الصراط صراطان: صراط حسي، وصراط معنوي، فالصراط المعنوي هو الحق والعلم النافع والعمل الصالح، فمن استقام على هذا الطريق المعنوي في الدنيا جاز على الصراط الحسي يوم القيامة، وهو الصراط الذي ينصب على ظهر جهنم، ومن انحرف عن هذا الصراط المعنوي في الدنيا، ومال عن الحق فإنه ينحرف عن الصراط الحسي يوم القيامة، ولا يستطيع أن يجوزه بل يسقط في النار، فالواجب على المسلم أن يطلب الحق بدليله، وأن يعلم الحق ويعمل به، ويسأل الله الثبات عليه، ويتبرأ إلى الله من طريق المغضوب عليهم والضالين، ويبذل الجهد في تعلم العلم الشرعي، ثم يجاهد نفسه على العمل به، حتى يكون من أهل الصراط المستقيم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وهذه سورة عظيمة اشتملت على إثبات توحيد الله بأنواعه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، واشتملت على تقسيم الناس إلى طوائف ثلاث: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون.
واشتملت أيضاً على تعليم العباد، وأمرهم بالثناء على الله وتمجيده، ثم الدعاء بعد ذلك.
واشتملت على الرد على أهل البدع جميعاً كالقدرية والاتحادية وغيرهما.
واشتملت على إثبات الجزاء والحساب، والبعث والنشور، حتى قال العلامة ابن تيمية رحمه الله في الفاتحة: فيها الرد على جميع أهل الفرق، ليس هناك فرقة من الفرق المخالفة للحق إلا وفي الفاتحة رد عليها، وهذا كلام صحيح، فمثلاً فيها رد على الاتحادية والملاحدة الذين يقولون: الخالق والمخلوق شيء واحد، فإن هذه السورة العظيمة فيها إثبات رب ومربوب، ومالك ومملوك، وعبد ومعبود، وراحم ومرحوم، ومنعم ومنعم عليه، وضال ومضل وهكذا، وهذا رد على الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر الناس، ومذهبهم منتشر في كثير من البلاد، ولهم مؤلفات، وهناك من يدافع عنهم، ويحقق مؤلفاتهم، ويقول: إنهم عارفون بالله، ومؤلفاتهم تحقق في مصر وفي غيرها، وتطبع وتنشر، وهم يحذون حذو ابن عربي الملحد، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله: [ واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون.
وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره، كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].
وقال: منْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف:186]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم، من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلونه، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي].
إن أهل الغي والضلال يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم، وأما أهل الحق فإنهم يأخذون بالمحكم ويردون المتشابه إليه فيفسرونه به فيتضح المعنى.
فالقدرية يقولون: إن العبد هو الذي اختار الضلال لنفسه، وهو الذي اختار الهداية لنفسه، وينكرون أن يكون الله هو الذي يهدي ويضل، ويفسرون قوله: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:142] أي: يسميه مهتدياً، (ويضل من يشاء) أي: يسميه ضالاً، وفسروا الهداية والإضلال بمعنى البيان، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى هو الهادي وهو المضل، والعبد هو المهتدي وهو الضال، فالهداية لابد فيها من أمرين:
الأمر الأول: الهداية من الله بأن يهدي الله العبد.
والثاني: اهتداء العبد بأن يهديه الله، فيكون مهتدياً.
وكذلك الإضلال فلا بد فيه من أمرين:
الإضلال من الله، وضلال العبد، فيكون ضالاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد ورد في الحديث الصحيح: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)، يعني: في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، فليس -بحمد الله- لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لأنه من عند الله (تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين مثل: يس، ويقال: أمين بالقصر أيضاً، ومعناه: اللهم استجب ].
آمين فيها ثلاث لغات: آمين بالمد، وأمين بالقصر، وآمّين بتشديد الميم، ومعناها: اللهم استجب، ومستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول آمين في الصلاة وفي خارجها، وآمين ليست من الفاتحة، وأمين على وزن يمين.
ولـأبي داود : (رفع بها صوته)، وقال الترمذي : هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول) رواه أبو داود وابن ماجه ، وزاد فيه: (فيرتج بها المسجد)، والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن.
وعن بلال أنه قال: (يا رسول الله! لا تسبقني بآمين). رواه أبو داود ].
التأمين مختص بهذه الأمة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (أن اليهود حسدتنا على ثلاث: الجمعة التي وفقنا الله لها وضلوا عنها، وقولنا خلف الإمام آمين..) فآمين من خصائص هذه الأمة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل: آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2] ].
وهذه لغة.
قيل: بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل: في الإجابة، وقيل: في صفة الإخلاص ].
المراد بقوله: (أصحابنا): هم الشافعية أصحاب الإمام الشافعي ؛ لأنه كان شافعياً رحمه الله تعالى.
والصواب أن من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، أي: في نفس الوقت غفر له، والتأمين يكون بعد قوله تعالى: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
وأما من يسابق الإمام بالتأمين بعدما ينتهي من قوله تعالى: وَلا الضَّالِّينَ فلا يعتبر من المسابقة في الصلاة، وهذا لا بأس به؛ لأنه أتى بالتأمين في محله.
وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قلت: يا رسول الله، ما معنى آمين؟ قال: رب افعل) ].
وهذا ضعيف؛ لأن جويبراً هذا ليس بشيء، ومعنى رب افعل: اللهم استجب.
قال المؤلف رحمه الله: [ وقال الجوهري : معنى آمين: كذلك فليكن، وقال الترمذي : معناه: لا تخيب رجاءنا، وقال الأكثرون: معناه اللهم استجب لنا ].
الصواب أن معنى آمين: اللهم استجب.
هلال بن يساف ويقال فيه: إساف ، والقول بأن آمين اسم من أسماء الله تعالى باطل ليس بصحيح.
ظاهر كلام الألباني أنه لا يؤمن المأموم حتى يؤمن الإمام، ومذهب المالكية أنه لا يؤمن الإمام مطلقاً، وإنما التأمين خاص بالمأموم.
أي: أن التأمين خاص بالمأموم، وأما الإمام فلا يؤمن، فتكون القراءة من الإمام والتأمين من المأموم، وهذا ضعيف، والصواب أن التأمين مشروع في حق الإمام والمأموم والمنفرد، لحديث: (إذا أمن الإمام فأمنوا)، وكذلك: (فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد قدمنا في المتفق عليه: (إذا أمن الإمام فأمنوا)، (وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7]) ].
وأما دعاء موسى فإنه في غير الفاتحة، وعدم التأمين في الفاتحة فيه نقص.
والقديم أنه يجهر به، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والرواية الأخرى عن مالك فيما تقدم: (حتى يرتج المسجد) ].
الصواب أن الإمام والمأموم يجهران بالتأمين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولنا قول آخر ثالث: أنه إن كان المسجد صغيراً لم يجهر المأموم؛ لأنهم يسمعون قراءة الإمام، وإن كان كبيراً جهر ليبلغ التأمين من في أرجاء المسجد، والله أعلم. ].
وهذا ضعيف، والصواب أنه يشرع الجهر بالتأمين سواء كان المسجد صغيراً أو كبيراً؛ لعموم النصوص.
ورواه ابن ماجه ولفظه: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين، فأكثروا من قول آمين)، وفي إسناده طلحة بن عمرو وهو ضعيف.
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آمين: خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين).
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فاختموا الدعاء بآمين، فإن الله يستجيبه لكم).
قلت: ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:88-89] ].
الشيخ: موسى عليه السلام كان يدعو وهارون يؤمن، فجعلهما الله تعالى داعيين، فقال: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89] فاستدل بهذا جمهور العلماء على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية.
هذا قول الجمهور.
والقول الثاني لأهل العلم: أن الفاتحة مستثاة وأنه لابد للإمام والمأموم والمنفرد من قراءتها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم، قالوا: نعم يا رسول الله قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)، وتكون مستثناة من قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] وهذا بإجماع العلماء كما قال الإمام أحمد على أنها في الصلاة، وفي الحديث: (وإذا قرأ فأنصتوا)، فيكون خصص من هذا العموم قراءة الفاتحة فهي مستثناة كما في القول الثاني.
هذا الحديث حجة للأحناف على أن المأموم لا يقرأ الفاتحة لا في السرية ولا في الجهرية، لكن هذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه مجاهيل وضعفاء، وعجيب أن الحافظ ابن حجر رحمه الله ما تكلم على هذا الحديث مع أن فيه ضعفاء ومجاهيل، ولو صح هذا الحديث فإن هذه المسألة ليس فيها خلاف.
والراجح أن المأموم يقرأ الفاتحة في الصلاة الجهرية لحديث: (لعلكم تقرءون خلف إمامكم) ثم قال: (فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) وهذا الحديث لا بأس به كما ذكر الحافظ ابن حجر .
قال المؤلف رحمه الله: [ ولهذا قال ابن مردويه :
حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام ].
سلام الأصل فيه أنه بالتشديد إلا في موضعين: عبد الله بن سلام الصحابي الإسرائيلي المعروف، ومحمد بن سلام شيخ البخاري فالأرجح فيهما أنهما بالتخفيف.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فوافق آمينُ أهل الأرض آمينَ أهل السماء)، فآمين الأولى فاعل والثانية مفعول به.
وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر