نتحدث اليوم عن حكم الفرع والعتيرة والعقيقة حتى نستكمل كتاب: الجامع لأحكام الحج في باب الفرع والعتيرة.
الفرع والعتيرة: نوع من الذبائح التي تذبح، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في شأنها، فالفرع يفسره أهل العلم بأنه: أول نتاج الإبل والغنم، فصاحب الإبل، أول ما ينتج عنده من الإبل وتلد له هذه الإبل أول النتاج يسمى بالفرع.
وكذلك إذا كان عنده أغنام ومواشي فأول النتاج هذا يسمى: الفَرَع أو الفرْع، وكان هذا معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يذبحون أول النتاج رجاء البركة من الله لهم في الأموال التي عندهم، وأن الأم يكثر نسلها، وكان أكثرهم يذبحون هذا الذبح لأصنامهم، فأهل الجاهلية كانوا يذبحون للأصنام ويرجون البركة من وراء ذلك، وكثرة النسل.
وهناك تفسير آخر للفرع: وهو ما يذبحه صاحب الإبل إذا بلغت مائة. فيكون الفرع: هو أول النتاج، أي: مجرد ما تلد الإبل يذبح هذا الفرع، وكذلك إذا بلغ عدد الإبل ما يتمناه الرجل من مائة ناقة فبمجرد ما تصل إبله إلى مائة يذبح واحداً منها، فهذا هو معنى الفرع.
والعتيرة أيضاً ذبيحة كانت تذبح في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية يعظمون شهر رجب تعظيماً عجيباً، وكانوا يعظمون أشهر الحرم التي هي: ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم، فهذه ثلاثة سرد، وواحد فرد وهو شهر رجب، فكانوا يعظمون شهر رجب أشد من تعظيمهم لباقي الأشهر، وكانت هذه البقية ينسئونها ويسمون المحرم صفراً بحيث يقاتل بعضهم بعضاً فيه، قال الله عز وجل: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37].
فهذه الأشهر الحرم كان أعظمها عندهم شهر رجب، وكانوا يذبحون فيه الذبيحة التي يسمونها بالعتيرة في أول عشرة أيام من رجب، ويسمونها أيضاً الرجبية.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع ولا عتيرة)، وهذا نفي للجنس، (لا فرع) أي: ليس في الإسلام فرع ولا عتيرة؛ لأنه كان من فعل أهل الجاهلية، أو المعنى: ليس في الإسلام ما كان يصنعه أهل الجاهلية؛ لأنهم كانوا يذبحون لأصنامهم، وفي الإسلام لا يوجد مثل ذلك، ولكن اذبح لله في أي شهر.
ومعنى آخر: (لا فرع ولا عتيرة) أي: واجبة، وقد بين الله عز وجل لنا الصدقات الواجبة، وكيف تقسم، وكيف توزع على أصحابها، فالمال ليس فيه حق إلا الزكاة التي فرضها الله سبحانه إلا أن يحتاج الناس فيتكافلون فيما بينهم.
فتكون الزكاة بينت الواجبات الأخرى، فما كان واجباً قبل ذلك من أشياء فقد جاءت الزكاة وبينت النصاب الذي يكون في المال، وفي أجناس المال وأنواعه، وكيف تخرج هذه الزكاة، وعلى من توزع.
ولذلك نقول: لا بأس بالفرع والعتيرة في رجب وفي غيره شكراً لله وتعبداً, فهذا كله لا بأس به طالما أنه فعل لله سبحانه، فتشكر الله عز وجل على ذلك، والدليل: ما رواه أبو داود وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خمسين شاة شاة)، فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وقد ذكرنا قبل ذلك زكاة المال وزكاة بهيمة الأنعام، وأن الأغنام من بهيمة الأنعام التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها قدراً معيناً، وقوله: (في كل خمسين شاة شاة) يحتمل الزكاة ويحتمل غيرها، وفي لفظ لـأحمد : (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع)، وعليه فليس المراد به الزكاة.
وأيهما يكون متقدماً حديث أبي هريرة أم حديث عائشة ؟
لو قلنا: حديث أبي هريرة هو الأول، فيكون معناه: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يفعل في الجاهلية من فرع وعتيرة، ثم بعد ذلك نسخ هذا الحكم بحديث عائشة رضي الله عنها، فقد كانوا في الجاهلية يفعلونه، ثم منع، ثم أبيح وهذا محتمل، ولكن الاحتمال الأقرب: أن يكون حديث عائشة رضي الله عنها جرى على ما كانوا عليه، ثم بعد ذلك جاء حديث أبي هريرة فمنع، وهذا هو الأرجح؛ لأن أبا هريرة كان إسلامه متأخراً، بعد العام السابع في خيبر، ومعناه: أنه سمع الشيء المتأخر، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة).
فقد كانوا في الجاهلية يفرعون ويعترون، فجاء الإسلام وبين لهم: اعملوا كذا.. واعملوا كذا.. لكن ليس على هيئة الوجوب، وإنما لبيان ما يصنعونه في ذلك، ثم لما ظنوا أن هذا واجب وأنه لابد أن يفعلوه، فقد يكونون فهموا ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: (الفرع حق)، فبين لهم أنه: (لا فرع) واجب عليكم، فلا يجب عليكم ذلك.
وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع من كل خمس شياه شاة)، والحديث الأول هو حديث عائشة ، وهو قوله: (من كل خمسين) فيحمل على الزكاة، وفي رواية الإمام أحمد قال: (أمرنا بالفرع)، وبينت عائشة فقالت: (من كل خمس شياه شاة)، وهذا قدر كبير جداً، والزكاة لم تأتِ بذلك، فغايته أن يكون هذا مستحباً ولا يجب.
قالت: (وأمرنا أن نعق عن الجارية شاةً وعن الغلام شاتين)، وباقي الحديث: (أمرنا بذلك صلى الله عليه وسلم) أي: بالعقيقة.
وروى أبو داود عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه -وهذا الحديث صحيح- أنه قال: (نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا؟ قال: اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا).
نقول: الأمر هنا على الوجوب، ولكن إذا كان الأمر جواباً للسائل فلا يدل على الوجوب، فإن الأمر يدل على الوجوب ابتداءً، ولكن عندما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل نفعل كذا؟ فيقول: افعلوا، فيكون ورد جواباً على السائل، ولا يكون الجواب إلا كذلك، فلا يقال: هذا أمر على الوجوب، فعلى ذلك: هنا السائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كنا نذبح، فقال: (اذبحوا لله في أي شهر كان، وبروا الله عز وجل، وأطعموا)، وقال الرجل: (إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية، فما تأمرنا؟..).
فقد كانوا يَعترون، والعتيرة: ذبيحة رجب، قال: (كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا؟) يعني: نحن في الجاهلية عندما تكثر غنمنا أو إبلنا نذبح واحدةً منها، أو عندما يأتي أول النتاج من الإبل نذبحه على حاله، من غير أن نطعمه ولا نمسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، السائمة: بهيمة الأنعام التي تسوم ولا تعلف، أي: تأكل من المراعي التي خلقها الله سبحانه وتعالى، قال: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك حتى إذا استحمل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه على ابن السبيل، فإن ذلك خير).
فقوله: (إذا) بينت في آخر الحديث أن هذا من الخير الذي تفعله وليس هذا فرضاً واجباً عليك.
فيكون حديث نبيشة فيه: أنهم كانوا يذبحون في رجب فقال لهم: اذبحوا لله في أي شهر، في أي شهر من الشهور، ولا تخصصوا رجب ولا غيره، ولكن اذبحوا لله عز وجل.
وقوله: (كنا نفرع في الجاهلية فما تأمرنا؟ قال: في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك)، تغدوه أي: تطعمه كما تطعم ماشيتك؛ لأنه كان في الجاهلية أول ما تلد الناقة وهو ما ليس له لحم إلا يسير جداً، وجلدة على عظم يذهب ويذبحه على هذه الحال.
وعندما تذبحه على هذه الصورة فمن الذي سيستفيد منه؟ فحد الاستفادة من ورائه شيء يسير جداً، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك) أي: كما تغدو ماشيتك، كذلك تغدو هذا، (حتى إذا استحمل للحجيج) أي: صار قوياً يستطيع أن يحمل الأحمال ويذبحه الإنسان في هدي ونحو ذلك، فهنا يجوز لك أن تذبحه، وقوله: (استحمل) أي: أطاق أن يحمل فوقه، ولم يعد صغيراً.
وفي رواية أخرى أيضاً صحيحة عن مخنف بن سليم قال: (بينما نحن وقوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات إذ قال: يا أيها الناس! إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة، أتدرون ما العتيرة؟ هذه التي يقول الناس: الرجبية).
ولو كان هذا الحديث لوحده فيمكن أن يدل على أن كل أهل بيت يجب عليهم ذلك، ولكن عرفنا من الأحاديث السابقة: أن الأضحية عند جماهير أهل العلم سنة مستحبة، وليست فريضة واجبة، ولذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان؛ مخافة أن يظن الناس أنها واجبة.
فيحمل هذا الحديث على استحباب الأضحية إذا قدر عليها، والعكس من باب أولى، إذا كانت الأضحية مستحبة فكذلك العتيرة تكون مستحبة.
وهناك حديث آخر رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع؟ قال: والفرع حق).
أي: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية كان باطلاً، فقد كانوا يذبحون للأصنام، ولكن في الإسلام يذبحون لله سبحانه وتعالى، فهذا من الحق، ومن الصدقة.
قال: (وإن تتركوه حتى يكون بكراً ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره، وتكفأ إناءك وتوله ناقتك) هنا في الحديث: يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرع حق، فيكون المعنى: لكم أن تفرعوا بالفرع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال لهم: هذا حق، فكونك تذبح لله عز وجل هذا من الحق، ولكن بدل أن تذبحه وهو ما زال صغيراً اصبر عليه حتى يكبر قليلاً واذبحه أو تصدق به على الحاج، ولهذا قال: (والفرع حق، وأن تتركوه حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض)، كلمة (شُغْزُباً) بعض علماء اللغة يخطئون في هذه الكلمة، فقالوا: والصواب أن يقول: (زُخْرُب) ومعناه: سميناً أو غليظاً اشتد لحمه، والله أعلم.
لكن الغرض: أن الحديث قد يكون الراوي رواه بمعناه وعلى لغة من اللغات فذكره هكذا، فقال: (حتى يكون بكراً شغزباً ابن مخاض أو ابن لبون)، ابن مخاض: هو ما له سنة، وابن لبون: ما له سنتان، (فتعطيه أرملة) فليس شرطاً أن تذبحه، ولكن تعطيه وهو حي لامرأة أرملة، (أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه)، وإذا ذبحه على هذه الاحل وهو ليس فيه لحم فما الذي سيستفيد منه؟ قال: (فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وقوله ناقتك) أي: عندما يذبح وهو صغير على ما كانوا يفعلون في الجاهلية يلزق اللحم بالوبر، فلا تستطيع أن تخرج منه لحماً، ويكون جلده على عظمه، فلا توجد فائدة كبيرة من ورائه.
(وتكفأ إناءك) وهنا يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه عندما يذبح الجمل وهو صغير، فلو ترك ترضعه أمه فإنه يبقى فيها اللبن، فهو يشرب من اللبن ويبقى لك منه، فأنت كسبت اللبن الذي أتى، لكن عندما تذبحه وهو صغير ستكفئ إناءك فلا يبقى لك اللبن.
قال: (وتوله ناقتك) أي: تحزن وتفجع الناقة، فالناقة عندما يكون ابنها صغيراً فإنه يجعل الله عز وجل فيها الحنان والرحمة على صغيرها، فإذا كبر واستغنى عنها انفصل، وكان سهلاً أن تذبحه بعد ذلك عندما يكبر، فلذلك قال: (وهو صغير) إذا ذبحته فقد لا تجد فائدة في ذبحه، فليس فيه لحم ولا شيء، فلا داعي لمثل ذلك.
والخلاصة من جملة الأحاديث: أن الفرع والعتيرة من الحق، وأن لك أن تذبح من كل خمسين واحدة، أو من كل خمس كما في رواية أخرى، ولك أن تذبح في رجب وفي غيره، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة وهو في الصحيحين: (لا فرع ولا عتيرة) فنجمع الأحاديث بعضها مع بعض فنقول: لا فرع واجب ولا عتيرة واجبة وإنما هذا من الخير الذي تصنعه.
والعقيقة سنة متأكدة، حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، وبينها عليه الصلاة والسلام، فروى البخاري تعليقاً عن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى).
قوله: (مع الغلام عقيقة) أي: مع مولد الغلام عقيقة تعق عنه.
(فأهريقوا عنه دماً) أهرق بمعنى: أراق، وإما أن تذبح عنه من الغنم أو من غيرها من بهيمة الأنعام.
(وأميطوا عنه الأذى) وجاء في حديث آخر: أنه يحلق شعره في يوم سابعه.
وفي السنن عن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه)، فالسنة أن تذبح هذه العقيقة في اليوم السابع (ويحلق ويسمى) ويحلق في يوم سابعه ويسمى كذلك، وكلمة (العقيقة) ذكرنا أنها اسم لما يذبح عن المولود، واستحب بعض أهل العلم أن يقال: النسيكة.
وكلمة (العقيقة) قالوا: مشتقة من العق وهو بمعنى: القطع أو الشق؛ لأن العقيقة ذبح، ولذا لا يصح أن نشتري لحماً من السوق بالكيلو، فالعقيقة لابد فيها من الذبح؛ ولذلك اختار الإمام أحمد رحمه الله: أنها مأخوذة من العق وهو الشق والقطع؛ لأنك تقطعها وتشقها عندما تذبحها، فتقطع أوداجها ومريئها وحلقها.
وذكر بعض أهل العلم ومنهم أبو عبيد الأصمعي أنه سميت الشاة التي تذبح عنه في هذه الحال بالعقيقة؛ لأنها تذبح في الوقت الذي يُحلق عنه شعره.
قال في الحديث: (كل غلام رهينة)، و(كل) لفظ مطلق، فسواء ذكراً كان أو أنثى، ولفظ (الغلام) يطلق على الذكر، ولكن أطلق هنا من باب التغليب، والمقصود منه: كل من يولد له ذكر أو أنثى فعليه هذه العقيقة.
وقوله: (رهينة) بمعنى: مرهون، يقال: هذا مال راهن بمعنى: باق قاعد، ومنه (الرهن) عندما يكون عليك دين لإنسان يقول لك: هات رهناً، أي: ضع عندي شيئاً أثبته عندي حتى تقضي هذا المال وإلا أخذت مالي من هذا الذي أودعته إياي.
فقوله: (مرهون) كأنه ثابت وواقف لا يتحرك إلا بهذه العقيقة، وفسر الإمام أحمد هذا فقال: إن الغلام لو مات وهو صغير فإنه يسبق أبويه إلى الجنة ويشفع لهما، ولا يزال يأخذ بأيديهما ويحاج عنهما حتى يدخلهما الجنة، فقال: هذا الغلام مرتهن في شفاعته للوالدين بهذه العقيقة حتى تذبح عنه، هذا اختيار الإمام أحمد رحمه الله.
وقال ابن الأثير في (النهاية): العقيقة لازمة لابد منها؛ لحديث: (كل غلام رهين بعقيقته) بمعنى: أنها ملازمة له، فهذه العقيقة لابد منها، والمقصد: التأكيد، فكما الرهن لابد أنك تفك رهنك، كذلك الغلام لابد أن تعق عنه، فقال: إن العقيقة لازمة له، ولابد منها، فشبه المولود في لزومها له وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن.
قال التربشتي : أي: أنه كالشيء المرهون لا يتم الانتفاع به دون فكه، فمثلما يكون عندك مال مرهون عند شخص، فتأتي وتقول له: أريد أن أشتغل بهذا، فيقول لك: لا، حتى تدفع الثمن الأول، وكذلك الغلام إذا أردت أن تنتفع به وينالك من بركة الله عز وجل عليه ونفعه لك لابد أن تعق عنه هذه العقيقة، فتستفيد من شكر النعمة، والبركة من وراء هذا الغلام.
كذلك قالوا من معانيها: أنه أراد بذلك أن سلامة المولود ونشأه على الخصال المحمودة مرتهن بهذه العقيقة، أي: أن ينشئه الله عز وجل تنشئة سليمة وفاضلة، فيكون مرهوناً بهذه العقيقة، وأنه يكون على خير بعد ذلك.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن
ورواه النسائي بلفظ: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أو يجمع بينهما فيقال: كلا الأمرين صحيح، أنه وجد مالاً يسيراً فعق عن هذا بكبش وعن هذا بكبش، فلما رزقه الله عز وجل أكمل العقيقة فعق عن هذا كبشين، وعن هذا كبشين، وهذا الجمع أولى من رد أحد الحديثين.
الخلاصة: أن الكبش الواحد يجزئ، والأفضل الكبشان؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته وقوله عليه الصلاة والسلام.
قالوا: من تلزمه نفقته من ماله لا من مال المولود، فيكون الذي تلزمه النفقة هو الأب، ولو فرضنا أن هذا المولود كان قد ورث مالاً من إنسان فتوفي هذا الشخص، أو ورث مال أمه التي ولدته وماتت فتركت له مالاً، فصار وارثاً من مالها وله مال كثير، فهل يقال: يعق عنه من ماله الذي صار إليه؟
قالوا: لا، الذي يعق عنه هو من ينتفع بهذه العقيقة بسبب هذا الغلام، وهو أبوه أو من يقوم بتربيته والنفقة عليه إن كان أبوه ميتاً.
ولاحظ أنه صلى الله عليه وسلم عبر بلفظ العقيقة في الأحاديث السابقة، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري تعليقاً: (مع الغلام عقيقة)، وقال في حديث سمرة في السنن: (كل غلام رهينة بعقيقته)، فعبر بكلمة (العقيقة)، فليس في التعبير بكلمة (العقيقة) تحريم ولا كراهة ولا منع، أما الذي في الحديث فهو الكراهة للعقوق؛ ولذلك الرجل وضح للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا لا أسأل عن العقوق، وإنما أسأل عن العقيقة التي مع المولود؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه) وقوله: (من أحب) لا يدل على الوجوب، فهو يقول: إذا أحببت افعل كذا، من أحب فليفعل كذا، وهذا صارف للأمر عن الوجوب في جملة الأحاديث، فدل الحديث على أن العقيقة ليست فريضة، وإنما هي سنة متأكدة.
قال: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) قوله: (شاتان مكافئتان) يعني: متشابهتان في نفس الحجم والسن ويقال: (مكافِئتان) أي: تكافئ كل واحدة الأخرى.
(وعن الجارية شاة) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الغلام الذكر شاتين، وفي الجارية شاة، وهذه أشياء تعبدية، نتعبد لله عز وجل بذلك، وقد قال الله عز وجل في الإرث: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العقيقة عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، فنفعل ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا معنى لأن يعقد الإنسان وينظر ما هو الفرق بين الاثنين؟ هل نفع هذا أكثر ونفع هذا أقل؟ نقول: هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة واحدة.
يقول الإمام النووي في (المجموع): العقيقة مستحبة عند الشافعي ومالك وأبي ثور وجمهور العلماء، وهو الصحيح المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
وبعض أهل العلم ذكروا أنها واجبة، وهذا قول بريدة بن الحصيب الأسلمي والحسن البصري ، وأبي الزناد وداود الظاهري ، ورواية عن أحمد ، وإن كان الراجح في مذهب الإمام أحمد أن العقيقة سنة وليست فريضة.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله رأى أن العقيقة ليست واجبة ولا سنة، بل اعتبرها بدعة من البدع.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: أفرط في حكم العقيقة رجلان: رجل قال: إنها واجبة، ورجل قال: إنها بدعة، أي: الذي قال: إنها واجبة أفرط في ذلك، والذي قال: إنها بدعة أفرط في ذلك، والصحيح أنها سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن ينسك عن ولده فلينسك عنه، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة).
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة، -يجوز تقول: أن نَعُق، وأن نَعِق- وعن الغلام شاتين، وأمرنا بالفرع من كل خمس شياه شاة)، وهنا الأمر بالفرع ليس على الوجوب، وكذلك الأمر بالعقيقة ليس على الوجوب.
وروى الترمذي عن أم كرز : (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة؟ فقال: عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكراناً كن أم إناثاً).
فيجوز أن يذبح شاة سواء كانت ذكراً أو أنثى، فيذبح خروفاً أو نعجة، فهذا كله جائز فيها، فإن عق عن الغلام شاة حصل بذلك أصل السنة.
ولو أن شخصاً ولد له ولدان فذبح عنهما شاة واحدة لم تحصل العقيقة، وكأنه عق عن كل غلام بنصف شاة، فلا يصلح هذا.
وعند جمهور العلماء أنه يجوز أن تكون العقيقة من الغنم ومن البقر، ويجوز أن تكون من الإبل، ولكن ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنها إذا كانت من البقر فلابد أن تكون بقرة كاملة عن الغلام، ومن الإبل يكون جملاً كاملاً عن الواحد، فلا يشاركه فيها سبعة في البقرة أو في الإبل كما يشاركون في الهدي، فرأى أنها تكون واحدة عن الواحد، وسننظر كلام أهل العلم في ذلك.
مسألة: لو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد أو اشترك فيها جماعة جاز، وهذا اختيار الجمهور: أنه يجوز أن يذبح البقرة عقيقة عن سبعة أولاد، وكأن السبع مكان الخروف وسواء أرادوا كلهم العقيقة أو أراد بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم كما سبق في الأضحية.
وهنا نقول: إن الإمام أحمد رأى أن تكون البدنة أو البقرة عن الواحد، أي: من الإبل أو البقر أو الغنم تكون الواحدة عن الواحد ولا يكون أكثر من ذلك، ففي الغنم اتفق الجميع على ذلك، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره.
فالأفضل أن يذبح من الغنم، وهذا أفضل من أن يشارك في البقر أو في الإبل، لكن لو ذبح بقرة كاملة أو جملاً كاملاً عن واحد، فهذا أفضل من أن يذبح كبشاً واحداً، فذبح الشاة أفضل من الاشتراك في بقرة أو ناقة.
وعلى ذلك: فالمجزئ في العقيقة هو الذي يجزئ في الأضحية.
وكذلك يشترط سلامتها من العيوب كما يشترط سلامة الأضحية منها، فلا تكون عوراء، ولا هزيلة، ولا عرجاء، ولا مريضة، ويكون منظرها منظراً جميلاً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أضحيته، فكذلك يفعل في العقيقة.
ويستحب أن يأكل منها ويتصدق ويهدي كما في الأضحية، فيذبح العقيقة ويأكل منها، ويهدي منها، ويتصدق منها، فهذا كله جائز.
السنة أن تذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة، ولو ذبحها قبل ذلك أو بعد ذلك فهو مجزئ، ولكن الأفضل التقيد بالسنة، فيحسب يوم الولادة، وهذا فيه خلاف بين العلماء: هل يوم الولادة محسوب من ضمنها أو أنه يلغى ويعد سبعة أيام بعده؟ الراجح أن يوم الولادة محسوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب : (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه) فاليوم الذي يولد فيه المولود هذا أول الأسبوع من يوم الولادة، فإن ولد في الليل حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة، ولو ذبح العقيقة بعد السابع أو قبله وبعد الولادة أجزأه، وسواء ذبح أول ما يولد الغلام أو أخر إلى اليوم العاشر، أو إلى اليوم العشرين فكله مجزئ، ولكن الأفضل أن تكون في اليوم السابع.
وإن ذبح العقيقة قبل الولادة كأن تكون زوجته حاملاً فيستعجل ويذبح العقيقة، فلا تجزئ عنه، فليست هذه عقيقة في هذه الحال، بل تكون شاة لحم؛ لأن وقتها بعد الولادة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود رهين -أو كل غلام رهين- بعقيقته).
ولا تفوت العقيقة بتأخيرها عن السابع، فلو جاء اليوم الثامن وهو لم يذبح، كأن يكون ليس عنده نقود، وانتظر إلى الشهر القادم حتى تتيسر له النقود، ولو ذبح بعد سنة أو سنتين، أو ما ذبح عنه فعق عن نفسه بعد ذلك حين ملك مالاً فكل هذا يجزئ في العقيقة، وتكون العقيقة مجزئة في ذلك، فلا تفوت بتأخيرهما عن السبعة الأيام، لكن يستحب ألا تؤخر عن سن البلوغ.
يقول الإمام الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم، فيستحبون أن يذبح عن الغلام العقيقة يوم السابع، فإن لم يتهيأ يوم السابع فيوم الرابع عشر، فإن لم يتهيأ عق عنه يوم إحدى وعشرين، وهذا نسبه لأهل العلم فقال: أهل العلم قالوا ذلك.
والراجح: أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، يقول الحافظ ابن حجر : لم أرَ هذا صريحاً إلا عن أبي عبد الله البوشنجي، ونقله صالح بن أحمد عن أبيه، وورد فيه حديث أخرجه الطبراني من رواية إسماعيل بن مسلم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وإسماعيل بن مسلم ضعيف، ولذلك قال: إنه تفرد به، وذكر الطبراني أنه تفرد بهذا الحديث، فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أخر العقيقة عن السابع ينتظر إلى يوم أربعة عشر، ثم إلى اليوم الواحد والعشرين، فلا يصح في هذا حديث.
ولو فرضنا أن الإنسان فعل ذلك أجزأ، فنقول: إنها تجزئ في أي وقت حتى البلوغ، ويستحب ألا يتجاوز فيها سن البلوغ، وإذا لم يعق عن الغلام أبوه جاز أن يعق عن نفسه بعد ذلك.
كذلك جاء حديث ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم -ونريد أن نبين ضعفه فقط- عن جعفر بن محمد عن أبيه، وقد رواه أبو داود في المراسيل ورواه البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهما: (أن ابعثوا إلى بيت القابلة بِرِجْلٍ، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظماً)، فذكر كثير من العلماء أنه يستحب ألا تكسر العقيقة، ولكن لم يصح الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكروا أن السنة أن يهدى إلى القابلة أو الطبيبة التي ولدتها، فيهدون لها رجل العقيقة، وهذا أيضاً لم يصح في ذلك، وكونه لم يصح فهل معناه: أنه لا يهدي للقابلة منها شيئاً؟ لا، بل اهدِ ما شئت، اهد الرجل أو غيرها فليس في ذلك سنة، فلا ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يصح عنه صلوات الله وسلامه عليه.
ويستحب أن يتصدق بوزن شعره فضة، فقد روى الترمذي عن محمد بن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
فلما ولد للنبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية أصبح الصبح وقال: (ولد لي الليلة -أي: الماضية- غلام وسميته باسم أبي إبراهيم)، فهو ما لم ينتظر إلى اليوم السابع بل سماه في يوم ولادته، فيجوز أن يسمى المولود في يوم الولادة، ولا يتأخر عن اليوم السابع.
وهنا سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يسمي المواليد بأسماء الأنبياء، فسماه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعا له بالبركة، وكذلك حنكه.
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (ولد لـ
وهنا حنكه النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذكر أنه في اليوم السابع، فكان أول ما أصابه من ريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتناله بركة ريقه الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
والتحنيك: أن يأخذ تمرة بفمه ويمضغها مضغاً جيداً فتختلط بريقه صلوات الله وسلامه عليه، ويأخذ منها على إصبعه ويحنك الغلام، أي: يمسح حنك الغلام من الداخل بإصبعه بهذه التمرة، فيبتلع الغلام هذا الريق مع هذه التمرة أو الجزء من التمرة فتناله بركة ريق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قلنا: إنه يجوز تأخير التسمية إلى اليوم السابع، وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق ويسمى)، فذكر التسمية أنها في اليوم السابع، وفعله صلى الله عليه وسلم كان بعدما ولد الغلام مباشرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر