قال المصنف رحمه الله تعالى: [يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه. كما قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسداً إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب) قال: هو كعب بن الأشرف اليهودي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي، حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) إلى قوله: (فاعفوا واصفحوا)، وقال الضحاك عن ابن عباس : إن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً.
وكذلك قال الله تعالى: كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] يقول: من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.
وقال الربيع بن أنس : (من عند أنفسهم) من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية : (من بعد ما تبين لهم الحق) من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس والسدي .
وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109] مثل قوله تعالى : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186].
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، وقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي : إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) ].
في هذه الآية الكريمة بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده المؤمنين حيث أخبرهم بعداوة أعدائهم من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأنهم لا يودون الخير للمسلمين، وإنما يودون أن يعودوا كفاراً مثلهم فيدخلون معهم النار نسأل الله العافية؛ ولهذا قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ [البقرة:109] لا عن جهل بل عن بصيرة: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] هذا هو حال الكفرة من اليهود والنصارى والمشركين فهم لا يودون الخير للمسلمين وإنما يودون أن يكونوا مثلهم، ولا يرضون عنهم حتى يساووهم في الكفر؛ ولهذا قال سبحانه في الآية الأخرى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] وقال سبحانه في هذه الآية: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ أي: من قبل أنفسهم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فاليهود والنصارى أنزل الله عليهم الكتب، أنزل الله على موسى التوراة، وأنزل على عيسى الإنجيل، فقرأ اليهود والنصارى التوراة والإنجيل فعرفوا نبي هذه الأمة، وعرفوا أن المسلمين على الحق ولكن لوجود البغي والحسد في أنفسهم صاروا يكيدون على الإسلام وأهله.
فالله تعالى أخبر عباده بعداوة اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، يقول الله تعالى عنهم في آية أخرى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] أي: تكونون مثلهم، والكفرة يودون قطع أسباب المدد والخير عن المسلمين، وذلك من شدة حسدهم كما قال تعالى: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:105].
وهذا يفيد الحذر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحذر من أعداء الله، ومن كيدهم ومخططاتهم ودسائسهم، ولا سيما في هذا العصر الذي جلب فيه الكفرة على المسلمين الغزو الفكري، حيث وجدت الفضائيات وشبكات الإنترنت التي تهدد الأسرة في عقر دارها، ينشرون عقائدهم، ويدعون الناس إلى أديانهم، وإلى أخلاقهم الخبيثة، كالتفسخ، والعري، والتشكيك في الإسلام وفي أهله وفي أصوله.
فهذا من البلاء والمصائب التي نزلت على الأمة الإسلامية فعظمت الفتنة والتبس الأمر على كثير من الناس، والنتيجة أنك ترى كثيراً من الناس يجتمع عنده الشبهات والشهوات.
فالشبهات تأتي بسبب الفتن التي تلقى في الصحف والمجلات، والإذاعات، والفضائيات، والشبكات، وكل هذه تنشر الفساد والعري والتفسخ.
والشهوات تأتي بسبب انفتاح الدنيا على الناس، ووجود المال بين أيديهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، والمعصوم من عصمه الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد رضي الله عنه أخبره قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109]) ].
هذه الآية فيها الأمر بالعفو والصفح حتى يتقوى المسلمون ويأذن الله لهم بالجهاد، فلما تقوى المسلمون شرع الله لهم الجهاد.
ففي مكة كان المسلمون قلة، ثم لما هاجروا إلى المدينة وتقووا وصارت لهم دولة وبلد أذن الله لهم بالجهاد، ففي أول الأمر قال تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا، وقوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف:89] .. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106] .. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقوي المسلمون أنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39] والقتال في هذه الآية لم يكن عزيمة وإنما رخصة.
ثم أذن الله في قتال من قاتل، والكف عمن لم يقاتل: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191] ثم بعد ذلك جاء الأمر بالجهاد عام بدءاً وهجوماً ودفاعاً لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد [التوبة:5] وقوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة:5] وقوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36].
فالجهاد شرع على مراحل: في بداية الأمر كان النبي مأموراً بالصفح والإعراض عنهم، ثم جاءت الرخصة في القتال، ثم أذن في القتال دفاعاً فقط، ثم شرع الجهاد بدءاً وهجوماً ودفاعاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش) هذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد .
وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سراً وعلانية فهو به بصير، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإن فيه وعداً ووعيداً، وأمراً وزجراً؛ وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه [البقرة:110] وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله: (بصير) فإنه مبصر صرف إلى بصير كما صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم، والله أعلم ].
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:110] : هذا خبر بأن من عمل خيراً فسيجده عند الله والله بصير بعمله، فالخبر هنا بمعنى الأمر والامتثال والنهي، والمعنى: امتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي فإن الله مجازيكم على أعمالكم؛ لأنه بصير بأعمالكم خبير بها، لا تخفى عليه أعمالكم، ولا أقوالكم، ولا نياتكم وسوف يجازي كلاً بعمله كما قال في آية أخرى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وقال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، وقال: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقرأ هذه الآية: (سميع بصير) يقول: (بكل شيء بصير)) ].
هذا الحديث في سنده ابن لهيعة وفيه ضعف، فالحديث لا يصح.
قال المؤلف رحمه الله: [ يبين الله تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه؛ حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة، أنهم قالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة، ورد عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة فقال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، وقال أبو العالية : أماني يمنوها على الله بغير حق، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس ].
فالأماني إذا لم يكن عليها دليل تكون باطلة، كمن يتمنى شيئاً وهو لا يعمل له.
واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وهذا تمنٍ؛ ولهذا قال الله لهم: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة:111] أي: هاتوا الدليل، وفي الآية الأخرى أخبر الله عن اليهود بقوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] وهي الأيام التي عبدوا فيها العجل فأكذبهم الله، وفي الآية الأخرى ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه فأكذبهم الله، فهذه دعاوى، وكل دعوى لا دليل عليها ولا برهان فهي باطلة، فلا بد من الدليل، وإذا كنتم أبناء الله وأحباؤه فاعملوا ما يقربكم إلى الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم قال تعالى: (قل) أي: يا محمد! (هاتوا برهانكم) قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس : حجتكم، وقال قتادة : بينتكم على ذلك، (إن كنتم صادقين) أي: فيما تدعونه].
يقول من أخلص لله، وقال سعيد بن جبير : (بلى من أسلم): أخلص، (وجهه): قال: دينه، (وهو محسن) أي: اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن للعمل المتقبل شرطين:
أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده.
والآخر: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة والسلام، فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39]، وقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:2-5].
وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.
وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله تعالى؛ فهو أيضاً مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]؛ ولهذا قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال في هذه الآية الكريمة: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [البقرة:112]، وقوله: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112]، ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور (فلا خوف عليهم) فيما يستقبلونه (ولا هم يحزنون) على ما مضى مما يتركونه كما قال سعيد بن جبير : (فلا خوف عليهم) يعني: في الآخرة (ولا هم يحزنون) يعني: لا يحزنون للموت ].
هذان الشرطان لا بد منهما في قبول العمل: الأول: أن يكون العمل موافقاً للشرع، والثاني: أن يكون خالصاً لله.
قوله تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] هذه الآية فيها إخلاص العمل لله، فأسلم وجهه لله: أي: أخلص العمل لله، فلابد لكل عمل يعمله الإنسان من هذين الشرطين.
(وهو محسن) أي: صار عمله حسناً، والعمل الحسن هو: الموافق للشرع، قال سبحانه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] وقال سبحانه في الآية الأخرى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22].
واليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ذمهم الله على هذه المقالة].
وقال السدي كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فهم العرب، قالوا: ليس محمد على شيء، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، ليس ثم دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى والله أعلم.
وقوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة:113] أي: أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [الحج:17]، وكما قال تعالى: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26] ].
فالله سبحانه وتعالى سوف يجمعهم يوم القيامة ويحكم بينهم بحكمه العدل سبحانه وتعالى، ويجازيهم على أعمالهم، وحينئذ يزول الباطل والبهرج، ويظهر الحق وتظهر مخبئات الصدور، ويميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم اليهود الذين ماتوا على الكفر أنهم على الباطل، وكذلك النصارى، وأنه ليس على الحق إلا من آمن بالله ورسله واتبع أنبياءه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين:
أحدهما: ما رواه العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قال: هم النصارى، كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: وَسَعَى فِي خَرَابِهَا قال: هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى.
وقال سعيد عن قتادة : قال: أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس، وقال السدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، وروى نحوه عن الحسن البصري .
القول الثاني: ما رواه ابن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) قال: هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم: (ما كان أحد يصد عن هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده) فقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق.
وفي قوله: (وسعى في خرابها) قال: إذ قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة، وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سلمة قال: قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة:114] ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس.
قلت: والذي يظهر والله أعلم القول الثاني كما قاله ابن زيد .
وروي عن ابن عباس : لأن النصارى إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كان دينهم أقوم من دين اليهود ].
قوله: (لأن النصارى إذا منعت اليهود..) الأحسن أن يقال: (لأن النصارى إذ منعت) فـ(إذ) ظرف بمعنى حين، والتقدير: لأن النصارى حين منعوا اليهود...
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكانوا أقرب منهم، ولم يكن ذكر الله من اليهود مقبولاً إذ ذاك؛ لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
وأيضاً فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34] .. وقال تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:17-18] .. وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:25] فقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فإذا كان من هو كذلك مطروداً منها مصدوداً عنها فأي خراب لها أعظم من ذلك؟! وليس المراد من عمارتها زخرفتها، وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها، وإقامة شرعه فيها، ورفعها عن الدنس والشرك ].
ذكر ابن كثير رحمه الله، المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين لأهل العلم:
القول الأول: أن المراد بهم نصارى الروم حينما أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، والمراد بالخراب: الخراب الحسي، خراب بيت المقدس.
والقول الثاني: أن المراد بهم كفار قريش الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين عن المسجد الحرام، وعن ذكر الله، ومنعوا المسلمين من العمرة، والمراد بالخراب: الخراب المعنوي وهذا هو الذي اختاره الحافظ ابن كثير .
وهذا هو الأصح؛ لأن الخراب الحقيقي هو الخراب المعنوي؛ والعمارة الحقيقية للمساجد إنما تكون بذكر الله وإقامة الصلاة فيها، وتعلم العلم وتعليمه وغير ذلك مما فيه قوام المسلمين.
وكان المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه هو المنطلق الذي تنطلق منه الجيوش، وكانوا يتشاورون فيه، ويتعلمون العلم، ويذكرون فيه اسم الله.
أما العمارة الحسية، فهذه لا بأس بها، ولو لم يجد الناس مسجداً للصلاة، فإنهم يصلون على الأرض، ويجعلون حاجزاً أو سترة.
فالخراب المعنوي ليس بسيطاً، فهو الخراب الحقيقي للمساجد المتمثل بتعطيلها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وهذا من الصد عن ذكر الله.
وقد علل الحافظ ابن كثير لهذا القول بتعليلين:
أولاً: أن الخراب المعنوي أشد من الخراب الحسي، والخراب المعنوي هو الخراب الحقيقي، وأما الخراب الحسي فهو تبع له، فإذا خرب المسجد أو هدم فإنه يبنى مرة أخرى، لكن الخراب المعنوي مصيبة.
وثانياً: سياق الآية يقتضي هذا وهو أن الله تعالى ذم اليهود والنصارى لقولهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113] ثم جاء الذم لكفار قريش بقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ... [البقرة:114] فترتيب السياق يقتضي ذم اليهود والنصارى ثم ذم المشركين.
أما إذا كانت الآية بمعنى الخراب الحسي يكون معنى الآية تابعاً لذم اليهود والنصارى، والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التأكيد، أي: تأسيس معنىً جديد، فتكون الآية قد أضافت معنىً جديداً غير المعنى السابق في الآية السابقة.
فعلى القول الأول الذي اختاره ابن جرير تكون الآية فيها ذم للنصارى كالآية التي قبلها وليس هناك معنىً جديداً، أما على القول الثاني فإن فيها معنىً جديداً وهو ذم الكفار والمشركين لصدهم المؤمنين عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] هذا خبر معناه الطلب ].
هذا الخبر مثل ما قاله عليه الصلاة والسلام: (ليس المسكين الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، وإنما المسكين الذي لا يجد غناً يغنيه، ولا يقوم فيسأل الناس، ولا يسأل له فيتصدق عليه) المسكين: هو الذي يسأل الناس، فهذا يعطيه تمرة وهذا يعطيه لقمة، لكن أشد منه مسكنة هو الذي لا يقوم فيسأل الناس وليس عليه علامة الفقر، ولا يسأل له فيتصدق عليه، فيمتنع من السؤال لأجل الحياء.
والمراد من لفظة: (المساجد) هو كل مسجد إلى يوم القيامة؛ لأن النص عام ورد بصيغة الجمع، وتخصيصها ببعض المساجد وبعض الأشخاص ضعيف.
ومنع المساجد من ذكر الله في كل زمان لا شك أنه داخل في معنى هذه الآية.
(إذا) زائدة تحذف، فتكون العبارة هكذا: (وهذا كان تصديقاً) لكن إذا حذفت، يستقيم المعنى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا كان تصديقاً وعملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] ].
هذه الآية خبر بمعنى الأمر، والمعنى: إذا قدرتم عليهم فلا تمكنوهم من دخولها إلا خائفين، وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال بعضهم: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى: ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم.
وقيل: إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً .. يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم، وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام ].
قوله: (وما ذاك إلاتشريف) الصواب أن يقول: وما ذاك إلا لتشريف أكناف المسجد الحرام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا؛ لأن الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114] على ما انتهكوا من حرمة البيت، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله، ودعاء غير الله عنده والطواف به عرياً، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله، وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار ].
الصواب أن يقول: وأما من فسره ببيت المقدس، وهذا هو القول الأول الذي اختاره ابن جرير وقد فسره بتخريب بيت المقدس كما فعل بختنصر ، وهذا القول ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار : إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ [البقرة:114] الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً.
وقال السدي : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها، وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة.
قلت: وهذا لا ينفي أن يكون داخلاً في معنى عموم الآية فإن النصارى لما ظلموا بيت المقدس بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعاً وقدراً بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت المقدس.
وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضاً أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم، والله أعلم.
وفسر هؤلاء الخزي في الدنيا: بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود ، وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله، وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة كما قال الإمام أحمد : أخبرنا الهيثم بن خارجة ، أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس قال: سمعت أبي يحدث عن بسر بن أرطأة ].
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم! أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) وهذا حديث حسن، وليس في شيء من الكتب الستة، وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطأة حديث سواه، وسوى حديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو) ].
وبسر قال عنه أبو داود : ثقة، وقال ابن عمار ثقة، وقال محمد بن سعيد والعجلي والبزار وابن حبان بأنه ثقة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر