ذكرنا مناسك الحج، وكيف أنه يبدأ الحاج بأول ركن من الأركان وهو الإحرام، والحج له أربعة أركان: الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة.
والحاج إما أن يكون مفرداً بالحج، وإما أن يكون قارناً بين الحج والعمرة، وإما أن يكون متمتعاً بالعمرة إلى الحج.
فإذا كان مفرداً وبدأ بالإحرام فيظل على إحرامه حتى ينتهي من الطواف بالبيت، ويتحلل التحلل الأكبر بعد أن يرمي الجمرات ويطوف بالبيت.
وإذا كان متمتعاً بالعمرة إلى الحج بدأ بمناسك العمرة حتى ينتهي منها فيصير حلالاً بعد ذلك، ويبدأ في إحرامه بالحج بعد ذلك في يوم التروية على تفصيل ذكرناه لمن يجد الهدي ومن لم يجد الهدي.
والقارن شأنه شأن المفرد، فيحرم بالعمرة مع الحج، ويظل محرماً، فإذا أتى البيت وطاف فيكون طواف القدوم، وإذا سعى بين الصفا والمروة يكون السعي للعمرة وللحج معاً، ثم إذا جاء في يوم التروية أهل مع الناس وأدى مناسك الحج، ويتحلل إذا رمى الجمرة ثم طاف بالبيت كما سيأتي.
وقد وقفنا في كلامنا على طواف الإفاضة، وطواف الإفاضة يكون في يوم العيد وهو يوم النحر.
وقبله يوم التروية الذي ذهب فيه الحاج إلى منى، فيصلي بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، يقصر الرباعية ويصلي كل صلاة على وقتها، ويبيت في منى، والذهاب إلى منى في اليوم الثامن من سنن الحج وليس من فروضه ولا من أركانه.
والمبيت ليلة عرفة بمنى من السنن، فإذا بات الحاج بمنى وأصبح صلى الفجر وانطلق إلى عرفات قبل صلاة الظهر فيدركه الوقت وهو في عرفات، فيصلي مع الإمام الظهر والعصر جمعاً وقصراً ويسمع خطبة عرفة ويظل من بعد الظهر حتى غروب الشمس يدعو الله سبحانه وتعالى على ما ذكرنا من تفصيل.
فإذا غربت الشمس أفاض الحجيج من عرفة إلى المزدلفة، وصلوا بها المغرب والعشاء جمعاً ويقصرون العشاء ويبيتون في المزدلفة، والمبيت واجب في المزدلفة، والواجب منه حتى بعد منتصف الليل، ويرخص للضعفاء في الانطلاق من المزدلفة بعد منتصف الليل إلى منى.
وإذا باتوا بالمزدلفة صلوا الفجر في أول وقتها، ثم يقفون عند المشعر الحرام عند جبل قزح أو في أي موقف من المزدلفة يدعون الله سبحانه حتى وقت الإسفار قبل شروق الشمس، فينطلقون مع وقت الإسفار إلى منى ويفيضون من هذا المكان إلى البيت.
وإذا وصلوا إلى منى أول ما يبدءون به رمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، ولا يرمون الصغرى ولا الوسطى.
ومتى رموا جمرة العقبة الكبرى فقد شرعوا في التحلل الأصغر، فيحلقون شعورهم، وينحرون هديهم، ثم يتوجهون إلى البيت ليطوفوا طواف الإفاضة.
وكأنه مأخوذ من فاض الماء بمعنى: سال؛ لأن الحجيج يندفعون، وكل الحجيج يفعلون هذه المناسك، (فإذا أفضتم من عرفات) أي: اندفعتم وسرتم من عرفات جماعات كبيرة، ولذلك يقولون: إن الإفاضة هي الزحف والدفع في السير بكثرة، ولا يكون إلا عن تفرق عن جمع، فإذا اجتمع جمع ثم تفرق هذا الجمع إلى مكان فإنه يسمى إفاضة.
وأصلها: من الصب، وأفاض الماء أي: صبه، فكأن الحجيج يفيضون كما يفيض الماء، فهم يندفعون من المزدلفة إلى منى، ومن منى يفيضون إلى البيت ليطوفوا طواف الإفاضة.
ويسمى بطواف الزيارة لأن الحاج يزور البيت ثم يرجع إلى منى.
ويسمى طواف الركن لأنه ركن في الحج.
ويسمى طواف الصدر لأن الحاج يصدر عن البيت ولا يعود إليه.
وهو ركن في الحج لا يتم الحج إلا به؛ لقول الله عز وجل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] (وليطوفوا) بصيغة الأمر، وقرئت: ( وليطُوفوا بالبيت العتيق ) وفيها معنى الأمر أيضاً.
قال ابن عبد البر : وهو من فرائض الحج، ولا خلاف في ذلك بين العلماء. فقد يوجد خلاف في السعي بين الصفا والمروة هل هو ركن أو واجب أو سنة، لكن طواف الإفاضة ركن اتفاقاً بين العلماء.
وفي الصحيحين: (أن
قالت عائشة رضي الله عنها: (إنها قد أفاضت يا رسول الله! وطافت بالبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلتنفر إذاً). وفيه دليل على أن طواف الوداع ليس واجباً على الحائض.
والأفضل طوافه يوم النحر قبل الزوال في الضحى، وقلنا: يوم النحر، احترازاً من ليلة النحر، ويرخص للحاج أن يطوف ليلة النحر، ولكن الأفضل أن يطوف في اليوم نفسه بعد الفجر، أو بعد طلوع الشمس وقبل الزوال؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعد فراغه من الأعمال الثلاثة التي هي: الرمي، والذبح، والحلق.
وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة.
وخروجه من مكة بلا طواف أشد من ذلك؛ لأنه إذا كان طواف الوداع واجباً فكيف بطواف الإفاضة؟
ومن لم يطف فلا يحل له النساء وإن مضت عليه سنون.
وله أن يطوف في أي طابق من طوابق المسجد الحرام، سواء كان الطابق الأرضي أو الثاني أو على سطح المسجد، فهذا كله جائز طالما أنه داخل المسجد.
والسعي كذلك، فله أن يسعى بين الصفا والمروة في الدور الأرضي، أو في الدور الثاني، أو على السطوح إذا كان فيه مكان للمسعى، وعلى هذا فالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة في أي طابق من الطوابق جائز.
والأفضل في الطواف أن يكون قريباً من الكعبة كما فصلنا قبل ذلك.
وقد روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) أي: لم يرمل في طواف الإفاضة، والرمل: هو الإسراع، فيمد بحيث تكون هيئته كهيئة الذي يجري ولكن لا يجري.
فمناسك الحج تختلف عن باقي العبادات، فالإنسان قد يعمل في البداية بنية ثم تتحول إلى نية أخرى ولا يبطل نسكه، كالوقوف بعرفة وغير ذلك.
فلو أنه طاف ونيته طواف الوداع ونسي طواف الإفاضة كان هذا مكان هذا، وهذا قول الجمهور.
لكن الحنابلة قالوا: لا بد أن يأتي بطواف الإفاضة، وهذا أحوط في المسألة. وقال الجمهور: إنه يغني؛ لحديث الذي لبى عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل هذه عنك ثم حج عن
وكذلك لو أنه أمسى يوم النحر ولم يكن قد طاف بالبيت فجماهير أهل العلم بل يذكر الإمام البيهقي الإجماع على ذلك؛ أنه لا شيء عليه في ذلك، وأنه لا يلزمه أن يرجع محرماً مرة ثانية.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، فذكرت أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم عليه الصلاة والسلام، أي: قبل الإحرام، أما بعد الإحرام فلا، ثم طيبته مرة ثانية لحله قبل أن يطوف بالبيت صلى الله عليه وسلم، وهي لا تعرف هل سيطوف بالبيت الآن أو في المساء أو في الصباح، فقالت: (قبل أن يطوف بالبيت) فكأن التحلل وقع قبل أن يطوف صلى الله عليه وسلم بالبيت فطيبته عائشة ، وبذلك يقول الإمام النووي: أن هذه الجملة وهي قولها: (حله قبل أن يطوف) فيها دلالة على أنه حصل له تحلل قبل الطواف. قال: وهذا مجمع عليه، أي: أنه حصل التحلل الأصغر وليس التحلل الأكبر.
وهذه المسألة استمر فيها الخلاف فترة طويلة، وقد ذكرها العلامة الشيخ الألباني رحمة الله عليه في كتبه وذهب إلى أنه صح الحديث بأنه قد عاد محرماً، والشيخ الألباني رحمه الله كان من أتبع الناس لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما صح عنده الحديث قال بما لم يقله قبله أحد من العلماء حتى عهد عروة بن الزبير أو عهد ابن خزيمة رحمة الله على الجميع، فقال: إنه ثبت حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا لم يطف بالبيت وأمسى فإنه يرجع محرماً مرة ثانية.
وهذا الحديث تكلم فيه العلماء، فمن صححه قال: إنه منسوخ، ومن ضعفه قال: لو صح لقلنا به مثل ابن حزم وغيره، والحديث الذي سيلزم الأمة لا بد أن يكون حديثاً صحيحاً بحيث تعمل به الأمة، لكن كونه قد صح الحديث والإجماع على عدم العمل به فيقال: إن الإجماع دل على وجود ناسخ لهذا الحديث.
فالإجماع لا ينسخ الحديث ولكنه يدل على وجود ناسخ لهذا الحديث؛ لأنه من غير المعقول أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحكم من الأحكام الشرعية ثم تتفق الأمة كلها على عدم العمل به، فهذا مستحيل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وإذا اجتمعوا على خلاف الحديث فإما أنهم مجتمعون على ضلالة، وهذا يخالف الحديث الآنف، أو أنه وجد ما ينسخ هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يرو لنا، ولكن دل الإجماع على وجوده.
فهذا الذي يقال به، وهذا الحديث إما أن يكون ضعيفاً، ومن صحح الحديث أو حسنه فقد صححه أو حسنه من باب الحسن لغيره مثلاً؛ فبناء على ذلك قال بهذا الحديث، أو أنه مؤول فله تأويل آخر، أو أنه صح لكن الإجماع على خلافه.
والحديث طرقه كلها ترجع إلى أحد الرواة، فقد جاء في سنن أبي داود عن أم سلمة مرفوعاً: (فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرماً كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)، والحديث يقول عنه النووي : هذا حديث صحيح، وروي عن البيهقي أنه قال: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به. قال النووي : فيكون الحديث منسوخاً دل الإجماع على نسخه؛ فإن الإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ ولكن يدل على الناسخ.
قال البيهقي : ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على نسخه.
ويقول البيهقي في الخلافيات: يشبه إن كان قد حفظه ابن يسار أنه منسوخ، ويستدل بالإجماع على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول على النسخ.
يعني: إجماع العلماء على جواز لبس المخيط بعد التحلل الأول من غير تفصيل دليل على نسخ هذا الحديث، هكذا يقول الإمام البيهقي .
و ابن المنذر يذكر أنه يوجد في هذه المسألة قول خامس وهو: أن المحرم إذا رمى الجمرة فيكون في ثوبيه حتى يطوف بالبيت، قال: وكذلك قال أبو قلابة. وهو من التابعين.
وقال عروة بن الزبير : من أخر الطواف بالبيت يوم النحر إلى يوم النفل فإنه لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا يتطيب، وقد اختلف فيه عن الحسن البصري وعطاء والثوري.
أي: أنه قد جاء عنهم القول به وبعدمه، فيكون الذي قال به أبو قلابة وعروة بن الزبير .
والحديث رواه أبو داود وأحمد من طريق محمد بن إسحاق بن يسار قال: حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة يحدثانه جميعاً بذاك، قالت: (كانت ليلتي التي يصير إلي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النحر، فصار إلي، ودخل علي
زاد أحمد : قال محمد بن إسحاق : قال أبو عبيدة : وحدثتني أم قيس ابنة محصن -وكانت جارة لهم- قالت: خرج من عندي عكاشة بن محصن في نفر من بني أسد متقمصين عشية يوم النحر، ثم رجعوا إلي عشاءً قمصهم على أيديهم يحملونها، قالت: فقلت: أي عكاشة! ما لكم خرجتم متقمصين ثم رجعتم وقمصكم على أيديكم تحملونها؟ فقال: كان هذا يوماً قد رخص لنا فيه إذا نحن رمينا الجمرة حللنا من كل ما حرمنا منه إلا ما كان من النساء حتى نطوف بالبيت، فإذا أمسينا ولم نطف به صرنا حرماً كهيئتنا قبل أن نرمي الجمرة حتى نطوف بالبيت، ولم نطف فجعلنا قمصنا كما ترين.
والحديث له طريق آخر، فقد رواه الطبراني عن ابن إسحاق أيضاً عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير عن زينب عن أم سلمة.
إذاً: فللحديث طريقان: طريق أبي داود :محمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو عبيدة، قال عنه الحافظ ابن حجر : مقبول، يعني: عند المتابعة إذا تابعه أحد، ولم يوثقه إلا الإمام الذهبي فقط، ولعله اعتمد على أن ابن حبان ذكره في الثقات، ولو وثقه أحد لذكر الحافظ ابن حجر ذلك، فقد تتبع من وثقه فلم يجد.
وابن حزم بحث فيه وقال: هو على جلالته لم يوثقه أحد. فقول الذهبي أنه ثقة يحتاج إلى نظر؛ لكونه لم يوثقه من العلماء السابقين أحد، فهو وإن كان رجلاً جليلاً وشريفاً له شرف وذكر في الناس إلا أنه لم يوثقه أحد.
وأما الطريق الأخرى التي ذكرها ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن يزيد بن رومان عن خالد مولى الزبير، فقد قال الحافظ في خالد: إنه لا يدرى من هو. أي: أنه مجهول فلعله يكون مدلساً، وراويه ارجع طريقه لـأبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة مرة ثانية فلعله عن آخر غيره، لكن لا ينبغي أن نقول: إنه قد توبع، خاصة في هذا الحكم الخطير؛ لأنه سيضيق على الحجاج تضييقاً شديداً جداً؛ لأن الأمر صعب جداً وليس سهلاً أن يعود جميع الحجاج محرمين مرة ثانية، بل هو غاية في الصعوبة، فهذا الحكم يحتاج إلى حديث أصح من هذا الحديث حتى يقال به؛ لأن رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الذي ذكر الحافظ أنه مقبول -أي: عند المتابعة- لن نجد من يتابعه إلا هذه الرواية التي رواها ابن لهيعة، فقد ذكر أبو جعفر الطحاوي من طريق ابن لهيعة ، وذكر عن عروة عن جدامة بنت وهب أخت عكاشة بن وهب وهي صحابية، وعروة لم يسمع ممن روى عنه، وذكر عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أم قيس بنت محصن، فاختلف ابن لهيعة في روايته، فمرة يذكر شيئاً ومرة يذكر غيره، فقد ذكر جدامة بنت وهب مرة، ومرة أم قيس بنت محصن، وهذه غير الأولى، ولم يذكر لـعروة بن الزبير أنه سمع لا من هذه ولا من هذه، ولعل الحديث يرجع إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة فيكون في النهاية واحد فقط هو الذي روى هذا الحكم، وهذا الواحد ذكر العلماء عنه أن له شرفاً وأنه مشهور ولكن لم يذكروا أنه من الثقات.
فكيف يؤخذ هذا الحكم الصعب عنه؟! فهو يحتاج إلى نقل أقوى من ذلك، وقد أخرج مسلم لـأبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، فلعل من وثقه وثقه لذلك، ولكن الإمام مسلماً لم يخرج له في الأصول وإنما أخرج له في المتابعات، فعلى ذلك هل يؤخذ بقوله في هذا الحديث وهذا الحكم الصعب الذي اختلفت فيه الأمة؟
الذي نراه أنه لا يؤخذ بحديثه، حتى ولو صح فيكون الإجماع قد دل على نسخه، كيف وقد ورد عن عمر بن الخطاب خلاف ذلك، فقد جاء عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: إذا حلقتم ورميتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب، ولم يخصص أنه إذا لم تطوفوا هذا اليوم حتى غربت الشمس صرتم ورجعتم حرماً مرة ثانية، وهذا قاله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جاء عن ابن عمر أنه كان يأخذ من أظفاره وشاربه ولحيته قبل أن يزور البيت، ولم يقولوا أنه قيد هذه الزيارة بوقت الضحى ولا بوقت المساء؛ إذ إن وقت المساء يبدأ من بعد الزوال، وسيكون على الحجاج إذا قلنا بهذا القول: إما أن يطوفوا قبل الزوال وإلا لبسوا ثياب الإحرام مرة أخرى، وهذا فيه من التضييق ما فيه.
ولذلك إن صح الحديث بطرق أقوى من هذه الطرق قيل به، وإلا فالإجماع على أنه لم يقل به أحد من العلماء غير هؤلاء في عهد أبي قلابة ، وعروة بن الزبير ، وابن خزيمة بعد ذلك، ثم إن البيهقي يقول: لا نعلم أحداً من الفقهاء قال بذلك.
والتيسير هو فيما أجمع عليه أهل العلم، فنحن نقول بما قال أهل العلم في ذلك. والله أعلم.
ومال ابن قدامة رحمه الله إلى أنه واجب من الواجبات كما في كتابه المغني.
ويلزم المتمتع السعي عن حجته بعد طواف الإفاضة، ولا يزال محرماً حتى يسعى، ولا يحصل التحلل الثاني بدونه، هذا على القول بأنه ركن من الأركان، فلا بد أن ينتهي من الحج ثم يتحلل التحلل الأكبر ليأتي أهله.
وأما من أفرد أو قرن فلا سعي عليه؛ لأنه قدم السعي بعد طواف القدوم؛ لأن السعي بين الصفا والمروة إما أن يكون عن حج أو عن عمرة، وهو هنا للمفرد أو القارن عن حج، أما المتمتع فلا يجزيه السعي الذي سعاه قبل ذلك، لأنه كان للعمرة، وبقي عليه السعي للحج، فيلزمه السعي عن حجته بعد طواف الإفاضة، ولا يزال محرماً حتى يسعى، ولا يحصل التحلل الثاني بدونه.
والمفرد والقارن إذا لم يكن قد سعى بعد طواف القدوم لزمه السعي بعد طواف الإفاضة، وإن كان سعى بعد طواف القدوم لم يعده بل تكره إعادته؛ لأن الركن لا يعاد مرتين.
ففي حديث جابر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر إلى البيت فصلى بمكة الظهر) وهذا في صحيح مسلم .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عمر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى)، فـجابر ذكر أنه صلى الظهر بمكة وعبد الله بن عمر ذكر أنه صلى الظهر بمنى، والجمع بينها: أنه صلى بمكة بالناس صلاة الظهر، ثم رجع فصلى بأصحابه بمنى فكانت له تطوعاً ولهم فريضة.
التحلل الأول: يسمى التحلل الأصغر، ويباح له فيه كل شيء إلا النساء.
والتحلل الثاني: التحلل الأكبر، ويباح له إتيان النساء وغير ذلك.
وهما يتعلقان برمي جمرة العقبة، والحلق، وطواف الإفاضة، وأما النحر فلا مدخل له في التحلل.
يريد أنها ثلاثة أفعال بدون النحر، فأي فعلين تتحلل بهما التحلل الأول.
وإن كانت أكثر الأحاديث التي وردت ذكر فيها الرمي، فقد روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء)، فبرمي جمرة العقبة يتحلل التحلل الأول.
وفي حديث ابن عباس الذي رواه أحمد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء. فقال رجل: والطيب؟ فقال
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف وبسطت يديها) رضي الله عنها.
ورواه أحمد والنسائي بلفظ: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله بعدما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت)، فهو رمى جمرة العقبة ثم إن عائشة رضي الله عنها طيبته، وكان قد رمى الجمرة وحلق شعره ونحر وحلق ثم طاف بالبيت عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ عن نافع وعبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة وعلمهم أمر الحج وقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، ولا يمس أحد نساءً ولا طيباً حتى يطوف بالبيت.
وأيضاً ذكر عمر أنه إذا رمى الجمرة فقد حل، وإن كان مذهب عمر رضي الله عنه أنه لا يضع الطيب على بدنه أو ثوبه حتى يطوف بالبيت، لكن روت عائشة ما يخالف ذلك، والحجة في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمرفوع: أن عائشة طيبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يطوف بالبيت، فدل على أن الصواب هو أنه إذا رمى جمرة العقبة فله بعد ذلك أن يتطيب.
وبالإسناد نفسه أن عمر رضي الله عنه قال: من رمى الجمرة ثم حلق أو قصر ونحر هدياً إن كان معه فقد حل له ما عليه حرم إلا النساء والطيب حتى يطوف بالبيت. فكأن مذهب عمر رضي الله عنه أن الطيب من لوازم الجماع، فجعل الطيب مع الجماع، فلا يجوز له أن يضع الطيب لأنه يدعوه إلى الجماع، وهذا رأيه رضي الله تبارك وتعالى عنه يخالفه ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالصواب أنه يجوز له التطيب لحديث عائشة السابق.
ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت أيام التشريق فقد فات الرمي ولزمه بفواته الدم، أي: إذا فاته الرمي لزمه بفواته الدم، ويتوقف تحلله على الإتيان ببدل الرمي احتياطاً، أما إذا لم يرم ولم تخرج أيام التشريق فلا يجعل دخول وقت الرمي كالرمي في حصول التحلل، أي: أنه إذا دخل وقت الرمي فلا يتحلل حتى يرمي، أما إذا لم يرم فلا؛ لأن نص الحديث دل على ذلك.
ويحل بالتحلل الأول في الحج: اللبس، والقلم، وستر الرأس، والحلق، ولو لم يطف. أي: إذا رمى جمرة العقبة، وحلق شعره أو نحر هديه أو وكل في النحر فيجوز له أن يلبس ثيابه، ويستر رأسه، ويحلق شعره، والحلق منسك من المناسك حتى ولو لم يطف بالبيت، ولا يحل الجماع إلا بالتحلل الثاني.
فإذا تحلل التحللين صار حلالاً في كل شيء، ويجب عليه الإتيان بما بقي من الحج وهو الرمي في أيام التشريق والمبيت لياليها، أي: أنه يجب على الحاج ليالي أيام التشريق المبيت بمنى، ويجب عليه في أيامها الرمي، ويجوز له أن يرمي بالليل.
وإذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرماً إلا على النساء خاصة؛ لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة.
ويجدد إحرامه حتى يطوف بالبيت في إحرام صحيح، وهذا اختيار الإمام أحمد رحمه الله، قال: من طاف للزيارة واخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع؛ لأنه على بقية من إحرامه، فإن وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس ، يعني: على اختيار ابن عباس رضي الله عنه أنه يحرم من التنعيم، فكأنه يدخل بعمرة ليطوف بالبيت وهو محرم، والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر