قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، يقول: دينكم دين واحد.
وقال الحسن البصري : في هذه الآية بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] أي: سنتكم سنة واحدة، فقوله: إن هذه، إن واسمها، و(أمتكم): خبر إن، أي: هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم، وقوله: (أمة واحدة) نصب على الحال، ولهذا قال: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، كما قال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51] إلى قوله: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد) يعني: أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله، كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] ].
وأولاد العلات: هم الإخوة من الأب، (ديننا واحد وأمهاتنا شتى) الأب واحد، والأمهات متعددة، وهذا مثل الشرائع من الأوامر والنواهي والحلال والحرام فتختلف من شريعة إلى أخرى، أما الدين فواحد وهو توحيد الله، وكل الأنبياء بعثهم الله بالتوحيد فدينهم واحد، وكل الأنبياء يدعون إلى أصول الدين: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكل الأنبياء بعثوا بالتوحيد فأمرهم الله بتوحيده ونهاهم عن الشرك، وأمر الناس بطاعة الأنبياء وتعظيم الأوامر، فالدين واحد لكن الشرائع مختلفة، فمثلاً في شريعة يعقوب يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة التوراة يجب القصاص، وفي شريعة الإنجيل يجب العفو، وفي شريعتنا التي هي أكمل الشرائع يخير بين القصاص والدية والعفو، كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
فهؤلاء الإخوة من الأب يقال لهم إخوة علات، ولهذا قال: (أولاد علات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى) يعني: الشرائع، وأما الإخوة من الأم فيقال لهم: الأخيار، والأشقاء يقال لهم: أعيان، والإخوة من الأب أولاد علات.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله : وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:93] أي: اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب، ولهذا قال: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93] أي: يوم القيامة، فيجازي كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ولهذا قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الأنبياء:94] أي: قلبه مصدق وعمل عملاً صالحاً فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء:94] كقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف:30] أي: لا يكفر سعيه وهو عمله، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة، ولهذا قال: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94] أي: يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء ].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ يقول تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ [الأنبياء:95] قال ابن عباس : وجب.
يعني: قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد، وفي رواية عن ابن عباس : أنهم لا يرجعون أي: لا يتوبون، والقول الأول أظهر والله أعلم ].
هذا هو الصواب، أن يأجوج ومأجوج من بني آدم، فهما أمتان: أمة يقال لها يأجوج، والأمة الثانية يقال لها مأجوج، من الأجيج واللغط وكثرة الأخطاء، أمتان كافرتان وهما من أولاد يافث بن نوح، وأما ما جاء في الآثار أن آدم احتلم فاختلط منيه بالتراب فخلق الله منه يأجوج ومأجوج هذا لا يصح. فذو القرنين بنى السد بينهم وبين الناس، فمن كان خارج السد سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وذلك لأن ذا القرنين طاف المشارق والمغارب -وهو ملك عادل صالح- ولما مر بهم طلبوا منه أن يبني سداً بينهم وبين يأجوج ومأجوج؛ لأنهم أفسدوا في الأرض، قال تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] فبنى السد وترك أناساً سموا الترك؛ لأنهم تركوا خارج السد، وسيخرجون في آخر الزمان، وخروجهم يكون من أشراط الساعة الكبار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف:98-99] الآية، وقال في هذه الآية الكريمة: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96] أي: يسرعون في المشي إلى الفساد، والحدب: هو المرتفع من الأرض، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم ].
يخرجون من كل حدب أي: من كل مرتفع، ينسلون: يسرعون من أجل الفساد، فهم طبعوا على الفساد والعياذ بالله، ولهذا لما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يقول: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث النار، فيقول: يا رب من كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فشق ذلك على الصحابة، فقال: أبشروا فإن منكم واحد ومن يأجوج ومأجوج ألف).
فهماً أمتان كافرتان عددهم كثير، إذا خرجوا فهذا وصفهم: من كل حدب ينسلون أي: من كل مرتفع يسرعون بالمشي لأجل الفساد، ولهذا يتحصن منهم عيسى عليه الصلاة والسلام -لأنهم سيخرجون في زمن عيسى بعدما ينزل- فيوحي الله إليه: أن حرز عبادي إلى الطور، فيتحصنون بجبل الطور، ثم يدعون عليهم فيهلكهم الله في ليلة واحدة؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ويكونون كالتلال بعضهم فوق بعض، ثم يأمر الله طيراً فتأتي تأخذهم وتلقيهم في البحر، ثم ينزل الله مطراً ليغسل الأرض، وهذا من حكمة الله؛ لأنهم لو بقوا لأنتنت الأرض وهلك الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذه صفة في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]، هذا إخبار عالم ما كان وما يكون، الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون، فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية.
فالحديث الأول: قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عز وجل: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، فيغشون الناس، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء قال: ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه فينظر ما فعل هذا العدو؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم؛ فيخرجون من مدائنهم وحصونهم يسرحون مواشيهم فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط) رواه ابن ماجة من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق به ].
الحديث صححه الألباني ، وقال الترمذي : حديث حسن غريب، بعضه في مسلم ، وقال البكيري : في زوائد هذا إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وبعضه له شواهد عند مسلم فكونهم يشربون الماء ثم يقولون لقد كان ههنا ماء، هذا جاء في مسلم ، أيضاً كونهم يرسلون حربتهم فترجع مخضبة بالدماء هذا في مسلم ، وكذلك قوله: فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، وأما كونه ترعى المواشي لحومهم هذا فيه نظر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الحديث الثاني: قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص حدثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما روحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فسألناه فقلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب جعد قطط عينه طافية، وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق..) ].
هنا ذكر عينه طافية، وفي اللفظ الآخر: عينه اليمنى طافية، وفي اللفظ الآخر: (مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن)، وفي لفظ: (ك ف ر يقرؤه كل مؤمن)، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده أن جعل لهم علامة، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال بياناً شافياً حتى يحذره المؤمنون، وهو خارج من الخلة يعني: وسط بين الشام والعراق من جهة الشرق، كذلك فتن كثيرة تأتي من جهة الشرق فالجهمية والمبتدعة، والدجال كلهم يخرجون من جهة الشرق بين الشام والعراق.
وهذا من الابتلاء والامتحان، وقد سمي الدجال؛ لأن فيه صفة مبالغة من الدجل والكذب، وهو الدجال الأخرص، يدعي أولاً الصلاح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية والعياذ بالله! وأعطاه الله هذه الخوارق العظيمة، بأن يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويأتي إلى القوم فيدعوهم؛ فمن استجاب له كثر ماله وسرحتهم من الإبل والغنم ترجع وقد امتلأت ضروعها باللبن، ويأتي القوم فيردون عليه دعوته فيصبحون ممحلين ابتلاءً وامتحاناً، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، قال: ويأمر برجل فيقتل فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض..) ].
وهذا كله من الابتلاء والامتحان، حيث إنه يأمر بالخربة فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ويقطع الرجل نصفين ويمشي بين القطعتين ثم يقول له: قم فيستوي قائماً ولا يسلط إلا عليه، فيقول له: هل عرفت الآن؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة كما جاء في الحديث الآخر، قال النبي: (فذلك أعظم الناس ثابتاً عند رب العالمين)، يسلط على هذا الإنسان ولا يسلط على غيره، وهذا ابتلاء وامتحان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ثم يدعوه فيقبل إليه يتهلل وجهه فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي..) ].
هذا في الشام وكان اسمه: باب لد فيدركه فيقتله، فمسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة، إذا خرج الدجال نزل عيسى عليه السلام ليقتله، وفي اللفظ الآخر: إن الدجال إذا رأى عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيطلبه فيقتله عليه الصلاة والسلام، وعيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، وهو حي الآن في السماء رفعه الله، وسينزل في آخر الزمان فيحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية، وهو أفضل هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ثم يليه أبو بكر الصديق في الفضل، فـالصديق أفضل الناس بعد الأنبياء وعيسى أفضل هذه الأمة؛ لأنه نبي ومن أفراد هذه الأمة، فسيعيش ويحكم بهذه الشريعة ثم يتوفاه الله بالموت الذي كتب الله عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (قال: فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور..) ].
وفي لفظ لـمسلم (حرز)، وقوله: (عباداً لي) المراد به العبودية العامة، فكل الناس عبيد لله يعني: معبدون مذللون، والعبادة نوعان: عبادة عامة، وعبادة خاصة، فهؤلاء عباد لله معبدون مذللون، أما العبودية الخاصة فكما في قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6]، فالأبرار عباد الله؛ لأنهم عبدوا الله باختيارهم، أما يأجوج ومأجوج ما عبدوا الله، فهم مشركون كفرة وهم عباد لله العبودية العامة وقوله: (لا يدان لأحد) أي: لا قدرة، ولا طاقة لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور؛ لأن هؤلاء كفرة لا استطاعة ولا قدرة لك على قتالهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج كما قال الله: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]) ].
وهذا هو الشاهد من الآية في قصة يأجوج ومأجوج، وهو قوله تعالى: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل الله عليهم نغفاً في رقابهم؛ فيصبحون موتى خرسا كموت نفس واحدة..)].
والنغف: دود في رقابهم تقتلهم، فيصبحون موتى كنفس واحدة، وهذا بسبب دعاء نبي الله عيسى ومن معه من المؤمنين عليهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله) ].
قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال: فتطرحهم بالمهبل قال ابن جابر : فقلت: يا أبا يزيد أين المهيل؟ قال: مطلع الشمس، قال: ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ويقال للأرض: أنبتي ثمرك، ودري بركتك قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها ويبارك في الرسل ].
ويبارك في الرسل يعني: المواشي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (ويبارك بالرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) ].
والفئام: الجماعة الكثيرة، فاللقحة من الإبل تروي بلبنها الجماعة الكثيرة من الناس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (واللقحة من البقر تكفي الفخذ) ].
والفخذ: جماعة من الناس أقل من الفئام.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (والشاة من الغنم تكفي أهل البيت) ].
إذا كان أهل البيت تسع عشرة فتكفيهم شاة، والبقرة تكفي الفئام من الناس وهي عدة أبيات، واللقحة من الإبل تكفي الفئام والجماعات الكثيرة من الناس بالبركة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم -أو قال: كل مؤمن- ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة) ].
نسأل الله السلامة والعافية! وهذا في آخر الزمان يكون من أشراط الساعة، تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الكفرة يتهارجون تهارج الحمر، أي: يتناكحون في الأسواق كالحمر والعياذ بالله لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ويتمثل لهم الشيطان كما في الحديث الآخر فيقول: ألا تستجيبون لي؟! فيأمرهم بعبادة الأوثان، فيعبدون الأوثان وهم بذلك حسن لبسهم بار عيشهم، فعليهم تقوم الساعة، فالساعة لا تقوم إلا على الكفرة، والمؤمنون قد قبضت أرواحهم ريح طيبة وجاء في حديث آخر: (إنها تأتي من جهة اليمن)، وفي اللفظ الآخر: (حتى لو كان أحدهم في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبض روحه)، ما يبقى أحد من المؤمنين فلا يبقى إلا الكفرة فعليهم تقوم الساعة، فتكور الشمس، وتنشق السماء، وإنما خرابها بزوال التوحيد والإيمان، فإذا زال التوحيد والإيمان من هذه الأرض خربت وقامت القيامة، ولا تقوم القيامة وفي الأرض من يقول: الله الله، كما في الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به، وقال الترمذي : حسن صحيح ].
وهو حديث عظيم فيه فوائد عظيمة.
قال المؤلف: رحمه الله تعالى: [ الحديث الثالث: قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة عن خالته قالت: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب فقال: إنكم تقولون لا عدو لكم وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشغاف) ].
هذا وصفهم أنهم عراض الوجوه، صغار الأعين كما هو موجود الآن، يوجد هذا في جهة الشرق الأتراك والفلبين وغيرهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ (صهب الشغاف: مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96] كأن وجوههم المجان المطرقة) ].
صهب الشغاف: صهب الشعور وهي الشقرة، وفي رواية أحمد (الشعاف).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ( مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96] كأن وجوههم المجان المطرقة). وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي عن خالة له عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره مثله سواء ].
فذكر مثله سواء إذا وقفت فقل سواءً، ولا تقل: سواءْ بالتسكين، مثل قوله تعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113] وبعض القراء يقرأ: لَيْسُوا سَوَاء [آل عمران:113] فيسكن وهذا خطأ، بل إذا وقفت فقل: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] وإذا وصلت تقول: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [آل عمران:113].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الحديث الرابع: قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم عن العوام عن جبلة بن سحيم عن مرثد بن عمارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، قال: فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله) ].
وجبتها أي: قيامها كما قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف:187].
يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف:187].
وقال: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187].
وفي حديث جبرائيل لما سأله عن الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فوجبتها بمعنى: متى تقوم، وهذه لا يعلمها إلا الله على أن الله تعالى جعل لها أمارات وعلامات.
والمعنى: أن الساعة قريبة مثل الحامل التي تمت مدتها فلا يدري أهلها متى تلد ليلاً أو نهاراً، فكذلك الساعة إذا جاءت أشراطها فهي قريبة.
وجاء في الزوائد: هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات ومرثد بن عمارة ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الحاكم : صحيح الإسناد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ورواه ابن ماجة عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به نحوه. وزاد قال العوام : ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96].
ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جداً ].
وجاء في الحديث أن الكافر يختبئ وراء الشجر والحجر، وجاء في الحديث الآخر: أن هذا القتال يكون بعد نزول عيسى، وبعد قتل الدجال، فيقاتل المسلمون اليهود ويسلطون عليهم، ويقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى يختبئ اليهود وراء الشجر والحجر فيتكلم الشجر والحجر فيقول: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا شجر الغرقد فلا يتكلم فإنه من شجر اليهود، وهذه بشارة، بشارة بانتصار هذا الدين وأن اليهود سوف يُقتلون قتلاً ذريعاً بيد المؤمنين، ويتكلم الشجر والحجر إلا شجر اليهود فلا يتكلم، والغرقد من شجر اليهود.
وفي نسخة أبو الضيف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: قال كعب رضي الله عنه: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج، فيعيده الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فئوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه، فيحفرون حتى يخرجوا، فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة، فيشربون ماءها ].
الزمرة الأولى بمعنى: الجماعة الأولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون: قد كان هاهنا مرة ماء، فيفر الناس ].
أي: يبست البحيرة فالأولى: شربت الماء والثانية: لحسوا الطين، والثالثة: ما وجدت الماء فقالت: قد كانت مليئة يوماً بالماء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيفر الناس منهم، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء ].
وهذا ابتلاء وامتحان.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء، فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام، فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم، فاكفناهم بما شئت، فيسلط الله عليهم دوداً يقال له: النغف فيفرس رقابهم ].
وفي نسخة: فيفرش.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر، ويبعث الله عيناً يقال لها: الحياة يطهر الله الأرض وينبتها، حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن ].
المقصود بالسكن ساكن البيت.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن. قيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن السويقتين يريده ].
والمراد بأتاهم الصريخ أي: المنذر، المحذر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قال: فيبعث عيسى بن مريم طليعة سبعمائة، أو بين السبعمائة والثمانمائة، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحاً يمانية طيبة، فيقبض فيها روح كل مؤمن، ثم يبقى عجاج الناس، فيتسافدون كما تتسافد البهائم ].
يتسافدون المقصود به النكاح، فيتناكحون في الشوارع كالبهائم لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً نعوذ بالله، وهذا من كعب الأحبار والبعض جعله من الأحاديث الصحيحة، وهو من كلام كعب لكن له شواهد منها في صحيح مسلم وغيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع قال كعب : فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف ].
ومعنى قول كعب أي: من زاد شيئاً لم أقله فهو متكلف، إذ لم يرد علم به.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار ].
وصدق رحمه الله فهذا من أحسن ما روى كعب الأحبار لأن له شواهد في الأحاديث الصحيحة في مسلم وفي غيره، فإن كعب الأحبار رحمه الله من بني إسرائيل الذين أسلموا من التابعين ويروي الغث والسمين، لكن هذا من أحسن سياقاته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقد ثبت في الحديث أن عيسى بن مريم يحج البيت العتيق ].
بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام يحج الناس البيت؛ لأن الدجال وعيسى من علامات الساعة الكبرى وهي المتقدمة ويعقبها الأشراط المتأخرة كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة والنار وهذه آخرها، وقد ترتب على هذا النحو، أولها: المهدي، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى بن مريم، ثم خروج يأجوج ومأجوج، فهذه أربع متوالية وهي أول الأشراط، ثم هناك بقية الأشراط العشرة، فعيسى عليه الصلاة والسلام من أشراط الساعة المتقدمة الكبرى، ولهذا يحج عيسى بالناس آمنين ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقام هذا الدين، فيحج الناس ويصلون ويصومون ثم بعد ذلك تأتي أشراط الساعة الأخرى كهدم الكعبة ونزع القرآن من الصدور والدخان، وطلوع الشمس من مغربها والدابة، وآخرها النار التي تخرج من قعر عدن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج)، انفرد بإخراجه البخاري .
وقوله: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء:97] يعني: يوم القيامة، إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل، أزفت الساعة واقتربت، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون: هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر:8]ولهذا قال تعالى: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:97] أي: من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام: يَا وَيْلَنَا [الأنبياء:97] أي: يقولون: يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الأنبياء:97] أي: في الدنيا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:97]، يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك ].
وكذلك في النار يعترفون، قال الله عنهم: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] لأن الأوان قد فات نسأل الله السلامة والعافية. وأن يرزقنا الاستقامة واليقظة والإعتبار، وأن يعيذنا من الغفلة والإعراض، وأن يثبتنا على دينه القويم.
وقد يسأل سائل فيقول: كيف نوفق بين قول الله تعالى: أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] وبين أنه: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله)؟
والحقيقة أنه لا منافاة بينهما فالأرض يرثها عباد الله الصالحون، حتى ينتهي عباد الله الصالحون بالموت بالريح التي تقبضهم، ثم بعد ذلك تقوم الساعة على شرار الخلق، كما أنهم إنما يرثون الأرض قبل آخر الزمان، وقبل أشراط الساعة الكبرى، ومما يدل على ذلك أن عيسى ومن معه من المؤمنين ورثوا الأرض، فصار الباقين حتى جاءت الريح الطيبة، وقبضتهم وانتهت الأرض، وانتهوا منها ولم يبق في الأرض أحد منهم فتقوم الساعة، أما ما دام في الأرض مؤمنون وكفار فالعاقبة للمتقين، وإذا قبضت أرواح المؤمنين بقي الكفرة فقامت عليهم القيامة، وهنا يعلم أن لا منافاة، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر