ذكرنا في الحديث السابق كيفية الإهلال بالحج والبدء في مناسك الحج، فبعد أن تحلل المعتمر من عمرته، ومكث متحللاً حتى يوم التروية، يبدأ في مناسك الحج من يوم التروية، فيلبي الحاج بعد إحرامه، ثم يتوجه إلى في منى اليوم الثامن ويمكث فيها فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر هناك.
والذهاب إلى منى والمبيت بها في هذه الليلة سنة، ثم يتوجه إلى عرفة حيث يكون هناك وقت الزوال فيصلي مع الإمام صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً، وكان قبل ذلك يصلي بمنى كل صلاة على وقتها ولكنه يقصر من الصلوات.
ثم يمكث من وقت الزوال حتى غروب الشمس يدعو الله سبحانه تبارك وتعالى واقفاً في عرفة، وفي أي موقف وفي أي موضع من مواضع عرفة وقف جاز له ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف).
فإذا غابت الشمس أفاضوا من عرفات متوجهين إلى المزدلفة، وسميت المزدلفة بهذا الاسم وكأنهم حين يخرجون من عرفات متقربين مزدلفين إلى المزدلفة، وأيضاً تسمى: جمعاً؛ وذلك لاجتماع الناس فيها. والذهاب إلى المزدلفة والمبيت بها من واجبات الحج، والراجح أنه ليس ركناً من الأركان، وتسمى مزدلفة أيضاً بالمشعر الحرام، أما عرفات فتسمى بالمشعر الحلال؛ لأنها من الحل وليست من الحرم، والموقف الذي وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة هو أسفل جبل الرحمة عند الصخرة، وهذا الجبل يسمى بإلال، ولذلك يطلق على عرفات (إلال) ويطلق عليه عرفة وعرفات، ويطلق عليه المشعر الحلال، أما المشعر الحرام فهو المزدلفة؛ لأن المزدلفة من الحرم مثل منى ومكة فهما من الحرم، لكن عرفات من الحل، وعرفات أبعد أماكن المناسك عن مكة، فهي تبعد بحوالي 22 كيلو تقريباً بين عرفات وبين مكة، فهي أبعد المناسك عن مكة.
والمزدلفة أقرب ومنى أقرب منها.
فإذا خرج الحجاج إلى مزدلفة باتوا ثم توجهوا بعد ذلك راجعين إلى منى لرمي الجمرات، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في المزدلفة ودعا الله سبحانه تبارك وتعالى فيها بعد الفجر.
وفي حديث علي بن أبي طالب الذي رواه الترمذي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: (هذه عرفة وهذا هو الموقف وعرفة كلها موقف، ثم أفاض حين غربت الشمس، وأردف
قال: (ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت حتى جاوز الوادي)، وهذا الحديث فيه اختصار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ووقف على جبل قزح يدعو ربه سبحانه دعاءً طويلاً إلى قبل طلوع الشمس بوقت يسير، فانطلق صلى الله عليه وسلم في وقت الاصفرار من جبل قزح راجعاً إلى منى، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر وهو الوادي الذي حسر فيه الفيل وأصحاب الفيل، والتحسير بمعنى: الإعياء والإكلال، وكأنه كل وأعيا في هذا المكان، فالنبي صلى الله عليه وسلم تحرك سريعاً في هذا المكان -فالمستحب في أماكن نزول عذاب الله عز وجل على قوم ألا يقف الإنسان فيها، ولكن يسرع في المرور في هذا المكان، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث قرع ناقته فخبت حتى جاوز وادي محسر.
قال: (فوقف وأردف
والسنة إذا غربت الشمس وتحقق غروبها أن يفيض الإمام من عرفات ويفيض الناس معه، والجمع بين الليل والنهار في عرفات واجب لمن تمكن بالوقوف في النهار، وإلا فالليل وحده يكفي للمعذور.
فاليوم كله ذكر لله، والليل أيضاً ذكر لله سبحانه تبارك وتعالى بعد الغروب بأمر الله سبحانه وتعالى، والسنة أن يسلك في ذهابه إلى المزدلفة طريق المأزمين، والمأزم هو الطريق الذي بين الجبلين، وهي طرق معروفة يمشي فيها أكثر أو كل الحجيج.
فيسير الحاج إلى المزدلفة وعليه السكينة والوقار على عادة سيره، سواء كان راكباً أو ماشياً، ويحترز عن إيذاء الناس في المزاحمة، فإن وجد فرجة فالسنة الإسراع فيها ولا بأس أن يتقدم الناس على الإمام أو يتأخروا عنه.
ولذلك احترزنا هنا بالقول أنه إذا كان الإنسان لا يخاف فوت وقت الاختيار للعشاء، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء)، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع من عرفة إلى أن وصل إلى مكان اسمه الشعب، والشعب هو الطريق الذي بين الجبلين، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته في هذا المكان وأسامة كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (الصلاة يا رسول الله!) أي: صلاة المغرب ستفوتنا، فقال: (الصلاة أمامك، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلى ولم يصل بينهما)، فلم يصل سنة بين المغرب والعشاء، وأيضاً لم يترك وقتاً كبيراً، بل نزل وتوضأ في المزدلفة عليه الصلاة والسلام، وصلى صلاة المغرب، وترك فرصة يسيرة لكي ينزل الناس عن جمالهم وينيخوا دوابهم، ورجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا وأقيمت صلاة العشاء.
وقوله: (فصلى ولم يصل بينهما)، أي: أن الوقت بين المغرب والعشاء كان وقتاً يسيراً، فجمع هنا بين صلاتي المغرب والعشاء جمع تأخير، ولو ترك الجمع بينهما وصلى كل واحدة في وقتها فالصلاة صحيحة، ولكنه خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالسنة أن يجمع جمع تقديم للظهر والعصر في عرفة، ويؤخر المغرب إلى أن يجمعها جمع تأخير مع العشاء في المزدلفة، فلو خالف فقد خالف السنة، وصلاته صحيحة، وكذلك لو جمع وحده ولم يصل مع الإمام ولا مع الجماعة بل صلى وحده، أو صلى إحداهما مع الإمام والأخرى وحده جامعاً بينهما، أو صلاهما في عرفات أو في الطريق قبل المزدلفة فكل هذا جائز له فعله، ولكن فاتته الفضيلة، والفضيلة ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في جمع التأخير بين المغرب والعشاء في المزدلفة.
وإن جمع في المزدلفة وقت العشاء أقام لكل واحدة منهما ويؤذن للأولى ولا يؤذن للثانية، وذلك مثل صلاة الظهر والعصر في عرفة، فإنهما يصليان بأذان واحد وإقامتين، روى مسلم عن جابر وذكر رواية الحديث وفيه: (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة)، فقبل ليلة المزدلفة فيها تعب النهار من دعاء وانشغال بالذكر، والمسير من عرفة إلى المزدلفة مسير طويل يأخذ وقتاً، فلا يصل الحجيج إلى هناك إلا وقد تعبوا، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم الراحة هنا، فقد صلى المغرب والعشاء ونام صلوات الله وسلامه عليه، ثم قام لصلاة الفجر عليه الصلاة والسلام.
وقد قدمنا قبل ذلك أنه لم يذكر هنا أنه صلى الوتر أو لم يصلها، فأخذنا من عموم حاله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يضيع الوتر لا في سفر ولا في حضر، وكذلك سنة الفجر هل صلاها أم لم يصلها؟ أخذنا من عموم فعله صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يترك سنة الفجر التي هي رغيبة الفجر.
والصحيح أنه واجب على غير المعذور، وليس بركن، فلو تركه صح حجه وعليه دم، فكل من يترك واجباً من الواجبات فعليه دم، أما المعذور فله عذره، فلو خرج الحجيج من عرفات راكبين السيارات وهم مرضى وضعاف وتعطلت بهم سياراتهم في الطريق وما وصلت المزدلفة إلا مع الفجر، فنقول: هؤلاء معذورون.
ومثال آخر: إنسان أحرم بالحج وتاه في الطريق ولم يصل إلى عرفات إلا قبل الفجر بلحظات، فنقول: هذا معذور ولا شيء عليه.
إذاً: المبيت بمزدلفة ليس بركن على الراجح، ولو تركه بدون عذر صح حجه وعليه دم، قال ابن قدامة: المبيت بمزدلفة واجب من تركه عليه دم، وهو قول عطاء ، والزهري ، وقتادة ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبي ثور وأصحاب الرأي، فجمهور العلماء على أن المبيت في مزدلفة واجب وأن من تركه فعليه دم.
وقال بعض أهل العلم ومنهم علقمة والنخعي والشعبي: من فاته جمع فاته الحج، فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ركن من أركان الحج، فمن فاته جمع فاته ركن من أركان الحج وفاته الحج؛ لأن من الأركان ما يستدرك ومنها ما لا يستدرك، فالوقوف بعرفة ركن لا يستدرك، فإذا فات عرفة فات الحج، ومن فات عليه الحج فعليه أن يهدي وعليه الحج بعد ذلك، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ركن يستدرك، فمن فاته لزمه أن يرجع مرة أخرى ليأتي بهذا الركن، والمزدلفة على القول بأنها ركن تفوت ولا تستدرك.
وورد حديث للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، فالحديث فيه: (من شهد صلاتنا هذه) وكانت صلاة الفجر في المزدلفة، وقال: (ووقف معنا حتى ندفع) يعني: من المزدلفة، وقال: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، قالوا: فالمفهوم من الحديث أنه من لم يفعل ذلك لم يتم حجه ولم يقض تفثه، فحجه ناقص، وطالما الحج ناقص فهذا ليس بالحج الذي أمر به، فيلزمه أن يعيد حجه.
أما حديث: (من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه) فقوله: (وقف) إثبات و(ليلاً) نكرة بمعنى: أي جزء من الليل ولو يسيراً، فالنكرة هنا في سياق الإثبات فيكون المعنى ولو أقل القليل.
والحديث له سبب وهو عروة بن مضرس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله! إني جئت من جبل طي، أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله! ما تركت من حبل إلا وقفت عليه)، والحبل مثل الجبل إلا أن الجبل صخر والحبل رمال، فهنا يقول: ما تركت أي مرتفع ولا كثيب من الأرض إلا وقفت عليه، (فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف في عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد أتم حجه وقضى تفثه) .
وهؤلاء الذين قالوا: إن المبيت بمزدلفة ركن يفوت الحج بتركه واحتجوا بهذا الحديث، وقالوا: في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد صلاتنا هذه)، قال لهم الجمهور: وهل شهود الصلاة الذي هو منطوق الحديث ركن من الأركان حتى تقولوا: إن المبيت بمزدلفة الذي هو مفهوم الحديث ركن أيضاً؟ فيلزمكم أن تقولوا: إن هذه الصلاة يجب أن يشهدها مع الإمام، وهي من الأركان، وأنتم تقولون بذلك.
وممن ألزم بذلك الإمام الطحاوي، فقد ألزم به ابن حزم رحمة الله عليهما، فالتزمه ابن حزم، وأخذ بذلك العلامة الألباني رحمة الله عليه، وهذا لم يقله العلماء السابقون، بل هذا التزام ألزمهم العلماء بشيء فقالوا بهذا الذي ألزمهم العلماء به.
والراجح: أن الصلاة هنالك ليست من الواجبات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة هذا الرجل، ويقول: أنت وقفت معنا، وطالما أننا صلينا الفجر في هذا المكان، وصلينا الفجر على أول وقته، وأنت قد وقفت قبل ذلك في عرفة، وعليه فقد كنت في مزدلفة ليلاً، وبهذا يكون حجك صحيحاً، وقد أتيت بالوقوف الواجب عليك.
بل أخذ الجمهور من قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً) دليلاً لهم، فإن ليلاً هنا نكرة في سياق الإثبات، فيصح على أقل شيء من الليل، فلو أنه وقف بعرفة قبل الفجر بخمس دقائق، ثم طلع عليه الفجر في هذا المكان فإنه لن يستطيع الذهاب إلى مزدلفة ليصلي الصبح مع الناس، فالحديث دليل للجمهور على أنه إذا أدرك بعرفة آخر الليل ولو آخر دقيقة من الليل فقد أدرك الحج، مع أن هذا الإنسان الذي سيقف بعرفة في هذا الوقت يستحيل يصلي الفجر مع الناس في المزدلفة.
وعلى ذلك لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعينها أنها واجبة أو أنها ركن في هذا المكان من الأركان التي في الحج، وإنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم بيان أنك تدرك عرفة ولو للحظات يسيرة قبل أن يطلع عليك الفجر، ويدل على ذلك الحديث الجامع في قوله صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، فهذا هو الركن الذي يضيع الحج بتركه، فإذا وقف بعرفة ولو للحظة من آخر الليل فقد أدرك الحج، والباقي الذي عليه من الواجبات تجبر بدم إن لم يتمكن منها، وكذلك الطواف والسعي بالبيت فهذا لا يفوت، سواء أدرك الطواف في هذه الأيام، أو لم يطف وأدرك الطواف بعد ذلك في أيام العيد، أو مرت عليه أيام العيد فلم يزل الطواف واجباً ركناً عليه، ولابد أن يأتي به حتى ولو سافر فيلزمه أن يرجع، ولا يتحلل التحلل الأكبر حتى يطوف بالبيت.
ودليل الوجوب قول الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] فهنا أمر بالذكر الذي يستلزم أن يكون هنالك عند المشعر الحرام، ولم يذكر أنه إذا لم يفعل ذلك بطل حجه، فدل على أن هذا واجب وليس ركناً من الأركان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه)، فقوله: (من شهد صلاتنا هذه) أثبت أن الذي يقف في المزدلفة قد أتم حجه، والذي وقف قبل ذلك بعرفة جزءاً من الليل أو من النهار وشهد معنا الآن دليل على أنه شهد عرفات في جزء من الوقت المشروع للوقوف فيها.
ودليل عدم الركنية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه)، وهذا الحديث الصحيح رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي ، وابن ماجة ، وأحمد وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر، وذكر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج) ثم قال: (أيام منى ثلاث فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، قال: (الحج عرفة فمن جاء قبل ليلة جمع فقد تم حجه)، يعني قبل انقضاء ليلة جمع التي هي ليلة المزدلفة، فمن جاء إلى عرفات قبل أن تنقضي هذه الليلة فقد تم حجه.
وقال الشافعية والحنابلة: يجب الوجود بمزدلفة بعد نصف الليل ولو ساعة لطيفة، فلابد أن يكون الحاج في النصف الثاني من الليل موجوداً في هذا المكان ولو بعضاً من الوقت فيه حتى يقال: بات بهذا المكان.
وذهب الحنفية إلى أنه ما بين طلوع فجر يوم النحر وطلوع الشمس، فمن أدرك بمزدلفة في هذا الوقت فترة من الزمن فقد أدرك الوقوف سواء بات بها أم لا.
والمختار ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، فقولهم أوجه، وهو الموافق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: أن النزول يكون نزولاً بالليل فلا يكفي أول الليل، بل لابد أن يمر عليه نصف الليل ويدخل في النصف الثاني من الليل حتى يقال قد بات في هذا المكان، فكأنه على هذا القول لو أدرك النصف الأول من الليل ثم انصرف قبل أن يدخل عليه النصف الثاني من الليل فهذا لم يبت، فحتى يقال: بات، لابد أن يحصل جزءاً من النصف الثاني من الليل، وحتى يقيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يمكث الليل كله وأن يقف بعد صلاة الفجر عند المشعر الحرام يذكر الله ويدعو إلى قبل الإسفار ثم ينطلق.
فلو دفع قبل نصف الليل بيسير ولم يعد إلى المزدلفة فقد ترك المبيت وعليه دم لتركه واجباً، ولو دفع قبل نصف الليل وعاد إليها قبل طلوع الفجر أجزأه، أما من انتهى إلى عرفات ليلة النحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بمزدلفة فلا شيء عليه فهذا معذور وداخل تحت نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدرك من عرفة جزءاً من الليل أو من النهار، فالذي يدرك جزءاً من الليل ولو آخره يستحيل أن يدرك الليل بمزدلفة وهو موجود آخر الليل بعرفة، فعلى ذلك هذا معذور ولا شيء عليه.
ويحصل هذا المبيت بالحضور في أي بقعة كانت من مزدلفة فقد روى مسلم عن جابر في حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وجمع هي المزدلفة، يستحب أن يبقى بالمزدلفة حتى يطلع الفجر، فيصلي الفجر هنالك وينتظر حتى وقت الإسفار ثم ينصرف.
وذلك لما في حديث جابر : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس).
وفي الصحيحين عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين رضي الله عنها أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا جواز أن يصلي الإنسان من الليل، فهي صلت المغرب والعشاء وأيضاً صلت جزءاً من الليل، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني! هل غاب القمر؟ تسأل من معها وكانت قد عميت رضي الله عنها، فقال عبد الله مولاها: -ومولاها أي: أنه كان عبداً لها وأعتقته هي فهو مولى لها-، فقال: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: يا بني! هل غاب القمر؟ وغياب القمر في هذا الوقت يكون بعد منتصف الليل، فسألت عن غياب القمر أي: هل جاوزت نصف الليل؟ فلما قال: نعم، قالت: فارتحلوا، فارتحلنا بعد منتصف الليل ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح. فرمت الجمرة قبل أن تصلي الصبح، ويستحيل أن تؤخر صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، فكأنها أخذت برخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فرمت الجمرة قبل أن تصلي الصبح ثم صلت الصبح رضي الله عنها، قال: فقلت لها يا هنتاه! ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للضعن، والضعن جمع ضعينة، والضعينة هي المرأة المسافرة الراكبة على البعير، والمقصود أنه أذن للنساء.
فالإذن فيما فعلته هي رضي الله تبارك وتعالى عنها، والذي فعلته أنها انصرفت بعد منتصف الليل، مما يدل على إذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء بالانصراف بعد منتصف الليل، أما الأقوياء فالسنة أن يبيتوا حتى الفجر ويصلوا الفجر في المزدلفة ويقفوا عند المشعر الحرام.
فالرمي في الليل سيخفف من العدد ويكون هناك تيسير على الناس في ذلك.
وقال الأحناف: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فأخذوا بالأحوط، ولكن لا إنكار على من رمى قبل ذلك، فـأسماء رضي الله تبارك وتعالى عنها رمت الجمرة بالليل وصلت الصبح بعدها، فدل على أنه يجوز أن ترمي بعد طلوع الفجر وتصلي الصبح بعد الرمي.
وقد رأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشافعي .
أما الأحناف فمنعوا وقالوا: إنه لا يجوز رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها.
فعند الأحناف أنه لو رمى هذه الجمرة قبل الفجر وجب عليه أن يعيدها مرة ثانية، فإذا رماها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس صح رميه وخالف السنة.
والجمهور على أنه لو رماها بالليل فالرمي صحيح، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء من النساء، فمن كان هذا حاله أو وجد أصحاب أعذار فرموا قبل ذلك -أي: من الليل عند وصولهم إلى منى -فالرمي صحيح.
واحتج الجمهور بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام من مزدلفة بليل، وعبد الله بن عمر كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله، بل كان من أشد الصحابة مواظبة وحرصاً على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أرسل غلمان بني عبد المطلب قال: (أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر)، فحديث ابن عباس أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس ، وشعبة كان سيء الحفظ، وحديث: (لا ترموا الجمرة قبل أن تطلع الشمس) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من رمي الجمرة قبل طلوع الشمس، وهذا الاحتياط فيها أنه لا ترمى الجمرة إلا بعد طلوع الشمس، لكن في قصة أسماء أنها رمت مع الصبح، وفي قصة عبد الله بن عمر ذكر أنه أرخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعليه لا يوجد تناقض بين الحديثين، فكأنه قال: لا ترموا إلا بعد طلوع الشمس، وهذا على وجه الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم وعلى وجه الندب، فإذا فعلوا قبل ذلك جاز لقصة أسماء وقصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وخلاصة القول: أن الذي يصل إلى منى عند طلوع الصبح له أن يرمي ثم يصلي الصبح، وله أن ينتظر -وهذا الأفضل- إلى أن يصلي الصبح ثم يرمي الجمرات بعد طلوع الشمس.
فإذا وصل الضعفاء من النساء وغيرهن إلى منى قبل طلوع الفجر وبعد نصف الليل فالمستحب أن ينتظروا حتى تطلع الشمس ثم يرموا جمرة العقبة خروجاً من الخلاف الذي بين الأحناف وبين الجمهور في ذلك؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبيني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس).
فهذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإرشاد، بمعنى: يكره لكم ذلك، فلا تفعلوا إلا بعد طلوع الشمس، والسبب في قولنا يكره ذلك، أو وجه أنه يندب أن يرمى بعد طلوع الشمس ما جاء في قصة أسماء ، وقصة عبد الله بن عمر المتقدمتين.
ولا بأس أن يرموا جمرة العقبة بعد صلاة الصبح وقبل زحمة الناس؛ لأن الزحام يكون شديداً بعد ذلك، فيحطم الناس بعضهم بعضاً عند الرمي، فمن التيسير في الشريعة أنه إذا وصل إلى جمرة العقبة بعد صلاة الصبح بسبب الزحام وخاصة في زماننا هذا فله أن يرميها.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته
وفي رواية أخرى للنسائي (وددت أني استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته
وفي الصحيحين عن سالم قال: (كان
فالذي يقدم قبل صلاة الفجر عليه أن يرمي الجمرة قبل أن يصلي، والذي يقدم بعد ذلك عليه أن يرمي الجمرة ويصلي، (وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فهذا حكم الضعفاء، فأما غيرهم فالسنة في حقهم أن يمكثوا بمزدلفة حتى يصلوا الصبح هنالك ثم يقفون عند المشعر الحرام ويدعون الله، وقبل الإسفار ينطلقون إلى منى.
فإذا طلع الفجر بادر الإمام والناس بصلاة الصبح في أول وقتها والمبالغة في التبكير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء، وصلى الفجر قبل ميقاته)، وليس المقصود أنه غير وقت الصلاة وصلاها في وقت آخر، ولكن المقصود هنا أنه ليس من عادته أن يصلي الفجر بعد الأذان وركعتي السنة مباشرة، فهذا لم يحصل من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في هذا الوقت، ولا تظن أن قوله: (قبل ميقاتها) أي: أنه صلى الفجر بليل، فهذا ينافي معنى الفجر، فالفجر بمعني: انفجر شعاع الشمس فخرج فوق الأفق فكان وقت الفجر، فهو صلى الفجر على أول وقتها عليه الصلاة والسلام؛ ليتسع الوقت لوظائف هذا اليوم من المناسك فإنها كثيرة، فليس في أيام الحج أكثر عملاً منه، فلو أنه أطال صلاة الفجر وصلاها كعادته وانتظر حتى يجتمع الناس من كل مكان إلى أن ينظر الإنسان إلى جليسه، يضاق الوقت على المناسك المشروعة في ذلك اليوم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر