قال المؤلف رحمه الله: [ قال الحسن البصري : قوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:125] قال أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج : قلت لـعطاء: ما عهده؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيم [البقرة:125] أي: أمرناه، كذا قال، والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى؛ لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا ].
سمى (عهدنا) حرفاً؛ لأن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال سعيد بن جبير : عن ابن عباس قوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] قال: من الأوثان، وقال مجاهد: وسعيد بن جبير: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125] أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس ].
يعني: تطهير البيت من النجاسات والأذى، وأعظم من ذلك تطهيره من الشرك والأوثان والمعاصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] أي: بلا إله إلا الله من الشرك.
وأما قوله تعالى : لِلطَّائِفِين [البقرة:125] فالطواف بالبيت معروف، وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى: لِلطَّائِفِين [البقرة:125] يعني من أتاه من غربة وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير ، وقال يحيى القطان : عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله: وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125] قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده، وقال لنا ونحن مجاورون: أنتم من العاكفين. وقال وكيع : عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا كان جالسا فهو من العاكفين.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت قال: قلت لـعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام؛ فإنهم يجنبون ويحدثون، قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون ].
الطائف هو الغريب، والعاكف هو المقيم في الحرم، فقوله: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين [البقرة:125] أي: الغرباء.
وأما الطهارة للطواف فبعض العلماء يرون اشتراط الطهارة له، ويستدلون بما روي عن ابن عباس أنه قال: الطواف بالبيت الحرام صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير. وبأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وطاف.
وبعض العلماء يرون عدم اشتراط الطهارة في الطواف، والذين اشترطوا الطهارة في الطواف منهم من قال: إنه واجب، ومنهم من قال غير واجب، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يرى وجوب الطهارة، وهو مذهب الأحناف.
و عطاء الذي يروي عن ابن عباس هنا هو عطاء الخراساني، فيكون منقطعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به.
قلت: وقد ثبت في الصحيح: أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب].
(عزب) يعني: غير متزوج، يقال: عَزَب وأعزب.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما قوله تعالى: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125] فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس : وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125] قال: إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء وقتادة.
قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الآية: وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه، ومن الشرك، ثم أورد سؤالاً فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ وأجاب بوجهين: أحدهما: أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به، كما قال عبد الرحمن بن زيد : أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] قال: من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها.
قلت: وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه الصلاة السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم ].
يعني: هل قوم نوح كانوا في مكة يعبدون الأوثان؟ هذا يحتاج إلى دليل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الجواب الثاني: أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جل ثناؤه : أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ [التوبة:109]، قال: فكذلك قوله: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] أي: ابنياه على طهر من الشرك بي والريب، كما قال السدي : أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ [البقرة:125] ابنيا بيتي للطائفين.
وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود، كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله: الطواف به لأهل الأمصار أفضل، وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام ].
أي أن الحافظ ابن كثير رحمه الله جمع ما يتعلق بالمساجد في جزء خاص.
وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه : أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب، ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين ].
يعني: أنه لا دليل على ذلك، وإنما الدليل الذي ذكره الله في كتابه أن أول من بناه إبراهيم، وأما الأقوال أن أول من بنى الكعبة آدم أو الملائكة أو غيرهم فليس عليها دليل، وإنما هو من أخبار بني إسرائيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام أبو جعفر بن جرير : أخبرنا ابن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي : أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها، ولا يقطع عضاهها) ].
ومعنى ذلك: أنه الذي أظهر تحريم مكة بين الناس، وإلا فالله سبحانه وتعالى هو الذي حرمها، كما في الحديث الآخر: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)، وإبراهيم هو الذي أظهر تحريمها ونشره بين الناس، وبلغ عن الله عز وجل تحريمها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري ، وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب قالا: حدثنا ابن إدريس ، وأخبرنا أبو كريب أخبرنا عبد الرحيم الرازي قالا جميعا: سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير) ].
يعني: حدود حرم المدينة ما بين لابتيها، أي: ما بين الحرتين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه، ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر) ].
يعني: دعا للمدينة بمثلي ما دعا إبراهيم لمكة، وهذا يدل على أن الحرم المدني أحف من الحرم المكي؛ ولذلك فالصيد فيه جزاؤه عظيم، وأما في المدينة فجزاؤه أخف، بأن يسلب منه ما صاده أو قطعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي لفظ: (بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان) لفظ مسلم ، ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها) انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به، ولفظه كلفظه سواء.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ
ولهما أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة)، وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة) رواه البخاري وهذا لفظه ] .
يعني: كما حرم إبراهيم مكة فقد حرمت المدينة، والمحرم لهما هو الله تعالى وإنما إبراهيم ونبينا عليهما الصلاة والسلام بلغا عن الله تحريم مكة والمدينة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولـمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) .
وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها: ألا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين) الحديث رواه مسلم ].
يقول العلماء حريم الشيء أربعون ذراعاً في أربعين ذراعاً مثل حريم البئر، وأما الحرم المكي فقد حرمه الله، حرم فيه الصيد، وحرم القتال، وحرم تنفير الطير، وحرم اللقطة، والمعنى اللغوي لتحريم الشيء: هو ما حوله وما يتبعه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة؛ لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة.
وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى، والله أعلم ].
ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة رضي الله عنها: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال: يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد، فقال
اللقطة في غير الحرم تعرف سنة كاملة، فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك، وأما لقطة الحرم فلا تلتقط إلا لمن يعرفها مدى الدهر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن أبي شريح العدوي أنه قال لـعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: (ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لـ
يعني أن أبا شريح -صحابي جليل رضي الله عنه- يحذر عمرو بن سعيد من انتهاك بيت الله الحرام، ويؤكد ذلك بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فرد عليه عمرو بن سعيد رداً قبيحاً ورداً سيئاً، وكان الواجب على عمرو بن سعيد أن يقول: السمع والطاعة لله ولرسوله، لكن قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، ثم قال: إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربه، فهل عبد الله بن الزبير الصحابي الجليل كان فاراً بدم أو عاصياً؟!
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها؛ لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره، ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: (يا رسول الله! أخبرنا عن بدء أمرك، فقال: دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) .
أي: أخبرنا عن بدء ظهور أمرك كما سيأتي قريباً إن شاء الله ].
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة.
يعني: أن هذا خبر بمعنى الأمر: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97].
والمعنى: أنه ينبغي أن يؤمن من دخل البيت، لكن في أيام القرامطة قتلوا الحجاج، وعبد الله بن الزبير الإمام قتله الحجاج، في محرم وقاتل أهل مكة، ورمى الكعبة بالمنجنيق، إذاً فينبغي أن يؤمن من دخل البيت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح) ، وقال في هذه السورة: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126] أي: اجعل هذه البقعة بلداً آمناً، وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35] وناسب هذا هناك؛ لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا قال في آخر الدعاء: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39] ].
يعني: أن الدعاء في هذه الآية: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] كان قبل بناء البيت، وأما الدعاء الذي في سورة إبراهيم فإنما كان بعد ولادة إسحاق وبعد بناء البيت.
قوله: فَأُمَتِّعُهُ [البقرة:126] وقوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [البقرة:126] هذه قراءة حفص .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو جعفر الرازي : عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126] قال: هو قول الله تعالى، وهذا قول مجاهد وعكرمة ، وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله ].
لأن هذا الوعيد لا يكون إلا من لله: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [البقرة:126].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقرأ آخرون: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126] فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم، كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً، وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم : عن مجاهد : وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126] يقول: ومن كفر فأرزقه رزقاً قليلاً أيضاً: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126] ].
يعني: مدة البقاء في هذه الدنيا قليل، قال سبحانه: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، فمهما عاش الإنسان في هذه الدنيا فهو قليل، والكافر يتمتع في هذه الدنيا ثم بعد ذلك يصل إلى النار نعوذ بالله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال محمد بن إسحاق : لما عنّ لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعاً إلى الله ومحبته، وفراقاً لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك، قال الله تعالى: ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر، وأمتعه قليلاً. وقال حاتم بن إسماعيل : عن حميد الخراط عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126] قال ابن عباس : كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله: ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير، ثم قرأ ابن عباس : كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].
رواه ابن مردويه ، وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضاً، وهذا كقوله تعالى قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70] .
وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:23-24] .
وقوله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35] .
وقوله : ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة:126] .
أي: ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير، ومعناه:أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48]، وفي الصحيحين: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم) ].
يعني: لا يغتر الإنسان، فالله تعالى يملي للظالم ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالواجب الحذر، قال بعضهم: ما أخذ الله قوماً إلا على حين غفلة وهم منهمكون في شهواتهم، وقال بعضهم: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه فاعلم أنه الاستدراج، وقد تنزل العقوبات وكثير من الناس لا يشعرون بها، ويظنون أن العقوبة خاصة بالعقوبات الحسية الجسدية، لا، بل موت القلوب من أعظم العقوبات؛ لأن الإنسان لا يحس بالمعاصي حين يرتكبها ولا تؤلمه الجراحات، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيح أيضاً (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]) .
وقال بعضهم: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة:126] الآية، جعله من تمام دعاء إبراهيم، وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة.
وتركيب السياق يأبى معناها والله أعلم؛ فإن الضمير في (قال) راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في (قال) عائداً على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله سبحانه هو العلام ].
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ما قاله أبي بن كعب وقراءته؛ لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة، وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزاً عليه في نقضه الخطأ والسهو على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله.
يعني: كأنه يشير إلى أن ما عداها شاذ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر