اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكرنا في الحديث السابق مناسك الحج وبلغنا إلى رمي الجمرات.
ففي يوم النحر يرمي الحاج جمرة العقبة الكبرى فقط، ويتحلل بها التحلل الأول، ويسمى: التحلل الأصغر، وبعد أن يرمي الجمرة ينحر هديه، ويحلق شعره، ثم يطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها، ويرمي الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى، وهي: اليوم الثاني والثالث إن تعجل، وإن بات اليوم الرابع من أيام العيد ولم يتعجل فيرمي الجمرات كذلك.
فإذا رجع إلى منى صلى بها الظهر، ثم يقيم في منى لرمي أيام التشريق ومبيت لياليها، ومع الزحام الشديد الموجود الآن قد يصعب الوصول إلى مكة ليطوف ويسعى، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، ولكن إذا تيسر له فعل، وإذا لم يتيسر صلى الظهر بمكة، والمهم هو المبيت في منى؛ لأن ليالي منى هي الواجبة، أما الأيام فمن الممكن أن يخرج يومياً ويطوف بالبيت ثم يرجع إلى منى، ففي النهار لا يجب عليه الإقامة بمنى، ولكن يسن له ذلك، والواجب هو المبيت بالليل.
واليوم الأول من أيام التشريق يسمى يوم القر، وهو مأخوذ من القرار بالمكان؛ لأنهم قارُّون بمنى.
واليوم الثاني من أيام التشريق هو يوم النفر الأول.
وأيام العيد أربعة: اليوم الأول: يوم النحر، وقد انتهى الكلام عليه، والحجاج في فجر هذا اليوم يصلون في مزدلفة، وبعد ذلك يقفون عند المشعر الحرام بعد صلاة الفجر حتى اصفرار الشمس قبل طلوعها، ثم يتوجهون إلى منى، وفي منى يرمون جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم ينحرون، ثم يحلقون، ثم يتوجهون إلى البيت ويطوفون طواف الإفاضة، ويسعى من كان عليه سعي، ثم يرجعون بعد ذلك إلى منى، وتكون الأيام الآتية:
يوم النحر: انتهت مناسكه.
اليوم الثاني: يوم القر.
اليوم الثالث من أيام العيد واسمه: يوم النفر الأول.
اليوم الرابع من أيام العيد واسمه: يوم النفر الثاني.
وفي يوم القر وهو الثاني من أيام العيد لابد للجميع أن يمكث هناك، ولا يجوز لأحد أن ينفر من منى وينهي المناسك بذلك، وإنما اليوم الثالث هو الذي يجوز لهم أن ينفروا فيه من منى ويتعجلون.
والجمرة التالية يتقدم نحوها باتجاه مكة، وهي الجمرة الوسطى، ثم بعدها الجمرة الكبرى، وهي أقرب الجمرات إلى مكة.
فيأتي الجمرة الأولى حتى يكون ما عن يساره أقل مما عن يمينه، إذاً: هو متوجه إلى الجمرة، والجمرة أمامه، واتجاهه يكون للقبلة وهو يرمي الجمرة الأولى.
وموقف النبي صلى الله عليه وسلم كان ما عن يساره أقل مما عن يمينه، فلو فرضنا أن مكان الجمرة محدود بطرفين عن اليمين وعن اليسار فكأنه أقرب لليسار قليلاً، ويرمي الجمرة وهو متوجه للقبلة من أي مكان، المهم أن يرميها سواء من الدور الأرضي، أو من فوق الكوبري، أو من أي مكان رماها فكله جائز، ولكن الأفضل هو موقف النبي صلى الله عليه وسلم لمن استطاع.
إذاً: الجمرة الأولى يكون أقرب لليسار منه إلى اليمين، ووجهه للقبلة، ثم يرمي الجمرة بسبع حصيات يقول مع كل حصاة: الله أكبر ويرمي.
ثم يتقدم عنها وينحرف قليلاً ويجعلها خلفه، ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى به، فيستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخضوع الجوارح، ويمكث قدر سورة البقرة -هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم- يدعو ما استطاع، لكن مع الزحام الشديد أحياناً تدفع الناس بعضها بعضاً، ولا يستطيع أن يقف، فإذا استطاع أن يقف ويدعو فترة طويلة فهذا حسن.
وإذا كان وقوفه سيضيق على الناس المرور فلا يقف، والمكان قد يموت فيه أناس ويسقط فيه أناس، فلا يضيق عليهم، وفي هذا المكان كثيراً ما يحصل الزحام ووقوع وموت بعض الناس بسبب أخطاء يفعلها الحجاج.
ومن أخطائهم: الكسل، فتجد الرجل يرجع للخيمة من أجل أن يأخذ ما سيذهب به إلى مكة، ويأخذ معه البطانية وحقائبه، ويمشي بها في الزحام، ثم مع الزحام لا يقدر أن يشد حقيبته ويعرقل من وراءه، وإذا سقط أحد لا يقدر أن يقف بسبب الزحام الشديد، والذي يقع يداس بالأرجل، ولذلك إذا كنت سترمي الجمرة فلا تأخذ معك أكثر من حصياتك التي سترميها، ولا تضايق أحداً بها، حتى لو سقط حذاؤك فلا تتعب نفسك لتأخذه، فقد لا تستطيع الوقوف.
ومن أخطاء الحجاج أنه إذا ضاع نعله يدفع يميناً وشمالاً يريد أن ينزل ليأخذه، ثم يعرقل الذي وراءه ويؤذي الحجاج.
فلابد أن يكون الإنسان رفيقاً بالناس رحيماً، ولا يؤذي من معه بالأمتعة في هذا المكان، إذ المكان ليس مكان حمل أمتعة، وإذا رميت فارجع وخذ حاجاتك التي سوف توصلها إلى مكة إذا كان لك حاجات تذهب بها إلى هناك.
وبعدما وقف ودعا سيتقدم للجمرة الثانية، وهي الجمرة الوسطى، ويصنع فيها كما صنع في الأولى، ويقف للدعاء كما وقف في الأولى، ويتركها عن يمينه ويتقدم قليلاً منقطعاً عن أن يصيبه الحصى، ثم إذا رماها أيضاً وهو متوجه إلى القبلة سيتركها عن يمينه؛ لأن موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجمرة الكبرى كان على اليسار، وسيكون الطريق أسهل ليتقدم حتى يصل إلى الجمرة الثالثة بعد ذلك.
ثم يأتي الجمرة الثالثة، وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر، فيرميها من بطن الوادي ولا يقف عندها للذكر، ويجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه.
إذاً: كل جمرة يرميها مستقبلاً للقبلة، إلا الثالثة فلا يستقبل فيها القبلة، ولو استقبلت القبلة وأنت في الدور الأرضي من أجل أن ترميها سيكون أمامك السور وليس نفس المرمى؛ لأن كل جمرة عبارة عن دائرة، والجمرة الكبرى نصف دائرة مؤخرها سور، فلو وقفت تحت ورميتها وأنت مستقبل القبلة فلن تصل إليها، فلا بد أن تكون إما أمامها وظهرك للقبلة، وإما عن يمينها أو شمالها، فموقف النبي صلى الله عليه وسلم كان على اليسار، وكانت مكة عن يساره صلى الله عليه وسلم، ومنى عن يمينه يستقبلها ويرميها من بطن الوادي صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد رمي الجمرة الثالثة لا يوجد دعاء، لكن في الجمرة الأولى وقف ودعا دعاء طويلاً، وكذلك الجمرة الثانية بعدما رمى وقف ودعا دعاء طويلاً.
جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا -أي: القريبة- بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم حتى يسهل -أي: ينزل في السهل- فيكون مستقبلاً القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبلاً القبلة، فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف، ويقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل).
هذه الكيفية التي ذكرناها في الرمي: أن الجمرة الأولى يجعلها عن يمينه أكثر مما هي عن يساره ويرمي، ثم يتقدم قليلاً ويقف ويدعو، ثم يتقدم إلى الثانية ويفعل مثلما فعل في الأولى، ثم يتقدم عن الشمال إلى الثالثة ويقف، ويجعل جانبه الأيسر إلى مكة وجانبه الأيمن إلى منى، ويرمي تلقاء وجهه.
هذا كله من السنة، لكن الفرض الذي فيه هو رمي كل واحدة بسبع حصيات، وأن يرتبها، فيبدأ بالأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة.
كما أن الدعاء والذكر وغيرهما مما زاد على أصل الرمي هو مستحب، فإذا رمى الأولى ثم انطلق إلى الثانية ولم يدع أو دعا قليلاً فقد ترك الفضيلة ولا شيء عليه.
عليه أن يرمي في المرمى سواء كان بحذائه أو فوقه أو في الطوابق العليا قريباً منه أو بعيداً، والشرط أن تقع الحصيات في المرمى، وليحذر الحاج من إيذاء أحد في رميه.
في اليوم التالي من أيام التشريق -ثالث أيام العيد وهو يوم النفر الأول- سيفعل كما فعل بالأمس، إذاً كان المبيت فرضاً عليه يبيت في منى أغلب الليل، أو النصف الثاني من الليل، فإذا بات في منى حتى أصبح سينتظر حتى وقت صلاة الظهر ليرمي بعد الزوال.
وفي ثالث أيام التشريق -وهو رابع أيام العيد- يفعل كذلك، ولا يكون الرمي إلا بعد الزوال، أي: وقت صلاة الظهر، فإذا زالت الشمس يرمي الجمرات، ووقتها يمتد إلى الفجر الثاني من تلك الليلة، والوقت المستحب ينتهي قبل غروب الشمس، ويجوز الرمي إلى بعد الغروب حتى الفجر، فقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (رميت بعدما أمسيت، قال: لا حرج)، إذاً: الأمر مفتوح أمامه، وبحسب الزحام الشديد يختار الوقت الذي ليس فيه زحام ليرمي فيه الجمرات، فوقتها إلى الفجر الثاني من تلك الليلة، إلا آخر أيام التشريق وهو آخر أيام العيد، فإن الرمي سيكون فيه حتى غروب الشمس فقط، وبعد غروب الشمس لا يوجد رمي.
يشترط في الرمي الترتيب بين الجمرات: فيبتدئ من الجمرة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ولو بدأ بالثانية فلا تحسب ويرجع ليرمي الأولى، ويشترط وقته على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن ترك الوقوف عندها والدعاء ترك السنة ولا شيء عليه.
والخمس حصيات واجبة؛ لأن الصحابة قالوا: ست أو سبع وما عاب أحد على أحد، إذاً: أقل من ذلك يعاب على فاعله فإذا استدرك ورماها فقد فعل ما عليه، وإذا لم يستدرك ذلك فبحسب عدد الحصيات التي تركها جزء من الدم، كما سنفصل في ذلك.
إذاً: إذا أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى؛ فإن لم يدر من أي الجمار تركها بنى على اليقين، أي: لو أنه انتهى من الرمي وقال: الجمرة الثانية رميتها بست حصيات فقط، فلا شيء عليه؛ لأن الصحابة فعلوا ذلك ولم ينكر بعضهم على بعض، ولكن لو أنه رمى بأربع حصيات فقط فقد أخل بالواجب الذي عليه، ويرجع إلى الجمرة الثانية ويكمل الباقي، وبعد ذلك يبدأ من الجمرة الثالثة من جديد ويرميها بسبع حصيات، هذا معنى أنه يبني على اليقين.
ولو فرضنا أنه رمى أربع حصيات لكن نسي في أي منها، في الأولى أو الثانية أو الثالثة؟ فنقول له: ابن على اليقين، ويعتبرها في الأولى، ويرجع ويرميها ثلاثاً ويكمل السبع، ويعيد رمي الجمرة الثانية والثالثة.
وإذا أخر الرمي كله أو بعضه إلى آخر أيام التشريق فقد ترك السنة ولا شيء عليه، إلا أنه يقدم بالنية رمي اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث، فلو أنه بسبب عذر من الأعذار مثل شدة الزحام لم يتمكن من الرمي في اليوم الأول ولا الثاني، فعليه رمي كل الجمرات الماضية، ويبدأ برمي الجمرة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، ثم يرجع ويرمي عن اليوم الثاني وهكذا، لكن الآن صعب جداً أن يفعل هذا، فيرخص في أنه يرمي الجمرة الأولى عن أول يوم، ثم عن اليوم الذي يليه، ثم عن اليوم الذي يليه، ثم عن اليوم الذي هو فيه، والثانية كذلك، والثالثة كذلك، فينوي أن هذه السبع الحصيات عن اليوم الأول، وهذه السبع الحصيات عن اليوم الثاني، وهذه السبع الحصيات عن اليوم الثالث، ثم ينطلق إلى التي تليها.. وهكذا، هذا إذا كان له عذر، وإذا كان ليس له عذر فلا شيء عليه وهو مسيء في ذلك، وبعض أهل العلم يلزم في هذه الأحوال بالدم، ولكن الراجح أن وجوب الدم في ذلك فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يرموا يومين في يوم، فهذا مقصر، ولكن إلزامه بالدم يحتاج إلى دليل.
وفي رواية قال: سأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، قال: واليوم يكون في النهار وليس في الليل، فعلى ذلك هو رمى في عصر هذا اليوم قبل غروب الشمس؛ لأنه ذكر يوم النحر، لكن لعل راوي الحديث ذكر أن هذا في يوم النحر، وقد يطلق اليوم كله من أوله إلى آخره حتى بعد الغروب، يقول: هذا اليوم الذي نحن فيه يوم النحر، والرجل قال: رميت بعدما أمسيت، وعلى المعنى اللغوي أنه في العشاء أو المغرب، كما يقول: صليت العشاء في يوم النحر في المكان الفلاني، والعشاء هي من الليلة التالية وليست من هذا اليوم، ولكن كأنه قاله تجوزاً، وهذا فيه رخصة مع وجود الزحام الشديد، فللحاج أن يأخذ بالمعنى اللغوي في قوله: (بعدما أمسيت).
إذاً: إلى منتصف الليل، أو إلى الليل، ولا يشترط نصف الليل أو أكثر من ذلك، فيرمي في النهار ويرمي بالليل، لكن لا يرمي هذه الجمرات في اليوم الثاني والثالث والرابع من أيام العيد قبل الزوال، ولو رمى في كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعاً عن يومه وسبعاً عن أمسه جاز، أي: أنه يرمي الجمرة الأولى عن اليوم بالنية، وعن الأمس بالنية أيضاً، وبعد ذلك انتقل إلى الجمرة التي تليها، وكأنه في كل جمرة يرمي أربع عشرة حصاة، هذا الراجح الجواز فيه.
ويشترط تفريق الحصيات ولا ينفع أخذ سبع حصيات ورميها مرة واحدة مهما تكن الظروف، ومهما يكن العذر فيها، فإنه أحياناً مع الزحام الشديد تريد أن تخرج الحصاة من يدك الشمال لتأخذها باليمين ومع شدة الزحام يصعب ذلك، فتضع يدك هذه على هذه وتأخذ منها الجمرة وترميها فيكون هذا صعباً جداً، فلابد من رمي كل حصاة وحدها.
الحكم في رمي جمرة العقبة إذا أخرها كالحكم في رمي أيام التشريق في أنها إذا لم ترم يوم النحر رميت من الغد، ويلزمه الترتيب بنيته، فهذه عن جمرة البارحة فيذهب ويرمي سبع حصيات ثم هذه عن اليوم يرميها بسبع حصيات.
إذاً: الرمي كله الواجب عليه يوم العيد، واليوم الذي يليه يكون يوم القر، واليوم الثالث يوم النفر الأول، ومجموع الرمي كله الراجح أنه واجب، فإذا ترك الرمي كله كان عليه دم، فإذا ترك جزءاً منه يوماً منه أو بعضاً منه كان عليه بقدر هذا الذي ترك.
إذاً: يقسم الرمي الواجب عليه، والواجب عليه هو رمي ثلاثة أيام، فإذا ترك الثلاثة كان عليه دم، فإذا ترك بعضها ولم يرجع لرميه كان عليه جزء دم، فيوم العيد ثلث دم، واليوم الذي يليه ثلث دم، واليوم الذي يليه ثلث دم.
فمن ترك الرمي في الأيام كلها فعليه دم، ومن ترك رمي أحد الأيام الثلاثة فعليه ثلث دم، ومن ترك بعض الحصيات فعليه أن يتصدق بطعام، وإذا انتهى ولم يرجع إلى رمي هذه الجمرات كان عليه بعض الشيء، والواجب الذي عليه إذا لم يمكث إلى ثالث أيام التشريق آخر أيام العيد ونفر مع المتعجلين، كان عليه رمي ثلاثة: يوم العيد واليوم الذي يليه والذي يليه، والثلاثة فيها دم، فإذا ترك بعضها يوماً كاملاً، أي: ترك إحدى وعشرين حصاة لم يرمها فعليه ثلث دم، وإذا رمى يوم العيد وثاني أيام التشريق وثالث يوم نفر من غير أن يرمي، أو رمى قبل الزوال وانطلق كان عليه ثلث دم أو أن يرجع ويرميها، ولو ترك الجمرة الثالثة يتصدق بشيء، وهنا لن نقول: ثلث الدم.
ومتى خرج قبل رميه فات وقته واستقر عليه الفداء: الواجب في ترك الرمي إذا خرج من دون أن يرمي أي شيء من الجمرات كان عليه دم كامل في ذلك.
والواجب أن يرمي بعد الزوال عند وقت صلاة الظهر ولا يجوز قبله، إلا إذا كان قضاء عن اليوم السابق؛ لأن اليوم السابق له أن يرميه حتى قبل طلوع الفجر، لكن لو لم يتمكن فرمى بعد طلوع الفجر فيكون هذا قضاء عن اليوم السابق، لكن لا يرمي لليوم الذي هو فيه إلا بعد الزوال.
اختيار الإمام أبي حنيفة على تفصيل في مذهبه أنه قبل الزوال، وجمهور أهل العلم ومنهم صاحبا أبي حنيفة محمد بن الحسن وأبو يوسف على أنه لا يجوز الرمي في كل أيام التشريق إلا بعد الزوال، وعن أبي حنيفة قولان:
قول: أنه يجوز أن يرمي في أيام التشريق كلها قبل الزوال.
وقول آخر: أنه في آخر أيام التشريق يوم النفر الثاني إذا مكث في البيت يجوز أن يرمي قبل الزوال، وهذا وافقه عليه إسحاق بن راهويه .
إذاً: أبو حنيفة خالفه صاحباه في أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال، وأبو حنيفة اختلف عنه القول: هل آخر يوم فقط من أيام التشريق يرخص له أن يرمي قبل الزوال وينفر؟ هذا قول وافقه عليه إسحاق ، والقول الثاني: أنه في كل أيام التشريق له أن يرمي قبل الزوال، لكن خالفه صاحباه؛ لأن النص لم يأت بذلك، فلم يرم النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الزوال.
والصواب قول جمهور أهل العلم: أنه لا يجوز الرمي إلا بعد الزوال.
وهناك أيضاً خلاف في امتداد وقت الرمي هل يمتد إلى الليل أو لا يمتد؟
مذهب الشافعي : أنه يجوز أن يرمي حتى قبل الفجر الثاني أداء، فإذا كان بعده فيكون قضاء.
ومذهب مالك : أنه لا يجوز له أن يرمي بعد غروب الشمس, وهذا الراجح في المسألة، والإمام أحمد يرى أن قوله: (رميت بعدما أمسيت) أنه في يوم العيد، فلا يرمي بالليل، لكن الراجح: أن المساء يدخل فيه الليل على مقتضى المعنى اللغوي، فعلى ذلك يجوز أن يرمي، وهذا رخصة للناس وتيسيراً عليهم في أن يرمي بالنهار وبالليل.
والحكمة من الصوم: كسر النفس، وقمع الشهوات، والإحساس بإحساس الإنسان الفقير الجائع المسكين المحروم فيعطف عليه.
والحكمة من الزكاة: المواساة بماله للفقير، ويستشعر أن هذا محتاج فيعطيه.
والحكمة من الحج: أن يقبل العبد على ربه سبحانه أشعث أغبر من مسافات بعيدة إلى بيت الله سبحانه، كإقبال العبد إلى مولاه ذليلاً، فهو يقبل موحداً ربه سبحانه، مستشعراً يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيستشعر في وقوفه بعرفة وطوافه بالبيت شعور العبد الذليل بين يدي مولاه سبحانه وتعالى، وأنه محتاج إلى ربه يدعوه ويرجو منه رحمته سبحانه وتعالى.
ومن العبادات: السعي بين الصفا والمروة، وهي عبادة يستشعر بها كيف كانت هاجر تجري في هذا المكان بين الصفا والمروة تبحث عن الماء لابنها، فهذه حكمة من الحكم، ولا نقول: إنها كل الحكم، والحكمة الحقة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فأمرنا بذلك لكي يستشعر الإنسان في ذهابه من الصفا إلى المروة ورجوعه من المروة إلى الصفا احتياجه إلى الله عز وجل، والإلحاح على ربه في الدعاء، فيقف هنا فيدعو، ويقف هنا فيدعو، فهو محتاج إلى ربه في كل وقت، ولعل هذا الدعاء لم يستجب ولن يستجاب إلا الدعاء الثاني، فيتعود على الإلحاح والله يحب من عبده أن يلح عليه في الدعاء، فيستجيب له سبحانه وتعالى.
ورمي الجمرات من هذه العبادات، يرمي فيتخيل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يرمي الشيطان بهذه الجمرات، فالإنسان يفعل كما فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد روى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لما أتى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض)، أي: حتى دخل بداخل الأرض وغاص وهرب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الشيطان فارجمون، وملة أبيكم فاتبعون.
هذا الحديث المرفوع والموقوف فيه بيان الحكمة وهي: أنك تتشبه بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأنت ترمي بهذه الحصيات، ولكن الذي يوصل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فلست أنت الذي ستوجع الشيطان عندما ترمي الجمرة بشدة أو ترمي بطوب أو بحديد أو برصاص، ليس هذا الذي سيؤلم الشيطان، وإنما الله عز وجل هو الذي يفعل ذلك.
مثل الإشارة في الصلاة بالسبابة، فأنت تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتشير بالتوحيد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لهي أشد على الشيطان من الحديد)، إذاً: إشارتك بالتوحيد، وتحريكك للسبابة أشد على الشيطان من الحديد، فلا يقل أحد: سأحركها بشدة من أجل تكون أشد! ولكن الحركة وحدها وكونك أشرت بالتوحيد هذه أشد على الشيطان من الضرب بالحديد، والذي يفعل ذلك بالشيطان هو الله سبحانه وتعالى، إذاً نحن علينا الاتباع والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل هو الذي يفعل بالشيطان ما يريده سبحانه.
إذاً: عندما نرمي الجمرات نرمي بالحصى الصغير، ونرمي مثلما رمى إبراهيم، ولا نأتي بحجر أكبر من أجل أن نؤلم الشيطان أكثر! فهذا من البدع، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما نهى عن ذلك، ونهاهم أن يؤذي بعضهم بعضاً.
ولو أغمي على المحرم قبل الرمي ولم يكن أذن في الرمي عنه لم يصح؛ لأن الاستنابة إقامة الغير مقام نفسك، وأنت الآن لم تستنب إنساناً ولم توكل أحداً، فلا يصح أن يتوكل لك من غير أن توكله، فلو أن إنساناً مغمى عليه، فلا يأتي آخر ويقول: سأرمي عن فلان، فهو لم يوكلك أصلاً في ذلك.
إذاً: الاستنابة تكون عن الإنسان المفيق وليس عن المغمى عليه، لكن إذا كان قد أذن له وكان مريضاً وقال: يا فلان! ارم عني في هذه الأيام فلا أقدر أن أرمي، ثم أغمي عليه في خلال هذه الأيام، فلا شيء عليه، فالآخر يرمي عنه وفي هذه الحالة لا يحتاج إلى إذن جديد.
وينبغي أن يستنيب العاجز حلالاً أو من قد رمى عن نفسه، فإن استناب من لم يرم عن نفسه فينبغي أن يرمي النائب عن نفسه: مثل النيابة في الحج، فالذي يحج عن غيره لابد أن يكون قد حج عن نفسه، وكذلك الذي سيرمي عن الغير لابد أن يكون قد رمى عن نفسه، فإذا استنابك إنسان في الرمي فترمي عن نفسك أولاً، ثم ترمي عن هذا الإنسان.
أيضاً لو أن الذي يرمي عن نفسه وعن غيره بدأ بالجمرة الأولى، ثم الثانية ثم الثالثة عن نفسه، ثم رجع فرمى عن الآخر فقد خرج من الخلاف الذي في المسألة.
والراجح: أنه يجوز أن يرمي عن نفسه ثم عن غيره، فعند الجمرة الأولى يرمي عن نفسه بنية أنها لنفسه، ثم يرمي بنية أنها لفلان، وهذا قول الأحناف، وقول في مذهب الشافعية، وهو الذي نختاره في مثل هذا الزحام الموجود الآن، ويصعب جداً أن نأمر إنساناً بقول الجمهور: ارم الثلاث ثم ارجع للأولى وارمها حتى الثالثة، فالراجح: أنه لا يوجد دليل يمنع من أن يرمي عن نفسه ثم يرمي عن غيره وهو في مكانه ذلك، فيرمي عن نفسه الجمرة الأولى، ثم يرميها عن غيره، ثم يتقدم إلى الثانية ويرميها عن نفسه، ثم يرميها عن غيره، والثالثة كذلك.
والأكمل أن يبيت بها كل الليل من المغرب حتى الفجر، لكن لو أنه كان في وقت الغروب خارج منى، ثم رجع عند العشاء أو بعده، فالنصف الثاني من الليل لابد أن يكون فيها، فالواجب أن يبيت بها معظم الليل، هذا الفرض الواجب الذي عليه.
وإن ترك إحدى الليالي الثلاث فعليه ثلث دم، ولو ترك ليلة المزدلفة وليالي التشريق فعليه دمان، دم لليلة مزدلفة؛ لأنه واجب من الواجبات، ودم لليالي منى، هذا فيمن لا عذر له، ففي ليلة المزدلفة قد يكون معذوراً في أنه لم يبت فيها، كإنسان أحرم في يوم عرفة أو في ليلة العيد، وكان محصوراً أو ممنوعاً حتى توجه ووقف في عرفة قبل فجر العيد، فهذا لا يجب عليه المبيت بمزدلفة؛ لأنه فاته فسقط عنه، ولا يجب عليه دم.
ولو خرج من عرفات راكباً السيارة ومتوجهاً إلى المزدلفة، وفي الطريق تعطلت السيارة، أو مع شدة الزحام وصلوا مزدلفة وقت الضحى، فكيف يبيت فيها؟ فهذا معذور ولا شيء عليه، لكن الذي يلزمه وهو غير المعذور إذا ترك مع قدرته التوجه إلى المزدلفة وذهب إلى منى مباشرة فعليه دم بسبب ترك المبيت.
وقد جاء في الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغداة ومن بعد الغد بيومين، ويرمون يوم النفر)، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استأذن
وفي هذا الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وكونه رخص لهذا فهو لغيره عزيمة وليست رخصة، وهو من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي ذلك، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد هذه العلة ولم يوجد معنى هذه العلة لم يحصل الإذن، ولم تحصل الرخصة.
ورعاء الإبل وأهل السقاية لهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق.
إذاً: المبيت في ليالي التشريق لا يكون واجباً عليهم من أجل السقاية؛ لأنهم يكونون موجودين في مكة يسقون الحجيج، وأهل الرعاء: الذي يبيعون للحجيج الإبل والشياه وغيرها في موسم الحج لا يقدر أن يبيت مع الناس؛ لأنه سيحضر غنمه وإبله ويدخلها مع الناس في هذا المكان، فعلى ذلك يحتاجون أن يبيتوا في الخارج بإبلهم وأغنامهم.
وللصنفين جميعاً أن يدعوا رمي يوم القر وهو الأول من أيام التشريق، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم، وليس لهم ترك يومين متواليين، والمعنى: إذا كانوا في يوم العيد رموا ولهم أن ينفروا، ويذهبوا عند إبلهم وغنمهم أو عند السقاية، وسيأتون في اليوم الثاني لرمي الجمرة لهذا اليوم وللغد، وإما أنهم لن يأتوا يوم القر ويمكثون هنالك ويأتون يوم النفر الأول ليرموا للبارحة ولهذا اليوم، فهم سيرمون يومين بالخيار، ويوم العيد لابد من الرمي فيه، وبعد ذلك سيخرجون لرعاية الإبل أو لسقاية الحجيج، وإما أن يأتوا في اليوم الثاني للرمي عن هذا اليوم واليوم الذي يليه، أو لا يأتون في يوم القر ويأتون في اليوم الثالث من أيام العيد يرمون عن البارحة وعن هذا اليوم.
وإن تركوا رمي اليوم الثاني من أيام التشريق بأن خرجوا اليوم الأول بعد الرمي عادوا في اليوم الثالث، وإن تركوا رمي اليوم الأول بأن خرجوا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة عادوا في اليوم الثاني، ثم لهم أن ينفروا مع الناس، وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى لزمهم المبيت تلك الليلة ورمي الغد.
والراعي لابد من أن يبيت، إلا إذا تعذر الأمر في أن الإبل ستموت لو لم يكن معها بالليل فهذا أمر آخر، لكن الرخصة كانت لمن يسقي أنه لا يبيت؛ لأن السقيا يحتاجونها بالليل والنهار، ورعاء الإبل الغالب أنه لا يحتاج لذلك إلا بالنهار وقت المبيع، لكن إذا استدعى الأمر ليلاً ونهاراً فالظاهر أنه يرخص له كسقاة الحجيج.
ويجوز لأهل السقاية أن ينفروا بعد الغروب؛ لأن عملهم بالليل، بخلاف الرعي، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس ، فنقول: غير أهل السقاية لابد لهم من المبيت إلا أصحاب الأعذار من هؤلاء، ورخصة السقاية لا تختص بـالعباس ، ولكن لكل من يقوم بهذا الأمر.
ومن المعذورين في ترك المبيت ليلة المزدلفة وليالي منى من أصحاب الأعذار في ذلك: من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت، فلو كان له إبل أو بقر أو أغنام موجودة في مكان خارج منى، وتحتاج للحراسة، ولو دخل وبات في منى ضاعت وسرقت في هذا المكان، فيرخص له أن يبيت مع ماله ولا يلزمه شيء، أو كان يخاف على نفسه، أو كان به مرض يشق معه المبيت، ولو بات في منى قد يحدث له شيء فيحتاج إلى المبيت في المستشفى هذه الليالي، فهذا معذور.
أو كان معه مريض يحتاج إلى تعاهده، كإنسان معه أبوه وهو في المستشفى، ويحتاج إلى أن يكون معه في هذا الوقت، فهذا عذر له ورخصة أشد من رخصة السقاية والرعاية، أو كانا يطلب ضالة أو تائهاً تاه منه كابنه أو أمه يبحث عنها في خارج منى، فهذا أيضاً معذور، إذ كيف سنلزمه بالمبيت وهو يبحث على التائه؟ أو يشتغل بأمر آخر يخاف فوته، فيجوز له ترك المبيت ولا شيء عليه في ذلك.
وكذلك من ضاقت عنهم منى مع شدة الزحام، فهذا عذر من الأعذار الموجودة الآن، فقد يصلون إلى منى فلا يجدون مكاناً يبيتون فيه، أو لا توجد لهم خيام ومكان بمنى، أو لم يستطيعوا دخولها وضاعت الليلة وهم خارج منى، وهذا يحدث كثيراً، كمن ذهب ليرمي الجمرة وبعد ذلك ذهب وطاف بالبيت، ثم أراد الرجوع فلم يجد شيئاً يوصله، والزحام شديد جداً فظل محبوساً خارج منى فترة طويلة، وأحياناً يحولونهم على طرق أخرى، فيذهب ولا يستطيع الوصول إلى منى، فهذا معذور في ذلك، فقد ضاع عليه الليل وهو على هذه الحال، إذاً: الراجح أنه لا شيء عليه في ذلك وهو معذور.
ولو ترك المبيت بمزدلفة أو بمنى ناسياً كان كتركه عامداً: هذه صورة ثانية، فالمعذور لا شيء عليه، فقد حاول أن يدخل منى ولكنه ما استطاع، لكن هذا نسي ونام في مكة، فحكمه حكم المقصر، فإذا كانت ليلة واحدة فعليه ثلث دم، وفي الليالي الثلاث دم كامل.
فيجوز للحاج التعجيل في النفر من منى في اليوم الثاني ما لم تغرب الشمس، ولا يجوز بعد الغروب، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ، أما مذهب أبي حنيفة فلو دخل عليه الليل فله أن ينفر حتى قبل الفجر، وإذا طلع عليه الفجر في آخر أيام العيد آخر أيام التشريق فيلزمه المكث لرمي الجمرات.
والجمهور احتجوا بقول الله عز وجل: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ [البقرة:203]، وهذا تعجل في اليوم الثاني فانصرف، وفي الآية ذكر اليوم ولم يذكر الليلة، هذا قول الجمهور وهو الأولى في ذلك، ويدل عليه ما جاء عن عمر رضي الله عنه قال: (من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس).
وجاء عن ابن عمر كذلك بإسناد صحيح: (من غربت عليه الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد)، وعلى ذلك من غربت عليه الشمس وهو هناك في منى فيبيت حتى آخر أيام العيد، لكن لو رحل فغربت الشمس وهو سائر، وهذا يحصل كثيراً مع الزحام الشديد، فالحجاج قد يركبون الباص، والباص لا يتحرك مع الزحام حتى تغرب الشمس وهم مازالوا في منى، فهؤلاء لهم حكم الراحل، أما الماكث في الخيمة المقيم فيلزمه أن يبيت، لكن الذي أخذ بالأسباب وركب سيارته لكن مع شدة الزحام لم يخرج، فلا شيء عليه حتى لو خرج وقت العشاء.
وإذا نفر من منى النفر الأول أو الثاني انصرف من جمرة العقبة وهو يكبر ويهلل، ولا يصلي الظهر بمنى، بل يصليها بالمنزل -وهو المحصب- أو غيره، ولو صلاها بمنى جاز على حسب ما تيسر له. وهذا الكلام إذا كان المكان في آخر أيام العيد سهلاً، فمثلاً خمسة وتسعون في المائة من الحجيج نفروا في اليوم الأول، فسوف تكون منى فارغة في آخر أيام العيد، ولو رأيت الحجيج، ورأيت الزحام وشدته والعبادة لله سبحانه، فستعرف الفرق بين ثالث يوم العيد ورابع يوم العيد، ففي ثالث يوم العيد ترى منظر الحجاج والتلبية والتكبير وذكر الله سبحانه وتعالى تستشعر بالحج، أما في آخر أيام العيد ومنى فارغة تستشعر بالوحشة، وبعد ذلك عندما تذهب تزور منى تحس بالفرق بين وجود الحجيج في منى وبين فراغها، ففي أيام الحج تستشعر بمعنى العبادة، فالذي ينفر من منى في آخر أيام التشريق هذا أفضل له، والأفضل أن يرمي عند وقت الزوال، ولا يصلي الظهر في منى بل في مكة أو في المحصب، وهو مكان عند الحجون ناحية مقبرة مكة، واسمه: المحصب، أو الأبطح، أو البطحاء، أو المعرس، وهو المكان الذي توجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نفر وصلى الظهر هنالك عليه الصلاة والسلام.
فيستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل به، وجاء عن أنس : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف للوداع به)، والمحصب: داخل بيوت مكة، فيصعب أن تجري في الشارع وتنزل وتعمل هذه الأشياء، إذاً تذهب إلى مكة فتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء هنالك في مكة.
وجاء عن عائشة قالت: نزول الأبطح ليس بسنة، إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان أسمح لخروجه، وجاء عن ابن عباس مثل ذلك أيضاً.
وطواف الوداع سمي طواف الوداع لأنه توديع البيت، وسمي طواف الصدر لأنه يصدر من البيت، من صدور الناس من مكة عند صدورهم من منى.
فإذا أراد الخروج طاف للوداع، وصلى ركعتي الطواف: فمثلاً: رجل يريد أن يسافر من مكة إلى المدينة، أو من مكة إلى بلده، فيطوف طواف الوداع، وهو واجب؛ لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه مسلم قال: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وهو عبادة مستقلة تلزم كل من حج.
وفي العمرة يسن أن تطوف للوداع، ولكنه في الحج فرض؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو من ضمن المناسك التي يقوم بها الإنسان في الحج، ولكن هذا تابع لهذا الذي أداه، لقول ابن عباس : (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وفي رواية أخرى: (لا ينفرن أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت)، وفي رواية ثالثة عن ابن عمر : (من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحُيض، رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
إذاً: الحاج لابد أن يطوف طواف الوداع، والراجح: أنه ليس من مناسك الحج.
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث للمهاجر بعد الصدر)، أي: أنه إذا انتهى من مناسك الحج يمكث ثلاثاً، وفي رواية: (للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدر بمكة) كأنه يقول: لا يزيد عليها فليس له أن يمكث إلا ثلاثة أيام، وليس له أن يطوف الوداع في هذه الأيام الثلاثة في أولها، بل يطوف بعدما ينتهي.
إذاً: الذي هاجر من مكة إلى المدينة ليس من حقه أن يقيم بمكة بعد ذلك، إذ الهجرة لله سبحانه، وليس له أن يرجع إلى مكة، فيحرم على المهاجر أن يرجع إلى مكة مرة أخرى، ولذلك فإن مكة كانت أحب البلاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم أن يقيم بها، فهاجر إلى المدينة هجرة لله سبحانه وتعالى، وكذلك الصحابة الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة ليس لهم أن يرجعوا فيقيموا بمكة بعدما فتحت، فماذا لهم؟ لهم إذا ذهبوا لحج أو عمرة أن يمكثوا بعدما أنهوا المناسك ثلاثة أيام فقط.
فهنا في هذا الحديث يقول للمهاجرين: ليس لكم أن تقيموا بمكة بعدما انتهت المناسك إلا ثلاثاً، وإذا انتهت مناسك هؤلاء فالحج انتهى، ويقيمون ثلاثة أيام، ثم نأمرهم بطواف الوداع إذا خرجوا.
إذاً: طواف الوداع ليس من مناسك الحج، وإنما هو شيء تابع له، فإذا حج الإنسان البيت وانتهى من مناسكه كلها وجب عليه أن يطوف طواف الوداع، وجمهور أهل العلم على أن طواف الوداع واجب، والبعض يقول: هو من مناسك الحج، والبعض يقول: إنه ليس من المناسك، وهذا الراجح، فهو متعلق بالذهاب للحج، فيلزمه أن يطوف هذا الطواف.
قالت عائشة رضي الله عنه: (حاضت
إذاً: إذا طاف طواف الوداع بمكة، وذهب ومكث في منى ثلاثة أيام، وبعد ذلك أراد الرجوع إلى بلده، فنقول له: ارجع مرة ثانية للبيت وطف به ثم اخرج.
وليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع، فلو أن إنساناً مقيماً بمكة يريد عمرة، فإنه يخرج للتنعيم ويرجع بهذه العمرة، فلا يلزمه أن يطوف للوداع، ولو فرضنا أنه فعل هذا الأمر جاز خروجه، لكن لا يجب عليه ولا يلزمه طواف وداع.
ولو ترك طوفة من السبع ورجع إلى بلده لم يحصل الوداع؛ فليزمه دم بذلك.
ولو طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته.
أما لو ترك شيئاً في الفندق وذهب ليطوف للوداع، ورجع مرة ثانية للفندق وأخذ أشياءه وانتظر السيارة فكل هذا لا شيء عليه، لكن إذا كان السفر غداً، وهذا اليوم سيطوف للوداع، وبعد ذلك في الليل سيشتري أشياء وكذا، وغداً الليل سيسافر فلا ينفع، فلابد أن يكون طواف الوداع هو آخر الأشياء، ولا تنشغل بعده إلا بسفرك، أي: تجهز حقائبك وتأخذها إلى السيارة حتى لو مكثت في السيارة ساعتين أو ثلاثاً؛ لأن حكمك حكم الراحل فلا شيء عليك، لكن إذا انشغلت بتجارة أو صناعة أو رجوع للمبيت في الفندق لكي تنام وتصبح تشتري حاجات، فنقول: ارجع مرة ثانية وودع البيت، بحيث يكون آخر الأشياء هو الوداع للبيت.
فإذا كنت تودع البيت يستحب أن تأتي الملتزم، وهو المكان الذي بين الحجر وباب البيت، وقد التزمه النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: احتضنه وجعل صدره ويديه عليه ودعا ربه في هذا المكان؛ فيستحب ذلك، فقد جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: (طفت مع
فآخر شيء يفعله الحاج هو طواف الوداع، ثم يصلي ركعتين، ويذهب عند الملتزم إن استطاع ويقف ليدعو، ثم ينصرف ويرجع إلى بلده.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر