قال المصنف رحمه الله: [ يقول تعالى: واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاماً طيبا نافعاً هنيئاً سهلاً، واذكروا دبركم وضجركم مما رزقناكم، وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم ].
ومنه قوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، والمراد بذلك استبدال الأطعمة، فالباء إنما تدخل على المتروك، فهم قد استبدلوا الشيء الطيب وأخذوا بدله الأطعمة الرديئة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال الحسن البصري : فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه. وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقول وفوم، فقالوا: يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61] وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى؛ لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم، فهو مأكل واحد ].
قوله: دبركم، أي: توليكم، وهذا من دنو همتهم، فإن الله تعالى أنزل عليهم المن، وهو يشبه العسل، ويكون طعاماً، وإذا ركب مع غيره صار حلوى وفاكهة، والسلوى طائر لحمه من ألذ اللحوم، ومع ذلك يقولون: يا موسى! نريد البصل والكراث والثوم، لن نصبر على طعام واحد، أفي كل يوم من وسلوى؟ نريد تبديلاً وتغييراً ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا [البقرة:61] وشجر البقل معروف، ولعل البقالة تنسب إليه، فمما يباع فيها الكراث والبصل والثوم والقثاء -هو الخيار- وما أشبهه، والفوم هو الثوم أو غيره، فقال لهم موسى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] أي: أتختارون الرديء وتتركون الجيد؟! وهل يقاس الآن الثوم والبصل والكراث بالمن والسلوى؟! ولهذا قال لهم موسى: أن هذه الأمور التي طلبتموها دنيئة لا تستحق أن أسأل ربي، فلو دخلتم أي بلد من البلدان لوجدتموها اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] فأي بلد ستدخلونها ستجدون الكراث والثوم والبصل، وهذا يدل على دنو همتهم وتعنتهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم، فقد اختلف السلف في معناها، فوقع في قراءة ابن مسعود : (وثومِها) بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه، بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس، عن الحسن في قوله: وَفُومِهَا [البقرة:61] قال: قال ابن عباس : الثوم، قال: وفي اللغة القديمة: فوموا لنا بمعنى اختبزوا؟!
قال ابن جرير : فإن كان ذلك صحيحاً، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر، وأثافي وأثاثي، ومغافير ومغاثير ].
وهنا فوم وثوم، فالحروف ينوب بعضها عن بعض، فيقال: فوم، ويقال: ثوم، ويقال: أثافي وأثاثي، وعلى هذا القول فالفوم معناه الثوم، وهذا هو أحد الأقوال.
قال المصنف رحمه الله: [ وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء، والثاء فاء لتقارب مخرجيهما. والله أعلم.
وقال آخرون: الفوم الحنطة، وهو البر الذي يعمل منه الخبز.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس رضي الله عنهما: سئل عن قول الله: وَفُومِهَا ما فومها؟ قال: الحنطة. قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح، وهو يقول:
قد كنت أغني الناس شخصاً واحداً ورد المدينة عن زراعة فوم ].
وهنا ذكر القول الثاني في الفوم: وهو الحنطة، أي: أنه البر بأنواعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال ابن جرير : حدثنا علي بن الحسن، حدثنا مسلم الجهني، حدثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب ].
وفي بعض النسخ: رشيد، والصواب أنه: رشدين بن كريب بن أبي مسلم الهاشمي مولاهم أبو كريب المدني ضعيف من السادسة كما في التقريب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله تعالى: وَفُومِهَا قال: الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك وعكرمة عن ابن عباس : أن الفوم الحنطة.
وقال سفيان الثوري عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء : وَفُومِهَا قالا: وخبزها.
وقال هشيم عن يونس عن الحسين وحصين عن أبي مالك : وَفُومِهَا قال: الحنطة، وهو قول عكرمة والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. فالله أعلم.
وقال الجوهري : الفوم: الحنطة.
وقال ابن دريد : الفوم: السنبلة.
وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة : أن الفوم كل حب يختبز. قال: وقال بعضهم: هو الحمص، لغة شامية، ومنه يقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي.
قال البخاري : وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم ].
بمعنى: أنه منقلب عن فام، وأصله فوم، فقلبت الواو ألفاً فصار: فامي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61].
فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة، مع ما هم فيه من العيش الرغيد، والطعام الهنيء الطيب النافع ].
وهذا من ضمن تعنتاتهم، فلقد كان لهم تعنتات كثيرة على أنبيائهم، والله سبحانه وتعالى يغدق عليهم وينعم عليهم ولا يعاجلهم بالعقوبة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا هكذا هو منون مصروف، مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية، وهو قراءة الجمهور بالصرف. وقال ابن جرير : ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لإجماع المصاحف على ذلك.
وقال ابن عباس : اهْبِطُوا مِصْرًا قال: مصراً من الأمصار، رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروي عن السدي وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.
وقال ابن جرير : وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود : اهبطوا مصر من غير إجراء، يعني من غير صرف ].
يريد بـ(مصر) الدولة المعروفة، والقراءة المعتبرة كما تقدم مصراً: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] والمراد بـ(مصراً) أي بلدٍ من البلدان، أو مصراً من الأمصار، أي: اهبطوا أي بلدٍ من البلدان، ولا يمكن أن يكون المراد الدولة المعروفة؛ لأنهم خرجوا منها ولا يريدون الرجوع إليها، وإنما المراد: اهبطوا أي بلد من البلدان، أو اهبطوا مصراً من الأمصار تجدون هذه التي طلبتم: البقول، والكراث، والثوم.
وعند ذلك ليسوا بحاجة إلى أن يقولوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ والمعنى: ليس ما طلبتم هو بالأمر المهم حتى أسأل ربي أن يعطيكم ذلك؛ لأن مثل هذه ستجدونها في أي بلد من البلدان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك: بمصر فرعون ].
وهذا على قراءة من قرأها بدون تنوين، لكنها قراءة غير معتمدة، والمعتمد ما جاء في مصاحف الأئمة العثمانية التي أجمع عليها الصحابة: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] بالتنوين، فلا تثبت قراءة: (اهبطوا مصر).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضاً.
قال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد: مصر فرعون على قراءة الإجراء أيضاً. ويكون ذلك من باب الإتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى: قَوَارِيرَاً * قَوَارِيرَ [الإنسان:15-16] ثم توقف في المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار؟ ].
وهذا الاحتمال ضعيف، والأقرب القول الأول، وهو أن المراد: أي مصر من الأمصار.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا الذي قاله فيه نظر، والحق أن المراد: مصر من الأمصار كما روي عن ابن عباس وغيره ].
وهذا هو الحق والصواب كما قال الحافظ رحمه الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والمعنى على ذلك؛ لأن موسى عليه السلام يقول لهم: هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه؛ ولهذا قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] أي: ما طلبتم ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم ].
فواضح أنهم بطروا النعمة التي أنعم الله عليهم وملوها، ومن بطرهم وأشرهم أنهم قالوا: لن نصبر على طعام واحد، نريد تغييراً وتبديلاً، نريد كراثاً وثوماً وبصلاً.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً، أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون. قال الضحاك : عن ابن عباس : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ قال: هم أصحاب النيالات، يعني: الجزية ].
والسبب في أنهم عوقبوا بهذا: هو عصيانهم وعتوهم وعنادهم، ومخالفتهم لأنبيائهم.
والقبيل: هو العريف، أو رئيس اليهود الذي يأخذ الجزية من اليهود ويدفعها إلى المسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، وقتادة في قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقال الضحاك : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ ، قال: الذل وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم، وجعلهم تحت أقدام المسلمين، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية ].
قوله: تجبي منهم، أي: تؤخذ منهم الجزية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي : المسكنة: الفاقة، وقال عطية العوفي : الخراج، وقال الضحاك : الجزية.
وقوله تعالى: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قال الضحاك : استحقوا الغضب من الله، وقال الربيع بن أنس : فحدث عليهم غضب من الله، وقال سعيد بن جبير : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يقول: استوجبوا سخطاً.
وقال ابن جرير : يعني بقوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ انصرفوا ورجعوا، ولا يقال: باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر، يقال من: باء فلان بذنبه يبوء به بوءاً وبواء، ومنه قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني.
فمعنى الكلام: إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم من الله سخط.
وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61].
يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة، وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن اتباع الحق وكفرهم بآيات الله، وإهانتهم حملة الشرع، وهم الأنبياء وأتباعهم، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم، فلا كفر أعظم من هذا، إنهم كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياء الله بغير الحق؛ ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) ].
وبذلك فإنهم قد جمعوا الشرور كلها والعياذ بالله؛ فكفروا بالله، وقتلوا أنبياء الله، وتجاوزوا الحدود، وقد توعدهم الله بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22]، وهذا من أعظم الذنوب وأعظم الكفر، نسأل الله السلامة والعافية.
وقد وهم المصنف في قوله: في الحديث المتفق على صحته، وإنما أخرجه مسلم فحسب، وإن كان المصنف الحافظ ابن كثير له عناية بالسنة، لكن الوهم لا يسلم منه أحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا إسماعيل عن ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود : (كنت لا أحجب عن النجوى، ولا عن كذا ولا عن كذا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده
قوله: غمط الناس، أي: احتقارهم، ولذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، أذلك من الكبر؟ قال: لا، الكبر بطر الحق وغمط الناس)، أي: رد الحق، ودفعه، وعدم قبوله، وغمط الناس أي: احتقارهم وازدراءهم، والتعاظم عليهم والترفع عليهم.
أما كون الإنسان تكون ثيابه جميلة ونعله جميلة، وهو يقبل الحق ولا يرده، ولا يحتقر الناس فلا يضره ذاك.
وقد يفهم من الحديث الذي ذكره المصنف وعزاه إلى مسند الإمام أحمد: أن الرجل لا يحب أن يكون أحد أفضل منه في ثيابه وغيره، فإذا لم يكن من باب الترفع، وإنما من محبة الجمال، فلا يكره أن يساويه غيره، ولا يكون أحداً أعلى منه، فهذا لا بأس به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله، وقتلهم أنبياءه، أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاء وفاقاً.
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار ].
الظاهر أن سنده لا بأس به، لولا عنعنة الأعمش، أما إبراهيم فالظاهر أنه إبراهيم النخعي ، لكن في متنه غرابة، فكونه يجتمع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، فيقتلونهم من أول النهار ثم يفتحون البقلات من آخر النهار، وكأنهم لم يفعلوا شيئاً، ففيه غرابة، ويحتمل أن هذا مما أخذه ابن مسعود من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود ، لكن ابن مسعود قد يأخذ عن بني إسرائيل، فمما أخذه عن بني إسرائيل: القول باجتماع ثلاثمائة نبي في وقت واحد، وهذا بعيد، وقد عرف اجتماع نبيين أو ثلاثة في وقت واحد، كيحيى وزكريا وعيسى، ومثلهم داود وسليمان، وكذا إبراهيم ولوط، لكن القول باجتماع ثلاثمائة نبي بعيد، والأقرب أن هذا مما أخذه ابن مسعود رضي الله عنه من أخبار بني إسرائيل، وإن كان السند لا بأس به إلى ابن مسعود .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد، حدثنا أبان، حدثنا عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبياً وإمام ضلالة وممثل من الممثلين) ].
وهذا الحديث فيه وعيد شديد، إذ أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة من قتل نبياً والعياذ بالله، لأنه قد ارتكب جريمة عظيمة، إذ الأنبياء هم أفضل خلق الله، وهم الدعاة إلى الله والمبلغون عنه، ففي قتله لهم دليل على شدة عداوته وكفره، وكذلك من قتله نبي، فما كان النبي ليقتله إلا لشدة إيذائه، وكذلك إمام ضلالة، أي: الإمام الذي يدعو إلى الضلالة، ويشمل الأمراء والعلماء.
قوله: وممثل من الممثلين. المراد: مصور من المصورين، وليس المراد الممثل المعروف عصرياً، أي: الذي يحاكي غيره، فهؤلاء الثلاثة أعظم الناس عذاباً، وقد جاء في حديث آخر: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون)، وقال عليه السلام: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)، وعن إمام الضلالة جاء في حديث ثوبان : (أن النبي صلى الله عليه وسلم خافهم على أمته، فقال: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، وهم الأمراء والعلماء، ذكر الحديث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد، في باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، قال: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) وإمام الضلالة: الذي يدعو إلى ضلالة.
فهؤلاء الثلاثة من أشد الناس عذاباً: من قتل نبياً أو قتله نبي؛ وإمام ضلالة؛ وممثل وهو المصور، وهنا ننبه أن الذي يحاكي أفعال الناس آثم؛ لأن هذا من التزوير، وذاك تغيير خلق الله.
وجاء في مسند أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا عوف عن خلاس عن أبي هريرة : (اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله نبي، وقال
وفي الحديث الآخر: (إن أخنع اسم رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله).
وفيه أيضاً - أي مسند الإمام أحمد - حدثنا عبد الرزاق بن همام حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله)، ثم ساق نفس الإسناد وقال: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته) وذلك يوم أحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون، فالعصيان: فعل المناهي، والاعتداء: المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به. والله أعلم. ].
العصيان: فعل المحرمات، والعدوان: ترك الواجبات، وقد جمعوا بين الشرين: ففعلوا المحرمات، فتعدوا الحدود التي حدها الله وتركوا الواجبات، فعوقبوا بسبب ذلك، ومن عصيانهم قتلهم الأنبياء نعوذ بالله، وهذا من أعظم العصيان، وجحدهم توحيد الله؛ لأن من قتل نبياً فقد كفر؛ لأنه قد جحد توحيد الله؛ لأن من توحيد الله طاعة الأنبياء ومتابعتهم، فمن قتلهم فقد انتقض توحيده وإيمانه نعوذ بالله من ذلك.
فإن قيل: هل يجوز أن يتسمى الرجل بـ(قاضي القضاة)؟
الصواب ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه، واستدل بهذا الحديث على منع التسمي بذلك، لكن إذا قيل: قاضي القضاة في البلد الفلاني، كقاضي قضاة مصر، أو قاضي قضاة الرياض، زال المحذور للإضافة، وكذا حاكم الحكام، وسلطان السلاطين، وملك الملوك، كل هذا ينبغي المنع منه، وقريب مما سبق: عالم العلماء.
ويجدر التنبيه هنا على ما ورد في حق الممثل في الحديث السابق، والصواب أن الممثل متشبه، والتشبه منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهين من النساء بالرجال) فهو ملعون؛ لأنه يتشبه بالنساء في حركاته وفي صوته، وإن كان يمثل صنماً كان أعظم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه، وانتهك المحارم وما أحل بهم من النكال، نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة، كل من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
قال أبن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62] الآية).
وقال السدي : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا.. [البقرة:62] الآية، نزلت في أصحاب سلمان الفارسي : (بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنك ستبعث نبياً، فلما فرغ
فهذه الآية الكريمة عامة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من آمن وعمل صالحاً فهو ناجي من أي أمة من الأمم فهو ناج، سواء نزلت هذه الآية في سلمان أو في غيره: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، فكل من آمن وعمل صالحاً ووحد الله، واتبع النبي الذي أرسل إليه في زمانه فهو من الناجين، ومن لم يؤمن بالله وخالف النبي الذي بعث في زمانه إليه فهو هالك، وكل إنسان مطالب في كل وقت بالتوحيد والإيمان بالله واتباع النبي الذي أرسل إليه، حتى يأتي النبي الذي بعده، فإذا جاء النبي الذي بعده ولم يؤمن به كان هالكاً، فالناس مأمورون بالإيمان والتوحيد واتباع نوح في زمانه عليه الصلاة والسلام، حتى بعث الله هوداً، فصار الناس مطالبين بالتوحيد والإيمان بالله واتباع هود عليه الصلاة والسلام، حتى جاء صالح، وهكذا في زمن إبراهيم، وفي زمن موسى، وفي زمن عيسى، حتى بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فكانت بعثته عليه السلام عامة للثقلين الجن والإنس العرب والعجم، فمن لم يؤمن بالله ويتبع محمداً عليه الصلاة والسلام فهو من الهالكين، وهو من أهل النار، قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير نحو هذا، قلت: وهذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:62] الآية، قال: فأنزل الله بعد ذلك: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن بعثه بما بعثه به ].
والإسلام هو دين الله في الأرض والسماء، وهو دين الأنبياء جميعاً، ولهذا قال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] في أي مكان وفي أي زمان، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، والإسلام هو توحيد الله والإيمان به، وتعظيم الأوامر والنواهي، وطاعة كل نبي في زمانه، فالإسلام في زمن آدم توحيد الله، وطاعة آدم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن نوح توحيد الله وطاعة نوح فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن إبراهيم توحيد الله وطاعة إبراهيم فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن موسى توحيد الله وطاعة موسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام في زمن عيسى توحيد الله والإيمان به وطاعة عيسى فيما جاء به من الشريعة، والإسلام بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم توحيد الله واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الشريعة الخاتمة، فالإسلام بمعناه العام دين الأنبياء جميعاً وبمعناه الخاص ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى عليه السلام: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156] أي: تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض، وقيل: لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوارة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على...
إلى يهود أكبر أولاد يعقوب ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لأنهم يتهودون أي: يتحركون عند قراءة التوراة، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل إتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا كذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضاً، كما قال عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52].
وقيل إنهم إنما سموا بذلك؛ لأجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها: ناصرة، قاله قتادة وابن جريج ، وروي عن ابن عباس أيضاً، والله أعلم.
والنصارى جمع نصران، كنشاوى جمع نشوان، وسكارى جمع سكران، ويقال للمرأة: نصرانه، وقال الشاعر: نصرانة لم تُختَّفِ
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتماً للنبيين، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً،
وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم؛ ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية.
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم، فقال سفيان الثوري ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد، قال: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى، ليس لهم دين ].
هذا الإسناد فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه، وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، والسدي وأبو الشعثاء جابر بن زيد، والضحاك وإسحاق بن راهويه : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، ولهذا قال أبي حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتيبة، فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه كان يقول في الصابئين: إنهم كالمجوس، فقال الحكم: ألم أخبركم بذلك؟
وقال عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن عبد الكريم: سمعت الحسن يذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس، قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية، قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة، وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم مما يلي العراق وهو بكوثى، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم، ويصومون من كل سنة ثلاثين يوماً، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات.
وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده، وليست له شريعة يعمل بها، ولم يحدث كفراً.
وقال عبد الله بن وهب : قال عبد الرحمن بن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان، كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول: لا إله إلا الله، قال: ولم يؤمنوا برسول؛ فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: هؤلاء الصابئون، يشبهونهم بهم، يعني في قول: لا إله إلا الله.
وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام.
وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن نجيح أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نسائهم، قال القرطبي : والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون، ويعتقدون تأثير النجوم، وأنها فاعلة ].
قوله: (موحدون، وهم يعتقدون تأثير النجوم) باطل؛ لأنهم إذا كانوا يعتقدون فليسوا بموحدين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم، واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب، بمعنى: أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء، أو بمعنى: أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها، قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادًا عليهم ومبطلاً لقولهم.
وأظهر الأقوال، والله أعلم، قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ].
هذا اختيار المؤلف رحمه الله تعالى، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نقل عن ابن عباس: أنهم عباد الكواكب، وأنهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه السلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما أخبر الله عنه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:76-78] فيريهم ذلك إيهاماً عليه الصلاة والسلام؛ ليبين لهم أن ما هم عليه من عبادة الكواكب والنجوم باطل.
أما وجه الشبه من تسمية كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فهو بمعنى: خرج عن الدين الذي هم عليه، وأنهم ليسوا على دين من أديان الأنبياء؛ لأن الصابئ هو الذي خرج عن الدين الذي تدين به جماعته وقومه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك، وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي، والله أعلم].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر