ يبتغي فيه شهوته.
وقال آدم بن أبي إياس : حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء -وهو الخراساني- عن أبيه قال: لا يشوي من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه، ولا يأكل إلا العلقة، ويحمل معه ما يبلغه الحلال، فإذا بلغه ألقاه، وهو قوله: (ولا عاد) ويقول: لا يعدو به الحلال ].
العلقة هي: ما يسد الرمق، والأقرب أن له أن يأكل من الميتة وأن يشويها ما دام أن الله أحل له ذلك.
وقوله: (غير باغ) هو مجاوزة الحد، فإن اضطر فأكل ولم يكن مجاوزاً للحد ولا معتدياً -أي: متصفاً بالعدوان- فلا إثم عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يشبع منها، وفسره السدي بالعدوان، وعن ابن عباس: غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173]، قال: غير باغ في الميتة ولا عاد في أكله.
وقال قتادة : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ [البقرة:173] قال: غير باغ في الميتة، أَيْ: في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة.
وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ [البقرة:173] أي: أكره على ذلك بغير اختياره.
وهذا إذا لم يؤد ذلك إلى قطع يده، بأن يتهم بأنه سارق فتقطع يده، فإذا كان مضطراً إلى أن يأكل ميتة أو طعام غيره، فإنه يقدم طعام غيره.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال: وإذا أكله والحالة هذه هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ، ثم أورد من سنن ابن ماجة من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية : سمعت عباد بن شرحبيل الغبري قال: أصابتنا عاماً مخمصة، فأتيت المدينة فأتيت حائطاً فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل: (ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا علمته إذ كان جاهلاً) فأمره فرد إليه ثوبه، فأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق، إسناد صحيح قوي جيد، وله شواهد كثيرة:
من ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة بفيه غير متخذ خبنة فلا شيء عليه)، الحديث ].
عباد بن شرحبيل اليشكري الغبري -بضم المعجمة وفتح الموحدة- صحابي نزل البصرة.
والحديث لا بأس بسنده، ويشهد له حديث عمرو بن شعيب ، وهو أن الإنسان إذا كان في بستان واحتاج إلى الأكل فله أن يأكل من ثمره، ولا يتزود منه، أو يأخذ ويعطي غيره، وإنما يأخذ مقدار ما يحتاج إليه للأكل.
أما ضرب صاحب البستان للصحابي الذي أخذ سنبله فقد أنكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا علمته إذ جاهلاً).
والحديث عند القرطبي هو: (ما أطعمته إذ كان جائعاً أو ساغباً) فهذه الرواية فيها شك، والساغب هو الجائع.
قال القرطبي على الحديث: قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي شيبة فإنه في مسلم وحده، وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري، لم يخرج له البخاري ومسلم شيئاً، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه الله، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة، أي: التعزير فيها.
والأولى للإنسان إذا احتاج إلى الأكل لخوفه على نفسه الموت، ألا يأكل من الميتة، بل يأكل طعام غيره، ثم بعد ذلك يضمنه، فيرد لصاحبه مثله أو قيمته، أما إذا مر ببستان فيه ثمر واحتاج إلى أن يأكل فليأكل بشرط ألا يأخذ معه شيئاً.
وقال سعيد بن جبير : (غفور) لما أكل من الحرام (رحيم) إذ أحل له الحرام في الاضطرار.
وقال وكيع : أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ].
أكل الميتة للمضطر عزيمة؛ فإنه يجب عليه أن يأكل ما يقيم به جسمه حتى لا يموت، ولا يستسلم للموت، فإن استسلم للموت ولم يأكل حتى مات فهو آثم، والميتة في هذا الحال حلال، فمن خشي على نفسه الموت ولم يجد إلا الميتة حل له أكلها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو الحسن الطبري المعروف بـالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال: وهذا هو الصحيح عندنا، كالإفطار للمريض ونحو ذلك ].
أي: إذا كان الصوم يزيد في المرض أو يؤخر برأه؛ فإنه يجب عليه أن يفطر، فيكون في حقه عزيمة في هذه الحالة، مثل أكل الميتة للمضطر، كما قال الطبري، وهو الكيا الهراسي أبو الحسن الطبري.
الدنيا كلها ثمن قليل، وكفار أهل الكتاب اعتاضوا عن تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به بما يأخذونه من الدنيا من الأموال والهدايا، والذي حملهم على ذلك هو الحسد وإيثار الدنيا على الآخرة، فهم كتموا ما يعلمون في كتبهم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه وأنه رسول الله حقاً، ولم يؤمنوا ولم يصدقوا، فحل عليهم العذاب والنقمة.
وهنا تحذير لهذه الأمة من أن تسلك مسلكهم من كتمان الحق وعدم الإيمان والتصديق، فيصيبها ما أصاب أهل الكتاب، قال بعض السلف: مضى قوم ولم يعن به سواكم، فاحذروا أنتم أن تفعلوا مثل فعلهم فيصيبكم ما أصابهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات، والدلائل القاطعات، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه وصاروا عوناً له على قتالهم، وباءوا بغضب على غضب، وذمهم الله في كتابه في غير موضع، فمن ذلك هذه الآية الكريمة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [البقرة:174]، وهو عرض الحياة الدنيا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174] أي: إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ].
قوله: (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، أي: يأكل من نار جهنم، وفي الحديث الآخر: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، رواه البخاري .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:174]، وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم؛ لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم -أي: يثني عليهم ويمدحهم- بل يعذبهم عذاباً أليماً.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) ].
هذا الحديث رواه مسلم ، وهو يدل على الوعيد الشديد، فهذه الكبائر من أعظم الأمور، وهي: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر؛ وذلك لأن الداعي هنا إلى المعصية ضعيف، وإذا كان الداعي إلى المعصية ضعيفاً عظم الذنب.
ومعنى (شيخ زان) أي: كبير السن زان، فالزنا محرم وقبيح من الشاب والشيخ، لكن في حق الشيخ أشد؛ لأن داعية الشاب أقوى، فإذا زنى الشيخ دل ذلك على حبه للفواحش.
وكذلك الكذب لا يجوز للملوك ولا للرعية، لكن الضعيف قد يكذب لوجود الداعي إلى الكذب؛ فإنه قد يخشى من غيره، أما الملك فلا داعي عنده إلى الكذب، فهو الذي يتصرف في أمور الرعية، وهذا يدل على حبه للكذب مع ضعف الداعي.
وكذلك الكبر حرام لا يجوز من الفقير ولا من الغني، والغني قد يكون عنده ما يدعوه إلى الكبر، وهو غناه وجاهه، لكن الفقير ما عنده شيء من ذلك، فما الذي يدعوه إلى الكبر؟! فكذبه يدل على أنها خصلة متمكنة فيه تدل على حبه للمعصية.
فهؤلاء مع ضعف الداعي صار ذنبهم أعظم، وقد جاء في حديث آخر: (ثلاثة لا يكلمهم الله: المسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان فيما أعطى).
قوله: (اشتروا) يعني: اعتاضوا، كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] أي: يعتاض فيأخذ هذا عوضاً عن هذا، وقوله تعالى: يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77] يعني: اعتاضوا عن الدين بالدنيا، أي: أخذوا الدنيا عوضاً عن الآخرة.
وقيل معنى قوله: فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:175] أي: فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار ].
والأقرب أن معنى الآية هو المعنى الأول، وهو التعجب من صبرهم ولا حيلة لهم في الخروج منها، نسأل الله السلامة والعافية.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر